مع اقتراب الذكرى الثانية لانتفاضة 17 تشرين، تعود السلطة لتحاول إعادة تدوير خطابها عن استرداد الأموال المنهوبة الذي كانت بدأته في الورقة الإصلاحية التي أقرتها حكومة سعد الحريري بعد 4 أيام من ثورة 17 تشرين. وكانت قد ركزت في خطابها آنذاك على المسار التشريعي، بما يأذن عن تلكئها عن القيام بأعمال مباشرة لمكافحة الفساد ووقف النزف المالي وهو ما قد يدخلنا في دوامة لسنوات قبل النجاح في الوصول إلى أي نتيجة فعلية. الآن، وقد تمّ إقرار قانون استعادة الأموال المتأتية عن جرائم الفساد بصيغته النهائية (المعروف بقانون استرداد الأموال المنهوبة) في جلسة 29/3/2020 بعد حوالي سنة ونصف من ثورة تشرين والتي كان أحد أبرز مطالبها استعادة الأموال المحوّلة إلى الخارج. ونهدف من خلال هذا المقال إلى البحث في مدى إمكانية تطبيق هذا القانون، وفعاليته. فما هي أبرز الصعوبات التي تعتري استرداد الأموال المنهوبة؟ وإلى أي قدر يمكن التعويل عليه لإتمام ذلك؟
وقبل المضي في ذلك، يهمنا أن نوضح ثلاثة أمور: أولا، أننا تعمدنا حصر مقالنا هذا بالعوائق الداخلية التي تحول دون تطبيق هذا القانون، وهي عوامل يُضاف إليها كمّ من العوائق الخارجية والدولية والتي لا تقلّ صعوبة. ثانيا، أنه لا يسعنا إلا التذكير بخطورة الخطاب الذي يحجب ضرورة وضع خطط لتعويض الخسائر والنهوض بالاقتصاد بغطاء المطالبة باسترداد المال المنهوب. ثالثا، أن الاقتراح الذي تم إقراره أنشأ إلى جانب الدائرة المستحدثة لاستعادة الأموال المنهوبة صندوقا حمل تسمية “الصندوق الوطني لإدارة واستثمار الأموال المستعادة”، وهو صندوق يرجح أن يبقى فارغا في ظل الصعوبات الكبيرة أمام تطبيق هذا القانون.
1. لا استرداد للمال المنهوب من دون قضاء مستقلّ
قبل استرداد أي مال منهوب، يقتضي أولا إثبات حصول النهب وتحديد المال المنهوب في حكم مبرم صادر عن القضاء. وهذا ما أكّدت عليه المادة 12 من قانون استعادة الأموال المتأتية عن الفساد.
وعليه، لا يختلف إثنان لديهما الحدّ الأدنى من المصداقية على أن الوصول إلى هذا الأمر يتطلب وجود نيابات عامة وهيئات قضائية قادرة على العمل بشكل فعال بمنأى عن أي ضغوط أو تدخل. وعليه، من البيّن أن من شأن إقرار قانون كهذا في ظل نيابات عامة وقضاء غير مستقل باعتراف المجلس النيابي نفسه أن يبقى من دون أي مفعول محسوس. وليس أدلّ على غياب الإرادة السياسية في تنفيذ القانون ما قاله رئيس مجلس نبيه بري ردّا على مطلب أحد النواب بتعجيل النظر في اقتراح استقلال القضاء، لجهة أن مسألة استقلال القضاء خارجة عن الموضوع. ولا يفسر موقف بري في هذا الخصوص إلا على أنه مسعى لحجب مسألة مركزية ترافق وضع أي تشريع كهذا.
وتبيانا لذلك، يكفي التذكير بأن أول تطبيق لقانون الإثراء غير المشروع في وجه رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي حصل بعد 66 سنة من إقراره في صيغته الأولى وما كان ليحصل لولا حصول ثورة عارمة. كما يكفي النظر في مآل قضية سوناطراك التي تكاد تكون إحدى أكبر قضايا الفساد والتي توفر فيها ظروف أذنت في إجراء أوسع تحقيق قضائي. ورغم ذلك، فقد انتهى التحقيق فيها إلى استبعاد الادعاء على شركة سوناطراك كما الادعاء على أي من الوزراء الذين ساهموا في توقيع العقد أو تمديده ل 15 سنة. كما تم استبعاد تهم تبييض الأموال عن جميع المدعى عليهم.
وهذا الأمر يكاد يكون نتيجة طبيعية لتسييس المراكز القضائية التي تتولى عموما ملاحقة قضايا الفساد أو التحقيق فيها، وفي مقدمتها النيابة العامة التمييزية والنيابة العامة المالية وقضاء التحقيق وبالأخص قاضي التحقيق الأول في بيروت والذي له صلاحية حصرية في التحقيق في قضايا الإثراء غير المشروع، وذلك نتيجة الأعراف والمخالفات المعتمدة في وضع التشكيلات القضائية.
للتذكير أن قاضي التحقيق الأول في بيروت السابق هو النائب العام التمييزي الحالي غسان عويدات، والذي أشّرت العديد من أعماله كقاضي تحقيق أو كنائب عام تمييزي إلى انخراطه في شبكات المصالح. وفي حين لم يعين بديل عنه منذ ذلك الحين، فإن مشروع التشكيلات القضائية الذي تمّ إجهاضه كان رشح لهذا المنصب القاضي ربيع حسامي الذي ترأس الهيئة الاتهامية التي نظرت في قضية سوناطراك واستبعدت ما أشرنا إليه أعلاه.
2. هيئة التحقيق الخاصة حافظة الأسرار المصرفية
بالإضافة إلى مسألة استقلالية القضاء، ثمة صعوبة أخرى تتمثل بصعوبة إثبات النهب وبالأخص قيمته في ظل نظام السرية المصرفية الحالي، والذي يمنع ليس فقط الوصول إلى معلومات متصلة بالوضع الحالي للحسابات إنما أيضا المعلومات المتصلة بالحوالات السابقة منها وإليها ومجمل عمليات تحريكها. يعود ذلك إلى حصر حق رفع السرية المصرفية بهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان.
وبالتدقيق في عمل هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان، فإن صلاحيتها برفع السرية المصرفية تنحصر في الحسابات التي يستشفّ منها حصول عمليات تبييض أموال، الأمر الذي يمنحها هامشا واسعا لإبقاء السرية من خلال تضييق مفهوم تبييض الأموال. وهذا ما اختبرناه في عدد من القضايا، أهمها قضية تحويل الأموال إلى الخارج وقضية سوناطراك حيث تمّ إهمال طلب النائبة العامة في جبل لبنان القاضية غادة عون وفق ما صرّحت به في حديث متلفز في 18/11/2020 رغم خطورة القضيّة. ويفهم تلكؤ الهيئة عن القيام بمسؤولياتها في هذا الخصوص عند النظر إلى تركيبتها. فعدا عن أن حاكم مصرف لبنان أو من يفوضه يرأسها، فهي تضمّ إليه رئيس لجنة الرقابة على المصارف (وهو خبير مصرفي أو أستاذ جامعي يعيّن بمرسوم في مجلس الوزراء ويكون مقربا عادة من المصارف) ، بالإضافة إلى خبير يعينه مجلس الوزراء بناء على انهاء حاكم مصرف لبنان والقاضي العضو في الهيئة المصرفية العليا (والذي يعين بمرسوم بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى) وهو حاليا النائب العام المالي علي ابراهيم.
وفي حين أقرّت اللجان المشتركة في 21/5/2020 اقتراح قانون تعديل قانون السرية المصرفية الذي يمنح النيابات العامة إمكانية رفع السرية المصرفية بما يتصل بحسابات القيمين بخدمة عامة الذين قد يتعرّضون لملاحقة، فإن الهيئة العامة لمجلس النواب أجهضت في جلستها المنعقدة في 28/5/2020 هذا التعديل لتحصر صلاحية رفع السريّة بالهيئتين المذكورتين أعلاه. ومن اللافت أنّ إجهاض هذا الإصلاح تمّ بدفع من نواب من كتل مختلفة أثاروا عدم جواز منح النيابات العامة هذه الصلاحيّة في ظلّ عدم استقلاليتها وتسييسها، لما قد يترتّب على ذلك من كيديّة. وقد طلبُوا تبعاً لذلك إرجاء هذا التعديل إلى حين إقرار قانون استقلال القضاء. وبخلاف تجاوب بري مع هذه الحجة لنسف أي إصلاح في مجال السرية المصرفية كما حصل آنذاك، فإنه ردّ عند مناقشة القانون موضوع هذا المقال طلب أحد نواب كتلته في تسريع النظر في قانون استقلال القضاء ضمانا لتنفيذ قانون استعادة الأموال المنهوبة معتبرا إياه خارج الموضوع. بمعنى أنّ شعار استقلالية القضاء هو سبب كافٍ لتعطيل أي مسعى لتعزيز صلاحيات القضاء لكنه يصبح خارج الموضوع في حال أريد منه تحصين القضاء فعليا. ويلحظ هنا أن رئيس الجمهورية ميشال عون عمد إلى ردّ قانون رفع السرية المصرفية في 19/6/2020 مبيّنا أن هيئة التحقيق الخاصة لا تتحرّك من تلقاء نفسها وأن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لم يتمّ تشكيلها أو وضع نظامها الداخلي بعد، وأنه يجب إعطاء هذه الصلاحية للنيابات العامة نظرا لدورها في ملاحقة الجرائم ، من دون أن يلقى هذا الرد أيّ استجابة ولو شكلية من المجلس النيابي الذي يتعين عليه وفق الدستور الآن تأمين الأغلبية المطلقة في حال أراد إقرار الاقتراح.
ومن البيّن في ظل ضعف أداء هيئة التحقيق الخاصة وعدم استقلاليتها أن لبنان ما يزال في هذا المجال في خلاف صريح مع اتفاقية الأمم المتّحدة لمكافحة الفساد التي تضع موجبا على الدول بإيجاد “آليات مناسبة” لتذليل العقبات التي قد تنشأ عن تطبيق قوانين السرية المصرفية، في حال القيام بتحقيقات جنائية داخلية في أفعال مجرمة وفقا لهذه الاتفاقية. ومن شأن هذا الأمر أن ينسف قول عدد من النواب أنه بإقراره إنما يتمّمون موجبات لبنان وفق هذه الاتفاقية. بمعنى أن السرية المصرفية ستبقى الخاتم السحري الذي يحول دون المحاسبة.
3. تدابير لمنع تهريب الأموال
أمر آخر من شأنه أن يُعطّل مفعول هذا القانون، هو التلكؤ عن اتخاذ تدابير لمنع تهريب الأموال المشتبه بها. وهذا ما حصل غداة 17 تشرين من خلال تلكؤ السلطات العامة على اختلافها (المجلس النيابي وحاكم مصرف لبنان) في إقرار قانون كابيتال كونترول، في موازاة فرض المصارف كابيتال كونترول غير رسمي بصورة انتقائية. فبنتيجة ذلك، أمكن أصحاب النفوذ تهريب مليارات الدولارات من حساباتهم المصرفية إلى الخارج، في حين بقيت الرساميل الأخرى عالقة في المصارف.
ويلحظ أنه لا توجد حاليا إلا آلية واحدة لتجميد الحسابات المصرفية، وهي تمرّ هنا أيضا بالضرورة بهيئة التحقيق الخاصة وفقط في حالات الاشتباه بعمليات تبييض أموال، مع ما يستتبع ذلك من إشكالات وفق ما سبق بيانه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هيئة التحقيق الخاصة لم تعِر أي انتباه لمطلب نادي قضاة لبنان الذي وجّه إليها غداة الثورة بتجميد الحسابات العائدة للقيمين بخدمة عامة والتي تفوق قيمتها خمسمائة ألف د.أ إلى حين التحقق من شرعية الأموال المودعة فيها.
4. تعليق القانون على نفاذ قانون آخر
سببٌ آخر من شأنه تعطيل هذا القانون، هو تعليق هذا القانون على نفاذ قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وبذلك، يستمر المشرع في نهجه السابق لجهة تعليق كل إصلاحاته لضمان الشفافية ومكافحة الفساد على شمّاعة الهيئة وهي شماعة ما تزال غير موجودة، ويرجح في حال وجودها أن تكون شماعة هزازة ليس بوسعها ان تحمل شيئا.
وقد أنشأ الاقتراح الذي تم إقراره “دائرة استرداد الأموال المنهوبة”. ووفق ما جاء فيه، تتولى هذه الدائرة المنشأة لدى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التنسيق مع الأجهزة القضائية والرقابية والأمنية كافة، كما ومع هيئة التحقيق الخاصة فيما خص الملاحقات والإخبارات والإدعاءات المتعلقة بجرائم الفساد في الشق المتعلق باسترداد الأموال المتأتية عن جرائم الفساد. كما تتولى إعداد الاستراتيجيات والخطط بشأن تنسيق ومتابعة أعمال استعادة الأموال مع الجهات الإدارية والقضائية. وهي تتكون من رئيس الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد وإثنين من أعضاء الهيئة يعينون بناء لنظامها الداخلي.
والإشكال هنا يتأتى من 3 أمور:
أولا، أن هذه الهيئة لم تنشأ بعد،
ثانيا، أن نظامها الداخلي لم يوضع بعد. ويفترض أن يصدر هذا النظام بقرار تنظيمي عن الهيئة بموافقة الثلثين بعد موافقة مجلس شورى الدولة بما يجعل تعيين أعضاء الدائرة أمرا مؤجلا أكثر،
ثالثا، أن تكوين الهيئة يبقى أيضا إشكاليا لوجود إشكاليات استقلالية أعضائها. وما يزيد من هذه الإشكاليات هو ظهور بوادر تلاعب في المعايير الموضوعية لتعيين نصف عدد الهيئة على الأقلّ. كما أن رئيس الهيئة سيكون وفق القانون أحد القاضيين المتقاعدين المسجلين على لائحة الشرف (الأعلى درجة عند تقاعده) المنتخبين من القضاة. لكن يلحظ أن مجلس القضاء الأعلى لم يسجّلْ أيا من القضاة المتقاعدين خلال السنتين المنصرمتن على لائحة قضاة الشرف بما يمنع هؤلاء من الترشح. كما يلحظ غياب كليّ للشفافية في دعوة القضاة المتقاعدين للترشح. وأحد الأسماء القليلة المعلن عن ترشحها والذي قد يتولى بنتيجة ذلك رئاسة دائرة استعادة الأموال المتأتية عن جرائم الفساد هو القاضي مروان كركبي، الذي كان ترأس هيئة القضايا وبرز دوره بهذه الصفة في قضية Imperial jet.
5. الحصانات القانونية والفعلية
أمر آخر قد يعيق نفاذ هذا القانون وقوامه سواد منطق الحصانات للتفلّت من الملاحقة، وذلك بفعل اللغط الحاصل حول مدى الصحانة الدستورية. وقد منحتْنا قضيّة تفجير المرفأ إضاءة هامة حول مدى الفهم الواسع لهذه الحصانات وتعاضد القوى السياسية من أجل فرض هذا الفهم بما يناقض قرارات محكمة التمييز في هذا المجال.
6. غياب الإرادة السياسية
أخيرا، يظهر التدقيق في السياسات العامة غياباً شبه كلّي للإرادة السياسية في استرداد المال المنهوب أو في الحؤول دون تهريبه كما سبق بيانه. ولعل خير دليل على ذلك، هو تعطيل التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. وفي حين يظهر هذا التعطيل على أنه ناتج عن ممانعة شخص واحد هو الحاكم في إعطاء المعلومات الضرورية لإجراء التدقيق، يسجّل أن المجلس النيابي لم يضع قوانين تضع حدا لتعسف هذا الأخير وأن الحكومة تلكأت حتى اليوم عن اتخاذ القرار المناسب بعزله.
كما من الأدلة الدامغة، التخاذل الحاصل عن استرداد المال المنهوب على مرأى من الجميع، والذي بالإمكان إتمامه من دون حتى اللجوء إلى القضاء أو التعاون الدولي بما فيه من تعقيدات. وهذا ما نستشفه من تجاهل السلطات العامة استرداد الأملاك البحرية المعتدى عليها، بعضها منذ أكثر من 3 عقود.