زواج المسلمة بغير المسلم في تونس: ابحث عن البلدية الصديقة


2023-01-17    |   

زواج المسلمة بغير المسلم في تونس: ابحث عن البلدية الصديقة

يندر خلو المواد القانونية من مواضيع إشكالية يعسر حلها أو وضع حد لما تطرحه من جدل ونقاش حاد على الواقع. ولعل الأحوال الشخصية، وهي واحدة من أكثر مواد القانون حساسية وخطورة لارتباطها الوثيق بالنظام العام والبنى الاجتماعية والثقافية والدينية للمجتمعات، تمثل مجالا خصبا لمثل هذه المواضيع والقضايا. وخصوصية التجربة التونسية في تقنين هذا المجال والانتقال به من حيز التنظيم التقليدي أي التطبيق المباشر للفقه الإسلامي إلى التقنين الوضعي مع صدور مجلة الأحوال الشخصية فجر الاستقلال، لم تمر دون صعوبات جمة، من بينها بقاء مناطق رمادية لم يقع الحسم فيها، وإنما تركت فضاء للتنازع بين مرجعيات شتى بعضها حداثية وبعضها محافظة. ومن أهم هذه المسائل مسألة: زواج المسلمة بغير المسلم التي تراوح التعامل معها عبر العقود، بسبب غموض النص في حقها، بين الإجازة والمنع، وهو ما فتح الباب لجدل قضائي وفقهي وحتى على مستوى النصوص الترتيبية. بل ولعل ما يزيد هذه المسألة تشعبا، هو ترابطها مع مسألة موانع الإرث في القانون التونسي، التي نجدها منظمة في نص غامض هو الآخر. ذلك أن الفصل الثامن والثمانين ينص على أنّ “القتل العمد من موانع الإرث”، وهو ما أثار النقاش حول مدى جواز العودة إلى الفقه الإسلامي لتحديد “بقيّة الموانع”، ومن بينها في هذه الحالة “الاختلاف في الدين”.  ما يستشفّ من كل هذا، هو أن زواج المسلمة بغير المسلم، من الممكن أن يطرح أمام القضاء في نزاع يلفّه الغموض القانوني من كل جوانبه وذلك كلما تعلّق الأمر بنزاع حول الميراث، ولكن يمكن أن يطرح أيضا في نزاع متعلق بالطلاق أو الحضانة أو حتى تنازع القوانين في المكان[1]. غير أن ما يميز هذه المسألة عن مسألة الإرث يعود أساسا للتدخل الإداري فيها. إذ أنها تمتعت بترسانة قلّ نظيرها من المناشير الإدارية وكأنها أم المسائل وأكثرها تعقيدا، وهو ما سنبيّنه لاحقا في هذا المقال. نتتبع فصلا من فصول هذه الحكاية، حكاية زواج المسلمة بغير المسلم ولكن من زاوية نظر مخصوصة هي زاوية المناشير الإدارية وفي حقبة محددة هي حقبة العشرية الموالية للثورة.

بداية، لا بد من تحديد دقيق لمفهوم المناشير حتى يتسنّى لنا إدراك خصوصيتها وطبيعة تأثيرها على مستوى المنظومة القانونية. وعادة ما يعرف المنشور بكونه “وثيقة داخلية ليست لها صبغة ترتيبية لأن أحكامها لا تكون إلا تفسيرية وتوضيحية وذلك في إطار تطبيق القوانين والتراتيب النافذة”[2]. أما عن مصدرها، فإنها تصدر عن رؤساء المصالح الإدارية وعلى رأسهم الوزراء. ومن هنا، نستخلص أن المناشير ذات طابع داخلي ولا تحمل من حيث المبدأ أيا من ملامح النصوص التشريعية ولا حتى الترتيبية الممنوحة للسلطة التنفيذية بل يقتصر دورها على تفسير وتوضيح النصوص القانونية والترتيبية للأعوان المكلفين بتطبيقها، دون القدرة على مخالفتها أو وضع أحكام وقواعد تناقضها أو تحد من فاعليتها. 

وهنا تكمن المفارقة الأساسية، إذ أن هذه النصوص رغم داخليتها أمست مع الوقت وسيلة ناجعة للتأثير والتوجيه أو الحدّ من فاعلية نصوص تشريعية موجهة من حيث طبيعتها للعموم، خاصة في مجالات الحقوق والحريات. إذ كثيرا ما يعمد رؤساء المصالح الإدارية إلى استغلال هذه المناشير لا لتفسير بعض المسائل بل لوضع أحكام ونواهٍ جديدة قد تتعارض مع نصوص أعلى وعلى رأسها الدستور. والأمثلة على ذلك كثيرة في مجال الحريات الفردية وممارسة الشعائر الدينية[3].

ويفسّر الركون المتواتر للمناشير في مثل هذه المناسبات بسببيْن أساسا: يتمثل الأول في نزعة الإدارة المتواصلة لفرض تمثّلاتها الخاصة التي قد تتنافر أحيانا حتى مع خيارات أصحاب السلطة التشريعية السياسية. أما السبب الثاني وهو الأهم فيعود لكون هذه المناشير وسيلة مثلى بيد السلطة التنفيذية لتحقيق توازنات سياسية تعجز عن تحقيقها على الصعيد التشريعي لعوامل عدة ومتنوعة. فالمناشير بالتالي أداة سياسية بيد السلطة للتأثير في الواقع دون المساس بالإطار العام، وكأننا أمام “قانون خفي” يعدل ويعيد تشكيل المنظومة القانونية وفقا لرغبات صاحب السلطة. هذه الطبيعة الملتبسة للمناشير وهذا التوظيف المتعسف لها، كما وضحنّا ذلك، يجعلها إحدى أكثر الوسائل القانونية والإدارية استعمالا وديناميكية، في فترات التحولات الكبرى، تماما مثل العشرية السابقة. وهو ما سنكشف عنه في الفقرات التالية.

المناشير: نافذة “لسدّ البلاء”

كما سبق وأشرنا، فإن المناشير في فلسفتها تجمع في طياتها بين الحدث العارض والتسويات السياسية. وأبرز ما يجسّد ذلك هو سلسلة المناشير التي صدرت متواترة في علاقة بزواج التونسية المسلمة بغير المسلم سواء كان تونسيا أو لا[4]. ومن المعلوم أن هذه المسألة يُفترض أن تكون منظمة في نصين قانونيين أساسيين: مجلة الأحوال الشخصية الصادرة سنة 1956 في علاقة بشروط الزواج الأصلية، تحديدا الفصل الخامس منها وقانون الحالة المدنية لسنة 1957 والذي ينظم إبرام الزواج من حيث شكلياته. ولكن كلا القانونين لم يحتويا على تنصيص واضح في هذا الغرض، إذ جاء الفصل الخامس غامضا عندما نص على أن يكون كلا الزوجين خلوا من الموانع الشرعية. وهو ما فتح الباب أمام جدال قانوني وقضائي لم يحسم حتى اليوم حول معنى الموانع الشرعية، ومصدرها: هل المقصود بها موانع الفقه الإسلامي وبالتالي يصبح التباين في الدين مانعا يحول دون زواج المسلمة بغير المسلم أم أن عبارة الشرعية هنا مستعملة بمعنى القانونية وبالتالي تكون هذه الموانع مقتصرة على تلك المذكورة صلب النصوص القانونية الوضعية سارية المفعول من دون العودة للمصدر المادي للنص؟[5]

أمام ضبابية النص، والمقصودة حتما، فُتح الباب واسعا أمام المناشير الإدارية للتدخّل وحسم الموضوع وقتيا لصالح شقّ أو إتجاه معين في التأويل. هنا تلعب المناشير دورا حاسما ليس في تفسير النصوص، المفترض فيها عادة الوضوح، بل في تأويل النصوص الغامضة. وهو أمر تمّ مبكرا في هذه المسألة، منذ مطلع الستينات مع صدور منشور وزير الداخلية عدد 23 بتاريخ 17 مارس 1962 والقاضي بمنع زواج المسلمة بغير المسلم مطلقا. وقد بلغ هذا التوجّه أوجهه مع المكتوب عدد 606 الذي وجهه الوزير الأول بتاريخ 19 أكتوبر 1973 والذي أعقبته جملة من المناشير المطبقة له على امتداد السنوات ومنها نذكر منشور وزير العدل عدد 216 من نفس السنة، ومنشوري وزير الداخلية عدد 81 لسنة 1974 وعدد 20 لسنة 1987 وقد توالت هذه المناشير سنوات 1988 و1992 وصولا لسنة 2004 وتعددت الوزارات الصادرة عنها: الوزارة الأولى، وزارة الداخلية، وزارة العدل ووزارة الخارجية. كما تعددت الهياكل الموجهة لها لتشمل ضباط الحالة المدنية، السلك الدبلوماسي وعدول الإشهاد.

هذه الترسانة من المناشير التي جاءت في سياقات سياسيّة محدّدة وتضخمت عدديا، تعكس خطورة هذه المسألة ورغبة السلطة في ضبطها وعدم التساهل معها وإفلات أيدي ضباط الحالة المدنية وعدول الإشهاد وغيرهم للتعامل معها بحرية من جهة. ولكنها تعكس كذلك رفضا أو ممانعة للمواطنات من النساء اللواتي رفضن هذا الإجراء وحاولن التملص منه أو حتى “التحايل” عليه بإبرام عقود زواج في الخارج أو بمجرد اتباع إجراءات “اعتناق اسلام” شكلية في مساس صارخ بحرية المعتقد. وهكذا منحت هذه المناشير للإدارة سلطة واسعة للمساس والحد من حقوق وحريات مضمنة بالدستور وكذلك بفرض تأويل يضيّق من أحكام الفصل الخامس من مجلة الأحوال الشخصية، لتصبح معه هذه المناشير حجة لفقه القضاء الرافض لحق المسلمة بالزواج بغير المسلم[6]، رغم أنها في الأصل وثائق إدارية بحتة، لا تهم القضاء ولا تعكس إلا توجها إداريا متعسفا يمنح الأخيرة سلطة غير مخولة لها من حيث الأصل.

الانتقال الديمقراطي وحرب المناشير

في إثر سنة 2011، عرفت المنظومة القانونية والحقوقية التونسية رجّة كبرى، كُرّست على إثرها جملة من الحقوق والحريات أغلبها ذو طابع سياسي، خاصة في فترتي 2011 والفترة التأسيسية. ولكن هذه التغييرات على قيمتها وأهميتها لم تمسّ كثيرا من منظومة قانون الأسرة والأحوال الشخصية، لننتظر انتخابات 2014 وصعود حزب نداء تونس ورئيسه الباجي قايد السبسي للحكم وهو الرجل الذي ينسب نفسه لمدرسة الحبيب بورقيبة “محرر المرأة” وبالتالي فإنه سيمضي على خطاه نحو إكمال مسيرته.

في هذه الفترة، أعلن الرئيس سعيه لإحداث تغييرات جذرية صلب المادة للحسم في مسائل طال الخلاف حولها سواء في علاقة بالزواج بين مختلفي الدين أو التوارث بينهما وكذلك مسألة المساواة في الميراث. وهو ما أعرب عنه صراحة في خطابه الشهير بمناسبة عيد المرأة يوم 13 أوت 2017 والذي أعقبه منشور حكومي بتاريخ 8 سبتمبر 2017 وهو الذي ألغى تعاليم الوزير الأول الكتابية التي كرست منع زواج التونسية بغير المسلم سنة 1973، وعلى إثره منشور آخر لوزير العدل يلغي فيه بدوره المنشور عدد 216 لسنة 1973. وقد توالت على ذلك من ثمّ مناشير وزارات الشؤون المحلية والشؤون الخارجية كل في مجال اختصاصه، سعيا لرفع هذا المنع لمخالفته الصريحة لما تضمنه دستور 2014 من حقوق وحريات وكذلك لطابعه المتعسف والذي منح الإدارة سلطة تشريعية لا تتمتع بها وتخالف صراحة مبدأ توزيع السلطات كما جاء في الدستور نفسه. ما يثير الاهتمام هنا هو أن الخطوة الأولى المتخذة من قبل الرئيس لتطبيق رؤيته هذه، كانت التوجه نحو إلغاء المناشير السابقة، بينما بقي نص التشريع، أي مجلة الأحوال الشخصية دون مساس في انتظار المشروع المنبثق عن تقرير لجنة الحريات الفردية والذي دعا إلى تنقيح الفصل الخامس من المجلة عبر إلغاء عبارة الموانع الشرعية وتعويضها ب” الموانع المنصوص عليها بهذه المجلة”[7]. وهو ما بقي طي الأدراج من دون أن يرى النور حتى كتابة هذه الأسطر وكذلك كان الشأن بخصوص المبادرات التي ارتبطت به.[8]   لم تتبنّ رئاسة الجمهورية، التي بادرت إلى تكوين لجنة الحريات الفرديّة والمساواة، من تقرير اللجنة سوى  مشروع قانون المساواة في الإرث الذي صادق عليه المجلس الوزاري بإيعاز من الرئاسة بتاريخ 2 نوفمبر 2018، ممّا ساهم في إجهاض الأمل في حلّ المسألة بشكل جذريّ وتحصين هذه الحرّية من خلال مقاربة تشريعية، لتقتصر الخطوة العملية الوحيدة في ذلك على إلغاء المناشير.

كل هذا يؤكد ما تحدثنا عنه منذ البداية بخصوص طبيعة المناشير، التي تعكس التوازنات السياسية الظرفية ورغبات أصحابها التكتيكية مقابل النصوص التشريعية ذات البعد الزمني الممتد. لذلك غاب تنقيح مجلة الأحوال الشخصية لغياب القدرة على الفعل السياسي الوطني الجامع في مقابل هشاشة المناشير. ولعلّ ما يؤكد هذه الهشاشة هو ما يمكن تسميته بحرب المناشير التي خاضتها أغلب البلديات مباشرة إثر إتخاذ هذه الخطوة،. ومن الطبيعي أن تكون البلديات الحلبة الرئيسية لهذا الصراع، نظرا لكونها تمثل الهياكل المعنية مباشرة بهذه المسألة ولكون ضباط الحالة المدنية هم المسؤولين قانونا على تحرير عقود الزواج أو تلقيها.

لو أردنا وضع سلم زمني أوضح وأبسط لتعامل البلديات مع منشور 2017 لوجدناه ينقسم لثلاث مراحل رئيسية: المرحلة الأولى وهي المرحلة الممتدة من 8 سبتمبر 2017 إلى أواخر هذه السنة وفيها نجد أن أغلب البلديات رفضت تطبيق منشور الجماعات المحلية بتعلة إجرائية بحتة ودون الخوض في الأصل وجوهر ما جاء فيه ومن الأمثلة على هذه البلديات نذكر بلديتي سيدي بوسعيد[9] والمرسى[10] بتونس العاصمة.

أما المرحلة الثانية فأعقبتْ إصدار المنشور الرسمي والذي وصل للبلديات أواخر تلك السنة وفيه تداركت الإدارة الخلل الإجرائي. وهنا اتخذ النقاش بعدا آخر ووجدت البلديات نفسها في وضعية لا تقدر فيها على التعلل بأسباب شكلية للتنصّل من الجدل المجتمعي في هذا الشأن. بل فُرض عليها إما تطبيق المنشور أو رفضه بشكل صريح بناء على محتواه. حتى نفهم هذه المرحلة بشكل أفضل لا بدّ من أن نشير إلى عامل سياسيّ جديد دخل في المعادلة ألا وهو انتخابات المجالس البلدية في 6 ماي من نفس السنة. وهي انتخابات تصدّرت فيها حركة النهضة، الحزب ذو الخلفية الإسلامية النتائج، وتلاها حزب نداء تونس الذي ينتمي له الرئيس قايد السبسي صاحب المبادرة الأصلي. هذا المعطى على غاية الأهمية حيث كان من المتوقع أن تبرز معارضة المنشور في أوساط البلديات الأكثر محافظة، وهو ما تم فعلا مع تصريحات السيد فتحي العيوني الفائز برئاسة بلدية الكرم على رأس قائمة حركة النهضة والذي تصدر المشهد الإعلامي لرفض هذا المنشور والتنديد بمخالفته للشرع والقانون الوضعي، بعد فترة قليلة من توليه الرئاسة أو بعض البلديات في الجهات[11].  إلا أن هذه المعارضة التلقائية لم تطل طويلا ولم تتحول إلى معارضة مهيكلة من طرف البلديات، وذلك بعد “التبرؤ” السريع الذي أبدته حركة النهضة من تصريحات العيوني والتي اعتبرتها لا تعدو أن تكون موقفا شخصيا لصاحبه لا يلزم الحركة، بل أنها ذهبت لدعوة المجالس البلدية الموالية لها إلى ضرورة إتباع القانون وتطبيقه[12]. موقف حركة النهضة من الممكن أن يفهم على كونه حركة سياسية تكتيكية فرضتها توازنات المرحلة وتوجهها المعلن نحو “تونسة” الحركة ورغبتها في عدم الدخول في صدام معلن ومباشر مع قايد السبسي وحزبه وخاصة مع الائتلاف الواسع من منظمات المجتمع المدني التي أشادت بهذه الخطوة[13]. وغياب التصريح هنا علانية بأن الحركة تتبنى هذا المشروع انتصارا للمبدأ في ذاته وللحقوق والحريات الفردية والأصوات الحقوقية المتعالية، قد يكون دليلا على رغبة ضمنية في تأجيل المعركة إلى مرحلة لاحقة. بينما أكدت بلديات أخرى لا يتولى إدارتها غالبية من حركة النهضة في نفس تلك الفترة عن شروعها في تطبيق المنشور لحظة وصوله، معلنة عن رفع المنع وبالتالي قبولها زواج التونسيات المسلمات بغير المسلمين من دون الحاجة للاستظهار بشهادة مفتي الجمهورية، ومن بين هذه البلديات نذكر بلدية سيدي بوسعيد التي تخلت عن الموقف السابق لها [14].

وفي نظرنا من الممكن أن تمثل هذه النقطة، أي بلاغ النهضة، حدا للمرحلة السابقة وتدشينا للمرحلة الممتدة إلى الآن. والتي تمثلت ملامحها الأساسية في اللجوء للتطبيق الصامت لمنشور 2017 دون ضجة إعلامية مصاحبة له. وهو ما قامت به أغلب البلديات عمليا باستثناء بلدية الكرم التي بقيت الصوت الناشز الوحيد علنيا وإعلاميا أو الموافقة لها دون ضجيج مثل بلدية زغوان بولاية زغوان[15]. هنا لا يمكننا ضبط قائمة واضحة بأعداد البلديات الملتزمة بتطبيق النص الجديد من عدمه وذلك لعدة عوامل أهمها أن جل البلديات لم تجنح لإشهار موقفها علنيا تجنبا للنقد سواء من المحافظين أو الأطراف الحقوقية وكذلك لأن الموضوع لم يطرح أصلا أمام جميع البلديات ولكن تحديدا ضمن تلك التي عادة ما يتواجد عدد من سكانها بشكل دوري بالخارج. أما العامل الثالث فيتعلق بعدم تحيين أغلب مواقع البلديات الإلكترونية والتي لا زالت تضم ضمن خانة وثائق الحالة المدنية على نفس التنصيصات القديمة[16].

وبناء على كل هذا، فإن التثبت من تطبيق منشور يفترض فيه بداهة أن يكون ساري المفعول يبقى رهينا بالتأكد على عين المكان. ومن الأمثلة التي قد تؤكد ما سبق يمكن أن نذكر بلديات قرطاج وسيدي بو سعيد والمرسى من ولاية تونس التي فازت بها قائمات نداء تونس. ونجد أيضا أن كلا من بلديتي العالية من ولاية بنزرت وبلدية سيدي علي بن عون من ولاية سيدي بوزيد وهما بلديتان فازتا بهما قائمات حركة النهضة،  قامتا  أيضا بتطبيق المنشور ولكن عبر الاكتفاء بتعليقه في بهو البلدية دون إشهاره إعلاميا.

إن الجدل الذي كان من المفترض أن يهدأ مع التطبيق الصامت للمنشور، لم يكتب له النجاح الكلي. إذ أن الصوت الحاد لمعارضة بلدية الكرم والذي وإن كان منفردا ظاهريا على مستوى البلديات، إلا أن صداه وجد ترحيبا. وقبل أن نشير لذلك لابد بداية من تحليل هذا الموقف والذي يرى بأن هذا المنشور الجديد مخالف لنصوص قانونية أعلى منها درجة، لاعتبار أن الفصل الخامس من مجلة الأحوال الشخصية ينص على اعتبار اختلاف الدين مانعا من موانع الزواج بالنسبة للمرأة وبالتالي فإن البلديات تجد نفسها في حل من تطبيق هذا المنشور، متعللا في ذلك بأن مجلة الجماعات المحلية لسنة 2018 تنص في فصلها الرابع على أن الجماعات المحلية ومنها البلديات ملزمة في أداء مهامها على ضوء الدستور والقوانين الجاري بها العمل، لا وفقا للمناشير المخالفة لفحوى هذه القوانين[17].  وهي نفس الحجج التي أعادها لنا ضابط الحالة المدنية في بلدية زغوان من ولاية زغوان سعيا منه لتبرير موقف بلديته الرافض لتطبيق هذا المنشور لحدود هذه اللحظة[18].

ورغم كل ما طرحه الأمر من استهجان في البداية في أوساط القانونيين لمخالفته الصريحة لاختصاص البلديات المقيد في هذا المجال[19] وتندّر لدى متابعي الشأن العام، غير أنه ساهم في تعزيز حالة الفوضى القانونية من جهة واللامساواة بين المواطنين ومتساكني البلديات المتجاورة. صحيح، أن كل مواطنة تروم الزواج بشخص غير مسلم وتتواجد في النطاق الجغرافي لبلدية الكرم أو زغوان أو غيرهما، يمكنها أن تتجاوز هذا المنع بالتنقل عدة أميال فقط إلى واحدة من البلديات المجاورة وهناك يمكنها الزواج دون أدنى إشكال، وبالتالي يصبح هذا المنع خاليا من أدنى قيمة عملية. غير أن للموقف تبعات أخرى على الصعيد القانوني والسياسي تجعله أكثر خطورة: إذ تمثل سابقة خطيرة لتعنت السلطة المحلية وتجاوزها لاختصاصاتها خاصة في مجال الحريات، قد تلهم البعض في المستقبل للحذو حذوها. ومن جهة أخرى فإنها تمنح ذريعة سياسية لأولئك الذين أجلوا المعركة ولو لحين، لمزيد الاصطفاف ولشرعنة فعل وتقديمه كمثال على الثبات ضد موجات المساس من هوية الشعب وثقافته حسب زعمهم. وهو أمر تؤكده اليوم مواقف عدد من عدول الإشهاد[20] الذين لا زال أكثرهم متمسكين برفض إبرام عقد زواج أي تونسية بشخص أجنبي دون تقديم شهادة “المفتي”[21]، في حين واصل المجتمع المدني والحقوقي التنديد المستمر للحقوقيين بهذا المنع[22].

نستخلص مما سبق، هشاشة المناشير وعدم قدرتها على الحسم الكامل لجدل تاريخي في مادة الأحوال الشخصية. ذلك أن تدخّل سلطة عليا تشريعية هو السبيل الوحيد لوضع حدّ لهكذا نزاع خفي بين إدارة تتجاذبها المعطيات السياسية الراهنة وبلديات تسعى لتلبية الميولات والأفكار الخاصة بالقائمين عليها شخصيا ولبسط نفوذها على حساب حريات المواطنين الفردية.  أو لعله يمهد الطريق أمام سلوكات مجتمعية جديدة في إبرام الزيجات يصبح معها تخير البلديات الملاءمة طقسا من طقوس الزفاف.

خاتمة

في الختام، وإلى حدود لحظة كتابة هذه الأسطر، لا يبدو أن مناشير 2017 بتجويز زواج المسلمة من غير المسلم تغلبت كليا على مناشير 1973 بمنع هذا الزواج، صحيح أن الجزء الأكبر من البلديات يطبق المناشير الجديدة بشكل متواتر دون أدنى إشكال، خاصة في ظل الدور الرقابي والتوعوي المتزايد الذي لعبه المجتمع المدني خلال الفترة الانتقالية الحرجة سنة 2018، إلا أن عددا من البلديات ما زالت تمتنع علنا عن الالتزام بها على خلفية أنها تخالف أحكام الشريعة و”ثوابت المجتمع التونسي وهويته” وبعضها الآخر متمنع في السر وثالث لا زال يحافظ في موقعه الإلكتروني الرسمي على ضرورة تقديم شهادة في اعتناق الإسلام بالنسبة لكل زوج غير مسلم. ولعل ما يدعم هذه الممانعة أكثر هو موقف جزء كبير من عدول الإشهاد رافضين بدورهم العمل به. أما على الصعيد القضائي، ورغم انتهاء حقبة كان فيها منشور 1973 يمثل حجة إضافية لفقه القضاء الرافض لزواج المسلمة بغير المسلم، إلا أن هذا لم يحل دون ظهور فقه قضاء غابت المناشير عن أسانيده شكلا ولكنه بقي متبنيا لها مضمونا[23].

“جيوب الرفض” متعددة المصادر هذه، وهي تحول دون سواد الاستقرار واليقين القانوني في هذه المسألة. وهما مطلبان، لا يمكن بلوغهما تماما بفقه قضاء لم يحقق الإجماع الكامل على تأويل واحد للنص ولا بمناشير ذات راهنية سياسية محدودة في الزمن والفاعلية، بل هي “معركة” لا تحسم إلا بتدخل تشريعي برفع الغموض والالتباس الذي طال أمده على أحكام الفصل الخامس من مجلة الأحوال الشخصية وبقية الفصول التي المرتبطة به كالفصل الثامن والثمانين المتعلق بموانع الإرث. تعلمنا حرب المناشير هذه، درسا مفاده بأن معارك الاصطفاف الكبرى لا تحسم نهائيا إلا في الفضاءات الكبرى، وأن المطالب الإجتماعية والحقوقية ذات السقف العالي تستوجب من السلطة تدخلا يرقى لمستواها وإلا فإن نضال هذه الأصوات سيتواصل بطرق مختلفة[24]. ويبقى الموضوع تبعا لذلك فصلا غير مكتمل وقابلا لأن تضيف له أقلام السلطة أسطرا جديدة أو أن تحاول حتى محو بعض ما كتبه وافتكّه التونسيون.

وهنا نسأل سؤالين: ماهو مصير تلك المبادرات غير المكتملة التي تلت صدور تقرير لجنة الحريات الفردية سنة 2018 ولماذا آلت نحو الفشل والنسيان[25]؟ وهل أن طرح الموضوع أصلا اليوم في فترة ما بعد 25 جويلية ودستورها وبرلمانه الجديد المنتظر، لازال له جدوى أو راهنية أو قيمة، في ظلّ أمر واقع أضحت فيه الأوامر والمراسيم، المرتبطة هي الأخرى بإرادة فرديّة، وسيلة لتجميع السلطات وحلّ المؤسسات المنتخبة وتغيير الدساتير والتشريعات؟


[1] تجدر الإشارة هنا، إلى أن النزاع حول علاقة الدين بموانع الإرث في الفصل 88 كما طرح أمام القضاء التونسي، لا يشمل فقط صورة ميراث الزوج غير المسلم من زوجته المسلمة، ولكنه تشمل أيضا  حق الزوجة غير المسلمة في ميراث زوجها المسلم بل وحتى الأبناء كلما تعلق الأمر باختلاف حول دينهم.

[2]  نهى الشواشي، المناشير المضيقة للحقوق والحريات: مفهومها وقيمتها القانونية، ضمن: المناشير السالبة للحرية: قانون خفي يحكم دولة القانون، مؤلف جماعي تحت إشراف وحيد الفرشيشي، منشورات الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية، تونس، 2018، ص. 21.

[3]  وحيد الفرشيشي، المناشير السالبة للحرية: قانون خفي يحكم دولة القانون، مؤلف جماعي تحت إشراف وحيد الفرشيشي، منشورات الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية، تونس 2018 ، ص 11

[4] عن تحديد انتماء التونسي أو التونسية الديني لابد من أن نشير إلى معطيين. يتمثل الأول في غياب التنصيص ضمن رسم الحالة المدنية أو غيرها من وثائق الهوية على ديانة المواطن. أما المعطى الثاني فيتمثل في تبني القانون التونسي لافتراض مفاده أن الشخص على دين أيه حتى يثبت عكس ذلك، وهو ما نستشفه بشكل صريح من أحكام  الفصل 59 من مجلة الأحوال الشخصية وأكد عليه فقه القضاء التونسي في أكثر من مناسبة منها القرار التعقيبي عدد 69523 بتاريخ  04 جانفي 1999، فيما يتعلق بالمسلمين. ونجد نفس المبدأ منطبقا على التونسيين والتونسيات اليهود ضمن أحكام منشور وزارتي العدل والداخلية المشترك بتاريخ 12 ديسمبر 1965.

هذه التعامل الجماعي مع الانتماء العقائدي، يعكس تمثل السلطة الطويل لحرية المعتقد كحرية جماعية لا فردية. وهو ما يترتب عليه التصنيف الأوتوماتيكي للأفراد على أساس الانتماء لأحد هذين المعتقدين، والإسلام في الغالب، دون افتراض عدم الإيمان بهما أو الإنتماء لدين آخر غيرهما. وذلك في مقابل افتراض الانتماء لدين غير الإسلام وذلك كلما تعلق الأمر بزوج  أو قرين أجنبي وغير حامل لجنسية دولة ذات أغلبية إسلامية إلى حين إثبات عكسه.

[5] نادر الزغل، تنازع المرجعيات في مجلة الأحوال الشخصية، مجمع الأطرش للكتاب المختص، تونس 2022، ص13 

[6] من الأحكام القضائية المكرسة لهذا الإتجاه حديثا: القرار الصادر عن محكمة الإستئناف بتونس عدد 36737 بتاريخ 26/06/2014، منشور ضمن ستينية مجلة الأحوال الشخصية، مؤلف جماعي، مجمع الأطرش للكتاب المختص، تونس 2017، ص ص395- 410

[7] تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة، رئاسة الجمهورية التونسية، تونس 1 جوان 2018، ص 122

[8] من بينها نذكر: مقترح قانون عدد 71/2018 والمتعلق بإحداث مجلة الحريات الفردية والذي أودعه جملة من النواب بتاريخ 11 أكتوبر 2018 والذي مثل إعادة حرفية لمقترح لجنة الحريات الفردية

[9] تصريح رئيس النيابة الخصوصية ببلدية سيدي بوسعيد لصحيفة أنباء تونس بتاريخ 29 سبتمبر 2017

[10]تصريح سليم الحكيمي أحد إطارات بلدية المرسى لموقع هاف بوست بتاريخ 29 سبتمبر 2017

[11] بيان الجمعية التونسية لمساندة الأقليات بتاريخ 19 نوفمبر 2017

[12] البلاغ الإعلامي لحركة النهضة بتاريخ 17 أوت 2018

[13] بيان الهيئة المديرة لجمعية النساء الديمقراطيات إثر تصريحات الباجي في 13 أوت 2017

[14] وحيد الفرشيشي، مرجع سابق، ص18

[15] من المفارقات أن بلدية زغوان تصدرت تركيبة مجلسها البلدي قائمتان الأولى مستقلة أما الثانية فهي قائمة آفاق زغوان

[16] من  هذا الصنف الأخير من البلديات نذكر: بلدية تونس، بلدية قرطاج، بلدية المرسى، بلدية واد الليل، بلدية صفاقس وبلدية سوسة

[17] مقطع فيديو مسجل نشره رئيس بلدية الكرم على صفحته الخاصة على موقع الفيسبوك بتاريخ 16 أوت 2018

[18] هذه الإفادة تلقيناها شخصيا منه بتاريخ 16 جانفي 2023

[19] عبد الكريم العويني، الجماعات المحلية والحالة المدنية: بين الحق في الحياة الخاصة وسيادة الدولة، ضمن الجماعات الحلية والحريات الفردية، مؤلف جماعي، منشورات الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية، تونس 2019، ص50

[20] يمنح قانون الحالة المدنية الحق للمواطنين لإبرام عقود الزواج أمام ضباط الحالة المدنية أو أمام عدلين من عدول الإشهاد على أن يتولى أحدهما إعلام ضابط الحالة المدنية لبلدية المكان بذلك كما ينص على ذلك الفصل 33 من قانون الحالة المدنية.

[21] تصريح عميد عدول الإشهاد ناصر العوني بتاريخ 14 أوت 2017 وهو ما  أكده الأستاذ خالد المؤدب عدل الإشهاد  بتاريخ 12 ماي 2022

[22] بيان الجمعية التونسية لمساندة الأقليات بتاريخ 9 جويلية  2020 وذلك على خلفية إعادة تأكيد بلدية الكرم على هذا المنع يوم 8 جويلية من نفس السنة.

[23] من بين هذه الأحكام نذكر القرار الاستئنافي عدد 92325 الصادر عن محكمة الاستئناف بتونس بتاريخ 14 جويلية 2020

[24] من الأمثلة على النشاط الأكاديمي والحقوقي في هذا الإتجاه  نذكر المؤلف الجماعي الذي أصدرته الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية: الجماعات المحلية والحريات الفردية، تحت إشراف الأستاذ وحيد الفرشيشي  سنة 2019

[25] وحيد الفرشيشي، عشر سنوات من التشريع في مجال الحريات: النجاحات والإخفاقات وأي منهج للمستقبل؟، منشورات الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية، تونس جانفي 2021، ص58

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم دينية ، تشريعات وقوانين ، حرية التعبير ، الحق في الحياة ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني