محامو المجلس الأعلى للقضاء: قراءات متباينة لتجربة واحدة..


2022-03-25    |   

محامو المجلس الأعلى للقضاء: قراءات متباينة لتجربة واحدة..
رسم: رائد شرف

في بيان صدر عنه بتاريخ 09-02-2022، كشف مجلس الهيئة الوطنية للمحامين عن عدم معارضته قرار الرئيس قيس سعيد حلّ المجلس الأعلى للقضاء، بعدما اعتبر أنه فشل في أدائه بسبب “سقوطه في القطاعية والتجاذبات السياسية”. وأعرب المجلس عن تمسكه” بأن يتم تشريك المحاماة في كل إصلاح وأن تكون تمثيليتها بالمجلس الأعلى للقضاء القادم الذي “لا يجب أن يكون مجلسا للقضاة فقط أكثر نجاعة”. ولم يشاطر قسم من المحامين هذا الموقف كان من ضمنه فروع للهيئة الوطنية للمحامين وشخصيات اعتبارية من هذا القطاع عرفت بنشاطها في المجالين الحقوقي والسياسي وحتى المهني. فتتالت البيانات[1] والمواقف التي أدانتْ ما اعتبرتْه استيلاء من السلطة السياسية على مؤسسة دستورية تعدّ من أهم مكاسب الثورة[2]. وكان واضحا هنا أن الانقسام السياسي حول المسار السياسي الذي دخلته تونس بعد 25 جويلية 2021 كان من مفاعيله ربما إحياء لما كان خلافا قديما حول المحامين بالمجلس الأعلى للقضاء.

سؤال حول شرعية تمثيل المحامين

انطلق عميد المحامين إبراهيم بودربالة من تمثيلية المحامين بالمجلس الأعلى للقضاء ليصل لإقامة ما اعتبرها حجة على أن خلل أدائه هيكلي. واعتبر هنا أن انتخاب اعضائه من المحامين بشكل مباشر من زملائهم يمنع عنهم صفة تمثيل مهنتهم، بحيث لم يترك مجالا لمحاسبتهم من هياكلها. ولينتهي للقول بأنّ تجاوز هذه النقيصة يجب معه أن يكون المحامون في المجلس الجديد ممن يعينون بالصفة أي عميد الهيئة الوطنية للمحامين وكاتبها العام وممن تعينهم هيئتهم لشغل ذاك المنصب. وهو الأمر الذي متى تحقق يبعد المجلس وأعضاءه عن التجاذبات السياسية ويلزمهم بضوابط محددة في عملهم كما ينهي هيمنة القضاة والتجاذب القطاعي عنه. ويبدو هنا الموقف الرسمي للمحاماة منسجما مع ما سبق وقدمت من تصورات في فترة نقاش القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء، حيث أن الهيئة الوطنية للمحامين صاغت مقترحا خاصا بها تقدّمت به للجنة التشريع العام لمجلس نواب الشعب اقترحت صلبه أن يكون المحامون أعضاء المجلس “منتخبين من مجلس هيئتهم[3]“.

في الجهة المقابلة، يكشف تتبّع مواقف المحامين المعارضين لحلّ مجلس القضاء أن حجة التمثيلية لا تجد صدى كبيرا في وسطهم. إذ يتمسّك هؤلاء بأنّ أعضاء مجلس القضاء من المحامين انتُخبوا من زملائهم في انتخابات أشرفت عليها الهيئة العليا للانتخابات وبلغت فيها نسبة المشاركة بين عموم المحامين 37% من جملة المحامين المرسمين بجداول المهنة[4] (وهي نسبة عالية وهو أمر يمنحهم استقلالية وشرعية تساعدهم فيما هو مطلوب منهم من إدارة للقضاء بعيدا عن الاعتبارات القطاعية. وهم يعتبرون أن ممارسة المحامين من أعضاء مجلس القضاء لمهامهم لم يكن بالسلبية المدعاة بدليل نجاحهم في إرساء مشاورات بين الهيئة الوطنية للمحامين وفروعها والمجلس اتصلت بشكل خاصّ بالحركات القضائية السنوية. كما اعتبروا عموما أن تجربة عملهم أسّستْ لديموقراطية في إدارة القضاء بعيدة عن القطاعية، بدليل أن مواقفهم كما مواقف القضاة الأعضاء في مجلس القضاء لم تكنْ تتحدّد على أساس مرجعياتهم المهنية ولا بقرار من هياكل مهنتهم بل بالاستناد لقناعتهم الذاتية. وقد مكّنتهم هذه الروحية من المشاركة الفاعلة في اتخاذ القرارات وفي الإدارة والتسيير[5] في فترة عمل المجلس، وأن يكُونوا في طليعة المدافعين عنه[6] المتمسّكين بأنّ المجلس المنصب من الرئيس في حكم المعدوم[7].

سؤال حول ضياع المكسب

بعد صدور المرسوم عدد 11 لسنة 2022 الذي حلّ المجلس المختلف في شأنه وأرسى مجلسا مؤقتا بديلا عنه ذا تركيبة قضائية محض، لم يتغيّر موقف عميد المحامين. على العكس من ذلك، سعى العميد إلى تبرير هذا التراجع ب “أنّ المرحلة الحالية تتعلق بتأديب القضاة ونقلتهم أو إعفاء البعض من مهامهم، وهذا شأن يهم القضاة ولا دخل للمحامين به”. وعليه، صوّر العميد “إقصاء المحامين” على أنها “إجراء عادي يتعلق أساسا برغبة الرئيس[8] في تطهير القضاء[9] من خلال مجلس قضائي مؤقت متكون أساسا من القضاة دون غيرهم.” وبعدما ذكّر العميد بأن الهيئة الجديدة مؤقتة، تابع بأنّ “مهنة المحاماة (ستكون) ممثلة في المجلس المقبل بواسطة عناصر يختارها مجلس الهيئة الوطنية للمحامين”[10]. وهذا الموقف يقبل الانتقاد من زوايا عدّة:

أولا، أنّه يعكس تفسيرا خاصّا للتدبير لا ينسجم قط مع رؤية قيس سعيّد. وللدلالة على ذلك، يكفي العودة إلى التصور الذي كان أبداه هذا الأخير بصفته خبير في القانون الدستوري. آنذاك، رأى سعيّد ضرورة إقصاء غير القضاة من مجلس القضاء منعا لتسرّب السياسة عبرهم إلى قصور العدل مقترحا بالمقابل ضمّ قضاة متقاعدين لا يشغلون أي نشاط مهني آخر إليه[11]. وهو التصوّر الذي عاد سعيّد ليذكر به في فترة  حملته الانتخابية الرئاسية[12] وهو التصوّر الذي نجح في وضعه موضع التنفيذ في مرسوم 12-02-2022.

ثانيا، إنّ هذا التبرير يبدو منافيا للفصل 105 من دستور تونس الذي نصّ أنّ”المُحاماة مهنة حرّة مستقلّة تشارك في إقامة العدل والدفاع عن الحقوق والحريّات” وللمسؤوليّات التي رتّبها على عاتق هيئة المحامين. وإذ هدفتْ السّلطة المؤسّسة من هذا الفصل إلى تكريم مهنةٍ ساهمتْ في الدِّفاع عن الحريّات في زمن الاستبداد، فإنّها حمّلتها بموجبه في الآن نفسِه مسؤولية الاضطلاع بدور مماثل مستقبلا تعزيزا للديمقراطية. انطلاقا من ذلك، يعدّ إقصاء المحاماة عن مجلس القضاء بمثابة تعليق للدستور فيما يكون قبول هيئة المحامين بذلك تنازلا منها عن مسؤوليتها في الدفاع عن استقلالية القضاء. ولا يردّ على ذلك بأنّ المرحلة مرحلة تطهير أو إعفاء، حيث يكون اضطلاع المحامين بمسؤوليتهم في الدفاع عن الديمقراطية أكثر إلحاحا في فترات ينتظر أن تصدر فيها قرارات خطيرة على صعيد الحريات العامة واستقلال القضاء، منه في الفترات العادية. وهذا ما عبّر عنه عدد عن المحامين المعروفين بالتزامهم بالقضايا الحقوقية[13]، برفضهم  “موقف الهيئة الوطنية للمحامين الداعم لحلّ المجلس الأعلى للقضاء والمتفاعل سلبيًا مع الانتكاسة الحالية عن المكاسب الدستورية الضامنة لاستقلال القضاء”. وقد أدان البيان ما وصفوه “موقفًا متخلفًا عن تاريخ المحاماة التونسية وقيمها وثوابتها في الانحياز لبناء سلطة قضائية مستقلة وقوية وناجزة، وغير خاضعة للسلطة التنفيذية”.

الخلاصة:

يتبين مما سبق أن حلّ مجلس القضاء خلّف انقساما داخل المحاماة بين مُساندين له لقربهم السياسي من الرئيس قيس سعيد أو لمؤاخذات لهم على المجلس وآخرين يعارضون المسّ بالمؤسسة في فترة الاستثناء منعا لتفرد هذا الأخير بالسلطة أو الفتك بمكتسبات القضاء والمحاماة. وينتظر أن يكون التجاذب بين الشقّين محوريا في انتخابات هيئة المحامين والتي ينتظر[14] أن تجري بعد أقل من ثلاثة أشهر من الآن، في شهر جوان القادم.


[1]  بتاريخ 07-02-2022 وعلى اثر اجتماع بدار المحامي حضره عشرات المحامين  صدر بيان ورد فيه “نحن المحامون المجتمعون يوم 7/2/2022 بدار المحامي و بعد استعراضنا لتصريحات رئيس سلطة الانقلاب من داخل مقر وزارة الداخلية في الليلة الفاصلة بين السبت 5  فيفري و 6 فيفري 2022 و التي دعا فيها أعضاء المجلس الأعلى للقضاء لاعتبار مجلسهم “في عداد الماضي منذ هذه اللحظة ” و ما تبع ذلك من دعوته لأتباعه للنزول للشارع للمطالبة بحل المجلس الأعلى للقضاء و التحريض على القضاة مما يعرض سلامتهم الجسدية للخطر، وبعد معاينة ما تم من محاصرة من قبل قوات الأمن لمقر المجلس الأعلى للقضاء منذ صبيحة اليوم و أحكام إغلاقه بالأقفال و منع أعضائه و كل موظفيه و عملته من الدخول ، فإننا نعبر عن : – تنديدنا بما قام به رئيس سلطة الانقلاب في محاولة لاستكمال استلائه على جميع السلطات، -تمسكنا بدولة القانون و المؤسسات التي يشكل القضاء إحدى ركائزها باعتباره الضامن الوحيد للحقوق و الحريات-  ندعوا جميع مكونات الشعب التونسي و خاصة السادة القضاة و المحامين و الحقوقيين و رجال القانون و المنظمات و الأحزاب السياسية و المجتمع المدني للوقوف صفا واحدا أمام مخطط رئيس سلطة الانقلاب الذي أفرغ البلاد من جميع مؤسساتها لفرض سلطة الشخص الواحد و استعدادها لخوض جميع أشكال النضال السلمي الممكنة من أجل ذلك -نذكر أن المكاسب التي يريد رئيس سلطة الانقلاب تبديدها كانت نتيجة نضالات نساء و رجال ضحوا بالغالي و النفيس لنعيش أحرارا في وطننا.عاشت تونس حرة مستقلة عاشت ثورة الحرية و الكرامة المجد و الخلود لشهداء الوطن 
[2]  في بيان صدر عن الفرع الجهوري للهيئة الوطنية للمحامين بالقصرين بتاريخ 18-11-2021 ورد “أن المجلس الأعلى للقضاء ورغم ما رافق أداءه من ضعف وما اجمع عليه اغلب الملاحظين لمسيرة هذا المجلس من عجزه عن إدارة الشأن القضائي بالشكل المطلوب فإنه يبقى من أهم المكاسب التي تحققت إثر الثورة التونسية ومن أهم الإنجازات التي تضمنها دستور 2014 وأن المنطق والمقبول هو إصلاح توجهه لا تقويضه”.
[3]  الفصول 14 و15 و16 من المشروع
[4]   من جملة 8361 محام يحق له التصويت شارك في الانتخابات 3098 في انتخابات 23-10-2016.
[5]  انتخبت المحامية سميرة كراولي نائبة لرئيسة المجلس الأعلى للقضاء، وانتخبت المحامية سعيدة الشابي نائبة لرئيس مجلس القضاء العدلي
[6] تغيب المعطيات الإحصائية حول مواقف أعضاء المجلس الأعلى للقضاء من حله لكن يكشف تبعات التحركات الاحتجاجية التي تمت إثر ذلك ان اغلب المشاركين فيها من أعضاء مجلس القضاء كانوا من المحامين.
[7]  من بين ثمانية أعضاء بمجلس القضاء من المحامين سجلت مواقف علنية تمثلت في تصريحات إعلامية او حضور ندوات تعبير عن مواقف أو كتابات وتدوينات لستة أعضاء تؤكد تمسكهم بعضوية مجلسهم وبشرعيته وهم : سميرة كروالي  -لمية المنصوري – علي منصور – يسر الشابي –-أسماء بن عربية – سعيدة الشابي.
[8] حول مركزية الرئيس في الخطاب حول القضاء   يراجع للكاتب مقال ” القضاء في افق التصحيح حديث مبتدؤه رئيس يقيم وخبره رئيس يريد “
[9]  لتعميق الخطاب حول تطهير القضاء في خطاب سعيد يراجع للكاتب مقال ” خطاب تطهير القضاء في تونس صناعة الاستتباع “
[10] عميد المحامين: المجلس المؤقت للقضاء يتماشى مع مرحلة اجتثاث الفساد – حقائق اون لاين -14-02-2022
[11]  يكون هنا حل مجلس القضاء كما كان تجميد مجلس النواب تنزيل للمشروع السياسي للرئيس قيس سعيد بصرف النظر عما يقدم له من تبريرات  – حول مجلس نواب الشعب وجذور معارضة الرئيس له في فكره  يراجع للكاتب مقال “كيف نقرأ تدابير سعيد على ضوء مشروعه السياسي “
[12]  برنامج كرسي قرطاج بثته القناة الوطنية الأولى  مدة الحملة الانتخابية الرئاسية الدور الثاني – وخصص للحوار مع المرشح للدور الثاني للانتخابات الرئاسية  قيس سعيد والذي تحدث في الدقيقة 37 منه عن طرحه ذاك  وذكر به.
[13] بيان صدر بتاريخ في 15 فيفري 2022، وأمضاه 74 محاميا من المعروفين في الأوساط التونسية بنشاطهم الحقوقي.  
[14]  يتداول في كواليس المحاماة حديث عن مساع لتمرير مرسوم جديد للمحاماة قد يكون من مفاعيله تأجيل المواعيد الانتخابية
انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، البرلمان ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني