القضاء في أفق “التصحيح”: حديث مبتدؤه رئيسٌ يُقيِّم وخبره رئيسٌ يريد


2021-10-11    |   

القضاء في أفق “التصحيح”: حديث مبتدؤه رئيسٌ يُقيِّم وخبره رئيسٌ يريد
رسم عثمان السالمي

“القضاء العادل أفضل من ألف دستور”[1] قولٌ حضَرَ في شعارات الحملة الانتخابية الرئاسية للمرشّح قيس سعيِّد. وكان يُظَنّ أنّ المقصود منه حينها إبراز مكانة القضاء في برنامجه السياسي. وقد رأَيْنا من المفيد العودة إلى هذه المقولة بعدما اتّخذ سعيِّد (الرئيس) في تاريخ 22 سبتمبر 2021 إجراءات حوّلته حاكماً مطلقاً لتونس.

استقلاليّة القضاء: نعم لكن ليس عن الرئيس...

خلال اجتماعه بأعضاء من المجلس الأعلى للقضاء في تاريخ 16 ديسمبر 2019 (لقاؤه الأوّل بصفته رئيس الجمهوريّة مع جهة قضائية)، قال سعيِّد: “نحن حريصُون على ألّا تتسلّل السياسة ولا رجال السياسة تحت عباءة القُضاة إلى قصور العدالة حتّى لا يجلس غير القاضي على أرائك القضاة”. وأضاف في حديث لاحق له مع رئيس مجلس القضاء “أنّ القضاة الشرفاء” هم مَن يستحقّون دعمَه لكونهم “يتصدَّون لكلِّ أنواع الفساد، ومنها السياسي”[2].

وبالعودة إلى الكلمة التي ألقاها مساء 25 جويلية 2021 تحدّث مُطوَّلاً عمّا قال إنّه تلاعبٌ داخل المحاكم بملفّات الفساد وعن استعمال نوّاب الشعب حصاناتهم ليمنعوا كلّ مساءلة لهم. ثمّ قال إنّه قرّر رفعها عنهم وإنّه تولّى رئاسة النيابة العمومية للتصدّي لفسادهم وفساد غيرهم. واستدرك سعيِّد قائلاً إنّ القوانين “إذا تحوّلت إلى أداة لتمكين اللصوص الذين نهبوا أموال الدولة وأموال الشعب المفقر فهي ليست بالقوانين التي تعبّر عن إرادة الشعب بل أدوات للسطو على إرادة الشعب”[3]. وقد كشف خطابه ذاك عن تصوّر جديد لديه لهيكلة القضاء العدلي يؤدّي فيه دور الراعي.

رئاسة النيابة: طلب رئاسي… تعذّر تحقيقُه

اعتبر قضاة ناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي وشخصيّات حقوقية وسياسية وازنة إعلانه تولّيه رئاسة النيابة العامّة عملاً سلبياً، معتبرينه تدخّلاً في القضاء ينذر بتركيز حكم الفرد. ودعوا إلى ضرورة التمسّك بالقضاء المستقلّ ليكون الضامن للحقوق والحرّيّات في ظلّ الحالة الاستثنائية المُعلَنة. وكان من آثار هذه المواقف أن سحب سعيِّد، في صمت، من النسخة المكتوبة البند الخاصّ برئاسته النيابة العمومية وأكّد في اليوم التالي، في مناسبة استقباله أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، احترامه استقلاليّة القضاء في الوقت نفسه الذي أصدر فيه ضيوفه بلاغاً جدّدوا فيه تمسّكهم بالقيمة ذاتها وباعتبار النيابة العمومية جزءاً من القضاء العدلي تنسحب عليها ضماناته.

يتبيّن هنا أنّه، عكس ما يذهب الاعتقاد السائد، لم تكن إجراءات 25 جويلية محلّ ترحيب مطلق وأنّ المعارضة التي واجهتها ساعة إعلانها أجبرتْ من نفّذها على أن يتنازل بسرعة وصمت عن جانب منها، وهو تراجُع كشفت تطوّرات تلت أنّه استدعى البحث عن بدائل بدون أن يمنع محاولات الاستحواذ على القضاء.

محاكمات عسكرية وتحاجير: خيارات بديلة تنفع وإن كانت تُحرِج

في مقال بعنوان مدنيون أمام المحاكم العسكرية بإرادة رئيس جمهوريّة تونس نُشر على موقع المفكّرة القانونية في تاريخ 02 جويلية 2021، أشرْنا إلى استخدام سعيِّد النيابة العسكرية في محاسبة من يُنسَب إليهم التطاول على رموز الدولة، بعدما تخلّف القضاء العدلي عن ردع “مَن يتجرّأون عليه في وسائل التواصل الاجتماعي والاجتماعات العامّة”. وقد حصل ذلك قبل أسابيع من إجراءات 25 جويلية. في الاتّجاه نفسه، وتبعاً لهذه الإجراءات، تعهّد التحقيق العسكري ملاحقة نوّاب ائتلاف الكرامة في ما يُتَّفق محلّياً على تسميته “واقعة المطار”[4]، فضلاً عن الأبحاث التي أُثيرت في حقّ النائب ياسين العياري والصحافي عامر عيّاد المتعلّقة بتصريحات[5] وتدوينات تنتقده. كانت هذه المحاكمات حدثاً مدروساً   استفاد من قانون يُجيز محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية واستعمل قراءات تُوسِّع نطاق الاستثناء، كلّ ذلك بهدف تمتين سلطته. فمع نهاية الأسبوع الأوّل لبداية سريان إجراءاته الاستثنائية، تفطّن الشارع التونسي لكونه، وبدون أن يعلن عن ذلك، أصدر تعليمات إلى أمن الحدود تمنع عدداً هامّاً من الشخصيّات العامّة والموظّفين وأصحاب الأعمال من السفر خارج البلاد بدعوى أنّهم ملاحَقون بتهم فساد. وهنا كشف سعيُه إلى إدارة جزء من القضاء بشكل مباشر واستيلاؤه على صلاحيّة تحجير السفر، التي يمنحها القانون للقضاء، عن توجّهه إلى فرض دور قضائي له من خارج القانون يؤكّد أنّه بات الحاكم المطلق في تونس، يمكّنه بالتالي من استعمال سلطة القضاء في ملاحقة من يسمّيهم فاسدين ومنهم القضاء ذاته الذي لم يكُنْ على مستوى تطلّعات حاكم تونس. وبمعزل عمّا ستسفر عنه هذه الإجراءات، من المؤكّد أنّها أحدثت تطوّراً في مقاربة القضاة للحاكم، حيث شهدنا، سريعاً، ظهور تيّار قضائي ممانع في موازاة تيّار آخر مُريد أو خائف.

قضاء ما بعد 25 جويلية: مشهد بألوان الوطن

رغم مساندة الشارع للرئيس وما رافقها من خطاب تخوين لكلّ من يجاهر برفضه إجراءاته، أصدر خمسة وأربعون قاضياً بياناً في تاريخ 09 أوت 2021 أدان الإجراءات التي اتُّخذت في حقّ قضاة، وخلص على مطالبة مَن بات يحتكر السلطة باحترام استقلاليّة القضاء وبعدم التدخّل في اختصاصاتِها وبالكفّ عن الاعتداء على الحرّيّات والحقوق. كما تعاقبتْ المواقف التي عبّر عنها قضاة مهتمّون بالشأن العامّ تدين محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية.

إلّا أنّ هذه المواقف الجريئة والاستقلالية بقيت عاجزة عن حجب كمّ المواقف القضائية المناقضة تماماً. فخلال الأيّام الأولى التي أعقبتْ إجراءات 25 جويلية، تتالت تصريحات إعلامية للناطقين باسم المحاكم لم تكن معهودة سابقاً، وكان موضوعها الحديث عن مباشرة النيابات العامّة ملاحقات قضائية في حقّ نوّاب وشخصيّات عامّة بتهم تتعلّق بالفساد وسوء استعمال السلطة[6]. وإذ اعتبر أنصار سعيِّد هذه التصريحات دليلاً على انخراط النيابات العامّة في ما سمَّوه حركة تصحيحية، فإنّها شكّلت في الآن نفسه نذيراً بعودة “القضاء المنسجم” مع السلطة السياسية، وهو نذير تؤكّده الأيّام الأخيرة.

صناعة الخوف: زرع بذور التبعيّة

كان التطرّق إلى القضاء وفساد القضاة من ثوابت حديث الرئيس مع مَن يلتقيهم بدون اهتمام منه بعلاقة هؤلاء واهتمامهم بالقضاء من عدمه. وقد وجد هذا الخطاب صدى واسعاً على صفحات التواصل الاجتماعي المؤيِّدة لسعيِّد (جانب منها يُدار من خارج تونس) التي لم تتوانَ عن شنّ حملات تشهير بالقضاء والقضاة. وكان الرئيس وأنصاره ينطلقون من وقائع محدَّدة نُسبتْ فيها تجاوزات إلى قضاة ليتحدّثوا لاحقاً عن غياب المحاسبة داخل الجسم القضائي بفعل المحاباة والتضامن القطاعي وتشتيت السلطة. وجميعها أسباب تعكس انزعاجاً واضحاً من استقلاليّة مجلس القضاء في إدارة المسار المهني للقضاة[7]. ويبدو هذا الخطاب متلائماً مع الأولويّات التي يطرحها الرئيس إلّا أنّ ربطه بما يُتداوَل من تهديدات طالت القضاء والقضاة بمناسبة نظرهم في قضايا تتعلّق بخصومه قد يدفع إلى التشكيك في خلفيّاته. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، ما تخوّفت منه رئيسة اتّحاد القضاة الإداريين رفقة المباركي لجهة تعرّض رئيس المحكمة الإدارية الأوّل للتهديد وضغوط سياسية تمنعه من قبول مطالب إيقاف تنفيذ قرارات الوضع تحت الإقامة الجبرية. وقد زادت هذه المخاوف إثر تراجع هذا الأخير عن اجتهاده السابق لجهة عدم جواز تقييد الحرّيّات والحقوق بغير نص قانوني[8].

ويظهر هنا حديث سعيِّد لرئيس المجلس الأعلى للقضاء في تاريخ 04 أكتوبر 2021 عمّا سمّاه “الشعب يريد تطهير القضاء” من المؤشّرات المقلقة التي تدلّ على تطوّر نسق استعمال ترهيب القضاة بغية فرض انسجامهم مع انتظارات القصر[9].

رغم الصعوبات، سنوات الديمقراطية خلّفت أثراً جميلاً

يؤكّد تطوّر نسق الإدانات الحقوقية والدولية لمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية على أنّ تعويل الرئيس على العسكر في معاركه القضائية بات من أسباب أزمة نظام حكمه. في المقابل، حتّى اللحظة لم يستجِب القضاء العدلي بشكل عامّ لدعوته إيّاهم إلى الخروج عن القواعد الإجرائية التي ادّعى أنّ “اللصوص كتبوها لحمايتهم من المحاسبة”. ولئن لم تحصل إيقافات مكثّفة تطال من يصفهم بالفاسدين، تتواتر قرارات قضائية تفنّد ما ورد في خطب الرئيس من حديث عن وقائع فساد ادّعى أنّها مؤكَّدة وثابتة. وبمعزل عن خلفيّات مواقفهم، التي يؤمَل أن تكون تمسّكاً بأخلاقيّات القضاء ودورهم في حماية الحقوق والحرّيّات، فإنها تشير إلى أنّ انسجام القضاء مع السلطة لم يعُدْ من ثوابت عمل المحاكم. وما كان للقضاء أن يظهر منعته على هذا الوجه لولا سنوات الديمقراطية التي رسّخت ثقافة استقلاليّته في وجه أيّ مشروع سلطوي مهما كان مغرياً.

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة

[1] من شعارات حملة سعيِّد الانتخابية التي يسمّيها هو حملة تفسيرية.

[2] حسبما ورد في بلاغ رئاسة الجمهوريّة الذي صدر عقب لقاء الرئيس قيس سعيِّد بيوسف بوزاخر، رئيس المجلس الأعلى للقضاء، في تاريخ 1 مارس 2021. فقد عبّر الرئيس عن دعمه الكامل  للقضاة الشرفاء الحريصين على التصدّي لكافّة مظاهر الفساد.

[3] نقل حرفي لما ورد في كلمته يوم 25 جويلية 2021.

[4] في تاريخ 11 جوان 2021، تحدّث سعيِّد في كلمة له، بحضور رئيس الحكومة حينها هشام المشيشي والوزيرة المكلّفة وزارة العدل حسنة بن سليمان، عن النيابة العمومية فلم يخف استياءه من أدائها غير الصارم في ما تعلّق بتعمُّد نوّاب شعب اقتحام المنطقة المحجرة في المطار.

[5] في تاريخ 06 أكتوبر 2021 أصدر قاضي التحقيق العسكري بطاقة إيداع في السجن في حقّ الصحافي عامر عيّاد على خلفيّة قصيدة لأحمد مطر ألقاها في برنامجه “جرأة” واعتُبرت مؤامرة هدفها تبديل النظام السياسي.

[6] في تاريخ 28 جويلية 2021، أدلى الناطق الرسمي باسم النيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية في تونس محسن الدالي بتصريحات إعلامية غايتها التعريف بالإجراءات القضائية نُفِّذَت في ملفّات فساد تُتَّهم فيها شخصيّات نافذة. من هذه الملفّات، البحث التحقيقي الذي فُتح منتصف شهر جويلية ضدّ حزبَيْ حركة النهضة وقلب تونس وقوائم عيش تونسي الانتخابية، من أجل إبرام عقود ضغط وتلقّي تمويل خارجي خلال الانتخابات التشريعية لسنة 2019. ومنها أيضاً، البحث الجاري في شبهات الفساد التي طالت التسيير الإداري والمالي لهيئة مكافحة الفساد وهيئة الحقيقة والكرامة. لاحقاً، في تاريخ 29 جويلية 2021، كشف حبيب الطرخاني، الناطق باسم الوكالة العامّة لدى محكمة الاستئناف في تونس، عن اتّخاذ قرارات تتيح تتبّع محامين بعضهم أعضاء في مجلس نوّاب الشعب، على خلفيّة تهم فساد تلاحقهم متعلّقة بفترة عضويّتهم في هيئات مستقلّة أو تقلّدهم مسؤوليّات عامّة. لاحقاً، في تاريخ 02 أوت 2021، عاد الدالي ليقول إنّ “في الأيّام القليلة القادمة ستُثار ملفّات من الحجم الكبير وإنّ عدداً من النوّاب تتعلّق بهم قضايا خيانة مؤتمن وتحيّل وتبييض أموال”، وليتحدّث عن “تورّط أكثر من 30 نائباً في قضايا شيكات بدون رصيد، منهم 26 عُيِّنت قضاياهم يوم 26 أكتوبر 2021”. يراجع في الموضوع للكاتب: “القضاء التونسي في ظل تدابير 25 جويلية: مخاطر توظيف ونذر ترهيب“، موقع المفكّرة القانونية.

[7] خلال حديثه في مطار تونس قرطاج في تاريخ 17 مارس 2021 تطرّق إلى ملفّ فساد نسبه إلى قاضٍ وقال “يقلّك نظيف حتّى ننظروا فيه وندخلوا عاد في الإجراءات والفصل قال وما قالش… من وضعوا النصوص هم الانقلابين…” لسماع التسجيل اضغط هنا.

[8] قال المحامي والقاضي الإداري السابق في مداخلته في تاريخ 07 أكتوبر 2021، في برنامج ستوديو الذي يُبثّ على إذاعة شمس أف أم، إنّ رئيس الدولة وضع تحت يديه مفاصل هامّة في القضاء باعتماد أسلوب الترهيب والتخويف. واعتبر أحمد الصواب أنّ الإقامة الجبرية التي فُرضَت على أشخاص عدّة بمثابة تأثير في القضاء، داعياً إلى فسح المجال للسلطة القضائية لممارسة دورها بدون أيّ ضغوط.

[9] في 10 أكتوبر تمّ التراجع عن قرارات الوضع تحت الإقامة الجبرية، مما شكل انتصارا للخطاب الحقوقي وبشكل خاص لاتحاد القضاة الإداريين الذي أعلن رفضه للضغوط الحاصلة ضد المحكمة الإدارية (الحرر).

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، أحزاب سياسية ، استقلال القضاء ، محاكمة عادلة وتعذيب ، تونس ، حراكات اجتماعية ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني