المفكرة القانونية تجيب على أسئلتكم: الجرائم المدعى بها والجرائم المغيبة في مجزرة التليل


2021-09-20    |   

المفكرة القانونية تجيب على أسئلتكم:  الجرائم المدعى بها والجرائم المغيبة في مجزرة التليل

فور وقوع انفجار التليل، في 15 آب، باشر مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالإنابة القاضي فادي عقيقي التحقيقات بجريمة انفجار خزّان البنزين في منطقة التليل العكارية، حيث “كلّف الشرطة العسكرية الانتقال فورا إلى المكان مع فريق من الأدلة الجنائية في الشرطة العسكرية، والمباشرة بإجراء التحقيقات الميدانية الفورية“.

نتيجة التحقيقات الأولية، ادّعى القاضي فادي عقيقي على ثلاثة أشخاص (وهم جورج ابراهيم، علي صبحي فريج، جرجي الياس ابراهيم) بالتسبّب بانفجار خزان الوقود في بلدة التليل في عكار، الذي أدّى إلى مقتل عدد من العسكريين والمدنيين وإصابة العشرات وإحالتهم جميعاً على قاضي التحقيق العسكري الأول بالوكالة القاضي فادي صوان، طالباً استجوابهم وإصدار مذكرات توقيف وجاهية بحقهم.

وعليه، نسعى هنا إلى الإجابة على العديد من الأسئلة:

 

1- ما هي الجرائم التي ادعى بها مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية؟

ادّعى مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية بالجرائم الآتية: 

 

  جريمة إضرام نار تسببت بالقتل 

فور وقوع الجريمة، انتشرت فرضيات عديدة حول سبب اندلاع الحريق، عما إذا كان عملا مفتعلا أو لا، في حين أن شهوداً عدة تداولوا معلومات حول وجود حريق مُفتعل. وفق بعض الفرضيات، نشأ خلاف بين أهالي المنطقة على أفضلية تعبئة البنزين، رمى جرّاءه أحد المواطنين سيجارته المشتعلة أو أشعل قدّاحته مما تسبّب في اندلاع الحريق. أما الفرضية الثانية، فتتحدّث عن قيام شخص مقرب من صاحب الأرض إبراهيم بإطلاق النار على الخزان عندما رأى الناس يأخذون البنزين ما أدى إلى انفجاره. 

لم يتسنّ لنا الاطلاع على التحقيقات الأولية. لكن يلحظ أن عقيقي عمد على الادّعاء على شخص (هو جرجي الياس ابراهيم وهو نسيب صاحب الأرض جورج ابراهيم)، على خلفية “إقدامه على إشعال الحريق”، بالاستناد إلى المادة 591 معطوفة على المادة 587 من قانون العقوبات.

المادة 587: 

“من أضرم النار قصداً في أبنية أو مصانع أو ورش، أو مخازن، أو أيّ عمارات آهلة أو غير آهلة واقعة في مدينة أو قرية، … عوقب بالأشغال الشاقة المؤقتة مدة لا تقل عن سبع سنوات.” 

المادة 591: 

“… يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة إذا توقّع مضرم النار وفاة إنسان أو إصابته بعاهة دائمة فقبل بالمخاطرة.”

بمعنى أنّ عقيقي عزا إلى المتّهم جرجي إبراهيم تعمّده إشعال حريق، وتوقّعه وفاة أشخاص من جراء ذلك فقبل بالمخاطرة، علما أن العقوبة القصوى تصل في هذه الحالة إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.   

 

        جريمة القتل القصد بفعل التخزين غير الآمن

الجريمة الثانية هي جريمة القتل القصد الحاصلة تبعا لتخزين مواد ملتهبة بشكل غير آمن، أي المحروقات، وهي مادة خطرة سريعة الاشتعال، على نحو شكل قبولا بمجازفة اشتعالها وتعريض حياة مواطنِين للخطر، تماما كما حصل في قضية تفجير المرفأ.

فقد ادّعى القاضي عقيقي على كل من الموقوفين جورج إبراهيم وعلي صبحي فرج متهماً إياهما “بتخزين مواد ملتهبة بشكل غير آمن، رغم علمِهما بخطورة فعلهما، وتوقع النتيجة وتعريض حياة المواطنين للخطر والتسبب بقتل 31 عسكريا ومدنيا”. وإذ ادعى عقيقي على الأول بالقتل قصدا سندا للمادة 547 معطوفة على المادة 189، فإنه ادعى على الشخص الثاني بمحاولة القتل قصدا، على اعتبار أنه كان موقوفا لدى المحكمة العسكرية عند حصول التفجير على خلفية رشوة عناصر أمنية وتهريب المحروقات. وقد ذهب القاضي عقيقي في هذه القضية في نفس الاتجاه الذي ذهب إليه المحقق العدلي في قضية تفجير المرفأ طارق بيطار، لجهة اعتبار التخزين الحاصل في هذه الظروف مخاطرة واعية من قبل القائمين به من شأنها تهديد حياة الناس. 

تنص المادة 547 على أنه “من قتل إنساناً قصداً عوقب بالأشغال الشاقة من خمس عشرة سنة إلى عشرين سنة”. أما المادة 189 فهي “تعد الجريمة مقصودة وإن تجاوزت النتيجة الجرمية الناشئة عن الفعل أو عدم الفعل قصد الفاعل إذا كان قد توقع حصولها فقبل بالمخاطرة.”

 

2- ما هي الجرائم الأخرى التي لم يتم الادعاء فيها؟ 

بالإضافة إلى ما تقدم، ثمة شبهة على جرائم أخرى ما تزال خارج أي ملاحقة، سواء لأن مفوض الحكومة أهمل التحقيق أو الادعاء بها أو لأنها لا تدخل أصلا في صلاحية المحكمة العسكرية. أهم هذه الجرائم الآتية:

  

        شبهة اشتراك عناصر الجيش في التسبب في التفجير

من البيّن أن التفجير حصل بعد قيام الجيش بمداهمة أماكن تخزين البنزين ومصادرته، وما كان على الأرجح ليحصل لولا دعوة الناس أو تداعِيهم للتجمع حول هذه الأماكن بهدف توزيع كميات من البنزين المصادر عليها. وما يزيد من شبهة تسبّب تصرفات الجيش بالحريق هو أن توزيع المحروقات تمّ بصورة عشوائية، ومن دون اتخاذ أي تدابير لضمان أمنهم أو الحؤول دون وقوع حوادث محتملة مشابهة.    

إلا أنه رغم ذلك، لم يتضمّن الادّعاء أيّة إشارة إلى دور عناصر الجيش المتواجدين في المكان في التفجير، بل تم حجبها بالكامل.  

 

        شبهة الاحتكار

يستشف من التخزين وجود نية احتكارية تهدف لإخفاء مادة البنزين بهدف بيعِه لاحقاً في السّوق السوداء بأسعار مضاعفة وفق ما تنص عليه المادة 14 من المرسوم الاشتراعي رقم 73 تاريخ 9/9/1983. وتصل العقوبة في هذه الحالة إلى ثلاثة أشهر حبس.  يضاف إلى ذلك المادة 685 من قانون العقوبات الصادر في 1943 التي تعاقب من أقدم على أيّ عمل من شأنه إفساد قاعدة العرض والطلب بعقوبة حدّها الأقصى سنتيْ حبس.

 

      شبهة تأليف جمعية الأشرار

من البيّن أن الأفعال المذكورة تؤدي عملياً إلى تكوين عصابة تهدف إلى النّيل من سلطة الدولة أو هيبتها أو التعرّض لمؤسساتها المالية، بما يشكّل شبهة ارتكاب جناية المادة 335 من قانون العقوبات التي تنطبق على تأليف جمعية أو إجراء اتّفاق خطّي أو شفهي بقصد ارتكاب الجنايات على الناس أو الأموال أو النيل من سلطة الدولة أو هيبتها أو التعرّض لمؤسّساتها المدنية أو العسكرية أو المالية أو الاقتصادية. ويخضع هذا الجرم لعقوبة الأشغال الشاقة المؤقتة. وهذا يتحصّل من أثر الاحتكار المدمّر على مجمل السياسات العامة المالية والاقتصادية المعتمدة في ظلّ انهيار العملة اللبنانية والمتمثلة بالدعم، 

 

    شبهة الاختلاس:

نستشفّ شبهة الاختلاس من المادة 363 من قانون العقوبات التي تنطبق على كلّ من ارتبط بعقد تموين مع مؤسّسة عامّة فلجأ إلى ضروب المماطلة المقصودة أو الحيلة لعرقلة التنفيذ أو إطالة المدة جرّا لنفع له أو لغيره. ويخضع هذا الجرم لعقوبة تصل إلى 3 سنوات حبس. وفي حين أنه من المرجح أنّ المسؤولين عن التخزين في هذه القضية لم يرتبطوا مباشرة بعقود تموين مع مؤسسة عامة، فمن المرجّح جدّا بالمقابل أنّهم ارتبطوا مباشرة أو غير مباشرة مع مستوردين ارتبطوا مع مصرف لبنان بعقود تموين تمكّنوا من خلالها من استيراد المحروقات بدولارات مدعومة. وهذا الأمر يحتم تاليا على النيابة العامة المختصة عدم الاكتفاء بملاحقة المسؤولين عن التخزين ولكن التحري عن الجهة التي استلموا منها المحروقات ومدى تورطها في عملية التخزين والاحتكار أو التهريب،  

  

      شبهة الإثراء غير المشروع:

نستشفّ شبهة الإثراء غير المشروع من القانون رقم 189 الصادر في 16/10/2020 والذي نصّت المادة 10 منه  أنّه “كل زيادة كبيرة تحصل في لبنان والخارج بعد تولي الوظيفة العمومية على الذمّة الماليّة لأي موظف عمومي … متى كانت هذه الزيادة لا يمكن تبريرها بصورة معقولة نسبةً لموارده المشروعة”. وتتوفر شروط هذه المادة باجتماع عنصرين أساسيين: (1) تولي المستوردين والموزعين المستفيدين من الدعم “خدمة عامة” تتمثل في توزيع المواد المدعومة مما يجعلهم بحكم الموظّفين العموميين على ضوء تعريف هؤلاء في متن هذا القانون ولحاجاته، و(2) حصول زيادة في الثروة لا يمكن تبريرها من خلال إخفاء مواد الدّعم والاستيلاء عليها بما يؤدي إلى مضاعفة الثروة بنفس نسبة الفارق بين ثمن المادة المدعومة وقيمتها الحقيقية والتي تكاد تصل إلى 13 ضعفا (أقله في فضايا المحروقات). ويخضع هذا الجرم لعقوبة تصل إلى 7 سنوات. وفي حين أنه من المرجح أنّ المسؤولين عن التخزين في هذه القضية لم يتولوا مباشرة خدمة عامة، فمن المرجّح جدّا بالمقابل أنّهم ارتبطوا مباشرة أو غير مباشرة مع مستوردين استفادوا من استيراد المحروقات بدولارات مدعومة بشرط قيامهم بتوزيعها على المستهلكين. وهذا الأمر يحتم تاليا على النيابة العامة المختصة عدم الاكتفاء بملاحقة المسؤولين عن التخزين وإما أيضا التحري عن الجهة التي استلموا منها المحروقات ومدى استفادتها من عملية التخزين والاحتكار أو التهريب،  

 

 

  • شبهة التهرّب الضريبي 

وهي شبهة ارتكاب الجرم الذي عرّفه المرسوم الاشتراعي رقم 156/1983 على أنه أيّ تملّص أو محاولة تملّص أو مساعدة على التملّص من دفع أيّ ضريبة وهو يعاقب بالسّجن من ستة أشهر إلى سنة. وهذا الجرم يحتّمه إخفاء المواد المدعومة وعمليات شرائها أو بيعها والأرباح المحققة منها.  

 

      شبهة تبييض الأموال

وهي شبهة جرم تبييض الأموال سندا للمادتين الأولى والثانية من قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 44 الصادر عام 2015. يلحظ أن هذا القانون يُعرّف الأموال غير المشروعة بأنها أي أموال تنتج عن ارتكاب أو محاولة ارتكاب جريمة معاقباً عليها ومنها المشاركة في جمعيات غير مشروعة بقصد ارتكاب الجنايات والجنح والاختلاس والتهرّب الضريبي. كما أنه يُعرّف تبييض الأموال بأنه “إخفاء للمصدر الحقيقي للأموال غير المشروعة أو إعطاء تبرير كاذب لهذا المصدر، بأي وسيلة كانت”. ويُعاقب تبييض الأموال بعقوبة تصل إلى 7 سنوات حبس. 

 

3- أي محكمة تعدّ مختصّة بالتحقيق في جريمة انفجار التليل؟

تنص المادة 24 من قانون القضاء العسكري على أنّ المحكمة العسكرية تختص بالنظر في “الجرائم الواقعة على شخص أحد العسكريين”. وبالنظر إلى مقتل وإصابة العديد من العسكريين، انعقدتْ صلاحية القضاء العسكري في النظر في الجرائم التي أدت إلى التفجير، سواء كانت قصدية أو غير قصدية، ومنها الجرائم التي ادعى بها مفوض الحكومة القاضي عقيقي. 

ولكن ماذا بشأن الجرائم الأخرى التي لم يتمّ الادعاء بها؟ 

فيما عدا شبهة تسبب عناصر من الجيش في التفجير بفعل الإهمال في اتخاذ تدابير حمائية للحؤول دون حصول حادث متوقع، تدخل مجمل الجرائم الأخرى في صلاحية القضاء العدلي. وهذا ما يتأتّى عن المادة 28 من قانون القضاء العسكري التي تميّز عند وجود جنايات عدة بين الجنايات المتلازمة مع الجناية التي تدخل في صلاحية المحكمة العسكرية والجنايات أو الجنح التي ليست متلازمة معها، بحيث تشمل صلاحية محكمة الجنايات الفئة الأولى من الجرائم فيما تبقى الفئة الثانية منها خاضعة للقضاء العدلي.

وعليه، في هذه الحالة، على مفوض الحكومة عقيقي أن ينظم محضرا على حدة وأن يرسله للنيابة العامة التمييزية لمباشرة الادعاء في هذا الخصوص. ويكون للنيابة العامة التمييزية أو انيابة العامة في شمال لبنان أن تتخذ خطوة مماثلة.   

هذا بخصوص القواعد العامة للصلاحية. ولكن هل يمكن للحكومة أن تُحيل جريمة التفجير إلى المجلس العدلي بموجب مرسوم يصدر عنها (م. 355 من قانون أصول المحاكمات الجزائية) كما فعلتْ بخصوص تفجير المرفأ؟ يبدو هذا الأمر مستعصيا طالما أن من شروط هذه الإحالة أن تكون إحدى الجرائم المشتبه ارتكابها من الجرائم المنصوص عليها في المواد 270 وما يليها حتى المادة 336 ضمناً في قانون العقوبات”. وقد يكون جرم تكوين جمعية الأشرار في ظلّ ما توصّلت إليه التحقيقات حاليا، الجرم الوحيد الذي يسمح بذلك.    

 

4- ما هي أبرز المشاكل التي قد يواجهها ضحايا الجريمة أمام المحكمة العسكرية؟

كما سبق بيانه، باشر حالياً قاضي التحقيق العسكري الأول بالإنابة فادي صوان في التحقيق في ملف انفجار التليل، وينتظر أن يحيل المتهمين بموجب قراره الظني إلى المحكمة العسكرية الدائمة. وعليه، نسعى إلى تبيان أبرز المشاكل التي قد يواجهها ضحايا الجريمة أمام القضاء العسكري في مختلف مراحله.

أولاً، ليس لأي من الضحايا أن يتمثّل أو يتّخذ صفة الادّعاء الشخصي أمام القضاء العسكري، سواء في مرحلة التحقيق أو المحاكمة. وعليه، لا يكون لأي من هؤلاء حق الاطلاع على التحقيقات أو المشاركة فيها ولا حتى المشاركة في المحاكمة. 

ثانيا، أن الحق بالتعويض الذي بإمكان الضحايا المطالبة به أمام القضاء المدني، يبقى معلّقا على مآل القضية أمام المحكمة العسكرية والمسؤوليات التي قد تتقرّر فيها. وهذا الأمر يشكل خرقاً لمبدأ قانوني رئيسي يقضي بعدم جواز إلزام شخص بنتائج حكم قضائي لم يكن فريقاً في المحاكمة التي أنتجته. وهو ينسف القاعدة الجوهرية القائلة بوجاهية المحاكمة، أي بحقّ كلّ طرف بمواجهة الخصم بحججه، والمكرّسة مثلاً في المادة 14-3 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

ثالثا، أنّ تنظيم المحكمة العسكرية يشكل بحدّ ذاته خرقا لمبدأ “القاضي الطبيعي”. ففي حين بالإمكان إنشاء محكمة عسكرية للنظر في القضايا العسكرية، يشكل توسيع صلاحية هذه المحكمة لتشمل مجمل الجرائم المرتكبة ضد العسكريين إخلالا بمبدأ القاضي الطبيعي طالما أنه يؤدي إلى التمييز من حيث صلاحية المحاكمة بين الجرائم من دون أي معيار موضوعي. 

رابعا، أن اختصاص المحكمة العسكرية في هذه القضية يؤدي إلى إعطاء امتياز للقوى العسكرية الممثلة بشكل خاص في قضاة الحكم والضابطة العدلية. وقد يكون انعكس هذا الامتياز في إهمال التحقيق في مسؤوليات الجيش في التفجير. ومن المهم التذكير هنا أن المحكمة العسكرية الدائمة الناظرة في الجنايات، يرأسها ضابط وتضم إليه أربعة أعضاء منهم ثلاثة ضباط. 

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، أجهزة أمنية ، محاكم عسكرية ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني