3 عوامل تعيد ملفّ القضاء الإداري إلى الواجهة


2024-03-12    |   

3 عوامل تعيد ملفّ القضاء الإداري إلى الواجهة

في 2020، نشرنا عددا خاصا عن الإشكاليات التي يعاني منها القضاء الإداري في لبنان (تحديدا مجلس شورى الدولة). وقد ضمّ هذا العدد خلاصة مراقبتنا في مجال تنظيم هذا القضاء قدّمناها كأسبابٍ موجبة للإصلاحات التي يجدر القيام بها بهدف تحصين استقلالية القضاء الإداري وتوفير شروط المحاكمات العادلة أمامه. 

فما هو الجهاز الذي يتولّى إدارة شؤون مجلس شورى الدولة ويضمن استقلالية قضاته وحسن سير العمل فيه؟ وهل هو مستقلّ إزاء السلطة السياسية، أم هو تطبيق جديد لنموذج مجلس القضاء الأعلى الذي هو بمثابة ذراع لهذه السلطة داخل القضاء العدلي أكثر مما هو حامٍ للقضاة العدليين في وجهها؟ وكيف يتم تعيين القاضي الإداري وترقيته ونقله ومساءلته.. إلخ؟ وما هي الضمانات التي تتوفّر له على طول مساره المهني؟ وأي مكانة للاعتبارات الطائفية والجندرية والعائلية في مختلف هذه المسائل؟ وما هي التدابير التي تستخدمها السلطة السياسيّة لاستمالة القضاة أو استِتباعهم؟ وكيف يتفاعل قضاة المجلس بعضهم مع بعض وأيّ أشكال للتّعاون أو التّنافس فيما بينهم؟ وبما لا يقلّ أهمية، كيف نقيّم مواقف المجلس من صفة المواطن بالطّعن بالقرارات الإدارية التي تنتهك القانون في مسائل خطيرة كالاعتداء على البيئة أو الملك العام؟ وكان مجلس شورى الدولة أصدر قرارات ردّ بموجبها عدداً من الدعاوى بالغة الأهمية في قضايا من هذا النوع على أساس أنه ليس للجمعيات المختصّة أو المواطنين المداعاة دفاعاً عن الخزينة العامة والبيئة، فاتحاً بذلك مجالاً واسعاً لنسف الشرعية ومعها الحقّ العامّ. وأخيراً، ما هي الإجراءات المطلوبة لضمان شروط المحاكمة العادلة داخل هذا المجلس الذي لا يزال يعمل وفق أصول لم تلقَ أيّ تطوير منذ عقود، ويبقى تالياً بمنأى عن مجمل الإصلاحات التحديثية الحاصلة في الدول التي اعتمدت النظام القضائي الفرنسي؟ ومن أبرز الضمانات المنقوصة للمحاكمة أنّ المجلس ما زال يفتقد لقضاء مستعجل وتتولّى النظر في القضايا المقدمة إليه هيئات لا نعرف دائماً أعضاءها ومن دون عقد أي جلسة علنية، هذا فضلاً عن أنه لا يزال يصدر قراراته بالدرجة الأولى والأخيرة، بعدما تقاعس مكتبه ووزارة العدل عن إنشاء المحاكم الإدارية في المناطق وفق ما قرره المشرّع سنة 2000.

بعد معالجة الأسئلة المطروحة، انتهيْنا إلى وضع قائمة ب 20 سببا تستوجب تعديلا تشريعيّا، وقد تمّ فعلا معالجة هذه الأسباب واحدا واحدا في اقتراح قانون أعدّته المفكرة القانونية بالتعاون مع عدد من الأساتذة الجامعيين وقضاة إداريين من فرنسا وألمانيا وتونس وقدّمه النائب أسامة سعد بالتعاون مع ائتلاف استقلال القضاء في آذار 2021. لم تمضِِ أشهر قليلة حتى قدّم النائب جورج عدوان اقتراح قانون ثانيا بشأن الموضوع نفسه أعدّه رئيس مجلس شورى الدولة فادي الياس بنفسه. وما أن تمّ ذلك حتى أًحيل الاقتراحان معا إلى لجنة الإدارة والعدل ليتمّ درسهما معا، علما أن هذه الأخيرة لم تباشر عملها المذكور إلا بعد انتخابات 2022 وهو ما أسميْناه “فتح ورشة إصلاح القضاء الإداري”. وفيما رحّبت المفكرة القانونية بتضمين بعض إصلاحات سعد في اقتراح عدوان، فإنها أشارتْ بالمقابل إلى فشل هذا الاقتراح في معالجة العديد من الإشكاليّات المطروحة، سواء على صعيد مبادئ استقلالية القضاء أو شروط المحاكمة العادلة. وقد زاد من عوامل القلق تعامل وزارة العدل كما اللجنة الفرعية في لجنة الإدارة والعدل مع الاقتراح الثاني على أنه الاقتراح الرسميّ الذي يجدر تبديته في المناقشة مقابل تهميش الاقتراح المقدّم أولا والذي تمت صياغته بصورة تشاركيّة. وهذا ما شهدناه مع اعتماد اللجنة الفرعية الاقتراح الثاني منطلقا لعملها، من دون أن يكون هنالك أيّ مبرر مؤسساتي لذلك. كما شهدناه مع طلب وزارة العدل مشورة لجنة البندقية بشأن هذا الاقتراح الثاني فقط، من دون أي ذكر للاقتراح الأول. فكأنّما اقتراح عدوان تحوّل بنظر هؤلاء إلى اقتراح النظام السائد في مواجهة الاقتراح الهادف إلى إحداث تغيير حقيقي على صعيد الأداء القضائي. وقد انعكس هذا التعامل للأسف على نوعية النقاشات داخل اللجنة الفرعية وخياراتها. وكان آخر هذه الخيارات للأسف، استبعاد المرافعات العلنية في القضايا الإداري والذي سارعتْ المفكرة القانونية إلى جبْهه آملة أن تعيد اللجنة الفرعية النظر في توجّهها هذا. هذا مع العلم أن رئيس اللجنة الفرعية جورج عقيص تراجع بضغط من رئيس مجلس النواب عن رفع السرية عن جلساتها سندا للمادة 34 من النظام الداخلي وتاليا عن دعوة ائتلاف استقلال القضاء للمشاركة في النقاشات. وقد حصل ذلك بالتزامن مع قرار إقصائي آخر اتخذه رئيس مجلس شورى الدولة بمنع القضاة الإداريين من المشاركة في نقاشات اللجنة تحت طائلة الملاحقة التأديبية. 

وإذ تتواصل هذه الورشة بعيدا عن الأضواء وببطء شديد (درست اللجنة التي باشرت أعمالها منذ سنة ونصف ثلث مواد الاقتراح الأمر الذي يجعلها عاجزة في حال الاستمرار في نفس الوتيرة عن إنجاز العمل في ظل الولاية الحالية)، يبقى أن من شأن ثلاثة عوامل أن تعيد هذه الورشة بالغة الأهمية إلى واجهة الاهتمام العامّ وأن تقلّل من هيمنة المصالح على النقاشات بشأنها، وهي تباعا:

  • قرب صدور الرأي الاستشاري للجنة البندقية بشأن مدى توافق اقتراح عدوان/ الياس مع معايير استقلال القضاء والمحاكمة العادلة. وكانت لجنة البندقية قد استمعت إلى المعنيين بهذا الملف، ومنهم ممثلين عن الجامعات وائتلاف استقلال القضاء ونادي قضاة لبنان. ويؤمل أن يرفع هذا الرأي مستوى النقاش على صعيد المبادئ، وأن يخفّف تاليا من هيمنة لغة المصالح. وكانت لجنة البندقية أصدرت رأيا من قبل في شأن اقتراح قانون استقلالية القضاء العدلي كما عدّلته لجنة الإدارة والعدل، وضع الأصبع على العديد من مواقع الخلل فيه، وقد عزز تاليا قوة المطالب الإصلاحية وإن أهملت لجنة الإدارة والعدل كما وزارة العدل توصياتها بشكل كامل. 
  • قرب إطلاق عمل “منتدى العدالة”، والذي التزمت السلطات أن يكون إطارا جامعا للجامعات ومنظمات المجتمع المدني. ويؤمل من هذا المنتدى في حال التزمت السلطات العامة بوعودها لجهة توسيع دائرة المشاركين فيه، أن يستنهض طاقاتٍ فكريّة إضافية للخوض في هذا المجال، بما يعزز حضور المعايير والمبادئ والقيم ويقلّل هنا أيضا من هيمنة المساومات على كلّ شيء. 
  • أما العامل الثالث، فهو يتمثّل في انخراط رئيس مجلس شورى الدولة في مسألة ردّ الودائع من خلال أداء أدوار متناقضة وخطيرة وإن صبّت كلها في تحميل الدولة المسؤولية الكبرى وفي تعريض أصولها ومواردها للضياع تعويضا عن خسائر القطاع المصرفي. وقد أدّى القاضي الياس هذا الدور بداية من خلال وضع مسودة اقتراح قانون بشأن كيفية رد الودائع، سارعت كتلة التنمية والتحرير إلى تقديمه وذلك في موازاة استمراره النظر من دون أيّ حرج في قضية أخرى قدّمتها جمعية المصارف ضدّ الدولة. واللافت أن الاقتراح كما القرار القضائي الذي صدر مؤخرا في هذه القضية أدّيا عمليا إلى “تقديس الودائع” في موازاة تدنيس أدوار الدولة ووظائفها من خلال تخصيص الجزء الأكبر من مواردها وأصولها ومرافقها المنتجة لتسديد خسائر القطاع المصرفي على حساب كلّ ما يفترض أن تكفله من حقوق اقتصادية واجتماعية، والأهم على حساب فرص إنهاض المرافق العامة وفي مقدمتها مرفق العدالة. 

هذه العوامل الثلاثة والتفاعلات التي قد تتولّد عنها تدعو جميع المعنيين إلى مزيد من اليقظة والتهيؤ. فلنراقب.     

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، المرصد البرلماني ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني