كيف يتعلّم أولاد المناطق الحدوديّة؟ وهل امتحان واحد لكلّ لبنان حلّ مناسب لهم؟


2024-05-07    |   

كيف يتعلّم أولاد المناطق الحدوديّة؟ وهل امتحان واحد لكلّ لبنان حلّ مناسب لهم؟
تصوير داليا خميسي

بعد بدء الحرب في الجنوب في 8 تشرين الأوّل انقطع التعليم في المناطق الحدوديّة، ونزح آلاف الجنوبيين (92 ألفًا بحسب آخر التقارير الحكومية والبعض منهم نزح مرّات عدّة قبل أن يجد مكانًا يتمكّن من الاستقرار فيه. لكنّ عددًا من القرى عاد أهلها إليها عند وضوح ستاتكو الحرب في الجنوب حيث لم تتعرّض الأماكن السكنيّة في قراهم بصورة مباشرة للقصف، أو لأنّهم غير قادرين على تحمّل تكاليف النزوح. فيما تعرّضت قرى أخرى لدمار كبير ما اضطرّ أهلها للمزيد من النزوح.

وبنتيجة كلّ ذلك توزّع التعليم في هذه البلدات والبلدات المحاذية لها على النحو الآتي:

  • عدد من المتعلّمين يتابعون التعلّم عن بعد من داخل قراهم بالرغم من القصف المحيط بها كما في بلدات مرجعيون والقليعة ورميش وعين إبل وبعض أهالي الخيام والهباريّة… وغيرها،
  • أقليّة من المتعلّمين تمكّنت من الالتحاق بمؤسّسات تعليميّة بديلة تقع في مناطق هادئة،
  • بالإضافة إلى ذلك، يتابع أبناء الشريط الحدودي بشكل خاص الذين يتراوح عددهم ما بين 20 و30 ألف طفل في سنّ التعلّم، التعلّم عن بعد من أماكن اللجوء المتنوّعة مثل منازل مستأجرة، بيوت الأقارب والأصدقاء، مدارس ومراكز الإيواء.

وقد شكّل وزير التربية لجنة طوارئ برئاسته ومن أعضائها رئيسة المركز التربوي والمدير العام في الوزارة ورئيسة الإرشاد والتوجيه لإدارة الأزمة التربويّة في مدارس المناطق الحدوديّة. قدّمت اللجنة لابتوب للأساتذة، حصلوا عليه بعد مرور 3 أشهر على بدء الحرب، ولابتوب واحد لكلّ عائلة من أهالي الأولاد في التعليم الرسمي الأساسي فقط فيما حَرمَت طلّاب المرحلة الثانوية وطلاب الحلقة الثالثة (المتوسط) منه إذا كانت صفوفهم مُلحقة بثانويّة، مخالفة بذلك مبادئ العدالة والمساواة. كما نظّمت للأساتذة دورة حول استعمال منصة “مايكروسوفت تيمز” Teams Microsoft التي تستهلك حزمة عالية من الإنترنت لذلك لم يستعمله الكثير من الأساتذة ولجأوا إلى تطبيقات أقلّ كلفة، خصوصًا أنّ وزارة الاتّصالات تأخّرت كثيرًا في تقديم إنترنت مجّاني للطلاب إذ تذكّرتهم في آخر شهر نيسان، أي قبل قليل من انتهاء العام الدراسيّ.

ولم تنشر لجنة الطوارئ عدد المدارس والمتعلّمين الذين اضطرّوا للانقطاع عن التعليم الحضوري، ولم تقدّم أية دراسة للفاقد التعلّمي عندهم. ولم تدرس حاجات المتعلّمين والأساتذة وتتجاوب معها. والمعلّمون في المناطق المتضرّرة يستعملون الإنترنت الخاصّ بهم حتّى اليوم من دون أي تعويض، والبعض منهم عجز عن توفير الإنترنت في أماكن النزوح التي لجأ إليها، وكادوا يفقدون مبلغ الـ 300 دولار وهي الحوافز التي تُدفع للمعلّمين بالإضافة إلى رواتبهم بسبب إصرار وزارة التربية في البداية على ربط هذا المبلغ بالحضور وعدم أخذها بعين الاعتبار ظروفهم الخاصّة التي أجبرتهم على الانقطاع.

وبسبب هذا النقص الفادح في البيانات، ليس لدى الرأي العام اللبناني تصوّر واضح عن حجم وعمق الأضرار على الصعيد التربوي الذي أصاب المناطق الحدوديّة والبلدات المحاذية لها، ولا يعرف اللبنانيون أعداد المنقطعين ولا حجم الفاقد التعلُّمي الذي حصل وتأثيره على مستقبل هؤلاء الأولاد التعليمي.

لذلك نتساءل هل تدرك وزارة التربية واللبنانيون عمومًا حجم الكارثة التربويّة التي يواجهها المتعلّمون في المناطق المتضرّرة من الحرب؟ إنّه العام الخامس على التوالي الذي لا يحصل فيه هؤلاء الأولاد على تعلّم منتظم. وقد يكون لذلك أثر حاسم ونهائي على تحصيلهم ومستقبلهم، فهل يرقى ما قدّمته وزارة التربية إلى مستوى الحاجات والتحديات؟

تحدّيات التعلّم عن بعد في ظروف الحرب

بدأ التعلّم عن بعد في أوقات متفاوتة، بادر القطاع الخاص إلى ذلك فالتحقت به وزارة التربية وبادر إلى ذلك بعض المدراء من دون صدور أي قرارات رسميّة من قبل وزارة التربية. وقد بدأ التعليم الرسمي بفتح صفوف عن بعد في 27 تشرين الثاني 2023 أي بعد شهر و20 يومًا من انطلاق المعارك في الجنوب.

وقد واجه التعلّم عن بعد في المناطق التي تعاني من الاعتداءات الإسرائيلية تحدّيات كبيرة: إذ بالإضافة إلى نقص التجهيزات والبنى التحتيّة المناسبة ونقص الموارد الرقميّة التي انكشفت فداحة عدم توفّرها في التعليم الرسمي خصوصًا خلال فترة انتشار الوباء، واجه الأساتذة والمتعلّمون مصاعب إضافيّة عدّدها لنا بعض الأساتذة والمتعلّمين في هذه المناطق، ولكنّهم فضّلوا عدم ذكر أسمائهم لذلك سنشير إليهم بحروفها الأولى.

تقول الأستاذة ر. من ثانويّة بنت جبيل الرسميّة “عند بداية النزوح سَكَنت كلّ 4 أو 5 عائلات في بيت واحد، وكانت إحدى تلميذاتي تقول لي أنا أحضر صفّك من سيارة الرابيد وأستعمل تلفون والدي”. كما ذكرت أنّ الأساتذة النازحين اعتمدوا في بداية التعليم عن بعد على الـ 4G الخاصّ بهم: فالأماكن التي نزحوا إليها لم تتوفّر فيها الطاقة الشمسيّة واشتراك المولد الكهربائي والإنترنت. ويقول الأستاذ أ. خ. من الثانوية نفسها إنّ “حضور الطلاب ومتابعتهم للصفوف كان متفاوتًا جدًا، لم يتخطّ كمعدّل 40%. وخلال شهر رمضان كان يحضر الصفّ تلميذان أو ثلاثة أحيانًا”. ونسبة الـ 40% ذكرتها أيضًا الأستاذة ن. ك. من ثانوية مرجعيون الرسميّة وهي معدّل حضور طلّاب المدارس الرسميّة في الصفوف عن بعد بينما تقول إنّه بلغ 90% في الخاص، وشابه الكثير من التقطّع وعدم الانتظام بسبب ظروف الحرب وعدم توفّر الحاجات اللوجستيّة الضروريّة للتعلّم عن بعد.

ومن الأحداث المؤثرة التي نقلها أساتذة هذه الثانويّة وطلّابها أنّ طلاّب أحد الصفوف رفضوا حضور صفّ أستاذ بديل بعد استشهاد أستاذهم “علي سعد”، وصورته لا تزال صورة الـ “بروفايل” على “واتساب”. 

والتحديات الأساسيّة التي أجمعوا عليها تقريبًا إضافة إلى تراجع معدّل الحضور، هي:

  • ضعف الإنترنت بسبب التشويش الذي استخدمته إسرائيل بكثافة خلال الحرب، فكان الأولاد في بعض المناطق يجدون أنفسهم فجأة خارج الصفّ، حتّى أنّ دخولهم وخروجهم قد يتكرّر مرات عدّة خلال حصة واحد.
  • تكرار حصول القصف خلال فترة التعليم بالنسبة للطلاب الذين عادوا إلى بلداتهم رغم القصف ما يضطرّ المتعلّمين للتنقّل من غرفة إلى أخرى للاختباء في مواقع أكثر أمانًا.
  • الخوف والهلع الذي عانى منه الأساتذة والطلاب فهم يسمعون بصورة متواصلة أصوات طائرات التجسس والقصف والانفجارات الشديدة التي تحدثها بعض أنواع الصواريخ، حتّى أنّ إحدى طالبات المعلّمة م. ن. من قضاء مرجعيون قالت لها عند سماع أصوات قصف خلال الدرس: “مدام قفلي الكاميرا من فضلك، وجهك صار أصفر”.
  • الإرهاق الشديد، ففي العديد من الليالي كان القصف يستمرّ فترات طويلة خلال الليل، فلا يتمكّن الأساتذة والطلاب من النوم، ويكونون مرهقين جدًا خلال التعليم عن بعد.
  • نقص التركيز لدى المتعلّمين الذين تُشتت انتباههم الضغوط النفسيّة والصعوبات الكثيرة التي يواجهونها مع عائلاتهم.
  • المعاناة النفسيّة التي يعيشها الأساتذة والطلاب نتيجة الحرب، فالعديد منهم فقدوا أحد أفراد عائلتهم أو دُمّرت منازلهم.
  • بطء التعلّم عن بعد وعدد الحصص المنخفض (4-5 ساعات يوميًا) ما سبّب عدم إنجاز البرامج والأهداف المطلوبة.
  • محدوديّة الموارد الضروريّة للتعلّم عن بعد مثل الفيديو والـ “باوربوينت” power point المتناسبة مع المنهاج اللبناني. وعند توفّر بعض هذه الموارد مثل تمارين تفاعليّة أعدّتها بعض دور النشر، يتردّد الأساتذة في إرسالها للمتعلّمين الذين يتابعون من أجهزة تعمل على 4G. وتقول م. ن. إنّها كثيرًا ما اضطرّت لاستعمال أدوات منزليّة خلال الشرح لتوضيح أفكار معيّنة.
  • عدم توفّر البنى اللوجستيّة الضروريّة للتعلّم عن بعد، فبعض المتعلّمين يقيمون عند أقرباء ولا تتوفّر لهم المساحة الخاصّة الكافية. وتقول م. ن. إنّ العديد من المتعلّمين كانوا يقولون لها “ما بقدر إفتح المايكروفون وجاوب في حدّي أصوات وضجّة”. وينخفض توفّر هذه البنى لدى المتعلّمين في التعليم الرسمي بشكل ملحوظ.
  • ومن التحديات التي واجهت التعلّم عن بعد اضطرار بعض العائلات للتنقّل المتكرّر، فتقول م. ن. “كان بصفي في أولاد كلّ يوم بمطرح” ما يضعف قدرتهم على المتابعة والتركيز.

بالإضافة إلى ذلك تقول ر. من بنت جبيل إنّ بعض الطلّاب الذين التحقوا حضوريًا بمدارس المناطق الآمنة لم يلقوا الدعم اللازم، وشعروا بحكم مبرم عليهم بأنّهم لن يتمكّنوا من الاندماج مع جوّ الصفّ الجديد ومستواه، يقولون “شعرنا بالتهميش وكأننا لسنا من لبنان”.

الطلّاب في المناطق المتضرّرة: الدولة تجاهلتنا

“نشعر بالقهر، تصرّفوا بلا مسؤوليّة تجاهنا”:

تقول فاطمة سعد من ثانويّة بنت جبيل الرسميّة، صفّ الاقتصاد والاجتماع “ما يقهرنا أنّ الوزير لم يأخذ معاناتنا بعين الاعتبار. سيطر على موقفه تجاهنا التأجيل وعدم اتخاذ قرار. بدأنا التعليم عن بُعد بَعدَ شهرين من بدء الحرب، بعض أساتذتنا لم تتوفّر له خدمة الإنترنت في بداية النزوح. نشعر أنّهم تصرّفوا بلا مسؤوليّة تجاهنا”.

وتقول ف. من ثانويّة رميش الرسميّة: “أنا أستعير هاتف والدتي وأخي يستعير هاتف والدي لنتابع الصفّ. لم توزّع الوزارة ألواحًا إلكترونية tablets لصفوف الثانوي”.

“نشعر بتجاهل اللبنانيين والدولة لمعاناتنا”

تقول ب. س. من عيتا الشعب “نحن لم نخلق لنموت. عنّا طموح وبدنا ننجح ونحقق درجات. كلّ النوّاب يشتغلون ليحصلوا على شعبيّة ولا يبحثون عن حلول حقيقيّة. نحن ضحيّة، ولا حدا سائل عن مستقبلنا. الكلمة التي تتردد على ألسنتنا كلنا هي وين العدل؟ نحن مع فلسطين. وندعم غزّة، نحن ظُلمنا كثيرًا ونعرف شو يعني ظلم، ولكنّنا الآن نُظلم كثيرًا ودولتنا مش سائلة علينا”.

وتقول آية باكية: ” بدنا نوصّل صوتنا. تعبنا. نحنا ما عنا أي فكرة أيمتى نهاية الحرب وعم نعيش بضغوطات كتيرة. ما عندي القدرة الكافية للامتحانات الرسمية بسبب الوضع الحالي والخلل الدراسي من 4 سنين، وعندي خوف كبير من الرسوب”.

تقول فاطمة من بنت جبيل “أساتذتنا لم يقصّروا ومعاناتهم كبيرة. ولكن بوزارة التربية مش عم يستوعبوا إنّه عنّا حرب. لازم نموت كلّنا ليستوعبوا إنّه عنا حرب؟ وسائل الإعلام في لبنان لم تلقِ الضوء على معاناتنا. بعض رفاقنا يعيشون في مدارس، والبعض الآخر يعيشون كلّ 20 شخصًا في بيت واحد. نحن لم نغادر بيتنا نعيش تحت الخطر حتّى ما نتبهدل. والدتي مدرّسة، قالت لها تلميذتها من بلدة مارون: ما إلي نفس أدرس، دُمّر بيتي، لم يعد عندي بيت. مطلبنا امتحانات عادلة، وتقليص خاص للجنوب. عايشين ضياع. بيخربوا الدنيا على راسنا لمّا بدهم منّا مصاري وطوابع، ولليوم ما تكرّموا علينا بأي قرار خاص”.

“ما في عدالة”

 تضيف آية “مش حرام هني (تقصد باقي المتعلّمين في لبنان) اكتسبوا المعلومات الكافية ودرسوا حضوري وصاروا عايدين المنهج وعم يراجعوا هلق ورح يعملوا امتحانات وينجحوا ويجيبوا درجات والسنة الجاية رح يكونوا  بالجامعه بالوقت يلي نحن خيفانين وما اكتسبنا المعلومات الكافية وما عنّا القدرة الكافية إنّه ننزل نعمل امتحانات وأكيد هل شي رح يكون مأثر علينا إنّو ممكن نرسب والسنة الجاي ما نكون بالجامعة متل ما كنّا متوقعين. وأساتذنا ضايعين ومش عارفين كيف يخلّصوا المنهج”.

يقول أحمد من العديّسة: “خارج بيتي صعب التركيز. نحن نسكن عند بيت جدّي، كذا عائلة سوا. لم أشارك بكتير حصص بسبب عدم توفّر الكهرباء في بداية نزوحنا. أريد أن أدرس تسويق، سأحاول ألّا يوقفني أي شيء أو يقتل طموحي”.

إجراءات خاصّة بالامتحانات الرسميّة

في بداية العام الدراسيّ الحاليّ، اعتمد المركز التربويّ المنهاج المقلّص 18 أسبوعًا لكلّ المدارس في لبنان، رسمي وخاص. ولم يُتّخذ أيّ إجراء خاص بالمناطق المتضرّرة من الحرب. حتّى أنّ وزارة التربية لم تُحدّد عدد ساعات التعلّم في هذه المناطق. فبدأ التعليم فيها بـ 8 ساعات ثمّ قال مدرّبو دورة الـ teams للأساتذة يكفي 5/4 ساعات يوميًا، وهكذا التزمت كلّ مدرسة وكلّ أستاذ/ة بما قدِر عليه. ولم تتوفّر أي خطّة عمل واضحة تخطّط لاكتساب المتعلّمين المهارات والأهداف الأساسيّة على سبيل المثال، أو تُقترح أدوات لسدّ الثغرات. كما لم تتوفّر المواكبة اللازمة من التفتيش والإرشاد والتوجيه. تقول ن. ك. من بلدة إبل السقي: “تُرك الأولاد في المناطق المتضرّرة من الحرب لمصير مجهول، المطلوب خطّة عمل ودراسة مسبقة وليس الانتظار حتّى الشهر الأخير من العام الدراسيّ ثمّ إقرار إجراءات شكليّة. شعرنا أنّنا متروكون ولا يشعر أحد بمعاناتنا”.

ثمّ أصدر المركز التربويّ تقليصًا جديدًا للمنهاج المُقلّص أساسًا، خاصًا بصفوف الامتحانات الرسميّة في 18 نيسان من دون أي تقليص خاص بالجنوب.

لم تقدّم وزارة التربية خلال العام الدراسيّ 2023/2024 أيّ دعم إضافيّ للمتعلّمين الذين عانوا خلال 4 سنوات سابقة من فاقد تعلّمي كبير، انتظرت نهاية العام الدراسيّ لتُقرّ الإجراء الوحيد الذي لجأت إليه طيلة سنوات الأزمة، وهو تقليص التقليص، أي المزيد من الحذف وخفض المستوى من دون أي معالجة حقيقيّة أو دعم يرفع مستوى المتعلّمين ويردم الهوّة بين الرسمي والخاص، ويسمح باكتساب المهارات والأهداف المطلوبة بدل إتاحة الفرص السهلة. كما لجأت بالإضافة إلى ذلك، إلى أداة سحق المعلّمين الذين عملوا طيلة هذا العام مقابل رواتب زهيدة جدًا لا تتخطّى 600 دولار شهريًا.

وفي 22 نيسان، صدرتْ مذكّرة تحديد الامتحانات الرسميّة فيما كان وزير التربية خارج لبنان، من دون أن يصدر أيّة خطّة أو إجراء خاصّ للجنوب ولكن مع وعود مستمرّة بإجراءات استثنائيّة لم تُحدّد حتّى اليوم.  ولكن بدأت في اليوم التالي روابط الأساتذة بطرح الامتحان الموحّد واعتماد الموادّ الاختيارية لكلّ لبنان والجنوب ضمنًا. ولأنّ تراجع وزير التربية بعد أيّام قليلة على صدور قراره يبدو “مسخرة”، وفّرت له روابط أحزاب السلطة ورقة التوت اللازمة، فتحرّكت أوركسترا جماعيّة، كمن ضغط لها زرّ التشغيل في وقت واحد لتوفير الحجج اللازمة لوزير التربية للتراجع عن قراراته.

ردّ الأب يوسف نصر على قرارات وزارة التربية، كما اعترضت نقابة المعلّمين في التعليم الخاص، إذ تحتاج المدارس الخاصّة إلى امتحان مُكتمل الأركان لتستحقّ الزيادات الهائلة بالدولار الأميركي التي تفرضها على المتعلّمين. لم يُقدّم وزارة التربية أيّ تبرير موضوعيّ وتربويّ مناسب لتعديل قرار إجراء امتحانات منفصلة لطلاب الجنوب، فهل عدد من تعلّموا عن بعد 500 أو ألفًا؟ لا نعرف. ما حجم الفاقد التعلّمي الذي حصل؟ ما الأهداف غير المتحقّقة؟ ما المهارات التي لم تدرّس؟ لا نعرف أي شيء من كلّ ذلك.

كما لم ينشر المركز التربوي أيّ نتائج لإحصاء الأهداف والدروس المنجزة، ولم يحدّد العيّنة التي جرى القياس عليها، ولم يحدّد الثغرات والنواقص. وبدا واضحًا في اجتماعات التقليص بين المركز والمعنيين أنّ العيّنة التي استند إليها لم تكن ممثلة، فبيانات الأهداف المنجزة التي قدّمها المركز التربوي كانت في مكان والواقع التربوي كان في مكان آخر مختلف.

إنّ الفاقد التعلّمي معضلة حقيقية لمسها أساتذة التعليم الرسمي، والهوّة بين الرسمي والخاص لم تُردم رغم عدم تقطّع التعليم خلال العام الدراسي الحالي في التعليم الرسمي، ورغم إنجاز البرامج والدروس في الرسمي لا يعني ذلك أنّ ما أُنجز قد تحقّق اكتسابه. لذلك كان المتعلّمون والأساتذة في معضلة فعليّة وفي سباق مع الوقت، فكلّ درس أو هدف احتاج وقتًا إضافيًا لاكتسابه. فكيف بمن تعلّم عن بعد وتحت أصوات القصف؟

تقول ن. ك. “ليس المهمّ كم أنجزنا، لأنّ ما أنجزناه عن بُعد لم يُكتسب، المران والتطبيق لم يكونا كافيين، خصوصًا بعد تراكم الثغرات والنواقص خلال الأعوام السابقة”. ثمّ تضيف “توحيد الامتحان لكلّ لبنان غير كافٍ، ولا يحلّ مشكلة الطلاب في المناطق المتضرّرة من الحرب”. وتطالب ن. ك. بإجراء الامتحانات الرسميّة لكلّ الطلاب وترفض إعفاء طلّاب الجنوب أو إعطاءهم إفادات. كما تقول ر. من عيترون “بعد أن تركونا طيلة العام الدراسي الصعب الذي عشناه، لم يعد بأيدينا إلّا المطالبة بتقليص خاصّ بالجنوب”.

قرارات غير مدروسة وضعف شديد في الإدارة في وزارة التربية

من القرارات غير المدروسة إذًا لوزارة التربية هو قرار تقليص التقليص، وإقرار مواد اختياريّة للامتحانات الرسميّة وهو قرار يقود إلى:

  • ضعف ثبات الامتحانات الرسميّة ما يخفّض من قيمتها ومستواها.
  • خفض مستوى الامتحانات بشكل عام، فبدل أن نرفع المتعلّمين إلى المستوى المفترض تحقيقه، نخفّض المستوى المطلوب سنة بعد أخرى بسبب عدم توفّر الخطط اللازمة لردم الهوّة ومعالجة الفاقد التعليمي.
  • تراجع ثقة المتعلّمين في حوكمة وزارة التربية فتراجع الوزير عن قراراته بالشكل الذي جرى يبيّن أنّ قرارات الوزارة لم تُبنَ على أساس صلب وموضوعيّ، ما أتاح المجال للتراجع عنها بهذه الطريقة المثيرة للسخرية.
  • تخفيض مستوى الامتحان في لبنان كلّه وضرب العدالة لطلاب الجنوب. فهم بعد التعديل الأخير يُمتحنون مع طلاب تعلّموا حضوريًا ولفترات أطول منهم. ولا توفّر المواد الاختياريّة إلا تخفيف ضغط الدرس على المتعلّمين، وتسهيل النجاح. إنّ العدالة الحقيقيّة للجنوبيين هي توفير وسائل دعم ترفعهم إلى مستوى أفضل، ولكنّ ذلك لا يمكن أن يحصل في اللحظات الأخيرة من العام الدراسي.
  • ضياع لدى المعلّمين والمتعلّمين بسبب تأخّر وزارة التربية والمركز التربويّ في اتخاذ القرارات حتّى اللحظة الأخيرة بالإضافة إلى تراجعهما عن قراراتهما.

وما زاد من فداحة هذه النتائج هو غياب بيانات واضحة ودقيقة تساعد في فهم الواقع واتخاذ القرارات، وتخلّف وزارة التربية عن تقديم أي دعم سابق للامتحانات لطلاب الجنوب مثل تأمين وسائل وأدوات تعلّم عن بعد فعّالة توفير البنى التحتيّة واللوجستيّة للاجئين من كهرباء وإنترنت مجاني؛ هذا فضلًا عن أنّ تعثّر التعليم العام للعام الخامس على التوالي بالنسبة لأولاد الجنوب وخصوصًا المناطق المتضرّرة من الحرب، قد يسبِّب لهم صعوبة في النجاح في مباريات الانتساب إلى الجامعات أو في النجاح في عامهم الدراسي الجامعيّ الأوّل، ما يهدّد مستقبلهم الأكاديمي.

وعليه، رأى تقرير صادر عن التفتيش المركزي أنّ المركز التربويّ ناقض نفسه وخالف مضمون الأوراق المساندة للإطار الوطني في قبوله بالامتحان الوطني الموحّد كبديل عن شهادة البريفيه، إذ ينقل التقرير عن الأوراق المساندة تحديدها لأهداف هذا الامتحان “بهدف الكشف عن مستويات تحصيل المتعلّمين في صفوف معيّنة وفي مجالات محدّدة من المناهج كالقراءة والكتابة والحساب، ويعدّ جزءًا من الإدارة الرشيدة لكل نظام تعليمي، ويوفّر لصانعي السياسات التربوية معلومات مساعدة على التخطيط التربوي وتطوير العمليات كما النواتج” وهذا يعني أنّ المقصود من الامتحان الموحّد المُقترح في الأوراق المساندة للإطار الوطنيّ القياس بهدف بناء الخطط وتعديلها وليس تقرير النجاح والرسوب وهو الهدف الرئيسي للامتحانات الرسميّة.

ومن الثغرات التي عدّدها تقرير التفتيش في الامتحان الوطني الموحّد البديل عن شهادة البريفيه:

  • مخالفة المركز التربويّ مهلة الأربع سنوات التي حدّدها سابقًا قبل تطبيق هذا الامتحان من دون سبب واضح.
  • تجعل شروط إجراء هذا الامتحان الموحّد شبيهًا بالامتحانات المدرسيّة لذلك عدّ إجراؤه هدرًا للمال العام.
  • يُخالف مبدأ المساواة والتدابير التقنيّة المعتمدة لإجرائه لا تكفل النزاهة وقد يشوبها صعوبات تقنيّة عديدة.
  • لم يأخذ قرار إجرائه بعين الاعتبار كلّ المتغيّرات، إذ خطّطت وزارة التربية لإطلاق تطبيق تُرسل عبره المسابقات لكلّ المدارس التي تسحب المسابقات ولم يأخذوا بعين الاعتبار اختلاف الدوام بين مدارس تدرّس قبل الظهر وأخرى بعد الظهر.

وبناء على كلّ ذلك نتساءل لماذا التسرّع أحيانًا في اتخاذ قرارات غير مدروسة في وزارة التربية ثمّ التراجع عنها؟ ولماذا التأخر أحيانًا أخرى في اتخاذ قرارات أساسيّة ما يسبّب توترًا وضياعًا للمعلّمين والطلاب؟

إنّ الحقيقة واضحة للعيان، لا تتوفّر لوزارة التربية شروط الحوكمة والخطط الضروريّة خصوصًا خلال فترات الأزمات، واقتراحات المدير العام لا تحظى بالدراسة والتدقيق وكثيرًا ما تكون غير مهنيّة ومتسرّعة، ولا يقوم بالجهد الكافي لتحديد حاجات المدارس والثانويّات ومواكبتها. فلماذا لم تُقدّم باقة الإنترنت المجّاني منذ بداية العام الدراسيّ، لماذا لم يُتخّذ قرار بدء التعلّم عن بعد بالسرعة الكافيّة؟ لماذا لم تُحدّد أهداف رئيسة للجنوب بدل اللجوء إلى التقليص في اللحظات الأخيرة؟ لماذا التسرّع في تحديد الامتحان الوطني الموحّد قبل استشارة التفتيش؟ كلّ هذه الإجراءات حصلت متأخرة جدًا لدرجة فقدت جدواها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، الحق في التعليم ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني