خطاب “تطهير القضاء” في تونس: صناعة الاستتباع


2021-10-18    |   

خطاب “تطهير القضاء” في تونس: صناعة الاستتباع

بتاريخ 03-10-2021، نظّم أنصار الرئيس قيس سعيّد وقفات داعمة له ولقراراته في عدد من المدن التونسية. وقد كشفت وسائل الإعلام أن المشاركين فيها رفعوا إلى جانب صور الرئيس والشعارات السياسية الداعمة لسياسته، شعار “الشعب يريد تطهير القضاء”. لم يتأخر استثمار هذا الشعار من رئيس الجمهورية قيس سعيّد. وهذا ما نستشفه من كلمته المصوّرة في معرض استقباله رئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بو زاخر بعد أيام من هذه التظاهرة. فبعدما اعتبر سعيّد أن عدد المشاركين في التظاهرة الداعمة له بلغ مليون وثمانمائة ألف شخص[1]، خاطب أبو  زاخر: “آثرت لقاءكم في هذا اليوم التاريخي الذي عرفته تونس بالأمس لأقول لك .. الشعب يريد تطهير القضاء”. وقد عاد ليضمّن الكلمة التي ألقاها بمناسبة تنصيب الحكومة الجديدة بتاريخ 11-10-2021 قوله: “سيتم بإذن الله تطهير القضاء لأن تطهير البلاد لا يتمّ إلا بتطهير القضاء”.

وإذ تؤشر هذه المعطيات إلى تطوّر نوعيّ في خطاب سلطة ما بعد 25 جويلية، يقتضي التنبّه إلى مخاطره على ما تبقّى من دستور 2014 ومن التزام بقيم المجتمع الديمقراطي.

 

التطهير: استيلاد لشعار سبق تجريبه

في سنة 2011 ومن بعدها، وفي إطار الحراك الثوري الذي كان يميز تونس في فترة انتقالها الديمقراطي، حضر بكثافة شعار “”تطهير القضاء” في خطاب القضاة كما في التظاهرات التي تمّت في الشارع. وقد تردّد حينها أن المقصود منه تنقية القضاء من القضاة الذين عرفوا بفسادهم المالي أو بانخراطهم في منظومة قضاء التعليمات وبكون قوائم إسمية ستكون وسيلة إنفاذه.

في تلك السياقات التي كانت تونس تبحث فيها عن طريق جديد لها، جرّبت فكرة التطهير مرّتين: الأولى كانت بتاريخ 10-02-2011 وكانت محدودة في أثرها فلم تشمل إلا ستة قضاة اشتركوا في كونهم من أعمدة النظام القضائي في فترة حكم بن علي[2]. أما الثانية فقد أُعلن عنها بتاريخ 26-04-2012 وشملت 81 قاضيا[3] وكانت فعليا التجربة التي كشفت كيف يمكن أن يؤدي الشعار إلى نقيض هدفه. فقد وردت تلك الإعفاءات في سياق صراع كان قائما بين هياكل القضاة ووزارة العدل بما نبه بشكل مبكر للاستعمال السياسي لها بغاية إضعاف موقف القضاة وزرع الخوف من السّلطة التنفيذية في صفوفهم. ولم تؤسّس هذه التجربة  على أدلّة أو أبحاث كما لم يحترم في اتخاذها حقّ من شملتهم في الدفاع عن أنفسهم. وقد أدت قسوة التجربة بفعل ما كشفتْهُ من آثار سلبية على قيمة العدالة،  إلى انكفاء الحديث عن التطهير لصالح فكرة المحاسبة[4] والشفافية[5]. وتظهر بالتالي عودة الرئيس وأنصاره  للتهديد بتطهير القضاء ارتداداً لمنطلق كان يُظنّ أنه جُرِّب وتبيّن قصوره. وهي قد تكون أكثر خطورة بالنظر للتعريف المستجدّ الذي يقدّم لها ويحدد أهدافها.

 

التطهير السياسي: بعدٌ مشبوه لإجراء فتّاك

في حديثه لبو زاخر، تحدّث سعيّد عن المعنيين بالتطهير فقال: “تسللوا للقضاء كما تتسلل الخلايا السرطانية. أقول لهم: ما زالت الصواريخ القادمة وهي على منصات إطلاقها وتكفي إشارة واحدة لتنطلق حتى تضرب هؤلاء الفاسدين في أعماق أعماقهم”[6]. وفي يوم تنصيب الحكومة، استبق سعيّد وعد التطهير بالحديث عن أشخاص لم يسمِّهم وعن تقصير النيابة في ملاحقتهم فقال: “حرية التعبير تتمثل عندهم في الكذب والافتراء… دأبوا منذ سنوات طويلة على الكذب والافتراء ولم يُلاحق أحد أمام القضاء بالرغم من كلّ ما ارتكبوه. لم أقدّم شكاية لكن على النيابة بتونس أن تقوم بدورها بمجرد علمها بعدد من الجرائم.. يجب أن تلعب دورها  كاملا. وسيتم بإذن الله تطهير القضاء لأن تطهير البلاد لا يتمّ إلا بتطهير القضاء وتعلمون كلكم أن بعض القضاة وليس كلهم والحمدلله صاروا يُعرفون باسم شخص لا أريد أن أذكر اسمه لكن يعرفه الجميع….”

يلاحظ انطلاقا من هذا الخطاب أن حديث التطهير في إخراجه الجديد تمّ الربط بينه وبين تقصير النيابة العمومية في متابعة من “يتآمرون على بلدهم في الداخل والخارج” من جهة وتسلّل السّياسة إلى قصور العدل من جهة أخرى، وهما عاملان أديا إلى عدم ملاحقة الفاسدين وهم في عرف مصطلحه الخطابي معارضوه. وينتظر بالتالي أن يكون ما يتم التلويح به من تطهير مخصوصا بالقضاة الذين سيوصمون بالتحزّب وهم في الأغلب قضاة الرأي ممن عرفوا باتخاذ مواقف تعارض التدخل في القضاء يضاف إليهم ربما بعض من تلاحقهم شبهات فساد مالي وإداري.

 

هندسة التطهير: شيطنة.. استيلاء.. سيطرة في انتظار التصفية

تبدو فكرة تطهير القضاء بقرارات رئاسية في تعارض كامل مع أحكام الدستور الذي يسند للمجلس الأعلى للقضاء وحده صلاحية إدارة المسار المهني للقضاة. ويتوقع بالتالي أن يحتاج الوصول إليها إلى تعطيل مجلس القضاء في سياقات تحظى بتأييد جماهيري وربما قضائي أيضا. وقد يكون ما سبق من خطاب شيطنة للقضاء والقضاة وما هو ملاحظ من ضعف أداء مؤسساتي للمجلس ما يحقّق جانبا من المطلوب. وقد تستخدم السلطة الحاكمة مواقف عدد من القضاة والهياكل القضائية المناوئة للمجالس القضائية المكونة من قضاة وغير قضاة للانقضاض على هذه المجالس. وعليه، تأتي صناعة استتباع القضاء لسياسة الرئيس مغلفة بشعارات إصلاح وتصحيح، مآلها نسف عشر سنوات من البناء لتعزيز استقلال القضاء.

 

 

 

[1]  ادعاء يخالف كل التقديرات  المتداولة والتي تؤكد أن المتظاهرين كانوا دون ذلك بكثير .

[2]  يراجع في خصوصها  للكاتب القضاء التونسي فترة الانتقال الديمقراطي نحت الجسد الحي – المفكرة القانونية – صفحة 39 وما بعدها ورد فيه ” أصدر وزير العدل الأزهر القروي الشابي نهاية الأسبوع الأول من الثورة ست مذكرات عمل نقل بموجبها قضاة يعدون من ركائز النظام القضائي للنظام السابق لمركز الدراسات القانونية والقضائية في إجراء يهدف إلى إبعادهم عن مواقع القرار القضائي من دون طردهم من القضاء . اصطدم تنفيذ مذكرات العمل برفض القضاة العاملين بالمركز لها وقيامهم بطرد من نمت نقلهم إليه ….وإذ أحرجت الخطوة وزير العدل وجد  نفسه مضطرا على التراجع عن مذكراته ليلجأ لآلية الإعفاء ….” للاطلاع على النص من المصدر اضغط هنا

[3]  المرجع السابق صفحة 65 وما بعدها

[4]  يراجع للكاتب “القضاء التونسي في 2013 : ميزات الخطاب العام بشأن الإصلاح القضائي، أو تجاوز خطاب التطهير – نشر بالمفكرة القانونية بتاريخ 04-03-2014 والذي ورد فيه خصوصا “….أدى التناول الحقوقي لقضية القضاة المعفيين الى تطور التعاطي مع موضوع آليات إصلاح القضاء وتطهيره فتراجعت المطالبات بتطهير القضاء لفائدة المطالبة بالمحاسبة على الفساد القضائي وفق إجراءات تحترم قواعد الشفافية وحقوق الدفاع. وساهمت المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية وخصوصا منها الرابطة التونسية لحقوق الإنسان ومنظمة هيومن رايتس واتش والتي عملت على ملف القضاة المعفيين طوال سنة 2013 في صناعة التحول المطلبي. ونزعت التحولات التي فرضتها قضية القضاة المعفيين سواء في جانبها الحقوقي او في بعدها القضائي عن التعاطي مع ملف القضاء البعد السياسي لتعيد تأصيل المفاهيم. وأدى ذلك للاعتراف للقضاة بحقهم في أن يحصلوا على ضمانات المحاكمة العادلة طبق المبادئ التي تكرسها المواثيق الدولية وشهدت سنة 2013 بالتالي انحسارا لشعار تطهير القضاء الذي ساد طوال سنة 2011 وعرف سنة 2012 توجها نحو تجسيده على أرض الواقع بعدما بانت الالتباسات التي ترافقه سواء على المستوى النظري او بفعل الانحرافات التي ترتبط بأعماله. وعادت المحاسبة في سياق العدالة الانتقالية والمؤاخذات التأديبية لتؤسس للخطاب حول التعاطي مع ملف الفساد القضائي …” للاطلاع على النص كاملا  والمراجع المعتمدة في صياغته اضغط هنا

[5]  كانت نقابة القضاة التونسيين أول من تصدى للإعفاءات بإعلانها إضرابا انتهى بالتزام من وزير العدل لها بالكف عن استعماله مستقبلا

[6] كانت مواقع إعلامية إماراتية سباقة في الكشف عن فكرة تطهير القضاء  بمعيار سياسي  إذ أن قناة  سكاي نيوز  نشرت بتاريخ 13-08-2021 بموقعها تقريرا تحت عنوان ” دعوات إلى “تطهير” قضاء تونس من الإخوان بعد “فضائح”

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، أحزاب سياسية ، حركات اجتماعية ، استقلال القضاء ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني