أي دور للمحكمة الجنائيّة الدوليّة في غزة؟


2023-10-21    |   

أي دور للمحكمة الجنائيّة الدوليّة في غزة؟
المدعية العامّة السابقة للمحكمة الجنائية الدولي، فاتو بنسودا (مصدر الصورة: موقع المحكمة الجنائية الدولية)

تضرب حماس، قوات الاحتلال ترد بشراسة من خلال جرائم حرب ضحيتها المدنيين وتدمير مواقع محمية دوليا، ثم تنقسم الدول بين مؤيد ومعارض، يقوم مجلس الامن بدراسة الحالة باعتبارها تهدد الأمن والسلم الدوليين، وينتهي الأمر بفشله باتخاذ أيّ قرار مؤثر بموجب الفصل السابع نتيجة لاستخدام الفيتو الأمريكي.  هذا السيناريو الذي اعتدنا عليه والذي يثبت فشل المنظومة الدولية الخاصة بالمساءلة والعقاب التي انحصر تطبيقها على العراق ومجموعة من الدول الأفريقية تفتقر لحليف ضمن الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن.

ولكن هل بإمكاننا أن نتوقع تغييرا في هذه الصورة المعتادة بعد قبول الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية في شباط/فبراير 2021 اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالجرائم المرتكبة في قطاع غزة والضفة الغربية التي تشمل القدس الشرقية في الجرائم التي وقعت منذ حزيران 2014 والتي وقعت أو يمكن أن تقع بعد ذلك؟ هل من الممكن أن يفتح الباب أمام محاكمة دولية لأي جريمة ارتكبت في الحرب الأخيرة التي تستهدف غزة؟  

كيف ينعقد الاختصاص للمحكمة الجنائية الدولية

ينعقد الاختصاص للمحكمة لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والعدوان. المحكمة لها ولاية قضائية عالمية، لكنها لا تتدخّل إلا عندما لا تستطيع السلطات الوطنية القيام بذلك أو لا ترغب به أساساً. ولاية المحكمة تنحصر في الجرائم التي ارتكبت بعد دخول النظام الأساسي للمحكمة حيز النفاذ في العام 2002، وبالتالي لا يمكنها قبول النظر في الجرائم التي تمت قبل ذلك. وتختص المحكمة بالجرائم المرتكبة على أراضي الدول التي صادقت على النظام الأساسي للمحكمة أو أن يقوم مجلس الأمن بإحالة الجرائم المحتملة إلى المحكمة بموجب قرار صادر بالاستناد إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة كما حدث للحاللتين في ليبيا ودارفور.

طبعا إحالة الوضع في فلسطين إلى المحكمة الجنائية بموجب قرار من مجلس الأمن أمر غير وارد من الناحية العملية بسبب الفيتو الأمريكي. لذلك لم يكن أمام السّلطة الوطنية الفلسطينية الخيار إلا الانضمام إلى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. واعتمادا على الطلبات المقدمة من فلسطين في بداية عام 2015 المتمثلة بالانضمام إلى النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وإعلان قبول اختصاص المحكمة بأثر رجعي منذ حزيران 2014 والأهم طلب الإحالة الذي تقدم به وزير الخارجية الفلسطيني إلى مكتب المدعي العام بالتحقيق في العام 2018. واعتمادا على الجهود الفلسطينية، تمّ مباشرة التحقيق وصدر قرار قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالوضع في فلسطين في 5 شباط 2021. وبطبيعة الحال الجرائم التي تحقق فيها المحكمة ليس فقط المرتكبة من قبل قوات الاحتلال، بل كذلك المرتكبة من قبل حماس أو أيّ جماعة مسلحة ومنظمة عاملة على الأراضي الفلسطينية المحتلة.

أهم النتائج المترتّبة على قرار المحكمة التمهيدية

  • القرار أعلن أنّ فلسطين دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية، مع التأكيد على أن هذا الوصف هو لغايات تطبيق النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية فقط، وليس إعلان فلسطين دولة بموجب أحكام القانون الدولي،
  • المحكمة الجنائية الدولية تملك اختصاصا إقليميا في الوضع بفلسطين،
  • القرار أعلن بشكل صريح أن المسألة التي نظرت بها هي مسألة قانونية بحته، وليست سياسية؛ إذ كان هناك تبعات سياسية للقرار فهذا لا ينفي اختصاص المحكمة. ولغايات التوضيح القضاء الدولي يختصّ فقط بالمسائل القانونية وليس المسائل ذات الطابع السياسي.
  • القرار لا ينتقص من سيادة إسرائيل بموجب أحكام القانون الدولي كون اختصاص المحكمة يقع على أفراد وليس دولا، كما أن إسرائيل أعطيت المجال لتقديم ملاحظاتها إلا أنها امتنعت عن ذلك.  

عقوبات أمريكية على المحكمة الجنائية الدولية؟

في هذا الإطار، يجدر التذكير بأن الولايات المتحدة الأميركية هددت في العام 2018 بفرض عقوبات على قضاة المحكمة الجنائية الدولية والمدعية العامة، فاتو بنسودا، في حال تمت ملاحقة مواطنين يحملون الجنسية الأمريكية أو الإسرائيلية. وجاء هذا التهديد بسبب قيام المحكمة بدراسة اختصاصها بالوضع في فلسطين وقيام بنسودا، بالطلب من القضاة السماح بفتح تحقيق حول جرائم حرب محتملة قد تكون ارتكبت في أفغانستان خصوصا من قبل الجيش الاميركي.

وفي العام 2020، أصدر الرئيس دونالد ترامب أمرا تنفيذيا يُجيز تجميد الأصول وحظر السفر العائلي ضدّ موظفي المحكمة الجنائية الدولية، ويمكن أن يستهدف الذين يُساعدون المحكمة الجنائية الدولية في تحقيقاتها مشكلا بذلك هجوما صريحا على مبدأ سيادة القانون. كما أن الجهات الرسمية بالولايات المتحدة قامت بإلغاء تأشيرة المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، بنسودا، انتقاما مما اعتُبر آنذاك تحقيقا محتملا في أفغانستان. وتوعّد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بـعواقب وخيمة إذا استمرّت المحكمة الجنائية الدولية “في مسارها الحالي – أي إذا استمرّت المحكمة في التحقيق في الجرائم المحتملة بفلسطين وأفغانستان.

في العام 2021، رفعتْ إدارة بايدن العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على قضاة وموظفين في الجنائية الدولية بعدما أثارت انتقادات دولية. وقال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في بيان أن الولايات المتحدة تواصل معارضة رغبة المحكمة التحقيق في قضايا على صلة بأفغانستان أو إسرائيل، لكنه أضاف أن واشنطن تريد إثارة هذه القضايا “من خلال الحوار مع جميع الجهات المعنية والمحكمة الجنائية الدولية وليس من خلال فرض العقوبات”.

مدى إمكانية مثول المتهمين أمام المحكمة الجنائية الدولية

أعلن مدعي المحكمة الجنائية الدولية الحالي، كريم خان، عن استمرار التحقيق في الوضع بفلسطين. ومؤخرا انشأت المحكمة الجنائية الدولية موقعاً للتبليغ عن الجرائم المحتملة في الحالات التي تقع ضمن اختصاصها. ومن خلال هذا الموقع، بإمكان الأشخاص التبليغ عن هذه الجرائم بشكل فردي. بالرغم من ذلك، هناك العديد من التحديات القانونية والعملية التي قد تعيق مثول المتهمين امام المحكمة، وفيما يلي عرض لأبرزها:

أولا: بحسب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يستطيع ان يعلن المدعي العام عدم وجود أساس للمقاضاة أو أن المقاضاة لن تخدم مصالح العدالة بعد مباشرة التحقيق.

ثانيا: في حالة صدور أمر القبض أو أمر الحضور من الدائرة التمهيدية اعتمادا على طلب الادّعاء، فإن تنفيذ هذه الأوامر يعتمد على تعاون الدول المعنية. إسرائيل لن تقوم بتسليم مواطنيها للمحكمة الجنائية لأنها لا تعترف باختصاصها وتصفها بأنها معادة للسامية كما أنها ليست طرفا في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وبالتالي لا يوجد أساس قانوني للتعاون مع المحكمة. وبالتالي يعتمد الأمر على تعاون الدول الأخرى الأطراف في النظام الأساسي؛ إذ يقع عليها التزام بتسليم المتهم إذا ما تواجد على إقليمها. وهذا ما حدث مع الرئيس السوداني السابق عمر البشير الذي بقي مطلوبا للمحكمة الجنائية الدولية لمدة طويلة نسبيا، ورفضت الدول الأطراف بالنظام الأساسي تسليمه بالرغم من أنه تواجد على أراضيها، ولم يتم تسليمه من قبل الحكومة السودانية إلّا بعد الإطاحة به.

ثالثا: من الممكن أن تحتجّ إسرائيل أن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية هو اختصاص تكميلي وأن الولاية الاصلية تعود للمحاكم الوطنية الاسرائيلية؛ يعتبر الاختصاص التكميلي للمحكمة الجنائية الدولية الحجر الأساسي في نظام المحكمة، فاختصاصها لا يعدّ بديلا عن الاختصاص القضائي الوطني، وإنما هو مكمل له. ويفهم مما سبق أنه إذا كان هناك محاكمة وطنية جدية للمتهمين الإسرائيليين لن يكون هناك مبرر لإجراء المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهو أمر يصعب جدا الأخذ به في ظلّ الظروف المحيطة بهذه القضية.

رابعا: يرجح أن ترفض إسرائيل تسليم أي من مواطنيها بحجة أنها ليست طرفا في النظام الأساسي وأنها لا تعترف باختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

بالرغم من التحديات السابقة، يبقى إعلان اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بالجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة الأمل الوحيد لتحقيق تغيير، حتى لو لم تتعاون سلطات الاحتلال مع المحكمة، فمباشرة التحقيق كفيل بحد ذاته ان يمهد لإدانة محتملة في المستقبل القريب، خاصة وأن جرائم الحرب غير خاضعة للتقادم. كما تبقى الجهود التي قامت المدعية السابقة للمحكمة الجنائية، فاتو بنسودا، مؤثرة ومستحقة للتقدير لتعزيز مبدأ سيادة القانون بالرغم من كل الضغوطات والتحديات التي تعرضت إليها.  

انشر المقال

متوفر من خلال:

منظمات دولية ، قرارات قضائية ، مقالات ، فلسطين ، الأردن ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني