عامان على تفجير التليل: جرح مفتوح بانتظار تحقيق العدالة


2023-08-15    |   

عامان على تفجير التليل: جرح مفتوح بانتظار تحقيق العدالة
بورة جورج إبراهيم التي حصل فيها التفجير

تحلّ الذكرى الثانية لانفجار خزّان الوقود في بلدة التليل العكّارية في 15 آب 2020 الذي راح ضحيّته 36 شخصًا بينهم 12 عسكريًا وأكثر من ثمانين جريحًا، ولا تزال البلدة والقرى المحيطة بها تتشح بالسواد. تحلّ الذكرى الثانية وكأنّ التفجير حصل أمس بالنسبة لأهالي بلدات الدوسة (حيث يحيي الأهالي الذكرى اليوم)، وادي الحور، السنديانة، خربة شار، الكواشرة، الكويخات وعين تنتا، وغيرها من البلدات المحيطة بقرية التليل والتي ذاقت وجع فراق عدد من أبنائها. ويحلّ آب المشؤوم على عكّار، وعدد من الجرحى لا يزالون قيد العلاج على حسابهم الخاص بعد أن تكفّلت وزارة الصحّة بعلاجهم حتى خروجهم من المستشفى، ويعيشون مع إصاباتهم التي تعرقل أي إمكانيات لمتابعة حياتهم كما كانت. ومن هؤلاء من يلتزمون المنازل بعدما خسروا وظائفهم، فيما الجرحى من الجيش اللبناني يعيشون من راتب لا تتخطى قيمته ثمانين دولارًا بالإضافة إلى مئة دولار مساعدة متقطعة وهم غير قادرين على استكمال علاجهم على حساب الجيش، إذ أنّ ترميم الجلد الذي ذاب بفعل الحريق يعتبر من العمليات التجميلية التي لا تشملها التغطية الصحية الخاصة بهم. ومن جهة وزارة الصحّة، وحتى لو كانت جاهزة لتحمّل كلفة العمليات الجراحية التي لا يزال يحتاجها الجرحى إلّا أنّ الواقع المؤسف أنّها لا تزال تُحدد الكلفة على سعر 1500 ليرة للدولار الواحد فيما المستشفيات تُسعّر خدماتها بالدولار وفقًا لسعر السوق.  

جالت “المفكرة القانونية” على بعض من أهالي الضحايا والجرحى، على منازل يُخيّم عليها الحزن لفقدان حبيب أو ابن أو أخ، ومنازل طالها الأمرّان، فقدان أحد أفرادها وجرح فرد آخر. استمعنا إلى عدد من الجرحى ومعاناتهم مع العلاج وإلى روايات الأهالي عن التفجير وما بعده، وعن أسباب شعورهم بأنّ الفاجعة حصلت أمس وليس قبل عامين. فانتقد بعضهم بطء القضاء في البت في هذه القضية بخاصّة بعد تأجيل جلسات المحاكمة، وعبّر معظمهم عن أنّ ما يؤرّقهم هو استبعاد متورّطين في الملف عن المحاكمة، وغياب متابعة حاجاتهم من السلطات الرسمية ولا سيّما الحاجات الصحيّة للجرحى، وغياب تغطية الإعلام بشكل شبه كلّي عن القضية. ومن جهة أخرى، يشعرون أنّ الجمعيّات التي انهالت عليهم بالمساعدات بعد التفجير غابت غيبتها الكبرى عنهم اليوم، فبعدما أتى عدد من هذه الجمعيّات ووزعت مساعدات “وصوّرونا ونحن نستلم المساعدة والتقطوا صورًا لأطفالنا مع صناديق الإعاشة، غابوا ولم يعودوا” بحسب بعض الأهالي. 

الدموع لم تجفّ بعد لأنّ العدالة لم تتحقّق  

تحدث الأهالي كثيرًا عن العدالة. أكّدوا أنّ لا شيء يُبرّد قلوبهم إلّا حكم عادل من المجلس العدلي يحاسب جميع من يتحمّلون مسؤولية التفجير، خصوصًا بعدما حجب القرار الاتهامي المسؤولية عن الضابط في الجيش اللبناني الذي يشتبه بمسؤوليته عن عملية مداهمة البورة التابعة لجورج إبراهيم التي تواجد فيها خزّان البنزين. وقد أحال القرار الاتهامي الذي أصدره المحقق العدلي علي عراجي في تموز 2022 ثمانية أشخاص إلى المحاكمة أمام المجلس العدلي، من ضمنهم أربعة موقوفون. وتدرّجت الجرائم التي شملها القرار من الجنايات المتّصلة بالأعمال الإرهابية والقتل العمد والقتل من غير قصد، إلى جنح التهرّب الضريبي وأعمال الاحتكار وتبييض الأموال وحيازة الأسلحة. وفي المقابل لسان حال الأهالي ينطق بخيبة الأمل، إذ كانوا يريدون اتهام كبار المتورّطين في عمليّات تهريب البنزين إلى سوريا في هذا المحيط القريب من الحدود اللبنانية – السورية والذي يعدّه الأهالي كنزًا للمهرّبين، مشدّدين على أنّ المنطقة مكشوفة أمنيًا وقليلًا ما يتواجد فيها حواجز أمنية. وليس غريبًا أنّ قربهم من الحدود دفعهم إلى الاعتقاد عند لحظة سماع صوت التفجير أنّه ناتج عن قصف إسرائيلي على سوريا ولم يخطر ببال أحد أنّ يكون تفجيرًا قريبًا منهم قتل وجرح أحباءهم.  

تضاعفت خيبة الأهالي إثر عودة الأعمال إلى البورة التي حصل فيها التفجير بعد 4 أشهر فقط على مرور الجريمة. أمر يصعب على الأهالي تقبّله ما دامت العدالة لم تأخذ مجراها، وما دام الاتهام لم يطل جميع من يرونهم متورطًا في هذا التفجير. وتزداد خيبتهم في كلّ مرّة يُرجئ فيها المجلس العدلي جلسات المحاكمة . وكان المجلس (برئاسة القاضي سهيل عبّود وعضوية القضاة المستشارين جمال الحجار، عفيف حكيم، جان- مارك عويس، ومايا ماجد).قد عقد حتّى اليوم نحو ثماني جلسات محاكمة، استجوب خلالها جزءًا من المدّعى عليهم على أن تُستكمل الاستجوابات في 29 أيلول المقبل. وقد فتحت الاستجوابات الأخيرة في أيّار 2023 الباب أمام إمكانية محاسبة مسؤولين في الجيش تبعًا لطلب المحامي العام التمييزي عماد قبلان الاستماع إلى عقيد في الجيش اللبناني بصفة شاهد مع حفظ حق الادعاء بحقه “لتسبّبه بالانفجار”. ولكن أرجأ المجلس آخر جلستين مرّة بسبب مرض أحد أعضاء هيئة المجلس ومرّة لعدم سوق الموقوفين. وفي كلّ مرّة تؤجّل الجلسة يزداد القلق في نفوس الأهالي، هم الّذين يتحمّلون مشقة وكلفة الطريق كلّ مرّة من عكّار إلى بيروت والتي تحتاج ست ساعات على الأقل في الباص ذهابًا وإيابًا، وإلى كلفة تصل إلى نحو مليون ليرة. وهذه المشقّة نفسها تحمّلوها عند التفجير حين انتشر الجرحى في مستشفيات طرابلس وبيروت، فكانوا يسلكون الطريق يوميًا من عكّار إلى طرابلس وبيروت لتفقد الجرحى، بخاصّة الذين كانوا في العناية الفائقة.  

واجه عدد من الأهالي المدّعين في القضية ضغوطات لإسقاط حقوقهم الشخصية من قبل أشخاص تابعين للمدّعى عليهم، وفي حين وافق بعض الأهالي على ذلك، توقفت الضغوطات حين أعلن البعض الآخر منهم علنًا أنّهم يرفضون المساومة على حقوقهم وحقوق الضحايا. ويقدّر عدد المدّعين الذين أسقطوا حقوقهم الشخصية حوالي 20 من أصل 69 مدّعيًا (ورثة 27 من الضحايا، و42 من الجرحى). مبالغ زهيدة دُفعت مقابل إسقاط الحق تراوحت بين 80 و120 مليون ليرة. واقتنع الأهالي الذين أسقطوا حقهم بعد إعطائهم معلومات غير صحيحة حول آثار اسقاط الحق الشخصي على الحق في التعويض، والتلاعب بمشاعرهم وتخويفهم، إذ قيل لبعضهم “لن تصلوا إلى شيء عبر القضاء أو قد تأخذون التعويض نفسه الذي ندفعه لكم” وفقًا لما نقل أحد الّذين تعرّضوا للضغط لإسقاط حقه. كما أنّ بعضهم تعرّض للتهديد، وفقًا لشهادات بعض من الأهالي الّذين شاركوا رواياتهم مع “المفكرة”. 

أما العائلات السورية التي فقدت أحد أبنائها فقد تمّ إيهام بعضها بأنّ المجلس العدلي لن يقبل بادّعاء أي شخص غير لبناني، كما قيل لها بأنّ حكم القضاء لن يشمل ذوي الضحايا السوريين بما أنّ التعويضات التي دفعتها الهيئة العليا للإغاثة لم تشملهم. 

منزل جورج إبراهيم الذي أحرقه غاضبون في اليوم التالي لوقوع التفجير

أم أحمد فقدت زوجها وأصيب ابنها: الأعياد انتهت في منزلنا  

تعيش أم أحمد مرعي في منزل في بلدة السنديانة مُقسّم بينها وبين ابنها محمود الذي يعيش في الطابق العلوي مع زوجته زينة وأولادهما الأربعة. قتل زوج أم أحمد في التفجير وأصيب ابنها محمود (33 عامًا) بحروق وجروح أدّت إلى بتر ساقه. 

تعود أم أحمد إلى يوم التفجير: “كنت مع أبو أحمد في مطعم الدجاج الذي كنّا نملكه في الدوسة ونستعد للإقفال، مرّ شخص وقال لنا إنّ الجيش يوزّع البنزين، وأخبرنا أنّ ابني مصطفى هناك”. تُتابع: “أصرّ أبو أحمد على اللحاق بمصطفى، قال لي لن أعود إلى المنزل من دون ابني”. وتوجّه الاثنان إلى التليل، وحين وصلا إلى الموقع ركن أبو أحمد السيارة على بعد بضعة أمتار وترجّل منها فيما بقيت زوجته في السيارة. في هذه الأثناء كان محمود في المنزل وجاءه اتصال هو أيضًا يُعلمه بأنّ الجيش يوزّع البنزين، توجّه إلى زوجته زينة وقال لها “سأذهب لجلب البنزين حتّى لا يحصل أي ارتباك غدًا في عرس شقيقك”، تقول زينة. وتُضيف “ليس من عادتنا أن يخرج أي منّا وحده من دون الآخر، لكنّ محمود حسم الأمر وقال لي قبل خروجه، ‘فوتي نامي وبكرا رح ترقصي وتفرحي بالعرس'”.

3 أفراد من العائلة نفسها توجّهوا إلى التليل، كلّ واحد انطلق من مكان مختلف والتقوا هناك. مصطفى نجا من التفجير، محمود أُصيب بجروح بليغة فيما قتل أبو أحمد وأم أحمد شهدت التفجير، أمّا زينة فعانت مرارة إصابة زوجها وبقائها فجأة مع 4 أولاد ترعاهم في غيابه أثناء العلاج. 

لا يزال التفجير يتراءى لأم أحمد كلّما أغمضت عينيها. “كيف يمكن لأحد أن يحرق الناس؟” تسأل ولا تعرف من أين تحصل على الإجابة. “أنا إذا وجدت نملة بين الحطب أُعيد الحطبة إلى مكانها، لا قدرة لي على قتل نملة”. تتلعثم وهي تستعيد أحداث تلك الليلة: “بعد خروجه من السيارة ببضع دقائق رأيت وهج النار، دقائق من الرعب والخوف من الخبر الآتي، قلت في نفسي ‘مات أبو أحمد’ “. وتتابع: “خرجت من السيارة ورأيت ابني محمود مرميًّا على الأرض والحروق قد التهمت جسده، صرخت فيه ثلاث مرّات: “قوم يا إمّي” في الثالثة سمع منّي ونهض ليتمّ نقله إلى المستشفى”. 

بقي محمود في الكويت ثمانية أشهر حيث أجرى عملية بتر لقدمه وعمليات عدّة لترميم الجلد التي تكفلت بها الدولة الكويتية، خلال تلك الفترة مرّ بأصعب الظروف النفسية، فإلى جانب وفاة أحد الجرحى على الطائرة التي كانت تقلّهم إلى الكويت، دُفن والده في غيابه ولم يستوعب الأمر حتّى بعد عودته إلى لبنان. بعد أسابيع من وجوده في الكويت عاد جميع الجرحى الّذين سافر معهم ولازم المستشفى وحده طيلة الفترة المتبقية. 

اليوم يحتاج محمود إلى استكمال علاج الجلد عبر مراهم ومرطبات خاصّة أسعارها خارج قدرته (سعر مرهم الترميم 25 دولارًا ويحتاج يوميًا إلى مرهمين على الأقل على مدى 5 سنوات قابلة للتجديد) فيما الطرف الاصطناعي الذي قدّمه له الجيش اتسع على رجله بسبب ضمور العضلة وتبيّن أنّه يحتاج إلى تغييره كلّ ثلاثة أشهر كونها إصابة جديدة والعضلة يتغيّر حجمها كل فترة. وفي حال أراد محمود تأمين طرف اصطناعي فإنّ كلفته تزيد عن 5000 دولار، وبالتالي فليس بيده سوى ملازمة المنزل وتحمّل آثار الطقس الحار على جلده المحروق وتجنّب أشعة الشمس. 

“الأولاد يتعايشون مع إصابة والدهم وفقدان جدّهم ويحاولون تخطي الصدمة، إلّا أصغرهم ينتظر أن يستيقظ والده ذات يوم ويجد أنّ قدمه قد نمت من جديد”، تقول زينة زوجة محمود.  

طرف اصطناعي اتّسع على رجل محمود بسبب ضمور العضلة

تتمسّك العائلة بمتابعة الدعوى القضائية إلى نهايتها رافضة أي محاولة لإسقاط الحق، “شو يعني يعوّضوني عن وفاة زوجي؟ أنا قلبي بعدو متل شعلة النار التي شفتها بعيني تلك الليلة، وصاحب الحق لا يرتاح إلّا بالعدالة” تقول أم أحمد. تُنهي حديثها وهي تعدّد آثار التفجير على حياتها: “ابني لديه إعاقة وغير قادر على تحمّل كلفة العلاج ولديه أربعة أولاد في عمر المدرسة، لم أتقاض راتب زوجي بعد الذي لا يزيد عن ثمانين دولارًا، وحتّى الشيك المصرفي بقيمة 30 مليون ليرة من الهيئة العليا للإغاثة لم نصرفه بعد لأنّه على جميع ورثة أبو أحمد أن يوقّعوا على تنازل لنقبض المساعدة التي تنخفض قيمتها كلّ يوم، وما يعرقل هذا التوقيع تعدّد الورثة الملزمين بالتوقيع”. وتُضيف “ابنتاي كانتا تتابعان دراستهما ولكن بعد الصدمة التي مررنا بها فقدا رغبتهما وتركتا الدراسة”. وتُتابع: “أبو أحمد كان حنونًا ومرحًا ويجلب الفرحة أينما وُجد، كان كلّ شيء فيه فرح، الفطور والأعياد والسهرات”. تُشيح بنظرها صوب محمود وتقول: “ربنا أخذ أبو أحمد بس تركلي أبو أحمد التاني” مشيرة إلى أنّ ابنها أطلق اسم أحمد على ابنه فبات لقبه كلقب أبيه.

ترفع أم أحمد يدها فيظهر محبس ذهبي. تخبرنا أنّه هدية من أبو أحمد في ليلة عيد الأمّهات، “فاجأني في ذلك اليوم بصندوق ثقيل وقال لي هذا هديتك، فتحت لأجد أحجارًا قد وضعها في الصندوق، بحثت بينها ووجدت الخاتم، قال لي هذا بدل المحبس الذي ضيّعته، ضحكنا كثيرًا ليلتها”. تتابع: “حبسني أبو أحمد في هذا المحبس ورحل. الأعياد انتهت في منزلنا. وفي عيد الأم لا أقبل بأي هدية ولا معايدة حتّى”. 

أم أحمد ترتدي المحبس الذي أهداها إياه زوجها في آخر عيد أمّهات قبل وفاته

حسام الدين يحلم بالعودة إلى حياته قبل عامين  

يجلس حُسام الدين (27 عامًا) على شرفة منزله المطلّة على موقع التفجير في بلدة وادي الحور. يضع كرسيًا بلاستيكية أمامه ويرفع قدميه. يعتذر عن ذلك قائلًا: “طلب منّي الطبيب أن أخفّف الثقل عن قدميّ وإلّا قد أُصاب بالجلطات بسبب الحروق التي طالت 75 بالمئة من جسدي ومُعظمها في قدميّ”. ينظر ناحية موقع التفجير ويستعيد أحداث تلك الليلة: “حين وصلني خبر أنّ الجيش يوزّع البنزين، توجّهت إلى الموقع، ولم تمرّ سوى دقيقة على وصولي حتّى وقع التفجير، كنت أبعد عن الخزّان مسافة متر ونصف فقط”. يتابع: “قذفني الانفجار بضعة أمتار، وقعت أرضًا، لم أفقد الوعي، كنت واعيًا لكلّ شيء إنّما لا أشعر بشيء، رأيت ألوانًا مختلفة، أحمر وأصفر وأسود”. نُقل حُسام الدين إلى مستشفى السلام في طرابلس، “أذكر لحظة دخول أمّي إلى الغرفة، أذكر أنّها حين رأتني قالت ‘هذا ليس ولدي’، ثمّ غابت عن الوعي. لم تعرفني، فقد كان وجهي وجسمي مشوهين بالكامل، أذكر أنني قلت لوالدي أنني لا أريد الموت”.  حُسام الدين كان من بين ثلاثة جرحى تمّ نقلهم إلى الإمارات لتلقّي العلاج على نفقة الدولة الإماراتية يقول: “كانت صدمتي عند وصولنا إلى الإمارات حين علمنا أنّ أحد الجرحى اسمه حسن توفّي على الطائرة، لا يزال صوته في أذني وهو يتألّم”. مكث حُسام الدين في الإمارات 56 يومًا، أجرى خلالها 32 عملية زراعة جلد”. وحين عاد إلى لبنان لم يتمكّن من تحمّل تكاليف العلاج الفيزيائي، فبدأت شقيقته تبحث على الإنترنت وتتعلّم كيفيّة القيام بالعلاج الفيزيائي وقدّمت العلاج لشقيقها. واليوم لا يزال حُسام الدين قيد العلاج وهو بحاجة يوميًا لمرهمين كاملين من دواء ترميم الجلد كلفة الواحد 25 دولارًا وهو غير متوفّر في لبنان، فيضطر أن يطلبه من فرنسا وسعره هناك 53 يورو. يقول: “قال لي الطبيب إنّه في حال الالتزام بالعلاج سأعود خلال ثلاثة أعوام لأمارس حياتي الطبيعيّة”. ويُضيف: “أنا متشوّق للعودة إلى حياتي الطبيعية، إلى العمل وخدمة عائلتي وأيضًا إلى ممارسة هوايتي المفضّلة وهي كرة القدم”. 

 الحروق في قدمَي حُسام الدين تُعيق إمكانية عودته إلى العمل
حسام الدين يحمل مرهم الترميم وتبدو حروق يديه

الأفضل هو أفضل المتوفّر بالنسبة لأم ناجي

كان عمر ناجي العبد الله 21 عامًا، حين قتل في تفجير التليل. ناجي هو عسكري في الجيش اللبناني كوالده الذي استشهد في أحداث الضنية عام 2000. يومها كانت أم ناجي في الـ 22 من العمر وربّت ناجي وشقيقته وحدها. تروي أحداث آخر ليلة رأت فيها ابنها: “كنت أحيانًا أؤمّن لناجي غالون بنزين وأضعه في البيت وأبقى قلقة طيلة الوقت بسبب وجود مادّة حارقة في المنزل، فأستيقظ منتصف الليل وأنقله إلى الخارج”. وتضيف: “كنّا في منتصف الليل حين وصل لابني خبر أنّ الجيش يوزّع البنزين، أخذ المال وراح مع صديقه، آخر ما قاله لي ‘لن أتأخر يا أمّي سأعود قريبًا'”. وتتابع: “سمعت صوت انفجار وأنا في المنزل، اتّصلت بناجي إلّا أنّ خطّه كان مقفلًا. بعد نحو ساعة ونصف الساعة، أتي أشقّائي، وقالوا لي أنّه مُصاب. كان وضعه شديد الخطورة فالحروق أتت على 85 بالمئة من جسده. قال لي الطبيب في مستشفى الجعيتاوي إنّ الله وحده قادر على إنقاذه”. توفي ناجي بعد ثلاثة أيّام، وكان أوّل الجرحى الذين فارقوا الحياة متأثرين بجراحهم.  

تثق أُم ناجي في أنّ تهريب البنزين في المنطقة حصل بحماية من السياسيين أو من على يد السياسيين أنفسهم، وتقول: “ليس لدينا إثباتات، لكن لا يُمكن لعقل أن يجزم بأنّ التهريب يقوم به أشخاص على مرأى من الدولة من دون حماية سياسية على الأقل”. وترى أنّ “القرار الظنّي ظلمنا”. وتعتب على تحييد الضابط المسؤول عن السماح لناس بأخذ البنزين من الصهريج بعد مصادرتها. وتشدّد: “لسنا ضدّ الجيش، نحن نحترم المؤسسة العسكرية وأبناؤنا يفتخرون بانتمائهم إليها ولكن إن قلنا إنّ أحد الضبّاط أخطأ فلا يعني ذلك أنّنا نعاقب الجيش بأكمله”. 

لا تغيب أم ناجي عن أيّ من جلسات المحاكمة على الرغم من مشقة الطريق من عكّار، وتراقب مجرياتها بدقّة وهي مقتنعة بأنّ القضاء هو أفضل الحلول المتوفّرة للوصول إلى العدالة.

أم ناجي إلى جانب صورة ابنها ناجي الذي وقع ضحية التفجير

رقيّة لا تزال تحتفظ بحقيبة زوجها كما وضّبها 

تبدأ رقية زوجة الشهيد علاء كبيدات (33 عامًا، عسكري في الجيش اللبناني ووالد لطفلين) حديثها بإعلان تشاؤمها من شهر آب الذي تصفه بـ “شهر المآسي” قاصدة تفجيري مرفأ بيروت والتليل. تتحدث أثناء لهو ابنها فهد (5 سنوات) في صالون المنزل متنقلًا من مكان لآخر. تُشير إليه وتقول إنّه “وُلِد لديه اضطراب فرط الحركة، وكان يعتمد على والده لنقله ثلاثة أيّام في الأسبوع إلى مدرسة متخصّصة تبعد 20 دقيقة عن المنزل”. تقول: “كان كلّ هم علاء ألّا يُقصّر مع أولاده، أعلمني فجر 15 آب أنّه ذاهب لتعبئة البنزين، دخل غرفة الأطفال وراح يلهو معهم لبعض الوقت، وبعدها أخذ بعض المال وتوجّه مع رفاقه إلى التليل ليشتري البنزين”.  

كان علاء قد جهّز أغراضه ليذهب في اليوم التالي إلى الخدمة، لكنّه لم يعد، ولا تزال رقيّة تحتفظ بحقيبته على حالها كما وضبّها آخر مرّة. تقول: “ضلّ علاء ثلاثة أيّام في المستشفى، حاولوا نقله إلى الخارج للعلاج لكنّ جسده لم يتحمّل عبء السفر فأعادوه من المطار إلى المستشفى حيث توفّي”. وحتى اليوم لم تتقاضَ رقيّة الراتب التقاعدي من الجيش علمًا أنّه قد مرّ عامان على الفاجعة.   

لم تقف مصيبة العائلة عند مقتل علاء، فقد لحقه والده بعد شهرين. “والدي لم يتحمّل المأساة ولصعوبة الفراق تدهور وضعه الصحّي وفارق الحياة بعد شهرين من التفجير”، يقول شقيق علاء. واليوم تعيش الوالدة مأساة مضاعفة وقد بدأت صحتها النفسية والجسدية بالتدهور.

خالد يُلازم منزله منذ عامين 

 الحروق التي في يدي خالد (24 عامًا) تمنعه من القيام بأي مهام، يتحدّث والده عن وضع نجله بأسى، فقد مرّ عامان من دون أن يخرج خالد من المنزل ما يعني أنّه لم يعد إلى العمل بسبب الحروق كما بسبب إصابته في وركه. كان خالد يعمل في مجال تركيب صحون الستالايت مع والده منذ سنوات، لكنّه أُصيب في التفجير وطالت الحروق 80 بالمئة من جسده. وما زاد الطين بلّة هو تأثير الالتهابات الناتجة عن الحروق على رئتيه وكليتيه لدرجة أنّه احتاج إلى غسيل كلى ورئة لفترة، إضافة إلى 4 عمليات لفتح مفصل وركه بسبب إصابته البليغة. يقول أبو خالد إنّ ابنه أجرى “عملية المفصل 4 مرّات ولم تنجح، وحاليًا يتهيّأ لعملية جديدة نأمل أن يتمكّن معها من المشي من جديد والعودة إلى حياته كما يحتاج إلى ثلاث عمليّات لفتح ذراعه. تُكلف العملية الواحدة نحو ألفي دولار أميركي”.

أمّا بالنسبة لترميم الجلد، فيقول أبو خالد: “لم نأخذه إلى طبيب ترميم جلد لسبب وحيد أنّه لو كان يوجد علاج فأنا غير قادر على تأمين كلفته فظروفنا تغيّرت منذ التفجير، فقد دفعنا كل ما نملك لعلاج خالد، حتّى ابنتي التي تدرس التمريض لم أعد قادرًا على استكمال كلفة تعليمها”. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، قرارات قضائية ، فئات مهمشة ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني