“تأديب القضاة” كامتدادٍ لنظام الإفلات من العقاب: أو حكم من دون محاكمة ضدّ قاضية تجرّأت

،
2023-07-04    |   

“تأديب القضاة” كامتدادٍ لنظام الإفلات من العقاب: أو حكم من دون محاكمة ضدّ قاضية تجرّأت
رسم رائد شرف

أصدر المجلس التأديبي للقضاة في تاريخ 4/5/2023 قرارًا بصرف القاضية غادة عون من الخدمة. وإذ أتى هذا القرار بمثابة امتدادٍ لحملات التشهير والتنمّر والتحقير (وغالبها إعلانيّ مدفوع) ضدّها، يبقى أنّ قسوة العقوبة التي تضمّنها تثير اضطرابًا ضميريًا يصعب تجاوزه. فأيّ قرار صرف لقاضٍ (وهو أمر نادر الحصول) إنما يحدّد ضمنًا مواصفات القاضي النموذجي من منظور المجلس التأديبي والتي يشكّل فقدانها أو التخلّي عنها سببًا لتجريده من هذه الصفة. بمعنى أنّ السؤال عند صدور أيّ قرار صرف لقاضٍ يكون: ما هي هذه المواصفات والأهمّ ما هي المخالفات الجسيمة التي ارتكبها والتي يستشفّ من القرار أنّه فقدها؟ وما يثير هذا الاضطراب هو أنّ القاضية عون المشهود لها بنزاهتها المالية تميّزت على نحو ليس بإمكان أيّ مراقب جدّي إنكاره في إجراء تحقيقات في قضايا فساد كبرى وتجرّأت على كبار أصحاب النفوذ رغم كلّ العوائق والمصاعب التي اعترضتها. وقد تبدّى القرار من هذه الوجهة وكأنّه يستصغر مهمّة مكافحة الفساد في النظام القضائي اللبناني ومعها حجم العراقيل أمامها، ليستكبِر في المقابل أيّ خطأ قد يرتكبه القاضي في مسعاه لتجاوزها من دون أيّ تقدير لجهوده أو على الأقل منحه أيّ أسباب تخفيفية على خلفيتها. وما يزيد من حدّة هذا الاضطراب هو مقارنة قسْوة الحكم ضدّ القاضية عون مع استمرار أكثر القضاة انخراطًا في حماية كبار المشتبه بهم بالفساد في مراكزهم العليا من دون أيّ مساءلة. فهذه المقارنة إنما تؤكّد ما يمكن تصوّره في أيّ نظام قضائيّ يخلو من ضمانات الاستقلالية والنزاهة، وهو أن يستتبع تجرّؤ القاضي على أصحاب النفوذ آثارًا سلبية على مساره المهني قد تصل إلى حدّ الصرف فيما يشكّل تماهي القاضي مع هؤلاء ومجاملتهم عاملًا أساسيًا في ترقيته ورفع شأنه. 

وإذ عبّرت “المفكرة القانونية” منذ صدور القرار عن مخاوفها إزاء تلك الممارسات، فإن تمكّنها مؤخّرا من الاطّلاع عليه أكّد لديها هذه المخاوف. وقد تأكّد ذلك من هويّة الجهات التي حرّكت الملاحقة ضدّها ومن ثمّ الاتّهامات التي انبنتْ عليها إحالتها إلى المجلس التأديبي وأخيرًا من مضمون الحجج التي استند إليها القرار. وقبل المضيّ في تبيان ذلك، ننبّه إلى أن هذه الملاحظات لا تهدف إلى التّمحيص في المخالفات المنسوبة إلى القاضية عون واحدة واحدة، بل بالدرجة الأولى إلى تقييم أسناد المجلس التأديبي وأبعادها ومدى انسجامها مع الظروف الحاضرة، حيث تكاد المعركة الأولى للشعب اللبناني تكون خرق نظام الإفلات من العقاب الذي حوّله إلى شعب من الضحايا لنظام لم ولا يحاسب.  

1-الصحناوي ومكتّف وسلامة: ثلاثي في وجه قاضيّة تجرّأت عليهم 

أول ما نلحظه في هذا السياق هو صدور الشكاوى التي انبنتْ عليها الإحالة إلى المجلس التأديبي عن أصحاب المصارف والشبكات المحيطة بهم وصولًا إلى حاكم مصرف لبنان. ومجرّد استعراض أسماء الجهات الشاكية إنّما يشكّل مؤشّرًا على طبيعة الملاحقة وأهدافها، إذ يظهر أنّنا في معرض ملاحقة ضغطتْ  قوى نافذة لمباشرتِها وصولًا إلى معاقبة القاضية التي تجرّأت عليها.

وبصورة تفصيليّة يسجلّ الآتي: 

إنّ أوّل من افتتح الشكاوى هو السيّد أنطوان الصحناوي، حيث قدّم شكوى أولى في تاريخ 22/3/2021 وعاد وقدّم شكوى ثانية في 12/4/2021 بصفته ممثلًا عن بنك “سوسيتيه جنرال”.

وقد لحقت به شركة مكتّف ومديرها الراحل ميشال مكتّف اللذان قدّما ستّ شكاوى. وإذ تزامنت شكواه الأولى مع الشكوى الثانية للصحناوي، فإنّه عاد ليقدّم شكاوى خمس أخرى في الفترة الممتدة من 14/4/2021 حتى 2/6/2021.

أما حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فقد تقدّم بشكوى في تاريخ 26/1/2022 ضدّ القاضيّة عون، تبعًا لإصدارها قرارًا بمنع سفره.

كما تجدر الإشارة إلى أنّ تحقيقات هيئة التفتيش شملتْ إلى جانب التحقيق في هذه الشكاوى، التحقيق في ثلاث إحالات صدرتْ تباعًا من رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود في تاريخ 17/12/2019 وتاريخ 22/4/2021 وتاريخ 2/6/2021. يُضاف إلى ذلك إحالة من وزير العدل هنري الخوري في تاريخ 16/11/2021.

وقد أضيف إلى هذه الشكاوى التي حقّقت بها هيئة التفتيش القضائي وتمّت إحالة عون إلى المجلس التأديبي على أساسها، إحالة إضافيّة وردتْ من رئيس مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل في تاريخ 8/6/2022 و3 شكاوى أخرى قدّمت تباعًا في 21/11/2022 من قبل الرئيس نبيه بري وعقيلته السيّدة رندة والسيّد وليد جنبلاط والسيّدة ميريام سكاف وذلك على خلفيّة مشاركة القاضية عون تغريدة حول حسابات مصرفية للعديد من الشخصيات السياسية ومنها هؤلاء، مطالبة بتطبيق قانون رفع السرية المصرفية للتأكّد من صحّتها أو عدمه. وقد أحالتْ هيئة التفتيش إلى المجلس هذه الإحالة والشكاوى من دون التحقيق فيها انطلاقًا من أنّها تسهم في بلورة مدى مخالفة القاضية عون لموجب التحفظّ. 

وعليه نكون أمام 5 إحالات من رئيس مجلس القضاء الأعلى ووزير العدل، بالإضافة إلى 12 شكوى قدّمت ضدّ عون أمام هيئة التفتيش القضائي، كلّها من أشخاصٍ وجهاتٍ نافذة جدًّا. وإذا دقّقنا في مضمون الإحالات والشكاوى، أمكن تصنيفها على أساس موضوعها وفق الآتي، علمًا أنّ بعضها تضمّن أكثر من موضوع: 

  • 10 شكاوى أو إحالات اتصلت بتجاوز موجب التحفظّ، غالبها ناجم عن تغريدات للقاضية عون أو تواصل مع جمعيات ووسائل إعلام أو إلقاء خطاب (بمناسبة التحقيق في قضية شركة مكتف)، 
  • 9 شكاوى أو إحالات اتّصلت برفض القاضيّة عون إبلاغها طلبات الردّ المقدمة ضدّها أمام محكمة استئناف جبل لبنان،
  • 3 شكاوى أو إحالات اتصلّت بتدخّل القاضيّة عون مع قضاة زملاء لها بما يتصل بدعوى الردّ المقدمة ضدّها،
  • 3 شكاوى تتصلّ بقدحٍ وذمّ وتحقير وإثارة نعرات طائفيّة ومذهبيّة واختلاق جرائم وإساءة استعمال السلطة وإخلال بالواجبات الوظيفيّة وافتراء وتشهير ونشر أخبار كاذبة وهي الشكاوى المقدمة من الأطراف السياسية المشار إليهم أعلاه على خلفية تغريدة للقاضية عون تعليقا على خبر أعادتْ نشره حول امتلاك هؤلاء حسابات مصرفية في الخارج، من دون تأكيد صحته. 

2-مخالفات أم ردود أفعال على فنون الإفلات من العقاب؟ 

تبعًا للتحقيق في الشكاوى والإحالات، أحالت هيئة التفتيش القضائي القاضية عون إلى المجلس التأديبي على خلفية الإخلال الفادح بواجباتها الوظيفية والمساس بهيبة القضاء. وقد أسندت هذه الاتهامات على مخالفات صنّفتها ضمن ثلاث فئات: 

  • رفضها المتكرّر تبلّغ طلبات الردّ المقدّمة بوجهها أمام محكمة الاستئناف المختصّة،
  • تدخّلها مع زملائها في ملف عالق لديهم، متعلّق بها،
  • خرق موجبيْ التحفّظ والحياد مرارًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام أو مخاطبة الناس مباشرة.

ويلحظ تاليًا أنّه بمعزل عن تقييم أفعال القاضية عون ومدى انسجامها مع موجباتها القضائية، فإنّ الاتهام الأوّل كما الاتهام الثاني يتّصلان مباشرة بطلبات الردّ المتكرّرة والمتعدّدة الصادرة عن المصرفيّين المُشتكين والتي باتت نهجًا يعتمده دفاع عموم القوى النافذة بهدف تعطيل التحقيقات الجارية ضدّهم، تمامًا كما فعل دفاع الوزراء السابقين في قضيّة تفجير المرفأ. وهو النهج الذي أسميْناه “نهج استعداء القضاء” أي النهج الذي يقوم على اختلاق مخاصمة مع القضاة لسبب أو لآخر بهدف وقف تحقيقاتهم وعمليًا تعطيلهم عن العمل لآجال طويلة عملًا بقانون أصول المحاكمات المدنية. وقد وجد القضاة أنفسهم تبعًا لذلك أمام أمر من اثنين: إمّا التسليم بوقف التحقيقات وإمّا اجتراح اجتهادات تخوّلهم تجاوز التعطيل. وعليه، انتهى المحقّق العدلي بيطار إلى اعتماد اجتهاد الضرورة في 23 كانون الثاني 2023 ليعيد تحقيق المرفأ إلى مساره، فيما اختارت القاضية عون التذرّع بوجوب إبلاغ طلبات الردّ للخصوم قبل إبلاغها للنيابة العامّة، تجنّبًا للتعسّف في إطالة أمد التعطيل.   

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا النهج لم يتوقّف عند مُخاصمة القضاة تعسّفًا أمام المحاكم المختصة، إنّما شمل غالبًا شنّ حملات إعلامية منسّقة عليهم وصلتْ إلى مستويات قياسيّة من التنمّر والتحقير والتلفيق، كل ذلك بهدف تضليل الرأي العام بشأن القضايا التي ينظرون فيها وكسر عزيمتهم على العمل وثنيهم عن الاستمرار فيه وأحيانًا التحضير لإجراءات عزلهم أو تنحيتهم. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ القاضية عون كانت، إلى جانب المحقق العدلي طارق بيطار، من أكثر القضاة تعرّضًا لهذا النهج وضمنًا لهذه الحملات التعطيلية والتضليلية نظرًا لكونهما في طليعة القضاة الذين تجرأوا على ذوي النفوذ. 

وعليه، يستشفّ أنّ جميع التهم التي ساقتها هيئة التفتيش ضدّ القاضية عون اتّصلت بصورة مباشرة أو غير مباشرة بكيفيّة تعاملها مع الأساليب والوسائل التي استخدمت بشكل واسع وغير مسبوق بهدف تخويف القضاة وتعطيل عملهم، وضمنًا تخويفها وتعطيلها. ومن هذه الزاوية، وبمعزل عن خلفيّة هذه الاتهامات، فإنّها بدتْ بمثابة امتداد أو استكمال للأساليب التخويفية والتعطيلية بحقّ القاضية عون من خلال تفعيل الملاحقة التأديبية ضدّها.  

في المقابل، يلحظ أنّ الإحالة خلتْ تمامًا من أيّ مخالفة تتّصل بأجندات سياسيّة للقاضيّة عون كما من أي مخالفة ماليٍّة أو إداريٍّة بحقّ القاضيّة عون. وهذا ما قصدته عون بقولها بعد إبلاغها نسخة عن الحكم إنّها لم تفعل “شيئًا غلطًا”. وهذا يجيز لنا الانتقال إلى تقييم حيثيّات القرار وأبعاده.

3-حكم من دون محاكمة 

في هذا الصّدد، سنُحاول تقييم حيثيات القرار الصادر في حقّ القاضية عون. ولعلّ أوّل ما يلفت النظر هو أنّ المجلس التأديبي عمد حسبما نتبيّن من حيثيّاته، إلى محاكمة أقوال هذه الأخيرة وأفعالها، بشكل ينفصل تمامًا عن سياقها أو ظروف حصولها، رغم استثنائيّة هذا السياق وخطورته حسبما أوضحنا أعلاه. لا بل خلا الحكم من أيّ وصف لهذا السياق، وإنْ أورد لمامًا ونقلًا عن دفاع القاضية عون بعض الإشارات إليه، كأنْ يذكر “نقدها وإن كان عنيفًا” أو “منتقديها في وسائل الإعلام” أو “الانتقائية في ملاحقة القضاة وتفتيشهم” أو أيضًا “تمنّع السّلطات المختصّة عن التصدّي للاعتداءات على القضاة”. ونتيجة ذلك، تمّت محاكمة الأفعال والأقوال المنسوبة إلى القاضية عون من دون إيلاء أيّ اعتبار للظروف الاستثنائية التي لا يمكن تقييمها تقييمًا عادلًا في غيابها. وقد تمّ ذلك بفعل اعتماد المجلس التأديبي زواريب عدّة، بدأت بتحويل المحاكمة في جوانب منها إلى محاكمة نوايا أو إلى ما يشبه تصفية الحساب مع الهرمية القضائية، مرورًا بإجراء محاكمة على أساس معايير وقواعد مثاليّة مطلقة منفصلة تمامًا عن الواقع. 

محاكمة نوايا

أول ما يشدهنا في الحكم أنّه بدا أقرب إلى محاكمة للنوايا منه إلى محاكمة للأفعال والأقوال. وهذا ما نقرأه بشكل خاصّ في الحيثية الوحيدة التي ورد فيها ذكر لتعبير “السياق” حيث جاء حرفيًا: “صحيح أنّ الشرط اللازم لتحقيق الأمان القانوني، ورفعة القانون، وإخضاع الناس لسلطانه، أن يشعر القاضي بالحرّية، وأن يمارس حرّيته، إنّما هذا الأمر هو حقّ له وواجب عليه… وليس في سياق متّصل بما فعلته القاضية المحالة السيّدة غادة عون، الذي نُفّذ منها في سبيل الدعاية لنفسها، واستجلاب تأييد الرأي العام لها، واستعطاف الحشود المجتمعيّة، و”الردّ على ظالميها”، وشتم متولّي إدارة عملها، وذمّ القضاء والقضاة، الأمر النافي لأيّ هدف علمي منه، والجالب للشبهة عليها وعلى القضاء”. وقد اقترن افتراض ترويج القاضية عون لنفسها بافتراض آخر قوامه أنّها عملت على “تعظيم نفسها” من خلال الذمّ بالقضاء وسائر القضاة. وهذا ما يتحصّل من تصنيف تصرّفاتها ضمن محاولات “تفتيت المؤسسة القضائيّة، وإلغاء شرعيّة وجودها، وتفكيك روابطها” أو أيضا ضمن “عزم (ها) على أن ترسّخ في ذهنهم (أي الناس) القناعة بفساد الإدارة القضائية واعوجاج وزيف القضاء، مزهوّة بنفسها بأنّها مخوّلة تقييم عملهم، وتقديم الشهادة على مسلكهم”. المعنى نفسه نستشفّه من حيثيّة أخرى جاء فيها أنّها قلّلت من شأن القضاء “من أجل تنزيه عملها والتنويه به، مدّعيّة لذاتها دور الرقيب الصالح، الذي لا تُخفى عليه خافية التجاوزات في القضاء”. 

ويستشفّ من كلّ ذلك أنّ القرار انبنَى على اعتداد القاضية عون بنفسها على نحو يصوّرها على أنّها نهمة للشهرة واجتذاب المعجبين، بشكل يغلّب لديها الأهداف العبثية وينفي عنها أيّ أهداف نبيلة. وهذا ما يعلنه القرار بصورة واضحة في مواضع أخرى جاء فيها حرفيًا أنّه يتوجّب على القاضي “تجنّب جاذبيّة التواصل الاجتماعي الافتراضي، بما يخلقه حتمًا من وهم “الإعجابات” بتدويناته”، و”اجتناب مزالق هذا الانخراط (بوسائل التواصل الاجتماعي)، وعرضيّات الروابط الاجتماعيّة، وأضاليل العالم الافتراضي الواسع، وحلاوات الألسنة والكتابات المخادعة، وكلّها موجبات أصرّت القاضية المحالة السيّدة غادة عون على عدم التقيّد بها”.     

ويتحصّل من هذه الحيثيّات أنّ المجلس التأديبي تمكّن من تجنّب البحث في الصعوبات التي واجهتها القاضية عون على خلفية افتراض أنّ المشكلة ليست في هذه الصعوبات إنّما في عبثية نواياها، وهي نوايا أسهب المجلس في تعدادها وكأنّها مسلّمات لا تحتاج إلى أيّ إثبات ولا تحتمل أيّ منازعة جدّية.

تصوّر مثالي مُطلق لأخلاقيات القضاء

الأمر الثاني الذي يستوقفنا يتمثّل في المعايير والقواعد التي اعتمدها القرار في تقييم أقوال القاضية عون وأفعالها، والتي بدورها أخذت طابعًا مُجرّدًا ومُطلقًا ليس للظروف المُحيطة أيّ أثرٍ في تحديد ماهيّتها أو المسؤوليّات الناجمة عن مخالفتها. فكأنّما افترض القرار أنّ على القاضي (وفي هذه الحالة القاضية عون) أنْ يلتزم باحترام قواعد أخلاقيّة مطلقة من دون أن يترتّب على الصعوبات أو العوائق التي يصطدم بها أيّ أثر تبريريّ أو تخفيفيّ للخروج عنها. 

وهذا ما نستشفّه من القرار في معرض مناقشته “موجب التجرّد”، حيث جاء أنّ “اللجوء إلى وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضي بما تخلقه حتمًا من وهم الإعجابات بتدويناته أو إصدار البيانات الصحافية التي تنال حكمًا من خصوصية عمله، إنما يؤثّران على قدرته على وزن الأمور، فيختلّ ميزان العدالة في يده…”. وعليه، يكون المجلس قد اعتبر أنّ لجوء القاضيّة عون إلى إصدار بيانات وتغريدات، يخرجها بحدّ ذاته، أيًا كان مضمونها أو الغاية منها، من موجب التجرّد بحجّة أنّ هذا الأسلوب ينال حتمًا وحكمًا أي بصورة مطلقة من خصوصية عمل القاضي وتجرّده. 

في الاتجاه نفسه، ذهب المجلس في سياق مناقشة ما أثارتْه القاضية عون حول حقها في الدفاع عن النفس وقيم الحرية والشجاعة تبريرًا لتصريحاتها، حيث اعتبر أنّ استخدام المنصّات المفتوحة على عالم افتراضي واهم وواسع يتسبّب بمخاطر حتمية قوامها “إقصاء الحكمة لدى القاضي، واستتباع تهوّره، وغضبه وغليانه، وكل ما عدا ذلك من عواطف جارفة، … وبابًا لفقدان السيطرة على قوله وتصرّفه، وذلك على نقيض الهدوء الذي يجب أن يكون سمة كلّ قاضٍ ملتزم بقيم القضاء ومناقبه وأفضل الأسلحة القضائية نفاذًا وخير ضابط لمساره العملي بغية مواجهة المهام الجسام الملقاة على عاتقه”. وهذا ما عاد القرار ليؤكّده في مكان آخر بقوله إنّه “كان خير ردّ من القاضية عون على نقدها، وإن كان عنيفًا، المزيد من الاستقامة والأمانة والمناعة والشفافية فهي اختارت القضاء بخصوصيته وهيبته وكرامته وحتى بوجوه التضييق فيه، المنبثقة عن كونها معرّضة للمراقبة النقدية من الناس كحال كلّ القضاة، لذلك كان عليها تقبّل هذا التضييق مقابل سلطتها الواسعة ككلّ قاض … وألّا تتبرّم بالحالة التي هي فيها وأن تمتنع عن كلّ تصرّف وقول يحيد بها عن تجرّدها ويضعف الثقة بالمؤسسة القضائية بذريعة الدفاع عن نفسها”. وقد أكّد المجلس على تطبيق هذه القواعد بصورة مطلقة، نافيًا إمكانية تجاوزها في حال كان الهجوم عنيفًا أو في حال امتنعت السلطة المختصّة عن التصدّي لهذا الهجوم تاركة القاضي تحت رحمة كلّ ذي نفوذ. وليس أدلّ على تجاهل الواقع من تشبيه ما تعرّضت له بما يتعرّض له أيّ قاضٍ. إذ أنّ حجم التعرّض لها بلغ مستويات قياسية عالمية وأنّه بأية حال وحدهم القضاة الذين تجرّأوا مثلها على ذوي النفوذ (وهم قلّة) تعرّضوا لضغوط وذلك على عكس القضاة المنسجمين مع نظام الإفلات من العقاب وحماته والذين ينعمون بعلامات العزّ والثراء.   

وقد عكست هذه الحيثيات ليس فقط تجاهل المجلس الواقع بما يتّصل بتقييم أفعال القاضيّة عون، إنّما أيضًا تجاهله الواقع بما يتّصل بتقدير المخاطر النّاجمة عن الأساليب التخويفية والتعطيلية المستخدمة من الجهات التي اصطدمت القاضية عون بها، وعمليًا عن نهج استعداء كلّ قاض يتجرّأ داخل المحاكم أو خارجها، وصولًا إلى تعطيل عمله بسلسلة من دعاوى الردّ والمخاصمة. فبإمكان القاضي الذي يشهد تعطيل أعماله أن يعتصم طبعًا بالهدوء والتجرّد وفق نصيحة المجلس بحجة أنّ أخلاقيّاته تلزمه بذلك، لكن هل من شأن هذا الهدوء (والذي وصفه المجلس بأفضل الأسلحة القضائية) أن يغيّر شيئًا من عسف المدّعين أو من واقع تعطيل العدالة كما نشهده؟ أم على العكس ستنتهي الأمور هنا إلى اقتران التعطيل بصمت القضاء الذي تمّ تعطيله، فيسلم جدار الإفلات من العقاب حتى من الصوت؟ فكأنّما المجلس التأديبي اختار أن يتجاهل هذا الواقع من أجل تبرير استمراره في اجترار الأخلاقيات المطلقة والمجرّدة نفسها. ومؤدّى ذلك هو فرض نموذج القاضي المنكفئ أو المتقّي (تحت غطاء المثالية) مهما كانت نتيجة ذلك على نظام العدالة، مقابل تقويض نموذج القاضي المناضل أو القاضي الذي يكافح من أجل تحقيق العدالة رافضًا واقع اللاعدالة والإفلات المعمّم من العقاب. 

وتتبدّى وجهة المجلس التّأديبي بوضوح كلّي في حيثيّة أخرى ذهب فيها إلى حدّ إدانة عون ليس فقط على خلفيّة أقوالها أو أفعالها بل أيضًا على خلفيّة “تشجيع الأدنى رتبة منها في سلّم السلك القضائي على انتهاج نهجها”. بذلك، تبدّى أنّ المجلس التأديبي لا يستهدف فقط تأديب القاضية عون، إنّما نموذج القاضي الذي قد يحتكم إلى الرأي العام ضدّ حالات اللاعدالة. وقد جاءتْ عقوبة الصّرف من الخدمة بمثابة إعلانٍ مدوٍّ عن هذا التوجّه، بحيث أنّ الخروج عن النموذج الرسمي لا يستتبع عقوبة لوم أو تنبيه أو إسقاط درجة أو أكثر، بل هو يستوجب تجريد القاضي المعنيّ من صفة القاضي أي الطرد. ومن هذه الوجهة، بدا الحكم أيضًا بمثابة امتداد لنظام الإفلات من العقاب، طالما أنّ مؤدّاه ضمان تسليم القضاة به بهدوء ومن دون تذمّر أو تبرّم أو احتجاج حفظًا لخصوصيّة العمل القضائي والتجرّد. وما يزيد من قابلية هذا الحكم للنقد هو تزامنه مع اشتداد شراسة السلطة السياسية في اقتحام المجال القضائي وتصميمها على التقدّم إلى الأمام في اتجاه بسط هيمنة شبه كاملة على القضاء إلى درجة تعطيله.  

ويعكس توجّه الحكم في هذا المضمار مقاربةً للموجبات الأخلاقيّة القضائيّة كان سبق لـ “المفكرة القانونيّة” أن انتقدتها في سياق انتقاد مدوّنة الأخلاقيات القضائية اللبنانية 2015. إذ وفق “المفكرة”، تختزل هذه المدوّنة  “عوامل الخلل القضائي بمجموعة من الإخلالات الفردية، قوامها خروج بعض القضاة عن هذه المواصفات السامية. فبإمكانه (أي القاضي) أن يصمد وحيدًا في وجه الضغوط مهما بلغت قوّتها وعليه أن يتفانى في عمله القضائي متحمّلًا كلّ المهامّ التي توكل إليه من دون تذمّر… وقد بدت هذه المبالغة في رسم مواصفات القاضي بمثابة تبرّؤ للسلطات القضائية من واجباتها في تأمين الحماية والضمانات القانونية وإلى حدّ ما بمثابة تبرّؤ للسلطات القضائية من واجباتها في تأمين الحماية والضمانات القانونية، أو أيضًا بمثابة إبراء للجهات النافذة التي تتغوّل أو تتدخّل في القضاء. فعلى القاضي الذي يتعرّض لضغط أن يصمد في وجهه (وهو قادر على ذلك) فتنتفي المشكلة، والأهمّ أنّ قوّة المواجهة يستمدّها من ذاته ممّا ينفي أيّ حاجة إلى اللجوء إلى وسائل نضالية غير اعتيادية كالاحتكام إلى الرأي العام أو الالتجاء إلى دعم زملائه وتضامنهم معه أو إنشاء جمعيات مهنية تجنّبًا للاستفراد. وقد خلصت “المفكرة” بنتيجة ذلك إلى القول إنّ اعتماد قواعد أخلاقية ذات طابع مطلق على هذا الوجه إنّما يجعل المدوّنة “خطابًا أخلاقيًا مثاليًا مجرّدًا من أيّ قدرة على الـتّأثير على الواقع… خطابًا من شأنه بما تضمّنه أن ينسف مشروعية أيّ دينامية اجتماعية قادرة على تمكين القاضي من جبه التعدّيات على استقلاله أو ذات طابع تغييري. وتبعًا لذلك، من الطبيعي أن يكون (القاضي) أكثر ميلًا لحصر صلاحياته ذاتيًا self restraint بدلًا من السعي إلى تعزيزها أو تطويرها. وعليه، تصبح المدوّنة مجرّدة عن أيّ فعالية لتعزيز إمكانات القاضي في الدفاع عن استقلاله وفي تطوير المنظومة القانونية”. وليس أدلّ على ذلك ممّا جاء في الحكم لجهة إعلاء شأن الهدوء وصولًا إلى وصفه بـ  “أفضل الأسلحة نفاذًا” تمهيدًا لحرمان القضاة من كل الأسلحة والضمانات الأخرى وأهمها الاحتكام إلى الرأي العام. 

وهذا ما عادت “المفكرة” وتوسّعت فيه في تصوّرها التجديدي للأخلاقيّات القضائيّة في المنطقة العربيّة، الذي يتمثّل أساسًا في الخروج من القيم المطلقة، في اتجاه اعتماد معايير نسبية أو ببساطة واقعية تقوم على ما هو “معقول” أو “منطقي” أو “مقبول”، والأهم على أنّ لتحقيق العدالة فعليًا متطلّباتها وأهمّها حرية التعبير والتجمّع للقضاة وأنّ للضرورات أحكامها.  

تسوية حساب أم كبش محرقة؟ 

لم يخطئ المجلس فقط في الإسراف في محاكمة نوايا القاضية عون أو في اعتماد معايير مطلقة تنفي أيّ إمكانيّة في تحقيق العدالة، إنّما بدا قراره بمثابة تصفية حساب من قبل الهرمية القضائيّة ضدّ القاضية عون وصولًا إلى تحميلها مسؤولية الخلل الحاصل في القضاء أو على الأقلّ المسؤولية الكبرى عنه. 

يتبدّى ذلك بوضوح كلّي من خلال تضمين القرار ما لا يقلّ عن 6 إشارات إلى تهجّم القاضية عون على الهرمية القضائية. منها أنّها أخلّت بتعهّداتها تجاه مجلس القضاء الأعلى بعدم الظهور الإعلامي وأنّها لم تلتزم ببياناته وأنّها “شتمت مجلس القضاء الأعلى، مطلقةً عليه أقبح النعوت” وأنّها “حقّرت السلطة القضائيّة الممثلة بمجلس القضاء الأعلى” وأنّها أقدمت على “شتم متوليّ إدارة عملها” وأنّها رسّخت في ذهن الناس “القناعة بفساد الإدارة القضائية” وأنّها “خرقت … التراتبيّة في السلطة القضائيّة”. فضلا عن ذلك، يعجّ القرار بذكر انتقاداتها للقضاء والقضاة كأن يقال إنّها “جاهرت بآراء هدّامة للقضاء” أو أنّها “تهوّرت في انتقاد القضاء، وفي التشكيك به… وحرّضت شعبها على رفع ظلمه من القضاء وعلى التحرّر من خوفه منه… مستعليةً على القضاء إزاء تلميحها إلى فساده، ومبيحة لنفسها محاسبة أفراده أمام الرأي العام، ومنتقصة من مهابته” أو أنّها “نفت شأن ومهابة وشرف القضاء ونزاهة واستقامة وأمانة ومناعة وشفافيّة القضاة” أو أنّها “ذمّت بالقضاء والقضاة”. ولم ينسَ المجلس التأديبي في هذا الإطار من التعبير عن امتعاضه الشديد من تنصيب القاضية عون في كلّ ذلك نفسها منصب الرقيبة على القضاء. وهذا ما نقرأه في إشارته إلى أنّها ادّعت “لذاتها دور الرقيب الصالح، الذي لا تُخفى عليه خافية التجاوزات في القضاء”، أو أنّها كانت “مزهوّة بنفسها بأنّها مخوّلة تقييم عملهم (أي القضاة) وتقديم الشهادة على مسلكهم”. وقد أورد المجلس كلّ هذه الأقوال هنا أيضًا من دون أن يتوقّف ولو للحظة عند ظروف هذه الأقوال أو مدى سدادتها، مُنكرًا بذلك على القضاة إمكانية انتقاد المؤسّسة القضائيّة ككلّ أو العمل القضائي أو حتى إمكانية مخالفة بيانات تمسّ باستقلاليّتهم وحرّيتهم.

وإذ عكستْ كثرة هذه الإشارات حساسيّة مفرطة لدى المجلس التأديبيّ حيال تعرّض القاضية عون للهرمية القضائية والقضاة، فإنّه بدا من هذه الجهة وكأنّه تحوّل بفعلها من موقع القاضي الذي يفترض أن يكون متجرّدًا وفق مطالعته إلى موقع الخصم الذي لا يجد حرجًا في استغلال سلطته للتعبير عن هوسه بالانتقادات الموجهة إليه والأهم لتصفية حساباته مع ناقديه وإسكاتهم عند الاقتضاء.

وقد بلغ هذا التوجّه أوجه في المبالغة في تقدير الأضرار الناجمة عن أقوال القاضية عون وأفعالها، بحيث اعتبر أنّها أسفرت عن “عواقب وخيمة على مسار المؤسسة القضائية” و”خسائر فادحة بالشأن القضائي” وأنّها أسهمت “بظاهرة غير مسبوقة ومقلقة، في إحداث هوّة عميقة بين السلطة القضائية وأعضائها وبين الناس، وفي إعدام ثقة الجمهور بالقضاء، وفي ترسيخ الاعتقاد في ذهن أفراد المجتمع بعدم استطاعة مستحقّ العدالة السويّة أن يظْفر بها… وفي جعل القضاء محطّ انتقاد الناس، بدلًا من أن يكون محطّ آمالهم”. ولا يحتاج من يقرأ هذه العبارات إلى كثير من الجهد ليعي حجم اللغو والمبالغة والتلفيق فيها. وتتأتّى خطورتها ليس فقط من كونها ضخّمت مسؤولية القاضية عون تمهيدًا لإعلان صرفها من العمل، بل الأخطر في اعتماد سردية تنتهي عمليًا إلى تبرئة ذمّة القوى النافذة سياسيًا وماليًا والتي لا تألو جهدًا للهيمنة على القضاء وتعطيله من أي مسؤولية. فمن أعدم ثقة الناس في العدالة وفق المجلس التأديبي، ليس عقودًا من التغوّل في القضاء، وليس سواد ثقافة التدخّل في القضاء واتساع رقعة الفساد الإداري والمالي فيه، وليس وسائل الترهيب والترغيب والتعطيل التي لا تجد أيّ من القوى النافذة حرجًا في استخدامها، وليس تواطؤ غالبية القيادات القضائية مع القوى السياسية لضمان إفلاتها من العقاب، وليس الانتقائية في محاسبة القضاة وفق معايير غالبًا ما تكون سياسية، إنّما هذه القاضية التي تجرّأت على أصحاب النفوذ فاضطربتْ.

نشر هذا المقال في العدد 69 من مجلة المفكرة القانونية-لبنان

لقراءة العدد كاملا اضغط هنا

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني