“الأبارتايد” الإسرائيلي وما هو أبعد منه


2023-12-05    |   

“الأبارتايد” الإسرائيلي وما هو أبعد منه

“الاحتلال يمنعك من تدبر أمورك على طريقتك. إنه يتدخل في الحياة كلها وفي الموت كله. يتدخّل في السهر والشوق والغضب والشهوة والمشي في الطرقات. يتدخل في الذهاب إلى الأماكن ويتدخل في العودة منها. سواء كانت سوق الخضار المجاور أو مستشفى الطوارئ أو شاطئ البحر أو غرفة النوم أو عاصمة نائية”[1].

هكذا وصف الكاتب الفلسطيني مريد البرغوثي الاحتلال الإسرائيلي بعد زيارته مدينة رام الله إثر غيابه القسري عنها مدّة ثلاثين عامًا. كان ذلك في العام 1997، حيث شبح الاستيطاني في أوجّ تغوّله في الضفة الغربية، والتمييز الذي يتحدّث عنه الكاتب في كتابه يظهر ملاصقًا لحياة الفرد الفلسطيني وجزءًا لا يتجزّأ من يومياته، ضمن نظام فصل عنصريّ متكامل تفرضه إسرائيل على الشعب الفلسطينيّ.

اليوم، بعد أكثر من 25 عامًا من كتابة تلك الكلمات، وفي أتون حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الاحتلال الإسرائيليّ على قطاع غزة وقتل فيها حتى الآن ما يزيد عن 15500 فلسطينيًّا، يعود الحديث عن القضية الفلسطينيّة من جديد ليحتلّ المشهد العالميّ، وتُستعاد معه الأدوات والسرديّات المضادة والمواجهة لإسرائيل، ومنها وصفها بأنّها نظام أبارتايد (فصل عنصري) وهو المفهوم الذي اتخذ في السنوات الأخيرة زخمًا كبيرًا في وصف أشكال الهيمنة التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني.

مراحل تطوّر مفهوم الأبارتايد

تعود جذور مصطلح أبارتايد إلى اللغة الأفريكانية، وهي لغة المستوطنين البيض ذوي الأصول الهولندية الذين استعمروا جنوب أفريقيا، واستُخدم في توصيف النظام السائد فيها منذ دخول الاستعمار البريطاني والهولندي في القرن السابع عشر، والذي بات بين العامين 1948 و1994 النظام القانوني الرسمي للحكم فيها، مقسمًا سكانها إلى فئات عرقية، يتفوّق أحدها (البيض) على الأعراق الأصلية الأخرى التي سكنت البلاد من ناحية الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ليصبح منذ ذلك الحين معتمدًا من المجتمع الدولي لإدانة وتجريم الأنظمة والممارسات المشابهة في جميع أنحاء العالم.

نتج بمواجهة نظام الأبارتايد حراك سياسيّ بقيادة حزب المؤتمر الوطني هدف إلى توحيد جهود السكان الأفارقة للمطالبة بحقوقهم السياسية والاقتصادية، ترافق مع حملة دولية واسعة النطاق للضغط على الحكومة الجنوب أفريقية لإنهاء نظام الأبارتايد. وكان أوّل تجلّيات هذه الحركة على الصعيد القانوني الدولي إقرار الأمم المتحدة في سنة 1973 الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها التي صنّفت الفصل العنصري كجريمة ضد الإنسانية، وأعلنت تجريم الدول الأطراف للمنظمات والمؤسسات والأشخاص الذين يرتكبون جريمة الفصل العنصري مهما كانت دوافعهم.

وقد اعتمدت الاتفاقية نموذج السياسات وممارسات العزل والتمييز العنصريين المشابهة لتلك التي تمارس في الجنوب الأفريقي، كمعيار لتوصيف “جريمة الفصل العنصري”، ومنها: (أ) حرمان عضو أو أعضاء في فئة أو فئات عنصرية من الحق في الحياة والحرية الشخصية من خلال القتل أو إلحاق أذى خطير أو التعدّي على حريتهم أو كرامتهم أو إخضاعهم للتعذيب أو توقيفهم تعسفاً وسجنهم بصورة غير قانونية، (ب) إخضاع فئة أو فئات عنصرية، عمداً، لظروف معيشية يقصد منها أن تفضي بها إلى الهلاك الجسدي، كلياً أو جزئياً، (ج) اتخاذ أية تدابير، تشريعية وغير تشريعية، يقصد بها منع فئة أو فئات عنصرية من المشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للبلد، وتعمّد خلق ظروف تحول دون النماء التام لهذه الفئة أو الفئات… (د) اتخاذ أية تدابير، بما فيها التدابير التشريعية، تهدف إلى تقسيم السكان وفق معايير عنصرية بخلق محتجزات ومعازل مفصولة لأعضاء فئة أو فئات عنصرية، وبحظر التزاوج فيما بين الأشخاص المنتسبين إلي فئات عنصرية مختلفة، ونزع ملكية العقارات المملوكة لفئة أو فئات عنصرية أو لأفراد منها، (هـ) استغلال عمل أعضاء فئة أو فئات عنصرية، لا سيما بإخضاعهم للعمل القسري، (و) اضطهاد المنظمات والأشخاص، بحرمانهم من الحقوق والحريات الأساسية، لمعارضتهم للفصل العنصري.

شكّلت هذه الاتفاقية، بالإضافة إلى الاتفاقية الدولية لمكافحة كلّ أشكال التمييز العنصري الصادرة سنة 1965، والملحق (البروتوكول) الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف سنة 1977، ولاحقًا نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي أقر في سنة 1998 وأدرج جرم الابرتايد ضمن الجرائم ضدّ الانسانية، الأساس القانوني لتحديد أركان جريمة الفصل العنصري والتي تقوم عند ارتكاب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في سياق نظام مؤسساتي من الهيمنة والقمع بصورة ممنهجة من جانب فئة عنصرية على فئة عنصرية أخرى، بقصد إدامة هذا النظام[2].

وبالتوازي مع هذا الحراك الدولي، نشطت مجموعة من الشخصيات الفلسطينيّة والعربية لاحظت أوجه الشبه  بين النظامين في جنوب أفريقيا وإسرائيل، منهم الأمين العام الأوّل لمنظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري الذي قال في العام 1961 من قلب الجمعية العامّة للأمم المتحدّة أنّ نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا يمارس في إسرائيل ضد الأقلية الفلسطينية العربية. وفي العام نفسه أيضًا اتهم السفير العراقي إلى الأمم المتحدة عدنان الباجه جي إسرائيل بممارسة سياسات عنصرية مشابهة لتلك الممارسة في جنوب أفريقيا[3]. كذلك، أقرّ هندريك فيرفورد رئيس وزراء جنوب أفريقيا ومهندس مخطط “الأبارتايد الكبير” في العام 1961 بهذا التشابه قائلاً: “أخذ اليهود إسرائيل من العرب بعد أن عاش العرب هناك لألف سنة. إسرائيل هي دولة أبارتايد مثل جنوب أفريقيا”.

ومبكرًا، تناول المفكر والدبلوماسي الفلسطيني فايز صايغ في كتابه “الاستعمار الصهيوني في فلسطين” أوجه الشبه المتعددة بين النظامين في جنوب أفريقيا وإسرائيل[4]. وكذلك فعل الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1974، الذي بيّن فيه العلاقة الوثيقة بين الاستعمار الاستيطاني في أفريقيا الجنوبية والاستعمار الاستيطاني على أرض فلسطين.

ترافق هذا النشاط مع صدور قرارين هامّين عن الجمعية العامّة للأمم المتحدة، الأوّل هو القرار رقم 3151 الصادر في العام 1973 والذي يدين التحالف الآثم بين الاستعمار البرتغالي والعنصرية بأفريقيا الجنوبية والصهيونية والامبريالية الإسرائيلية، ويؤكّد وجود تواطؤ بين نظام الفصل العنصري والصهيونية، والثاني هو القرار الرقم 3379 الصادر في العام 1975 والذي يتضمن الإقرار بأن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية.

مع انطواء هذه الحقبة، وبداية نهاية نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا في العام 1990 وسقوط جدار برلين، وبدء مسار مفاوضات السلام بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وتخلّي الأخيرة عن حل الدولة الواحدة لصالح حلّ الدولتين، انكفأ الخطاب الذي يصم إسرائيل بأنها دولة أبارتايد. وترافق ذلك مع إلغاء قرار الأمم المتحدة رقم 3379 الآنف الذكر بضغط إسرائيليّ، بعد أن جعلت إسرائيل من إلغائه شرطًا لمشاركتها في مؤتمر مدريد 1991. وبالرغم من أن الواقع الذي أرسته مفاوضات السلام المنتهية بتوقيع اتفاقية أوسلو، أفرز نظام أبارتايد ذا معالم أوضح وأكثر تجليًّا عبّر عنها ببلاغة المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في مقال له بعنوان : “كيف تهجّئ أبارتايد؟ أ-و-س-ل-و” ، إلّأ أنّ خطاب السلام وحل الدولتين الذي كان سائدًا غطّى على سائر السرديات الأخرى.

هذا الركود والصمت الدوليان حيال الفصل العنصري الذي مارسته إسرائيل بحق الفلسطينيين والذي تمظهر مادّيًا على شكل نتوءِ خراسانيٍّ بشع يشوّه الأراضي الفلسطينية سُمّي بجدار الفصل العنصري الذي اعتبرته محكمة العدل الدولية في العام 2004 غير قانوني وطالبت إسرائيل بإزالته، لم ينكسر إلّا في العقد الأخير حيث عادت سردية نظام الابارتايد للظهور مجدّداً، خصوصًا مع رفض تطبيق إسرائيل لحلّ الدولتين واستمرارها باحتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة وحصارهم، ومع استفحال الاستيطان الإسرائيلي فيها. فأصدرت لجنة الإسكوا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا) في العام 2017 تقريرًا حول ممارسات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الفصل العنصري، اعتُبر الأوّل من نوعه الذي يصدر عن إحدى هيئات الأمم المتحدة ويخلص بوضوح وصراحة إلى أن إسرائيل هي دولة عنصرية، وأنشأت نظام أبارتياد يضطهد الشعب الفلسطيني.

وعلى الرغم من أنّ “لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بالأرض الفلسطينية المحتلة بما في ذلك القدس الشرقية وإسرائيل” التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان في العام 2021، لم تسمِّ صراحة النظام القائم بأنه نظام أبارتايد، بل اكتفت باعتباره نظامًا تمييزيًا في أحد تقاريرها الصادر في أيلول 2022، على خلفية أن الممارسة العملية للاحتلال أسفرت عن تمييز واضح بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وقد تمثلت هذه الممارسة عمليا في أوامر عسكرية وقرارات أصدرتها المحكمة العليا وتشريعات شملت القانون الجنائي وقانون التأمين الصحي الوطني وقوانين الضرائب والقوانين المتعلقة بالانتخابات، ومن خلال وجود نظم قانونية منفصلة لإنفاذ قوانين المرور وفصل مؤسسي وتشريعي في نظام التخطيط والبناء، حيث يتمتّع الإسرائيليون بموجب هذا النظام القانوني المزدوج بقدر أكبر من حقوق الإنسان من الفلسطينيين، ولهذا السبب وصفته بأنه نظام تمييزي.

ولعلّ الإضافة الأكبر في هذا الصدد، جاءت عبر المنظمات الحقوقية غير الحكومية التي وصفت النظام الإسرائيلي بأنه نظام أبارتايد صراحةً. وأهم هذه التقارير هو التقرير الصادر في العام 2021 عن منظمة هيومن رايتس ووتش الذي اعتبر أن ارتكابات مثل اعتقال الفلسطينيين ومصادرة أملاكهم وفصلهم قسراً وإخضاعهم ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية، متمثلة في الفصل العنصري والاضطهاد. وقد لاقى هذا التقرير انتقادًا وغضبًا إسرائيليين. وكذلك التقرير الصادر في العام 2022 عن منظمة العفو الدولية (أمنستي) الذي يعتبر أكثر تقدّمًا في موقفه من نظام الأبارتايد بحيث اعتبر أن إسرائيل كيان عنصري – منذ البداية ووضعته في سياق نظامها الاستيطاني الاستعماري متجاوزًا بذلك حدود احتلال عام 1967. مع الذكر أن منظمات حقوقية محلية كانت أصدرت تقارير توصّف فيها النظام على أنه نظام أبارتايد مثل المنظمات الحقوقية الفلسطينية الحق والضمير والميزان، ومثل منظمة بيتسلم الإسرائيلية التي أصدرت تقريرًا في العام 2021 بعنوان: “نظام تفوّق يهوديّ من النهر إلى البحر: إنّه أبارتهايد”. 

وعلى الصعيد الإجرائي وفي ما يتعدى المحاكم الدوليّة، تقدمت دولة فلسطين بشكوى لدى لجنة القضاء على التمييز العنصري (CERD) في العام 2018، لحثّها على النظر في انتهاكات إسرائيل لاتفاقية القضاء على جميع أشكال الفصل العنصري المصادق عليها من قبل إسرائيل في  العام 1979، في سياق الفصل العنصري. وقد أكدت اللجنة صلاحيتها للنظر فيها في العام 2019 وقبولها الشكوى في العام 2021، إلا أنّها لم تصدر قرارًا نهائيًّا بشأنها حتى الآن. أضف إليها العدد الكبير من الشكاوى التي قُدّمت إلى المحكمة الجنائية الدولية مؤخّرًا إبان العدوان الحالي على قطاع غزة والتي تضمّنت إدعاءات بحق إسرائيل بارتكاب جرائم الفصل العنصري.

كما يجدر التذكير بالدور الذي لعبه المقرّرون الخاصّون المعنيون بأوضاع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة منذ عام 1967، إذ خلص أربعة منهم إلى أنّ إسرائيل مذنبة بممارسة الفصل العنصري، حيث أعلن جون دوغارد (2001-2008) وريتشارد فالك (2008-2014) ومايكل لينك (2016-2022) وفرانشيسكا ألبانيز (2022- حتى اليوم) صراحة و/أو كتبوا تقارير مطوّلة تتهم إسرائيل بارتكاب جريمة الفصل العنصري. كما أٌقيمت حملات دولية هامة لإنهاء نظام الأبارتايد مثل “أسبوع الأبارتايد الإسرائيلي” الذي تهدف فعالياته من مظاهرات ومحاضرات إلى رفع الصوت بوجه إسرائيل والدعوة لمقاطعتها. 

حاولت إسرائيل دائمًا تصوير نفسها أمام العالم كواحة وحيدة للديمقراطية في الشرق الأوسط وحاربت بشراسة لنزع وصف الأبارتايد عنها. ولم يكن موقف دول الشمال السياسي مختلفًا إذ تجاهل بعضها هذا التوصيف بينما استبعده وانتقده البعض الآخر. في المقابل، كان الجمهور في دول الجنوب السياسي أكثر تجاوبًا معه، حيث قامت دول مثل جنوب إفريقيا، وناميبيا، وماليزيا، وإندونيسيا بتبنّي هذا التوصيف.

كيف تمارس إسرائيل الفصل العنصري ضد الفلسطينيين؟

لم يطرأ التمييز العنصري على الفلسطينيين مع نشأة الكيان الإسرائيلي في العام 1948 فحسب، بل بدأت ملامحه بالتكشّف منذ الاستعمار البريطاني الذي منح امتيازات لشركات يهودية من أجل استغلال الموارد الفلسطينية، وهو ما عملت عليه المنظمات الصهيونية التي حاربت العمالة الفلسطينية وسعت لتأسيس اقتصاد يهودي استيطاني وفقًا لرؤية إيديولوجية صهيونية ترى أن العمل الصهيوني هو عملية إحياء ل”أرض إسرائيل”.

ومنذ النكبة في العام 1948، عملت إسرائيل على تطهير الأرض من سكانها الفلسطينيين، وذلك من خلال ارتكاب الإبادة الجماعية بحقّهم وتهجيرهم خارج أراضيهم بهدف تهويد الأرض عبر خلق أغلبية يهوديّة عليها تبرّر شرعيّة الدولة. وبعد ذلك، عملت إسرائيل مؤسسّيًّا وتشريعيًّا وعسكريًّا لإدامة السيطرة والهيمنة الصهيونية-اليهودية على كافة أراضي فلسطين التاريخية، من خلال استخدام وسائل قمعية ولاإنسانية مختلفة بحقّ الفلسطينيين في مقابل منح امتيازات وأفضلية قانونية لمواطنيها اليهود. فكان من الضروري بالنسبة لإسرائيل قمع الفلسطينيين وطردهم وشرذمتهم وحرمانهم من حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية للحفاظ على هذا الواقع.

الأبارتايد القانوني:

يقوم نظام الأبارتايد الإسرائيلي على منظومة قانونية ترافقت مع نشأة الكيان واستمرّ العمل بها حتى اليوم، وهي تشكّل الشكل التشريعي والرسمي للأبارتايد. أهم هذه القوانين هو قانون أملاك الغائبين (1950)، وهو أحد القوانين التأسيسية للدولة، والذي يمنحها الحقّ بمصادرة أملاك الفلسطينيين التي أجبروا على تركها بعد النكبة في العام 1948، ولا زال يُستخدم حتى الآن لتبرير هدم وإخلاء بعض المنازل، كما حدث في أعقاب   أحداث حي الشيخ جراح في القدس المحتلة. وكذلك في السنة نفسها، أقرّ “قانون العودة” الذي يمنح أي يهودي من أي ناحية في العالم الحق في الهجرة إلى “إسرائيل” والحصول على المواطنة الإسرائيلية تلقائيًّا. في المقابل، يُمنع مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين من حقّهم بالعودة المكرّس بقرار مجلس الأمن رقم 194.

أضف إليها مجموعة من القوانين مثل “قانون الاستحواذ على الأراضي” (1953) الذي استخدم لمصادرة الأراضي الفلسطينية وقانون “المواطنة والدخول إلى إسرائيل” (2003) الذي حظر لمّ شمل العائلات الفلسطينية، ونظام الطوارئ الخاصّ بالانتداب البريطاني والذي يسمح للسلطات الإسرائيلية باتخاذ إجراءات عسكرية فوق العادة ضد الفلسطينيين مما سنبيّنه لاحقًا.

وكانت ذروة هذه القوانين، قانون قومية الدولة وهو قانون أساسي ذو طابع دستوري أقرّ في العام 2018، أهم سماته اعتبار “إسرائيل” الوطن التاريخي للشعب اليهودي ودولته القومية التي يقوم فيها بممارسة حقه في تقرير المصير، وهو حقٌّ يقتصر على الشعب اليهودي فقط، ويتميّز عن غيره من القوانين الأساسية بتجاهله مبادئ الديمقراطية والمساواة. وتكمن خطورة هذا النص وطبيعته، أنّه يعزّز نظام الفصل العنصري في المنطقة الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، ويعبّر بصراحة عن عدم المساواة بين المجموعتين اليهودية وغير اليهودية اللتين تعيشان فيها، ويُكسب الطابع الدستوري النصّ خطورة أكبر لكونه يعبّر عن مبادئ يتوجّب على السلطة التنفيذية والقضائية وكلّ ما له صلة بالإدارة والبيروقراطية الإسرائيلية تطبيقه [5].

الأبارتايد الواقعي:

بالإضافة إلى القوانين والتشريعات، تتّسم سياسات دولة إسرائيل وعمليات أجهزتها التنفيذية في ترسيخ نظام الأبارتايد ومحاولة تأبيده وجعله نشاطًا يحتلّ تفاصيل حياة الفلسطينيين اليومية، وفي ما يلي أهم مظاهر ذلك.

تقييد التنقل والحركة: يتعيّن على الفلسطينيين من سكّان الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة الحصول على تراخيص من قبل السلطات الإسرائيلية للعبور بين هذه المناطق، ناهيك عن فصلهم التام عن الفلسطينيين الذين يملكون الجنسية الإسرائيلية (عرب 48). أما أولئك الذين هُجّروا بين العامين 1947 و1949 إلى دول الشتات فهم معزولون عن سائر الفئات ومحرومون من حقّهم بالعودة المكرّس بقرار مجلس الأمن الرقم 194. ويعتبر التنقل بين المناطق بالنسبة للفلسطينيين أشبه بدرب الجلجلة نظرًا للعقبات والصعوبات التي يواجهونها بسبب نظام الإغلاق الشامل التي فرضته إسرائيل والذي يتضمن شبكة من مئات الحواجز العسكرية والتلال الترابية والبوابات بالإضافة إلى السياج الملتفّ وجدار الفصل العنصري الممتدّ على  700 كيلومتر والذي أدّى إلى عزل 38 بلدة وقرية فلسطينية في الضفة الغربية، وحصر الفلسطينيين في مناطق ضيقة ومكتظة. تسيطر إسرائيل على كافة نقاط الخروج والدخول في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما تسيطر على حركة السفر إلى الخارج إذ بإمكانها منع أي فلسطيني في الضفة الغربية من السفر بناء على “معلومات سرية” لا يمكن للفلسطينيين الاطلاع أو الاعتراض عليها. وفي غزة، يكاد يكون السفر مستحيلاً في ظل الحصار الإسرائيلي ومنع الفلسطينيين من تشييد مطار أو ميناء.

البطش العسكري والأمني والقضائي: بالإضافة إلى قتل الفلسطينيين، استخدمت إسرائيل حكمها العسكري ليس فقط لتوسيع الاستيطان اليهودي في المناطق التي تعدّها ذات مكانة استراتيجية وحسب، بل للسيطرة على مختلف مناحي حياة الفلسطينيين، ولوضعهم تحت ما يسمّونه “نظام العدالة العسكري” وهو منظومة الأوامر العسكرية التي تجاوز عددها ال 1800 تحكم جميع نواحي الحياة اليومية وإمكانية الوصول إلى الموارد الطبيعية والأراضي، والذي يستثنى منه المستوطنين اليهود في الضفة على أي حال. سمح هذا الواقع للإسرائيليين باعتقال ما يزيد عن 800 ألف فلسطيني منذ العام 1967 في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة (أي 15% من مجموع سكّان الأراضي الفلسطينية المحتلّة)، وحوكم عددٌ كبيرٌ منهم أمام المحاكم العسكرية التي تفتقر إلى أدنى مقومات وشروط المحاكمة العادلة. كما اُعتقل آخرون بموجب أوامر إدارية من دون توجيه أي تهم رسمية .

ناهيك عن نظم التعقّب الأمني التي تفرضها إسرائيل على الفلسطينيين دون مواطنيها، وأخطرها نظام التعرّف على الوجه المعروف باسم “الذئب الأحمر” والذي وُصف بأنه أبارتهايد رقمي. ويعمل هذا النظام الذي يهدف إلى إبقاء الفلسطينيين تحت المراقبة شبه الدائمة، من خلال شبكة كبيرة من الكاميرات المنتشرة على الحواجز العسكرية في الضفة الغربية والموجّهة أحياناً داخل منازل الفلسطينيين، على مسح وجوه الفلسطينيين ويضيفها إلى قواعد بيانات للمراقبة وذلك بدون موافقتهم.

الاستيلاء على الأملاك والأراضي: ليس الاحتلال الإسرائيلي احتلالًا عسكريًّا فحسب، بل هو واقعٌ استعماريٌّ أيضًا، ويظهر ذلك من خلال مشهد المستوطنات والمستوطنين في الضفة الغربية، المعد لتجزئة الأرض الفلسطينية وقطع الاتصال الجغرافي بين الفلسطينيين ضمن منطق الأبارتايد نفسه، مع العلم أنّها مستوطنات غير قانونية بنظر القانون الدولي كونها تشكّل انتهاكًا لاتفاقية جنيف الرابعة التي تنص على حظر نقل القوة المحتلة لسكانها إلى المناطق الخاضعة للاحتلال.

وتقوم سياسة الاستيطان والتهويد الإسرائيلية على تقليص عدد الفلسطينيين على الأرض مقابل زيادة عدد الإسرائيليين اليهود عليها، وذلك عبر  تقديم حوافز وتسهيلات لتشجيع الهجرة إليها، في مقابل تقطيع أوصال المناطق الفلسطينية وعزل الفلسطينيين وحرمانهم من التمتّع بمواردهم واستغلالها، حتى بلغت نسبة مساحة المستوطنات 42% من مساحة الضفة الغربية وعدد المستوطنين أكثر من 700 ألف يتمتّعون بظروف حياتية ومعيشيّة مرفّهة ورغيدة مقارنة بالظروف التي يعاني منها أهالي الضفة من الفلسطينيين، رغم عدم قانونيتها.

من الصعب جدًّا، بل يكاد يكون مستحيلًا إحصاء الارتكابات الإسرائيلية اليومية والدائمة التي تُشكّل تمييزًا عنصريًّا ضدّ الفلسطينيين وانتهاكًا سافرًا لحقوق الإنسان، خصوصًا أنّها تشمل مختلف جوانب حياة الفلسطينيين كأفراد وشعب، بما في ذلك الحدود والموارد والمجال الجوي وحركة البضائع والأمن وسجل السكان الذي لا تزال إسرائيل تمسكه حتى اليوم، بالإضافة إلى الاستنسابية في منح تصاريح البناء وهدم بيوت الفلسطينيين وقتلهم وحرمانهم من حرية التعبير وحق الاحتجاج بموجب الأوامر العسكرية، الأمر الذي جعل عملية التنمية في فلسطين ضربًا من ضروب الخيال غير القابل للتحقق بوجود هذا النظام.

أبارتايد، ولكن احتلالٌ وتطهيرٌ عرقيٌّ أيضًا

يُواجه توصيف إسرائيل بأنها دولة أبارتايد عدّة انتقادات لأسباب مختلفة. فمن جهة، ترفض الدولة الإسرائيلية والأشخاص والهيئات المناصرة لها وللعقيدة الصهيونية توجيه هذه الاتهامات لإسرائيل وتضعها ضمن خانة معاداة السامية، أو تصنّف الأشخاص اليهود الذين يؤيّدونها بأنهم “يهود كارهون لأنفسهم”. وتعتمد هذه الفئة في خطابها على حجج قائمة على ديمقراطية دولة إسرائيل، وتبرر ممارساتها بالضرورات الأمنية، وبأن إثارة هذا الوصف من شأنه أن يعرقل عملية السلام، فضلا عن إثارة حجج تاريخية ودينية لإضفاء الشرعية عليها.

تؤيّد فئةٌ أخرى وصف الأبارتايد، بيد أنها تنتقد استخدامه كوصف مطلق وشامل يختصر حقيقة دولة إسرائيل، على خلفية أنّه قد يشكّل حجبًا لأوصاف الدولة الأخرى التي تعبّر عن حقيقتها مثل الاحتلال والاستعمار الاستيطاني. كما تعتبر استخدامه قياسًا على النظام الذي كان قائمًا في جنوب أفريقيا تلطيفًا لحقيقة إسرائيل، نظرًا للاختلافات الجوهرية بين النظامين. وبحسب هؤلاء، فإن نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا كان قائمًا على غلبة وسيطرة أقليّة عرقية تجاه أغلبية عرقية من سكّان البلاد الأصليين، ولم يكن يرتكز على طرد هذه الأغلبية وسائر العرقيّات الأخرى، إنما على استغلالهم واستغلال مواردهم. بينما تهدف الصهيونية إلى إنشاء وطن قومي لليهود بأقل نسبة ممكنة من السكّان من الأعراق الأخرى، وهي عقيدة عنصرية بذاتها وتقوم عليها المؤسسات والقوانين والممارسات الإسرائيلية. كما أن الاستيطان الإسرائيلي يتميّز عن سائر أشكال الاستيطان الأخرى بأنه لا يقوم على اغتصاب الأرض فحسب، بل على التطهير العرقي من خلال طرد وقتل السكان الأصليين، فيجدون أنّ الصهيونية أشدّ شرًّا من الأبارتايد. وضمن هذه الفئة من يجد أن منظومة الحكم الإسرائيلية هجينة ومتداخلة بين الاستعمار الاستيطاني والأبارتايد والاحتلال العسكري، تتقاطع فيه أنساق إدارية تنظّم وفق مبدأ الفوقية القومية اليهودية والسيادة الحصرية على المكان[6]. كما يشير أصحاب هذا الرأي إلى أنّ نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا، لم يقم على نظرية تدّعي جعل البلاد دولة فصل عنصري “إلى الأبد” بنفس الطريقة التي خطّطت الصهيونية للقيام بها في فلسطين. من الناحية الوجودية، لم تكن طبيعة الفصل العنصري للدولة في جنوب أفريقيا ضرورية، ومهما كانت جذورها عميقة، فإن سيادة البيض كانت قادرة على استيلاد دينامية من شأنها تجاوز نظام الفصل العنصري.  ويؤكّد هؤلاء أن نظام الفصل الإسرائيلي قام بتهجير مئات آلاف اللاجئين إلى دول الشتات في العام 1948 والتسبب بأزمة لاجئين لم تزل مستمرّة حتى اليوم، بالإضافة إلى مساعي التهجير القسري المستمرّة، وأدلّها عملية التهجير الواسعة التي تمارسها إسرائيل على سكان قطاع غزة في الحرب القائمة حاليًّا، وهي ممارسات لم يرتكبها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، في حين أنّها سياسة إسرائيلية مستمرة ومتمادية في السياق الإسرائيلي الفلسطيني.  

ومن جهة أخرى، يشير البعضٌ الآخر أنّ وصف إسرائيل بأنها دولة أبارتايد لا يخدم القضية الفلسطينية، كونه يصرف الاهتمام عن واقع أن إسرائيل هي دولة احتلال، وأن ما يجب أن يطالب به الفلسطينيون ويعملون عليه ليس إنهاء الفصل العنصري في دولة إسرائيل، بل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي. كما أنّ الاحتلال يمكن أن يكون قانونيًّا بموجب القانون الدولي، على العكس من الفصل العنصري الذي يعدّ جريمة معاقبا عليها دوليًا، وهي محط استنكار عالمي.

خلاصة

من المؤكّد أن وصف السلطة التي تمارسها إسرائيل على الشعب الفلسطيني سواء في الأراضي المحتلة سنة 1967 أو في داخل أراضي 1948، تتطابق مع التعريف القانوني الدولي لنظام الأبارتايد، وتحقّق جميع شروطه، وذلك بشهادة العديد من الأكاديميين والمنظمات الحقوقية. إلّأ أنّ هذا يبقى جزءا من المشهد الذي يسيطر على الواقع العام في  فلسطين. وليس أدل على ذلك من مشهدية الإبادة الجماعية في غزة والتي تشكل حلقة جديدة من مسلسل التطهير العرقي الحاصل في فلسطين منذ 1948.

ولئن كان من المهم التذكير بطبيعة نظام “الآبارتايد” الذي تنتهجه إسرائيل، فإن ذلك لا يجب أن يخفي أن هذا النظام يأتي مصحوبا بتعديات وجرائم أخرى تمارس منذ عقود ضد الشعب الفلسطيني تبدأ من الاحتلال والتطهير العرقي وصولا إلى الإبادة الجماعية.  


[1] البرغوثي، مريد. رأيت رام الله. بيروت: المركز الثقافي العربي. الطبعة الرابعة 2011، ص 59

[2] منظمة العفو الدولية، نظام  الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، 2022 /

[3] عمر حسن عبد الرحمن، ورقة تحليلية: “الفصل العنصري وحركة التحرير الفلسطينية: الفرص والتحديات“، مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية 2023.

[4] د. فايز صايغ، “الاستعمار الصهيوني في فلسطين”. مركز البحوث بمنظمة التحرير الفلسطينية، بيروت 1965، ص 36

[5] جبارين، حسن وسهاد بشارة. “قانون أساس القومية: جذوره وأبعاده الدستورية الجديدة”. “مجلة الدراسات الفلسطينية”. العدد 117 (شتاء 2019)، ص 64-74.)

[6] هنيدة غانم وعازر دكور (إعداد وتحرير)، «إسرائيل والأبارتهايد: دراسات مقارنة» (رام الله: مدار، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، 2018)، ص 31

انشر المقال

متوفر من خلال:

منظمات دولية ، الحق في الحياة ، مقالات ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني