منذ زهاء شهرين، يدور نقاش محموم حول مشروع التشكيلات القضائية الذي أعدّه مجلس القضاء الأعلى. وقد انقسم الخطاب العام عموما إلى رأيين رئيسيين:
- رأي هو الأكثر صخباً وانتشارا ًويتمثل في المطالبة بإقرار مشروع التشكيلات كما هو، احتراما لمرجعية مجلس القضاء الأعلى، وبغض النظر عن مضمونه. أبرز مؤيدي هذا الرأي قناة MTV ومجموعة من أصحاب الأعمال "الخط الأحمر" التي أصدرت عددا من الفيديوات في هذا الاتجاه.
- أما الرأي الثاني، فيتمثل في الموقف الصادر عن "المفكرة القانونية" وهو ينبني على تقييم مضمون المشروع وتحديداً لجهة مدى استجابته لأولويات مرحلة ما بعد 17 تشرين. وقد خلصت "المفكرة" إلى أن المشروع لم يحدث التغيير المطلوب في النيابات العامة وقضاء التحقيق، بل استعاد المحاصصة الطائفية والسياسية المعهودة، ولو بشكل أقلّ فجاجة مما فعلت تشكيلات 2017 التي هندسها وزير العدل الأسبق سليم جريصاتي.
فضلا عن ذلك، ظهرت آراء أخرى حول التشكيلات على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، منها ما دعا إلى إقرارها رغم نواقصها على اعتبار أنها تشكل خطوة أولى على طريق إصلاح تدريجي للقضاء. ومنها ما دعا إلى رفضها كليّا بمعزل عن مضمونها بانتظار صدور قانون استقلال القضاء جديد، يعين على أساسه مجلس قضاء أعلى تتوفر فيه معايير استقلال القضاء.
وبمعزل عن مآل هذا النقاش، فإننا نبدي هنا عددا من الملاحظات، التي تهدف لتصويبه وتشذيبه من الأخطاء التي اعترته وأثّرت سلبا على مضمونه وأبعاده. ونسارع إلى القول أن الكم الأكبر من هذه الأخطاء ناجم عن نقص معرفي في شؤون التنظيم القضائي.
1- مجلس القضاء الأعلى ليس مستقلا: التسييس من داخل المجلس أيضا
المنزلق الأول الحاصل في الخطاب العام يتأتى من التسليم بأن مجلس القضاء الأعلى غير مسيّس وأنّ الإحتكام إليه يشكل ضمانة ضد التسييس. وهذا الأمر يتناقض تماما مع كيفية تشكيل مجلس القضاء الأعلى وآليات عمله. وتبيانا لذلك، نذكر بالآتي:
- أن 8 من أعضاء المجلس العشرة يُعيّنون من الحكومة وأن العضوين الآخرين يُنتخبان فقط من قضاة محكمة التمييز (وهم أقلّ من 10% من مجموع القضاة) وذلك من بين رؤساء غرف هذه المحكمة حصرا. أي أن هذين العضوين يُنتخبان من بين عدد ضئيل من القضاة (عمليا 8) وصلوا إلى مراكزهم بموجب تشكيلات عدة وافقت القوى السياسية عليها، أو بكلمة أخرى من بين قضاة سبق لهذه القوى أن اصطفتهم مرات عديدة،
- أن تعيين أعضاء المجلس يخضع للكوتا الطائفية والتي باتت مرادفا لكوتا زعماء الطوائف، بما يسمح لكلّ من هؤلاء أن يملأ المقاعد المخصصة لطائفته بموالين له. من هذا المنظور، يتحوّل مجلس القضاء الأعلى عموما إلى مجموعة غير متجانسة يتولّى أعضاؤها عموما الدفاع عن مصالح مرجعياتهم بهدف تغليب إراداتهم وحساباتهم الفئوية، بما فيها من تناقضات، على اعتبارات استقلال القضاء. وهذا ما حملنا مرارا إلى القول أن المجلس الذي يستمدّ سبب وجوده من مبدأ استقلال القضاء تحوّل بفعل ذلك وفي ظل انحطاط النظام السياسي، إلى ذراع للقوى السياسية المهيمنة داخل القضاء أكثر مما هو درع للقضاة في مواجهته، مما أفقده سبب وجوده وبالتأكيد هالاته التقليدية،
- أن التسليم بسيادة المجلس لا تعني إطلاقا تحييدا للإعتبارات السياسية، طالما أن تسييس التشكيلات لا يحصل فقط من خارج المجلس إنما يحصل أيضا وبالأخص من داخله، من خلال الأعضاء المعينين فيه والذين يتولى كل منهم عموما تمثيل مطالب جهة سياسية أو أكثر. وهذا ما تكثر المؤشرات والدلائل عليه سابقا وحاليا.
2- شخصنة مجلس القضاء الأعلى: سهيل عبود رجل موثوق
من الأمور التي تُعكّر النقاش أيضا هي الشخصنة، وقوامها أن رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود هو من القضاة الموثوقين (وهو أمر لا نجادل به)، وتاليا يقتضي الموافقة على التشكيلات التي مهرها بتوقيعه تبعا لهذه الثقة. وهذا التوجّه أيضا غير صائب للأسباب الآتية:
- أنه خلافا لما يعتقد البعض، ليس لرئيس المجلس أي صلاحيات خاصة به في وضع التشكيلات، إنما يبقى صوتا واحدا من أصل عشرة (تسعة بعد توقف أحدهم عن العمل كما نبين أدناه). وتاليا، فإنه من غير الصحيح لا نظريا ولا منطقيا ربط التشكيلات بشخص واحد من أعضاء المجلس،
- أن توقيع عبود على التشكيلات لا يعني بالضرورة أنه موافق على كل تفاصيلها، أو أنها تمثل طموحاته وإرادته الحقيقية. وهذا ما لا يخفيه الرجل الذي يقرّ أن مشروع التشكيلات ليست مثالية بل أفضل الممكن وفق رأيه وفق ما ورد في أسبابه الموجبة وما صرّح به لإحدى الصحف. وقد بدا عبود بالنتيجة وكأنه يستعيد بدرجة أو بأخرى فكرة أن رئيس مجلس القضاء الناجح ليس الذي يضع تشكيلات مثالية بل الذي يضع تشكيلات قابلة للتسويق أو التمرير داخل المجلس وخارجه. ومن الطبيعي إذ ذاك أن يكون معيار نجاح التشكيلات بالنسبة إليه مختلفا عما هو بالنسبة للمنظمات الحقوقية أو الثورية،
- أن المراهنة المبالغ بها لأحد أعضاء المجلس (عبّود) أدّى عمليا إلى حجب هوية سائر أعضائه والذين تشكّل مشاركة بعضهم في التشكيلات على العكس من ذلك، دليلا على تسييسها أو على الأقل عامل تشكيك في جديتها أو جودتها.
ومن أبرز الأشخاص الذين تمّ حجبهم بفعل الشخصنة، النائب العام التمييزي غسان عويدات الذي نجح على ما يبدو، بإقناع المجلس بتعيين مقربين منه في مراكز النيابات العامة الأساسية، بحجة أنه رئيس النيابات العامة وأنه يحتاج إلى انسجام مع النواب العامين الذين اعتبرهم بمثابة فريق عمله. للتذكير، غسان عويدات هو الذي حرر محضر الاجتماع الشهير مع ممثلي جمعية المصارف والذي أدى إلى تشريع أكبر اعتداء جماعي بتاريخ لبنان، بحق مئات آلاف المودعين. وهو الذي غضّ الطرف عن التحويلات الحاصلة إلى الخارج من المصارف بعد 17 تشرين وأيضا عن بيعها اليوروبند قبل استحقاقها في آذار الماضي بما أحرج الحكومة اللبنانية من دون أي محاسبة أو قيد. وهو الذي جمد قرار منع التصرف بأموال المصارف وأموال مدرائها. وهو الذي أعطى مساعده الرئيسي (غسان خوري) وتحت إشرافه المعتدين على الأملاك البحرية والذين لم يقدموا أي ملف تسوية مهلا إضافية خلافا لما يجيزه القانون، بدل المبادرة لملاحقتهم واسترداد هذه الأملاك. وهو الذي حال دون ملاحقة الهجمات على خيم الثورة في وسط بيروت من قبل مناصري أحزاب السلطة، وذلك من خلال مركزتها بين يديه. والأخطر، أنه هو الذي بدا منذ توليه النيابة العامة عازما على ممارسة أقسى أشكال الهرمية داخل النيابات العامة والأهم حصر كل الملفات القضائية الهامة بين يديه ومن أبرزها ملفات الإثراء غير المشروع ومجمل الملفات والمراسلات المتصلة بالقطاع العام والفساد، من دون أن ينتهي حصرها فيه إلى تحريك أي منها. هذا من دون الحديث عن أعماله كقاضي تحقيق أول في بيروت طوال عشر سنوات (2009-2019) حيث منع المحاكمة عن شركة سوكلين وهي الملاحقة التي كانت بدأت في إثر أزمة النفايات في 2015، كما منع المحاكمة عن رئيس مجلس إدارة مصرف السوسيتي جنرال أنطوان الصحناوي من قضية إطلاق النار في المنزل الأبيض، فانتهت محاكمة هذه الجريمة من دون وضع اليد على الجاني الرئيسي فيها. وتبعا لهذه الحصيلة، أمكن القول أن المسار المهني للقاضي عويدات محفوف بمجاملة أصحاب النفوذ، من دون أن يعرف لديه أي توجه لردع أي من هؤلاء.
ومن أعضاء المجلس الآخرين، القاضي ماهر شعيتو (وهو رئيس الهيئة الاتهامية في بيروت) والمقرب جدا من حركة أمل، والذي هدد بمقاطعة جلسات التشكيلات في حال لم يؤخذ برأيه في ملء عدد من المراكز، وبخاصة بما يتصل بالمراكز المخصصة خلافا للدستور للطائفة الشيعية. وكان شعيتو عرف بشكل خاص باستفادته من قرضين مدعومين من مصرف لبنان بقيمة تزيد عن مليونين ومائتي ألف د.أ، وهو قرض بقي من دون تحقيق، بعدما اعترض مجلس القضاء الأعلى الحالي على إثارة الموضوع إعلاميا مبررا هذين القرضين بالبروتوكول الموقع بين صندوق تعاضد القضاة والجهات المصرفية المعنية. كما عُرف بأحكام وقعها بصفته رئيس الهيئة الاتهامية في بيروت وأضعفت إمكانية مكافحة الفساد.
ومن الأعضاء الآخرين في المجلس والذين كان لهم دور أقل أهمية من دور عويدات وشعيتو في وضع مشروع التشكيلات: كلود كرم الذي شغل منصب النائب العام في جبل لبنان طوال 8 سنوات (2009-2017) مع ما يفترضه تولي هذا المنصب من علاقات وتفاعلات منتظمة مع العديد من القوى السياسية، وروكز رزق الذي عرف باجتهاداته المقيدة لحرية الصحافة، تحت حجة أنه ليس للسلطة الرابعة (الصحافة) أن تصدر أحكاما بحق الأشخاص الذين تتناولهم، عملا بمبدأ الفصل بين السلطات والذي يحصر مهمة إصدار الأحكام بالسلطة الثالثة التي هي القضاء. من دون أن ننسى العضو المغيّب منذر ذبيان الذي تم توقيفه عن العمل وهو يحاكم تأديبيا على خلفية ملفات الفساد القضائي.
- أن وزيرة العدل ماري كلود نجم هي بالمقابل أستاذة في كلية الحقوق في الجامعة اليسوعية وتتمتع بسمعة جيدة على غرار القاضي سهيل عبود. ومن وجهة إصلاحية، كان يؤمل طبعا أن يشكّل التقاء هذين الشخصين (هي وعبود) والتفاعل المؤسساتي بينهما ومع القوى الاجتماعية الداعمة لمكافحة الفساد، عاملا مساعدا لتطوير مشروع التشكيلات وإخراجه في حلّة إصلاحيّة وغير تقليديّة، من شأنها أن تمكن المواطنين من مواجهة قوى الهيمنة ونظام ما قبل الثورة، لا أن ينقطع التواصل بينهما أو أن يرتدّ أيّ منهما إلى تحالفات هي في عمقها مناقضة لسيرته.
- أخيرا، فإن الإنجاز الذي حققته الثورة هو الإنتقال من نظام تبجيل المقامات أو نظام المجاملة إلى نظام المحاسبة. وهذا الأمر يفترض إخضاع جميع الأشخاص العاملين في الشأن العام للمساءلة بمعزل عن مدى مصداقيتهم أو حسن سيرتهم، منعا لنشوء مقامات جديدة بدلا عن المقامات التي سعت وتسعى الثورة إلى إسقاطها.
3- معركة مرجعية مجلس القضاء، معركة عبثية في ظل تركيبته الحاضرة
من الأخطاء الأخرى الملازمة لما سبق، أنه يقتضي إعلاء كلمة مجلس القضاء الأعلى وعمليا تكريس مرجعيته ضمانا لاستقلال القضاء. وعليه، يكون إقرار مشروع التشكيلات الذي وضعه المجلس إنجازا وطنيا بمعزل عن مضمونه أو المسار الذي اتخذه. وقد بدت هذه المعركة (أي تكريس مرجعية مجلس القضاء الأعلى) استعادة للمعركة التي سعى رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق جان فهد إلى خوضها، من خلال سعيه لتعديل القانون في اتجاه حصر مرجعية إجراء التشكيلات بالمجلس وحده. وهذه المعركة هي في عمقها عبثية لأسباب عدة سبق وأثرناها مطولا، وبخاصة في معرض الردّ على التعديل المقترح. ومن أبرزها أن تكريس مرجعية مجلس القضاء الأعلى غير مبرر إطلاقا في ظل تركيبته الحالية التي تتنافى مع معايير استقلال القضاء. ومن هذا المنظور، لا يكون خوض معركة "مرجعية المجلس" مجديا إلا إذا حصل تبعا لتعديل كيفية تعيين أعضاء هذا المجلس، بما يضمن استقلاليتهم وتجردهم. وهذا ما يصبو إليه اقتراح قانون استقلال القضاء وشفافيته والتي أسهمت "المفكرة" في إعداده وهو عالق اليوم أمام لجنة الإدارة والعدل، من دون أن يبدي مجلس القضاء الأعلى حتى اليوم أي حماسة لإقراره أو حتى رأي بشأنه.
4- اعتبار مجلس القضاء سلطة غير قابلة للإنتقاد:
برز هذا الإعتبار أيضا في النقاشات الدائرة على وسائل التواصل الاجتماعي، بمعيّة الاعتبارات السابقة. وهو أيضا خاطئ، لأسباب عدة أبرزها الآتية:
- الأول، أن المبادئ الديمقراطية تفترض مراقبة جميع الهيئات الإدارية كما جميع السلطات. هذا مع العلم أن مجلس القضاء الأعلى لا يمثل السلطة القضائية (التي تتمثل في كل قاض أو محكمة وفق المادة 20 من الدستور) بل هو جهاز إداري حددت مهمته الأساسية في القانون بالسهر على حسن سير العدالة وضمان استقلال القضاء،
- الثاني، أن هذا الأمر ينطبق بشكل خاص بعد 17 تشرين، حيث بتنا نعيش عمليا في فترة إنتقالية، بعدما تضاعف الزخم الشعبيّ في المشاركة في الحياة العامة في موازاة تراجع مشروعية السلطات العامة كافة، بما فيها مجلس القضاء الأعلى. ففي ظل فترة كهذه، يصبح من الضروري تعزيز أشكال الديمقراطية المباشرة في موازاة إخضاع السلطات العامة لمزيد من الشفافية والعلنية والمساءلة. وقد طالبت "المفكرة القانونية" المجلس منذ بدء إعداد مشروع التشكيلات باحترام مقتضيات هذه الفترة، من خلال فتح باب الترشيح العلني للمراكز القضائية الأساسية (وعددها 18) وتمكين القضاة من تبيان مؤهلاتهم لإشغالها. وهذا ما قامت المفكرة به على هديها من بعدها من خلال إخضاع مضمون مشروع التشكيلات ومعها مجلس القضاء الأعلى للنقد.
5- اختزال المعركة بمعركة صلاحيات بين وزيرة العدل ومجلس القضاء الأعلى
يصوّر كثيرون وبالأخص الإعلام معركة التشكيلات على أنها مواجهة ثنائية بين مجلس القضاء الأعلى (ممثلا برئيسه سهيل عبود) ووزيرة العدل ماري كلود نجم. وعليه، غالبا ما تكرس مقدمات الأخبار لطرح أسئلة من قبيل: هل الوزيرة ملزمة بالتوقيع على التشكيلات؟ ما هي الخلفية السياسية لتأخّر توقيعها على التشكيلات؟ أو ما هي المصالح السياسية التي تخدمها الوزيرة تحت غطاء حجج حقوقية؟ فكأنما الإهتمام بمشروع التشكيلات يقتصر على مراقبة كيفية التفاعل بين هذين المرجعين حول هذا المشروع ومدى التزام كلا منهما بصلاحياته من دون تجاوز، تمهيدا للتحزب لأحدهما في موازاة مساءلة الآخر. وقد تمّ أحيانا تضخيم هذه الثنائية من خلال اختزال القضاء بمجلس القضاء الأعلى وتصوير وزيرة العدل على أنها مجرّد واجهة للعهد بما يرمزه من هيمنة للسلطة السياسية وتدخلات في القضاء.
وعليه، وبفعل هذه الثنائية، يتمّ ليس فقط تغييب الوظائف الاجتماعية المنتظرة من مشروع التشكيلات، بل أيضا تقييم الإدلاء بأي من هذه الوظائف على ضوء هذه الثنائية، بحيث يتم تسفيهها وتصنيفها رأسا ومن دون تدقيق ضمن الذرائع التي لا يجدر التوقف عندها.
وهذا ما سعت "المفكرة" إلى تصويبه، من خلال طرح عدد من الأسئلة من قبيل ما هي الأسس والمعايير التي انبنى عليها مشروع التشكيلات؟ وهل راعى مجلس القضاء الأعلى مبادئ الشفافية في إطار إعداده؟ وهل نجح المجلس في تعيين القاضي المناسب في المكان المناسب، وبخاصة في المراكز التي ينتظر منها أن تكون الأكثر نشاطا في مواجهة الفساد والإثراء غير المشروع أو التحقيق فيها، كالنيابات العامة وقضاء التحقيق؟ والأهم، هل أدخلت هذه التشكيلات توازنات داخل النيابة العامة تمنع النائب العام التمييزي من تحقيق مساعيه في الهيمنة عليها تجنبا لشخصنة الحق العام؟ وقد نبهت في الآن نفسه إلى خطورة إنسياق القوى الاجتماعية إلى المطالبة بإقرار مشروع تشكيلات، قبل التيقن من أنه يتوافق مع مصالح المجتمع ويلبي احتياجاته. فهل أبشع من أن يهلل الناس أو يصفقون لمشاريع غيّبت مصالحهم أو صنعت لضرب هذه المصالح؟
6- اختزال معركة استقلال القضاء بمعركة التشكيلات القضائية:
من الأخطاء الأخرى الناجمة عن هذا النقاش والتي تتكامل مع ما سبق من اعتبارات، تذكيته إلى درجة تم فيها اختزال معركة استقلال القضاء بمعركة إقرار التشكيلات القضائية. وفيما يُفهم أن يبرز أحد عناوين استقلال القضاء أكثر من غيرها في مرحلة معينة، فإن هذا الأمر يصبح مقلقاً حين يحجب هذا العنوان عناوين أخرى تتعداه بكثير من حيث الأثر الإجتماعي والإنتاجية. وهذا ما حصل تماما في حالتنا الحاضرة حيث أنّ التركيز على "تشكيلات" مجلس القضاء الأعلى أدى إلى حجب الأضواء عن معركة إقرار قانون استقلال القضاء، التي من شأنها أن تضع حدا حاسما للنقاش الدائر حول تنازع الصلاحيات بين المجلس والوزارة أو حول مشروعية المجلس في ظل تعيينه من قبل الحكومة، والأهم أن ترسي بنية جديدة أكثر ضمانا لاستقلال القضاء واستدامة.
7- تسفيه القاعدة الدستورية بعدم جواز تخصيص مراكز لطوائف معينة:
منذ ما قبل الإعلان عن مشروع التشكيلات القضائية، أثارت "المفكرة" وجوب احترام قاعدة عدم جواز تخصيص مراكز لطوائف معينة فيه، عملا بالمادة 95 من الدستور. وقد عادت وأكّدت عليها في بيانها الصادر تبعا للإعلان عنها، محذّرة من أن استمرار الإخلال بهذه القاعدة يجعل التشكيلات مشوبة بعيب عدم الدستورية. وقد عادت المفكّرة وأثارت الحجة نفسها في بيان آخر صدر بمعيّة منظّمات أخرى بشأن التعيينات في المجالين المصرفي والمالي. كما يلحظ أن وزيرة العدل ماري كلود نجم (وهي أستاذة حقوق) أكّدت ضمن ملاحظاتها على مشروع التشكيلات والتي وجهتها لمجلس القضاء الأعلى على وجوب احترام هذه القاعدة، بما ينقض حال التطبيع الحاصل منذ اتفاق الطائف حيال الإخلال بها.
لم يتسنّ للمفكرة الاطّلاع على جواب مجلس القضاء الأعلى برفض ملاحظات وزيرة العدل في هذا الخصوص. لكن عزت بعض الصحف إلى بعض أعضائه قولهم بأن مطلب الإلتزام بالمادة 95 يدخل في إطار المثاليات غير الواقعيّة والعصيّة على التطبيق. وعليه، وإذ ذهب كثيرون إما إلى وضع هذه الحجة في إطار المثاليات أو حتى في إطار الأمور التي تتحقق بإلغاء الطائفية السياسية وليس قبلها، فإنهم انتهوا إلى اعتبار هذه الحجة مجرّد ذريعة تقنية لتعطيل التشكيلات لغايات سياسية، بما يؤدّي إلى تسفيهها وعمليا إلى إعادة تكريس التطبيع مع الإخلال بها.
ومنعا للغط الحاصل في هذا الشأن، وجب توضيح الآتي:
- أن قاعدة عدم جواز تخصيص أي مركز إداري أو قضائي لطائفة بعينها إنما يشكل قاعدة قابلة للتطبيق بشكل مباشر وفق حرفية المادة 95 من الدستور. فقد تضمنت هذه المادة فقرتين: فقرة أولى تحدثت عن وجوب وضع خطة لتجاوز الطائفية السياسية والإدارية وصولا إلى إلغائها، وفقرة ثانية اعتبرت أنها نافذة وذات تطبيق فوري ضمن الفترة الإنتقالية، ومن أبرزها عدم تخصيص أي مركز لأي طائفة. وتاليا أن أي ادعاء بأن هذه القاعدة ليست ملزمة الآن أو أي ربط لها بإلغاء الطائفية السياسية هو قراءة ملتوية للدستور.
- أنه خلافا لما يقال، لا تشكل المطالبة بتطبيق هذه المادة ترفا فكريا ولا طهرانية في التمسك بالمبادئ والقواعد الدستورية، بل هي شرط أساسي لوقف تفتيت الدولة وتحويلها إلى مجموعة من الإقطاعات. وتعود حساسيّة المفكرة لهذه المسألة إلى النتائج التي كانت توصّلت إليها في دراسة الاعتبارات الطائفية في مشاريع التشكيلات السابقة، والتي أثبتت أن تطييف المراكز القضائية هو المدخل الأساسي للمحاصصة وتحويلها من مراكز عدالة إلى مراكز نفوذ. وخير دليل على ذلك هو أن غالبية المراكز الهامة المخصصة لطائفة معينة تقع في مناطق نفوذ زعيم هذه الطائفة، وليس في مناطق أخرى. وعليه، فإن تطبيقها يفترض أن يندرج ضمن أهم تطلعات الثورة وطموحاتها. ولا نبالغ إذا قلنا بالمقابل أن أهم المداخل لاستقلال القضاء وتفعيل دوره تقوم على نقض هذه الممارسة بالكامل.
- أن القول بأن تطبيق هذه القاعدة يدخل ضمن المثاليات أو الأمور غير الواقعية إنما هي حجة مؤدّاها إبقاء واقع المحاصصة الطائفية على حاله. وهو أمر يجعل التمسك بهذه المادة أكثر إلحاحا. فالممارسات الرديئة التي كنا نعيش في ظلّها لا يمكن أن تتغير من دون مطالبات كثيفة بل معارك للتنديد بها، والمثاليات تبقى مثاليات ما لم تحوّلها هذه المطالبات والمعارك إلى واقع يتعين على السلطة التعامل معه على هذا الأساس. وفي العموم، الوقت المؤاتي عموما لخوض معارك مماثلة هو بالضبط وقت الثورات والأزمات الكبرى التي نعيشها منذ 17 تشرين، حيث يظهر للجميع أن الواقع السائد لم يعد مقبولا ويصبح ما كنا نعدّه مثاليا حاجة ملحة.
- أن القول بوجود أعراف مناقضة للدستور لتبرير تجاوز هذه المادة إنما هو مردود كليا لعدم جواز إبعاد قاعدة دستورية واضحة بعرف، هذا عدا عن أن هذا الأمر غير صحيح طالما أن هذه الممارسات لم تصل يوما في مداها وتغلغلها في مختلف درجات القضاء، ما وصلت إليه اليوم.
8- أنه يقتضي دعم التشكيلات القضائية لأنها تؤدي إلى نقل قضاة مسيسين أو فاسدين من مراكز هامة:
خطأ منهجي آخر، ربما يكون الأكثر شعبوية، وقوامه تمسّك البعض بدعم التشكيلات القضائية بحجة أنها تخلّصنا من قضاة مسيسين وبعضهم معروف بالفساد. وما أسهم في تعزيز هذا التوجه هو النقمة الشعبية ضدّ عدد من النواب العامين المرتطبين سياسيا، وفي مقدمتهم النواب العامين في جبل لبنان غادة عون (المقربة من التيار الوطني الحر) والجنوب رهيف رمضان (المقرب جدا من حركة أمل) والمحكمة العسكرية (بيتر جرمانوس). ومع تزايد الثنائية بين القضاء والعهد في الخطاب العام، اتجه الإعلام إلى إضفاء رمزية هائلة لمطلب نقل القاضية غادة عون من مركزها، رمزية تكاد تختزل التشكيلات وتحجب سائر المناقلات عن أي تدقيق. وقد أسهمت القاضية عون في ذلك من خلال تصريحات أخذ بعضها طابعا استفزازيا للرأي العام، كوضع صورة على صفحتها مفادها: "عون راجعة" بما يوحي أنها حصلت على ضمانات بأن التشكيلات لن تمرّ.
ومع تسليمنا بوجوب إبعاد كل القضاة المقربين من أي فريق سياسي عن المراكز الهامة وبخاصة النيابات العامة ضمانا لحياديتها ليس فقط الفعلية ولكن أيضا الظاهرية، وبخاصة في زمن بلغ فيه الإرتياب إزاء السلطة السياسية الحاكمة أعلى درجته، فإن حصر النقاش في إزاحة هؤلاء يؤدي إلى تغبيش النقاش العام للأسباب الآتية:
- أنه يؤدي إلى اختزال مشروع التشكيلات الذي طال مئات القضاة بإزاحة 3 أشخاص عن مناصبهم (أحدهم استقال من منصبه أصلا وهو بيتر جرمانوس وثمة اتفاق على توقيع استقالته فور إقراره)،
- أن مشروع التشكيلات لا يهدف فقط إلى إبعاد من ليس مناسبا لمركز معين، بل أيضا وهذا ربّما الأهم إلى تعيين البدائل. وعليه، يُخشى أن تؤدي بهجة البعض بإزاحة بعض القضاة عن بعض المراكز إلى حجب النظر عن الأماكن التي سيعيّنون فيها (تم تعيين رهيف رمضان قاضي تحقيق عسكري وهو منصب هام يمكنه مجددا من وضع اليد على أجساد الناس) أو عن التعيينات الأخرى. وما يؤكد خطورة هذا التوجه أن إثنين من القضاة اللذين عيّنا بموجب مشروع التشكيلات في مناصب جد هامة (النائب العام العسكري والنائب العام في بيروت) كانا سابقا جزءا من مجموعة قضاة (المحامين العامين في جبل لبنان) تم تصوير إزاحتهم عن مراكزهم على أنه إنجاز إصلاحي في الفترة الممتدة من 2010 و2017. فإذا فاخرت السلطة بإزاحتهما ضمن آخرين سابقا، ها هي تعود لتعينهما في منصبين رفيعين، بعدما باتت رمزية الإصلاح محصورة بإزاحة قضاة آخرين،
- من الخطأ بأية حال استخدام التشكيلات، التي تهدف أساسا لتعيين القاضي المناسب في المكان المناسب، كأداة للمحاسبة أو التأديب. فالمحاسبة إنما تتم في مجلس تأديب القضاة في إطار محاكمة عادلة يتسنى فيها لكل قاض الدفاع عن نفسه، وليس من خلال تشكيلات تجري في الكواليس. والتمسك بهذا الأمر أكثر ضروري وخاصة في ظل الممارسات والتي طالما أدت إلى إبعاد قضاة جيدين عن مراكزهم تبعا لمواقف جريئة اتّخذوها أو فقط لأنهم لم يظهروا طاعة كافية لهرميتهم.
9- وزيرة العدل ملزمة بالتوقيع لأن التشكيلات ملزمة ونهائية
كثيرون أيضا يبنون مواقفهم من التشكيلات على اعتبار أن المادة 5 من قانون تنظيم القضاء الأعلى تجعل التشكيلات ملزمة ونهائية في حال تمسك بها مجلس القضاء الأعلى بأكثرية 7 من أعضائه، وهذا ما حصل. وعليه، وفق هذا الرأي، أيا تكن المآخذ حول مشروع التشكيلات، فإن العمل المؤسساتي يفترض التوقيع على مشروع التشكيلات من دون أي تأخير. وقد ذهب البعض إلى حدّ القول بأن لا اجتهاد في معرض النص تأكيدا على ذلك.
ومن دون التقليل من أهمية هذه الحجة، يبقى أنها تبقى غير حاسمة للسببين الآتيين:
- أن نص المادة 95 من الدستور لجهة إلزامية عدم تخصيص أي مركز لأي طائفة هو واضح تماما كما هي المادة 5 من قانون تنظيم القضاء العدلي،. وعليه، وإذا سلّمنا بقاعدة أنّ لا اجتهاد عند وضوح النص، فإنّ المشروع يصبح مشوبا بمخالفات دستورية فاقعة من دون أي مجال للإجتهاد. هذا مع العلم أن كلا المادتين اصطدمتا بأعراف أدت إلى الإخلال بهما وأن النص الدستوري هو أكثر سمواً،
- أنه فيما من المسلم به أن الصلاحية المقيدة بموجب المادة 5 المشار إليها أعلاه تمنع أيا من الذين يفترض أن يوقعوا على مرسوم التشكيلات من مناقشة مدى ملاءمة التعيينات، فإن إمكانية رفض التوقيع على أساس عدم دستورية المشروع الفاقعة تبقى مسألة قانونية ودستورية مفتوحة للنقاش[1]، وبخاصة أن مسؤولية الوزير أو الرئيس هي سياسية وأنه من غير العادل أو المنطقي في نظام ديمقراطي مساءلة أي من هؤلاء سياسياً لرفضه التوقيع على مرسوم من منطلق أنه مشوب بعدم دستورية فاقعة.
10- فزّاعة العهد
فضلا عما تقدم، تم استخدام فزاعة العهد وما يثيره من نقمة لدى الرأي العام، دعما لإقرار التشكيلات وسحب المشروعية من حجج وزيرة العدل التي صورت بدورها على أنها مجرد واجهة له. وهنا أيضا، ومع التفهم الكلي للنقمة إزاء العهد وبخاصة إزاء أحد رموزه سليم جريصاتي (مهندس تشكيلات 2017)، فإن إبرازه كفزاعة أدى بدوره إلى إرساء ضبابية معينة على النقاش العام، وذلك للأسباب الآتية:
- أن الملاحظة المتصلة بعدم جواز تخصيص أي مركز لطائفة بعينها سندا للمادة 95 من الدستور والتي تبنتها وزيرة العدل ماري كلود نجم، إنما تنسف في عمقها أحد أبرز الأدوات التي استخدمها العهد والتيار الوطني الحر لإحكام نفوذه في القضاء والإدارة العامة. وهذا ما تجلّى بشكل خاص في الكتاب الذي أرسله رئيس الجمهورية ميشال عون بواسطة وزير القصر آنذاك سليم جريصاتي (التسمية هي التي أطلقها جريصاتي على نفسه) إلى المجلس النيابي لمناقشة تطبيق المادة 95 على التعيينات الإدارية عملا بالفقرة ي من مقدمة الدستور. وقد تضمن الكتاب موقفا من الرئيس عون مفاده عدم جواز تطبيق هذه المادة حتى بما يتصل بالفقرات التي يقتضي وفقها تطبيقها فورا. وهذا ما كانت "المفكرة" تصدت له أيضا في حينه.
- أن استخدام العهد كفزاعة أدى عمليا هنا أيضا إلى حجب سائر الفزاعات الأخرى والتي واكبتنا طوال عقود وكان لها آثارها المدمرة داخل القضاء وفي مجمل تشكيلاته، بما فيها تشكيلات 2017 (تشكيلات الأحزاب الثلاثة) أو حتى التشكيلات الحالية. والدليل الأهم على ذلك، التصريح المؤيد للتشكيلات والذي أدلى به أمس رئيس المجلس النيابي نبيه بري معلنا تأييده الكامل لمجلس القضاء الأعلى واستقلال القضاء.
11- لزوم نادي قضاة لبنان الصمت
من الثغرات الأخرى في النقاش العام هو لزوم لاعبين أساسيين، هم من أكثر العارفين في شؤون القضاء، الصمت من دون مبرر، بما أدى إلى تفقيره. وفيما أن انكفاء نقابتي المحامين عن الشؤون القضائية هو انكفاء مزمن نشكو منذ أمد منه، فإن صمت نادي قضاة لبنان، الذي نجح في مدّ جسور في اتجاه الرأي العام ووضع نفسه في خدمة الشعب مصدر السلطات منذ أيار 2019، يأتي بالمقابل مدويا. فما معنى أن يصدر هذا النادي بيانات تنبيه عدة حول المعايير الواجب اعتمادها عند إعداد مشروع التشكيلات وذلك منذ أيار 2019، فيما يلزم الصمت بعد صدور هذا المشروع؟ وفيما نتفهم اعتبارات التحفظ لدى القضاة، إلا أن أحد الأهداف المرجوة من إنشاء جمعيات القضاة هو بالتحديد تمكين هؤلاء من تجاوز تحفظاتهم التقليدية لإبقاء الرأي العام على بينة بأهم ما يحصل من خفايا داخل القضاء، وهو أمر نشط فيه النادي في أوقات عدة سابقا.
وفيما أصدر النادي بيانه الوحيد في 12 نيسان، أي بعد أكثر من شهر وأسبوع من الإعلان عن مشروع التشكيلات، فقد جاء مختصرا وفي سياق ردة فعل على تقرير بثته قناة الجديد والذي اعتبره مؤيدا لمجلس القضاء الأعلى وصوره في موقع منافسة مع مجموعة أخرى من القضاة. وإذ رفض النادي هذه الاستنتاجات، فإنه اكتفى بالتأكيد على أن مدخل الإصلاح (خشبة الخلاص) هو إقرار قانون استقلالية القضاء بأسرع وقت، وهو الأمر الذي يتيح إمكانية وضع مشروع تشكيلات ثورية وشفافة ومستقلة تلبي طموحات الشعب. وعليه، بدا هذا الموقف وكأنه يبرر صمت النادي ليس برضاه على مشروع التشكيلات، بل بعلمه أن لا مجال لإنجاز تشكيلات أفضل في ظل القانون الحالي، وعمليا في ظل تركيبة مجلس القضاء الأعلى الحالية وصلاحياته، وأن الجهد يجب أن يصب على وضع قانون جديد.
12- التنبيه من تشرذم القضاء والمس بالنظام العام القضائي:
نشأ الحديث عن تشرذم القضاء تبعا لنشر خبر مفاده رغبة بعض القضاة بإنشاء جمعية جديدة هي رابطة للقضاة وذلك على خلفية عدم رضاهم عن التشكيلات القضائية. وهنا أيضا ذهبت الاستنتاجات في اتجاه من شأنه إرساء مزيد من الضبابية على النقاش حول التشكيلات القضائية للأسباب الآتية:
- أن الإعتراف بحرية القضاة بإنشاء جمعيات هو أمر أساسي لتمكينهم من تعزيز أواصر التضامن فيما بينهم وتحصين استقلالهم والتصدي للتدخلات التي قد تطولهم، سواء حصلت من خارج الجسم القضائي أو من داخله (مجلس القضاء الأعلى)،
- أن يكون هنالك تعدّد للجمعيات وتاليا الأصوات القضائية (وهو أمر حاصل في العديد من الدول الأوروبية والعربية) لا يضرّ بالضرورة بالقضاء، إنما على العكس من ذلك، من شأنه أن يشكل عاملا مساعدا لإبراز مشاكله والإحاطة بمختلف جوانبها فضلا عن التباري فيما بينها لتحقيق استقلال القضاء، كل ذلك تحت رقابة الرأي العام. وشرط النجاح في هذه التعددية يبقى وقفا على إلتزام القضاة بمبدأ حيادية القاضي التي تمنعه من الإنغماس في مواقف فئوية أو طائفية،
- أن الحديث عن شرذمة القضاء ليس الأول من نوعه، حيث برز الحديث نفسه في الأوساط القضائية حين تأسس نادي قضاة لبنان وأيضا حين خاض القضاة أطول اعتكاف في تاريخه في مواجهة مجلس القضاء الأعلى في آذار- أيار 2019. وبذلك، بدا هذا الحديث وكأنه يهدف أولا إلى منع نشوء أي قوى تغييرية داخل القضاء في وجه السلطة القائمة، وعمليا إلى صون أحادية مجلس القضاء الأعلى (المعين في غالبيته من الحكومة) في التعبير عن مشاغل القضاء وفق ما يراه ملائما،
- أن شرذمة القضاء ليست جديدة بل هي قائمة على قدم وساق منذ بداية التسعينيات. وهي لا تتم بفعل إنشاء جمعيات للقضاة أو تعددية أصوات القضاة، إنما على العكس من ذلك تماما، بفعل استفراد القضاة. فهذا الاستفراد هو الذي يدفع الكثيرين منهم لاستجداء حماية زعماء طوائفهم وهو الذي يقودهم غالبا للإنضواء في شبكات مصالح ونفوذ تتمحور حول الولاء لهؤلاء. وأخطر ما في هذه الشبكات هو أنها ذات طابع هرمي يسودها القاضي الذي يصطفيه الزعيم بفعل قربه منه وتهدف لخدمة هذا الأخير (أي الزعيم) مقابل الحصول على حمايته ودعمه، كل ذلك في إطار من السرية والتعتيم وبمنأى عن أي رقابة. ويؤمل من نادي قضاة لبنان أو من أي جمعية قضائية أخرى تنشأ أن يشكل إطارا بديلا يسمح بإنشاء مساحات عامة للتواصل والتعاضد بين القضاة تحت رايات التشاركية والشفافية. بكلمة أخرى، يؤمل من نشوء جمعيات مماثلة أن تضع حدا لتشرذم القضاء طائفيا الحاصل حاليا وأن تواجه مجمل الممارسات التي غالبا ما تؤدي إلى إمساك القضاء من فوق والإنتقاص من استقلاليتهم تحت راية: النظام العام القضائي.
[1] من السوابق البارزة في هذا الإطار، رفض رئيس الحكومة السابق سليم الحص التوقيع على مرسوم تنفيذ لعقوبة إعدام على اعتبار أنها تخالف حرية معتقده الأساسية وهي حرية دستورية. وقد حصل ذلك في 1999.