كيف نقرأ تدابير قيس سعيد على ضوء مشروعه السياسي؟


2021-07-30    |   

كيف نقرأ تدابير قيس سعيد على ضوء مشروعه السياسي؟

بتاريخ 25-07-2021، أعلن رئيس الجمهورية التونسيّة قيس سعيد في كلمة ألقاها في اجتماع جمعه بالقيادات العسكرية والأمنية أنه “وعملا بأحكام الفصل 80 من الدستور التونسي الذي ينظم حالة الاستثنائية، فقد قرّر تجميد كل أعمال مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن كل أعضائه وأردف أنه سيتولى رئاسة النيابة العمومية لمتابعة الملفات التي تتعلق بهم. كما أعلمهم أنه سيتولى كامل السلطة التنفيذية بتعيين حكومة يعين هو أعضاءها ورئيسها، وأيضا إعفاء رئيس الحكومة ودعوة شخص آخر لتولي الأمر الحكومي على أن يكون مسؤولا أمامه.

تمسك الرئيس بدستورية قراراته وبرر التجاءه إليها في كلمة وجهها ألقاها بالمناسبة بالاحتجاجات الشعبية التي تمّت بذات التاريخ وكانت في جانب منها عنيفة، مؤكدا أن غايته التصدي للفساد الذي استشرى ولم يعُدْ بمقدوره لزوم الصمت حياله. واستُقبلت قراراته بترحيب شعبي كانت أول مظاهره مظاهرات تأييد خرجت في أغلب مدن تونس وتخلّل بعضها اقتحامات وتخريب لمقرّات حزب حركة النهضة. وقد فسّرت بعض النخب السياسية ردّة الفعل تلك بمسؤولية منظومة الحكم عن تردّي الوضع الاقتصادي والاجتماعي وفشلها في صناعة التنمية. كما فسّرتها بثقة جموع المبتهجين في الرئيس النزيه الذي أثبت في كل مرة أنه يرفض التطبيع مع الفساد. في الجهة المقابلة، بادرتْ حركة النهضة إلى تأكيد رفضها لما وصفتْه بالانقلاب على الحكم، وهو انقلاب يخرق بشكل كامل النص الدستوري الذي يدعي تنفيذ أحكامه وتحدث المتكلمون باسمها عن مؤامرة تستهدف المسار الديمقراطي. وقد دعا رئيسها راشد الغنوشي بوصفه رئيس مجلس النواب أنصارها والقوى الديمقراطية للالتحاق به والاعتصام أمام مقر مجلس نواب الشعب التونسي الذي أغلقه الجيش ومنع الدخول إليه.

لم تجدْ دعوة الغنوشي ما كان ينتظر من استجابة، فلم يحضرْ إلى ساحة القصبة إلا عددٌ محدود من النواب المنتمين لحزبه ولائتلاف الكرامة المقرب منه ولقلب تونس المتحالف معه وبضع عشرات من أنصار النهضة. فكشف ما برز من عزلة سياسية لهذه الأخيرة أن الغضب الشعبي على أدائها وخطابها كان السبب في سهولة إزاحتها وإزاحة حليفها رئيس الحكومة هشام المشيشي. كما كشف ضعف استجابة حلفائها لدعوتها أنّ ما يتّهم به هؤلاء من غياب مبدئية وانتهازية سياسية. وهنا فرض المزاج المهيمن على الجانب الأكبر من الفاعلين القبول بالأمر الواقع والبحث عن مبرّرات لموقف سعيد مع مطالبتهم له بضمانات تؤكد عدم المسّ بالحقوق والحريات مع تمسكهم برفض العودة لمربع حكم الفرد، وهو طلب تناغم مع ضغوط خارجية كشفت تمسك بعض الأطراف الفاعلة في الساحة الدولية بالتجربة الديمقراطية التونسية.

في هذا السياق التفاعلي، وجد حديث الرئيس عن تنصيبه نفسه رئيسا للنيابة العمومية وتعهده بالتصدي لما قال أنه تلاعب بملفات الفساد في المحاكم معارضة هامة من الوسط القضائي وخارجه لما كان سيؤدي له من هيمنة له على القضاء. فاضطرّ إلى التراجع عن تلك الخطوة بسحبها من البلاغ الذي تضمن القرارات المتخذة وباستقباله لرئيس المجلس الأعلى للقضاء يوسف بوزاخر وعدد من أعضائه وتعهده لهم باحترام استقلالية القضاء وبعدم التدخل في عمله[1].

كما اعتبرت القوى السياسية المهنية وخصوصا منها قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل الإجراءات المتخذة من سعيد مؤشّرا مقلقا بما اضطرّه على تضمين البيان الرسمي الصادر عنه تحديدا لها بمدة 30 يوما ولأن يتعهد في لقائه مع المنظمات المهنية بأن ترفع هذه الإجراءات بمجرد نهاية ما دفع لها من ظروف استثنائية، ولأن يجدّد ذات الالتزام خلال حديثه مع وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن[2].

يكشف ما سبق عن كون إجراءات 25 جويلية كانت لها أسباب ظاهرة تكفي بذاتها لتفسير ما كان من ردّ فعل للشارع والنخبة حيالها كما يكشف أنه وبمعزل عن توصيفها، فإن بلورة مخرجاتها ستكون في جانب منها محكومة بمواقف الفاعلين بتونس والخارج. وفي حين تعكس هذه الصورة إلى حدّ كبير الواقع، يبقى أنها تغفل بعض الخلفيات المهمة ومنها أثر البرنامج السياسي لسعيد في صياغتها وفيما قد يكون من مخرجاتها.

يكشف تتبّع موقف المحاور الإقليمية المساندة للربيع العربي[3] وتلك المعارضة له [4]عن محاولات للتأثير في مجريات الحدث التونسي[5] بما قد يؤشر على دور محتمل للثانية في صناعتها وللأولى في محاولة احتوائها. إلا أنّه يصعب في ظلّ واقع هذه المؤشرات استخراج قناعات راسخة أو الإدلاء بحقائق قاطعة لشرح قرارات سعيد. بالمقابل، فإن التقليب في خطاب سعيد وفكره السياسي يمنحنا إضاءات كثيرة على خلفية هذه القرارات، وهي معطيات تظلّ خارج نطاق البحث حتى الآن.

وفي هذا الخصوص، يجدر التذكير بالمعطيات الآتية:

1- برنامج سعيد الرئاسي.

حين كان سعيد مرشحا للرئاسة، طُرح عليه سؤالٌ حول ما يبدو من تناقض بين سعيه لمنصب الرئيس وما صدر عنه من معارضة للنظام السياسي. فكان جوابه أنه “يطرح تأسيسا جديدا قوامه فكر سياسي جديد يترجمه نص دستوري بالفعل جديد وتعهد بألا تجري انتخابات نيابية لاحقا في صورة فوزه في الانتخابات وفق التصوّر السابق أي في إطار الديمقراطية التمثيلية”[6]. ولكنه عاد وأكد أن التغيير المنشود منه سيكون باستعمال الآليات الدستورية. ولم يكنْ واضِحا حينها كيف يمكن له ذلك في ظل عدم تمتعه بحزام نيابيّ يمكّنه من ذلك. وقد جاء استحوازه على السلطة التنفيذية وتجميده السلطة التشريعية ليعيد إلى الذاكرة هذا التعهد وليطرح تساؤلا فيما إذا كان السبيل الذي سينتهجه في محاولة تحقيق التجديد الذي يطلبه. للتذكير يقوم مشروع سعيد على إرساء ديمقراطية تصعيدية بعد إنهاء دور الأحزاب في سياق نظام حكم رئاسي قوي.

2- تصريحاته المتعددة بأن الديمقراطية التمثيلية ليست الحلّ

يتمسك سعيد في كل تصريحاته التي سبقت توليه الرئاسة بكون الديمقراطية التمثيلية نظاما مأزوما أفل زمانه وبأنه يقترح كبديل عنه نظاما سياسيا يتكون من:

  • مجالس محلية تتعدد بتعدد عدد معتمديات البلاد[7] وينتخب أعضاؤها بشكل مباشر على أساس ترشحات فردية يشترط لقبولها أن ترفق بتزكية وتكون ولايتهم المحددة في مدتها قابلة للسحب في كل وقت من ناخبيهم. ويعود لتلك المجالس نظر مشاريع التنمية المحلية والتصديق على التعيينات المقترحة من السلطة المركزية للمسؤولين الإداريين والأمنيين المحليين مرجع نظرها الترابي.
  • مجالس جهوية يختار أعضاؤها بالقرعة من بين أعضاء المجالس المحلية باعتبار واحد عن كل واحد منها. وتتكفل بإعداد وتنفيذ مخطط التنمية الجهوية ويحضر أشغالها المسؤولون الإداريون الجهويون الذين يشاركون في مداولاتها من دون أن يكون لهم حق التصويت.
  • مجلس وطني تُصَعد المجالس المحلية أعضاءه بانتخاب كل واحد منها عضوا ممثلا لها به يرسم السياسات العامة ويصدر القوانين.

3- اتهام الأحزاب السياسية بأنها “سطت على الثورة”

في تصريح إعلامي له يعود لسنة 2014، اعتبر سعيد أنّ “أيا من الأحزاب أو التنظيمات السياسية لم يتولّ قيادة الشباب والشعب التونسي يوم 14 جانفي 2011 وأن برامجها كلها تكاد تكون واحدة وعادت بتونس للوراء وهي في قطيعة كاملة مع الواقع وغير قادرة على القيادة”. كما ردّ سطوة الأحزاب على الحكم للنظام الانتخابي على القوائم والذي “يجعل من يتمّ انتخابه لا يستمد وجوده من إرادة الناخبين الذين انتخبوه بل يستمدّ وجوده من الهيئة المركزية للحزب التي رشحته” داعيا لاعتماد الدائرة المحلية والانتخابات على الأفراد “لأنها طريقة الاقتراع التي يمكن أن تضع حدّا لما اعتبره انحرافات”[8]. وكان قبل ذلك وتحديدا سنة 2013 قد دعا صراحة الأحزاب السياسية للانسحاب من الساحة العامة لنهاية دورها[9].

لاحقا وبعد توليه الرئاسة، ظنّ عدد من مناصري سعيد وممن كانوا روّجوا له خلال حملته الانتخابية أن الخطوة التي تلي اعتلاءه سدة الحكم ستكون ضمّهم في حزب سياسي لكنه خيّب ظنهم وحرص في خطابه على نفي أيّ علاقة بينه وبين محاولات استعمال اسمه في صناعة حزبهم. وظلّ متمسّكا بموقفه الرافض للانضمام لأي حزب وزاد على ذلك بأن حرص فيما مضى من عهدته على منع تصدّر الأحزاب الواجهة. ومن ذلك أنه لما آلت إليه مسؤولية اختيار الشخصية الأقدر لرئاسة الحكومة، لم يجرِ مشاورات مباشرة مع الأحزاب حول مرشّحيها ولم يطلب منها قوائم في أسمائهم بل اختار في المرة الثانية هشام المشيشي وهو شخص لم يرشّحه أيّ حزب برلماني ولم يعرف له أي مشروع سياسي. وخلال الأزمة التي تولدت على قرارته لم يستقبل ممثلي الأحزاب ولم يتحادث معهم واستعاض عنهم بممثلي الجمعيات المهنية والمدنية.

4- تمسك بالنظام الرئاسي

في إطار عمل اللجان التأسيسية بالمجلس الوطني التأسيسي على تصورات النظام السياسي الذي سيعتمد بدستور الجمهورية الثانية، استمعتْ اللجنة التأسيسية المختصة لقيس سعيد فعرض على أعضائها فكرة اعتماد نظام رئاسي يستلهم ذات تصورات نص مشروع التنقيح الدستوري لسنة 1976 لدستور غرة جوان 1959 وذلك بأن دعاهم إلى تبنّي فكرة توحيد السلطة التنفيذية تحت إمرة رئيس الجمهورية والى التنصيص على أن وزيره الأول هو من يشرف على العمل الحكومي ويخضع للرقابة والمساءلة البرلمانية والتي يمكن أن تصل لحدّ توجيه لائحة لوم للحكومة. وفي هذه الحالة، يكلف الرئيس حكومة جديدة وإذا ما واجهتها لائحة لوم ثانية يكون مجبرا على الاستقالة كما حكومته[10].

ويذكر هنا أن الرئيس لم يتراجع عن دفاعه عن هذا النظام وهذا الاختيار إذ كان قد عرضه في منتصف الشهر السادس من سنة 2021 شرطا للمشاركة في البحث عن مخرج للأزمة السياسية التي تردت لها تونس[11].

خلاصة:

إذ يبقى من المبكر فهم كل الأسباب التي قادت سعيد إلى اتخاذ تدابير 25 جوليه، فإن الإحاطة بها يتطلّب أيضا فهم أفكاره السياسية والمناقضة تماما للنظام السياسي القائم، والتي تبقى بمثابة تهديد لعودة المؤسسات الدستورية للعمل وفق الدستور ولجوهر العملية الديمقراطية. فلنراقب.

لقراءة المقالة مترجمة إلى اللغة الإنكليزية

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة

  1. ورد في بلاغ رئاسة الجمهورية الصادر بتاريخ 26-07-2021 ” استقبل رئيس الجمهورية قيس سعيّد، مساء اليوم الاثنين 26 جويلية 2021 بقصر قرطاج، السيد يوسف بوزاخر، رئيس المجلس الأعلى للقضاء، والسيدة مليكة المزاري، عضو المجلس الأعلى للقضاء رئيسة مجلس القضاء العدلي، والسيد عبد الكريم راجح، عضو المجلس الأعلى للقضاء نائب رئيس مجلس القضاء الإداري .و أكّد رئيس الدولة بالمناسبة على حرصه على احترام الدستور ومقتضياته وفرض القانون على الجميع وضمان استقلال القضاء في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ تونس”. فيما ورد بالبلاغ الذي صدر عن المجلس الأعلى للقضاء بذات التاريخ ” تم التأكيد خلال اللقاء على استقلالية السلطة القضائية وضرورة النأي بها عن كل التجاذبات السياسية وان القضاة مستقلون ولا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ويضطلعون بمهامهم في نطاق الدستور والقانون في حماية الحقوق والحريات وان النيابة العمومية جزء من القضاء العدلي يتمتع أفرادها بنفس الحقوق والضمانات الممنوحة للقضاء الجالس ويمارسون مهامهم في نطاق ما تقتضيه النصوص القانونية الجاري بها العمل ”
  2. اتصال هاتفي بينهما بتاريخ 26-07-2021 كشف وزير الخارجية الأمريكي في حوار له مع قناة الجزيرة الفضائية بث بتاريخ 29-07-2021 أنه كان مناسبة لتلقي تعهد من سعيد باستعادة عمل المؤسسات في اقرب الآجال وأضاف أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تكتف بالأقوال بل تنتظر الأفعال .
  3. قطر وتركيا خصوصا .
  4. الإمارات العربية المتحدة و الجمهورية المصرية خصوصا
  5. من مظاهره استعمال وسائلها الإعلامية في الحشد للشق الذي تسانده .
  6. يراجع حوار صحيفة الشارع المغاربي الذي نشر بتاريخ 11-06-2019 للاطلاع على نصه بموقع الصحيفة انقر هنا
  7. المحليات في التقسيم الإداري التونسي
  8. الأستاذ قيس سعيد: السياسيون يريدون التعامل مع الشباب كالقطيع، يختارون له كيف يختار ويختارون له من سيختار – موقع صحيفة الجمهورية 09-07-2014
  9. قيس سعيد للصباح النيوز : إنتهى دور الأحزاب و على الشعب أن يأخذ بزمام الأمور بهذه الطريقة – الصباح نيوز 02-09-2013

  10. للاستماع إلى رأي قيس سعيد والذي تولى شرحه بإذاعة شمس أف أم بتاريخ 22-04-2013 انقر هنا
  11. يراجع مقال ” دعوات سعيد لإحياء دستور الجمهورية الأولى وحديثه عن النظام السياسي البديل : جذور الفكرة ومخاطرها على التجربة الديمقراطية “.نشر بموقع المفكرة القانونية بتاريخ 28-06-2021 والذي استشرف توجه سعيد للانقلاب على النظام السياسي القائم
انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم دستورية ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، تشريعات وقوانين ، تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني