قضاء “المذكرات الإدارية” في تونس: “جمعية القضاة” تفضح نهج التغوّل على القضاء


2024-04-18    |   

قضاء “المذكرات الإدارية” في تونس: “جمعية القضاة” تفضح نهج التغوّل على القضاء

كشفت جمعية القضاة في بيان صدر عنها بتاريخ 16-04-2024 عن كون وزيرة العدل باتتْ تتحكّم بشكل كامل في المسارات المهنيّة للقضاة العدليّين بتعطيلها عمل المجلس المؤقت للقضاء العدليّ واستغلال ذلك لإعادة رسم المشهد القضائي[1] بقرارات نقل وعقوبات وترقيات قررتها وطالت 105 قاضيا. وكان يسبقها في حالات كثيرة حسب شهادات من المعنيين جلسات استجواب مهينة لهم – أي القضاة – في تفقدية وزارة العدل سئلوا فيها “حول اجتهاداتهم القضائية في نطاق الأحكام أو القرارات التي صدرت عنهم”.

وبيّنت الجمعية في بيانها أن مذكّرات النقل تلك “فضلا عما تسببت فيه من اضطراب كبير في سير العمل بالمحاكم، تأسست في غالبيتها على قاعدة الجزاء والعقاب واقترنت بنقلة المسؤولين السابقين إلى دوائر قضائية بعيدة عن مقرّات سكناهم وبالحطّ من رتبة العديد منهم في خرق واضح لمبدأ الأمان القانوني”. كما أدانت الجمعية مقرّرات الإيقاف عن العمل وما تمثّله من “نهج تسلّطي” لا علاقة له “بأيّ نهج إصلاحي للنهوض بأوضاع المحاكم وتحسين أداء مرفق العدالة وإنّما غايته إشاعة أجواء الخوف والرعب والترهيب وانعدام الأمان في الوسط القضائي بغاية مزيد إحكام القبضة على القضاء والتحكم فيه على حساب حقوق المتقاضين والمواطنين والمصلحة العليا للوطن”. وأوضحت الجمعية أنّ من انعكاسات ممارسات السلطة التنفيذية التي وثّقتها الإيغال في “استهداف الحقوق والحريات وفي مقدّمتها حرية التعبير والإعلام وتراجع الحماية القضائية لها باستعمال المرسوم عدد54 لسنة 2022 المؤرخ في 13 سبتمبر 2022 بصفة تعسفية ودون ضوابط”. وعليه، دعا البيان المجتمع التونسي للتنبّه لخطر تغوّل السلطة التنفيذية في موازاة حثّ القضاة على التمسك باستقلاليتهم.

ويبدو أن ما كشفت عنه جمعية القضاة من امتهان السلطة لضمانات استقلالية القضاء مهمّ في توقيته لكونه ورد في سياقات تتوالى فيها المحاكمات التي تطال ناشطين سياسيين ونقابيين وصحافيين في تونس، وهي سياقات تُثار فيها أسئلة متعددة حول نزاهة إجراءاتها وحيادية القضاة الذين يباشرون أبحاثها، علاوة على خلفياتها المتداولة المتمثلة في الحرمان من الحقّ في الترشّح للانتخابات الرئاسية.

ويهمّنا بالتالي في إطار تحليل هذا الموقف تبيان توصيفه للواقع القضائي توصّلا للبحث عما ينتظر من أثر له.

القضاء تحت خطّ الخوف والترهيب: الأرقام تؤكد..

حرصتْ الجمعية في بيانها على التذكير بإصدار وزارة العدل نهاية صائفة 2023 حركة قضائية تعتبر الأضخم في تاريخ القضاء العدلي شملت 1080 قاضيا أي ما يقارب 36% منهم. كما أشارت إلى تعمّد الحركة سحب الخطة الوظيفية التي تجيز عضوية المجلس المؤقت للقضاء العدلي لإثنين من ساميّ القضاة المباشرين، وهو أمر أدى بعد تقاعد أعضاء آخرين، إلى تعطيل عمل المؤسسة التي استحدثتها السلطة كبديل عن “المجلس المنتخب الضامن لمقومات استقلال القضاء”.  كما أشارت الجمعية إلى كيفية فرض وزارة العدل نفسها كسلطةٍ مباشرة على القضاء العدلي، من خلال اعتماد آليّتيْ الإيقاف عن العمل أو تحجيره والنقل لمصلحة العمل بموجب مذكّرات العمل.

تحجير العمل: “الخوف على الخبزة”

خلال الفترة الفاصلة بين  نهاية شهر أوت من سنة 2023 وشهر فيفري 2024، رصدنا إصدار وزيرة العدل قرارات في تحجير المباشرة ل 12 قاضيا خوّلت بعضهم مواصلة التمتع بأجرتهم فيما حجبت عن جانب منهم ذلك جزئيا أو كليا. وهذه المقررات الموصوفة بأنها مؤقتة ينتهي مفعولها ببتّ المجلس الأعلى للقضاء في المستندات الواقعيّة لها، أمست فعليا بحكم عطالة المجلس وغياب أي مؤشر على توجه الإرادة السياسية لتعيين أعضاء جدد به، إلى ما يشبه قرارات شبه دائمة.

مذكرات العمل: سياسة العقاب والجزاء

رصدتْ الجمعية إصدار الوزيرة ل 105 مذكرة عمل أدّت لنقلة قضاة جرّدت عددا منهم من الخطط الوظيفية وحطّت في درجة بعضهم كما أسندت لآخرين ترقيات وخططا وظيفية هامة. وبيّنت الجمعية أن المذكّرات مسّت بمراكز قضائية حسّاسة منها ما يتصل بإدارة المحاكم. ونذكر في ذات الإطار أن 55 من المذكرات أدّت لنقلة قضاة من مراكز عملهم الأصلية علما أن بعضها أدّى إلى الحطّ من درجاتهم علاوة على سحب خطط وظيفية بما يؤشر على صبغتها  العقابية. كما متّعت 50 مذكرة منها بالمقابل قضاة بخطط وظيفية وتدرج وظيفي ميّزهم على غيرهم ممن كانوا أكثر اقدمية منهم في العمل. كما نلاحظ أن هذه المذكرات اهتمّت في غالبها بالمسؤوليات الأولى بالمحاكم وقضاء التحقيق بما يؤشر على علاقة مفترضة لها بإدارة العدالة الجزائية.

كما أكدت الجمعية في بيانها أن السلطة السياسية فرضت لذاتها بفعل حركتها القضائية ومذكرات العمل و قرارات الإيقاف الصادرة عنها سلطة مباشرة على القضاة عمادها الخوف ونزع كل ضمانات الأمان الوظيفي عنهم وهو الواقع الذي يفرض السؤال عن القضاء في ظلّ هذا الواقع وصورته بعد تعريته.

السلطة تحكم القضاء.. أي دلالات؟

أصدرت جمعية القضاة التونسيين في تاريخ 02-03-2004 بيانا أدانت فيه توظيف نظام زين العابدين للقضاء في محاكمات سياسية. وكان نصّها من الوثائق المرجعية التي اعتمدت لاحقا لإقامة الدليل على ذلك. بعد الثورة، كانت ذات الجمعية أول من بادر للتشهير بسياسة التدخّل في القضاء من خلال استعمال دوائر قضائيّة محدّدة في إطار كانت قد اصطلحتْ على تسميّته بقضاء “الكولوارات”[2]  وكانت مواقفها مما فضح تلك الممارسات.

شرحت الجمعية في بيانها واقع القضاء فربطت بوضوح بين محاكمات الرأي وتلك التي تستعمل في مواجهة خصوم الرئيس وما يعتمد من وسائل ترهيب وترغيب للقضاة. وهو موقف يقرأ وربما سيكون في قادم الأيام أكبر أثرًا من أحكام لا تحترم أصول الإجراءات تصدر عن قضاة خائفين من المذكرات والتحاجير همهم حماية خبزة [3] طعمها ظالم.


[1]  كانت المفكرة اول من نبه لذلك وكشفه بسلسة مقالات نشرتها تحت عنوان تفكّك المجلس المؤقت للقضاء العدلي

[2]  مصطلح يستعمل في الوسط القضائي  للدلالة على دوائر حكمية تنشر امام قضاتها قضايا التعليمات .

[3] الخبزة مصطلح محلي تونسي يقصد به الوظيف او مورد الرزق

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني