المجلس الأعلى للقضاء ينشر قراراته التأديبية للعموم: حدثٌ هامّ على صعيد الشفافيّة القضائية في المنطقة العربية ولكن …


2024-02-09    |   

المجلس الأعلى للقضاء ينشر قراراته التأديبية للعموم: حدثٌ هامّ على صعيد الشفافيّة القضائية في المنطقة العربية ولكن …

في سابقة تعد الأولى من نوعها، شرع المجلس الأعلى للسلطة القضائية بالمغرب في نشر قراراته في المادة التأديبية في موقعه الرسمي المتاح للعموم، وذلك بعد سنتين من نشرها في فضاء خاص بالقضاة.

المبادرة تأتي استجابة لمطالب نادي قضاة المغرب وعدد من الحقوقيين والتي تستهدف تخليق منظومة العدالة ودعم قيمة الشفافية في الوسط القضائي وإحاطة القضاة علما بالتوجهات السلوكية للمجلس الأعلى للسلطة القضائية.

كرونولوجيا نشر القرارات التأديبية المتخذة في حق القضاة

أثناء مناقشة مشاريع قوانين السلطة القضائية، طالب نادي قضاة المغرب في مذكرته بضرورة نشر جميع نتائج أشغال المجلس الأعلى للسلطة القضائية بغرض إطلاع القضاة والرأي العام عليها باستعمال كل الوسائل الممكنة، بما في ذلك النشر في الجريدة الرسمية. كما طالب بنشر المقررات التأديبية الصادرة عن المجلس للعموم، من منطلق أن الأمر يتعلق بشأن مجتمعي ومن حق المجتمع أن يكون على علم بوجود آليات المساءلة داخل الجسم القضائي، كتجسيد لربط المسؤولية بالمساءلة.  من جهته، طالب النسيج المدني للدفاع عن استقلال السلطة القضائية، بنشر القرارات التأديبية المتّخذة في حق القضاة بعد استنفاد طرق الطعن وصيرورتها نهائية. وأوصى ميثاق إصلاح منظومة العدالة في إطار الهدف الرئيسي الثاني المتعلق بتخليق منظومة العدالة بنشر جميع الأحكام والقرارات المتعلقة بالعقوبات التأديبية المتّخذة ضدّ المنتسبين إلى مهن منظومة العدالة[1]. وفي هذا السياق، عملت وزارة العدل خلال سنة 2014، وفي سابقة تعدّ الأولى من نوعها على نشر أسماء القضاة المتخذة في حقهم عقوبات العزل أو الإحالة على التقاعد[2]. وهو ما خلف ردود أفعال متباينة، حيث اعتبر رئيس نادي قضاة المغرب حينئذ ياسين مخلي، أن هذه المبادرة ستسهم في نشر ثقافة الشفافية والتأسيس لدولة الحق والقانون وستساعد على وضع قواعد السلوك المرجعية والمعيارية لأعضاء السلطة القضائية، إلا أنه أبدى تحفظه على مستوى آليات التنزيل، معتبرا أنّ “نشر النتائج  في الموقع الرسمي لوزارة العدل، عوض موقع رسمي للمجلس الأعلى للقضاء أو على الأقل صفحة خاصة به، هي إشارة سلبية على عدم استيعاب البعض للمحطة الانتقالية في سبيل تنزيل المقتضيات الدستورية المتعلقة بالباب السابع المنظم للسلطة القضائية”.

في المقابل اعترضت الودادية الحسنية للقضاة على هذه المبادرة لغياب السند القانوني، على اعتبار توصيات الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة، لا يمكن أن ترقى إلى درجة قانون، حتى وإن كانت تستهدف التخليق ومحاربة الفساد، كما أن نشر أسماء القضاة المعزولين يعتبر بمثابة “عقوبة جديدة أضيفت إلى العقوبات التأديبية الواردة بالنظام الأساسي للقضاء المطبق حاليا”، و”عقوبة تتعدى القاضي المعني بالأمر لتمس بأسرته وذويه”، ولأن “استرجاع الثقة في أشغال المجلس الأعلى للقضاء لا يكون بتخويف القضاة أو التشهير بالفاسدين”، خاصة وأن النشر “لن يزيد إلا في اضمحلال بنية الثقة وفي شيوع خطاب التعميم”.

الإطار القانوني لنشر قرارات المجلس في المادة التأديبية

قبل دخول قوانين السلطة القضائية حيز التنفيذ بالمغرب، لم يكن هناك أيّ نص يلزم المجلس الأعلى للقضاء بنشر قراراته في المادة التأديبية. كما أن هذه القرارات بذاتها لم تكن معللة ولم تكن قابلة للطعن، وهو ما حال دون وجود اجتهاد قضائي في المادة التأديبية للقضاة زهاء 50 سنة من إحداث المجلس الأعلى للقضاء.

بعد الإصلاحات القضائية التي عرفها المغرب، تمّ إقرار الحقّ في الطعن في المقررات التأديبية مما أوجب ضرورة أن تكون معللة[3]، كما نصت المادة 60 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية على أن المجلس ينشر “النتائج النهائية لأشغال كل دورة وفق الكيفية المحددة في نظامه الداخلي”، وأضافت نفس المادة أنه: “لا تنشر أسماء القضاة المعنيين بالعقوبات من الدرجتين الأولى والثانية المنصوص عليها في القانون التنظيمي المتعلق بالنظام الأساسي للقضاة”، وأكدت المادة 17 من النظام الداخلي للمجلس على أنه: “يتم نشر جميع مقررات المجلس بموقعه الإلكتروني أو أي وسيلة يعتبرها ملامة لهذا الغرض”.

ويتضح من هذه المقتضيات أن الإطار القانوني المنظم لنشر القرارات التأديبية التي يصدرها المجلس الأعلى للسلطة القضائية يتحدد في المادة 60 من قانون المجلس والتي تنص على نشر النتائج النهائية لأشغال كل دورة، إذ لم يستثن من نطاق النشر سوى أسماء القضاة المتخذة في حقهم العقوبات من الدرجتين الأولى والثانية[4].

نشر المقررات التأديبية للقضاة من فضاء خاص الى العموم

في سنة 2022 شرع المجلس الأعلى للسلطة القضائية في نشر القرارات التأديبية المتخذة في حق القضاة في فضاء خاص بالقضاة بموقعه الرسمي، يتم الدخول عليه بعد إدخال بيانات شخصية بكل قاض تتعلق برقم هاتفه ورقم تأجيره وكلمة مرور، ولم يكن بالإمكان نسخ مضامين هذه القرارات أو إعادة تحميلها.

خلال ديسمبر 2023 أتاح المجلس الأعلى للسلطة القضائية ولأول مرة إمكانية إطلاع العموم على القرارات التأديبية المتخذة في حق القضاة، وذلك في إطار جهوده المتعلقة بالتخليق.

وقد خلقت هذه المبادرة بدورها ردود أفعال متباينة، فمن جهته رحب رئيس نادي قضاة المغرب عبد الرزاق الجباري، بقرار نشر المقررات التأديبية وإتاحة الاطلاع عليها للعموم، والتي تأتي استجابة لمطالب عبّر عنها نادي القضاة في العديد من المحطات من أجل تعزيز شفافية عمل هذه المؤسسة الدستورية. وأشار الجباري إلى أن نشر المقررات التأديبية الصادرة حصل لأول مرة في بداية شهر يناير 2022، وتم في الفضاء الخاص بالقضاة فقط، ولم يشمل النشر حينها سوى 27 مقررا، ثم انقطع النشر حوالي سنتين، وأوضح بأن “النشر الأخير تم دفعة واحدة للعموم على خلاف ما كان عليه الأمر سابقا”.

في المقابل قوبل قرار المجلس بنشر قراراته التأديبية للعموم بعدة انتقادات من طرف قضاة من جمعيات مهنية أخرى حيث اعتبروا أن عملية النشر للعموم أساءت للمهنيين وللمؤسسة القضائية، وعرضت القضاة لحملات تشهير.

ملاحظات حول طريقة نشر المقررات التأديبية المتخذة في حق القضاة

يلاحظ أن عدد القرارات التأديبية المنشورة في الموقع الرسمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية تضم 88 قرارا، صدرت خلال الفترة ما بين 2021 و2023؛

تم نشر القرارات التأديبية الكاملة حيث تضمنت المبدأ القانوني، سبب الإحالة، الوقائع، والحيثيات، والقرار المتخذ، لكن من دون نشر أسماء القضاة المعنيين بها، أو مكان عملهم، حتى وإن تعلق الأمر بقرارات بالعزل، وهو ما يعني تراجعا عن المبادرة التي اتخذتها وزارة العدل سنة 2014 حينما نشرت أسماء القضاة المعزولين.

يلاحظ أن المجلس لم ينشر جميع القرارات التأديبية الصادرة خلال الفترة ما بين 2021 و2023، وفي هذا الصدد أكد رئيس نادي قضاة المغرب عبد الرزاق الجباري أن عملية النشر ورغم أهميتها إلا أنها لم تشمل كل المقررات التأديبية، وإنما تم انتقاء بعضها دون الآخر، وهو ما من شأنه أن يفتح الباب أمام بعض التأويلات” حول طريقة انتقاء القرارات المنشورة، كما يلاحظ أن هذه المبادرة لم تشمل القرارات التأديبية الصادرة منذ تنصيب المجلس الأعلى للسلطة القضائية خلال الفترة ما بين 2017 و2020، وهي الفترة التي عرفت دخول قوانين السلطة القضائية حيز التنفيذ وما استوجبته من ضرورة تعليل المقررات التأديبية لكونها قابلة للطعن؛

على مستوى طبيعة القرارات المنشورة، يلاحظ أن عددا منها لم تصبح نهائية، إذ ما تزال بعضها تنتظر البت في الطعون المقدمة بشأنها أمام الغرفة الإدارية بمحكمة النقض؛

وتجدر الإشارة الى أن عددا من التجارب القضائية المقارنة تكرس نشر القرارات التأديبية المتخذة في حق القضاة بشكل دوري للعموم إما من خلال نشر مبادئ هذه القرارات، أو نشر القرارات كاملة مع وقائعها وحيثياتها، وفي هذا الصدد تنـص الفقـرة 29 مـن إعلان Singhvi  على أن الأحكام الصـادرة فـي القضايـا التأديبيــة تُنشــر بغــض النظــر عــن ســرية أو علنيــة المحاكمــة التأديبيــة، بل ويلاحظ في عدد من الأنظمة الأوروبية أن الأصل في المحاكمات التأديبية أصبح هو خضوعها لمبدأ العلنية[5].

مواضيع ذات صلة

المجلس الأعلى للسلطة القضائية

بدء نشر الأحكام التأديبية بحق القضاة في المغرب

حين اختارت هيئة القضاء العدلي نشر نشاطها التأديبي في تونس

المسطرة التأديبية للقضاة بالمغرب في ضوء التعديلات الجديدة لسنة 2023

نادي قضاة المغرب يحذر من المسّ بـ “الأمن المهني للقضاة

نادي قضاة المغرب يناقش وضع القيم القضائية على ضوء المستجدات التشريعية

نادي قضاة المغرب يجابه القرارات التأديبية بوقف الأجر: فلنبحث عن آليات تأمين ضد “العنف التأديبي

المجلس الأعلى للقضاء: حديث الثلث الأخير من الولاية الأولى

محاسبة القضاة الإداريين: الهرمية والإنتقائية على أنقاض المساءلة والاستقلال

فقه تأديب القضاة في المرحلة الإنتقالية

القضاة المعفيون يكسبون معركة قضائية هامة: الاعفاء ليس اجراء تأديبيا ولهم الحق بممارسة المحاماة

تأديب القضاة” كامتدادٍ لنظام الإفلات من العقاب: أو حكم من دون محاكمة ضدّ قاضية تجرّأت

في ملحمة إسقاط قاضية مناضلة

هكذا رفس وزير العدل مبادئ استقلال القضاء

ملاحظات وزارة العدل بشأن استقلالية القضاء العدلي: هيمنة “السياسي” والهرمية من دون مواربة

قرار تاريخي لمجلس تأديب القضاة الفلسطيني ينتصر لحق القضاة في التعبير

مجلس تأديب القضاة الفلسطيني يكرس حريتهم في التشكي والنقد

حتى لا يقال أن القضاة صمتوا صمت القبور: ملاحقة تأديبية لقاضٍ تكشف عيوب النظام القضائي الأردني


[1] التوصية رقم 54 من ميثاق اصلاح منظومة العدالة.

[2] يتعلق الأمر بنتائج أشغال المجلس الأعلى للقضاء لدورة 2013.

[3] تنص المادة 101 من القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية على أنه: “تطبيقا لأحكام الفصل 114 من الدستور، تكون المقررات المتعلقة بالوضعيات الفردية، الصادرة عن المجلس قابلة للطعن بسبب الشطط في استعمال السلطة أمام الغرفة الإدارية بمحكمة النقض.

تقدم الطعون في المقررات المتعلقة الفردية الصادرة عن المجلس خلال أجل ثلاثين (30) يوما من تاريخ تبليغها إلى المعني بالأمر.

لا يوقف الطعن المذكور تنفيذ المقررات المتعلقة بالوضعيات الفردية الصادرة عن المجلس ، غير أنه يمكن للغرفة الإدارية بمحكمة النقض أن تأمر بصورة استثنائية بوقف تنفيذ المقرر المطلوب إلغاؤه إذا التمس ذلك منها طالب الإلغاء صراحة”.

[4] بحسب المادة 99 من النظام الأساسي للقضاة يقصد بالعقوبات من الدرجة الأولى: الإنذار؛ التوبيخ؛ التأخير عن الترقية من رتبة إلى رتبة أعلى لمدة لا تتجاوز سنتين (2)؛ الحذف من لائحة الأهلية لمدة لا تتجاوز سنتين (2). يمكن أن تكون عقوبات هذه الدرجة مصحوبة بالنقل التلقائي.

أما العقوبات من الدرجة الثانية فتتمثل في الإقصاء المؤقت عن العمل لمدة لا تتجاوز ستة (6) أشهر مع الحرمان من أي أجر باستثناء التعويضات العائلية؛ الإنزال بدرجة واحدة.

[5] لمزيد من التفاصيل، يراجع دليل المفكرة القانونية حول استقلال القضاء ص 103.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قرارات قضائية ، استقلال القضاء ، مقالات ، المغرب ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني