كأنّما الانهيار لم يحصلْ لدى وزارة العمل: نظامُ الكفالة يُعيد إنتاج نفسه


2022-01-31    |   

كأنّما الانهيار لم يحصلْ لدى وزارة العمل: نظامُ الكفالة يُعيد إنتاج نفسه
خريطة لشقّة حديثة من موقع مخدومين

من أهمّ الأسئلة التي طرحَها الانهيار أو كان يفترض أن يطرحَها هو سؤال حول وضع عاملات المنازل ومدى ملاءمة الاستمرار في استقدام أعداد كبيرة منهم (أكثر من مائتي ألف عاملة نظامية في 2018). فتماما كما تقلّصت بشكل كبير كلفة الاستيراد، كذلك تفرض ندرة العملة الصعبة المبادرة إلى ثني اللبنانيين عن استقدام مزيد من العاملات من الخارج، من دون الاكتفاء بما تفرضه السوق من تقليص لأعداد هؤلاء. وهذا الأمر إنما يتطلب أمريْن: (1) جعل استقدام عاملات مهاجرات أمرا أكثر كلفة، و(2) نزع الوصمة الاجتماعيّة عن هذا العمل على نحو يفتح المجال أمام الأشخاص من الجنسية اللبنانية وحتى الفئات الهشّة المقيمة في لبنان لعرض خدماتهم للعمل فيه. ولا يمكن نزع هذه الوصمة إلا من خلال اتخاذ خطوات عملية لتحسين حقوق هذه الفئة وتحريرها من روابط الاستغلال التي تحكمها حاليا. انطلاقا من ذلك، يبدو الوقت مؤاتيا أكثر من أي وقت مضى لإلغاء نظام الكفالة وضمان شروط عمل لائقة ومحفزة، بعدما أصبحت هذه الأهداف مبرّرة ليس فقط حقوقيا (منع العمل القسري والإتجار بالبشر) بل أيضا اقتصاديا. 

إلا أنّ هذه الأسئلة كلّها على أهميّتها تبقى بعيدة عن اهتمامات وزارة العمل التي تبدو وكأنّها ما زالتْ تعمل بنفس الطريقة المعهودة مانحةً آذانها الكبرى لنفس أصحاب المصالح وهي نقابة أصحاب مكاتب الاستقدام، في مسعى لإنقاذ هذا القطاع وإعادة تفعيله. فبخلاف ما قد تفرضُه هذه الأسئلة من أولويات، تبقى المصلحة الغالبة وفق هذه الوزارة هي مصلحة أصحاب هذه المكاتب أي استقدام أكبر عدد ممكن من العاملات من الخارج رغم صعوبات السوق الفائقة. وهذا الأمر ربما يتطلّب الذهاب في اتجاه معاكس تماما لما سبق بيانه، أي في اتّجاه منح مزيد من التسهيلات لاستقدام العاملات وإباحة مجال أكبر من الاستغلال على نحو يبقي مردود استقدام عاملة من الخارج أكبر بكثير من مردود توظيف يد عاملة محلية. 

وهذا ما نستشفّه بشكل خاصّ من التعديلات المقترحة من وزير العمل الجديد مصطفى بيرم على عقد العمل الموحّد الذي أقرّته بتاريخ 8 أيلول 2020 وزيرة العمل السابقة لميا يمّين. فرغم محدوديّة إصلاحات عقد يمّين والسلبيات والثغرات التي حذّرنا منها آنذاك، لجأ الوزير الجديد إلى إلغاء الإيجابيات الواردة فيه من دون أيّ التفاتة إلى سلبياته وثغراته. وهي تعديلات برّرت وزارة العمل أسوأها كتمكين صاحب العمل من الاحتفاظ بالأوراق الثبوتيّة أو منع العاملة من الخروج من المنزل خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العمل بالاستجابة لمطالب نقابة أصحاب مكاتب الاستقدام. واللافت أنّ الوزارة عمدت إلى هذه التعديلات من دون استشارة منظمة العمل الدولية ولا أيّ من المنظمات الحقوقية العاملة في مجال العمل المنزلي ولا أيّ من الاقتصاديين، مبرّرة ذلك بإرادتها عدم إضاعة الوقت وعدم تأخير الإصلاح المنشود. فكأنما وزارة العمل تبرّر اختزال سماعاتها بسماع نقابة المكاتب (التي كانت دوما محاورها الأساسي) برغبة إصلاح أوضاع العاملات وهذه هي قمّة العبث، وهو عبث مؤدّاه تغليب مصالح لوبيات من دون أي اعتبار للمصلحة العامة. 

ولا ينحصر هذا الانتقاد بوزارة العمل بل ينسحب أيضا على مؤسسات أخرى يفترض أن تكون أكثر خبرة في استشراف الصالح العام وأكثر حرصا على الدفاع عن الحقوق والحريات وبخاصة للفئات الهشة والنساء. ومن أبرز هذه المؤسسات، مجلس شورى الدولة الذي استتبع قراره بوقف تنفيذ عقد يمين بناء على طلب نقابة المكاتب برأي استشاري قوامه أنه ليس لوزير العمل أن يضع عقد عمل موحّدا وفق ما أفاد مستشار الوزير د. عصام اسماعيل “المفكرة القانونية” به.  ليغلق بذلك الباب أمام مدخل الإصلاح الوحيد المتاح. وهذا ما قد يدفع وزارة العمل إلى التّفكير بتغيير طبيعة العقد وذلك من خلال جعله عقدا اختياريا وليس إلزاميا. ومؤدى ذلك هو على إفراغه من أي مضمون. فأن يكون العقد اختياريّا يعني ببساطة أنه لن يعتمده أحد، طالما من الصعب التفكير في ظلّ اختلال التّوازن الهائل بين العاملة وصاحب العمل أن تشترط الأولى على الأخير التوقيع على هذا العقد من دون أن يكون مُرغما على ذلك. كما يُوجّه الانتقاد نفسه للهيئة الوطنيّة لشؤون المرأة التي قاربَتْ المسألة من زاوية أنّ عقد يمّين كان مُنحازا للعاملات فعملتْ على إعادة التوازن إليه. كل ذلك من دون أن يكون لدى أيّ من هذه الهيئات أي تفكير من أي نوع كان بتبعات الانهيار الاقتصادي وما يرتّبه من استحقاقات. 

وقد بدا واضحا أنّه بدل أن يدفع الانهيار وزارة العمل والمؤسّسات المذكورة لاستشراف كيفية إعادة تنظيم العمالة المنزلية في اتجاه تقليص عدد العاملات الأجنبيات ومجالات الاستغلال، يبقى الاتّجاه هو نفسه نحو الحفاظ على مصالح المكاتب مع ما يتطلّبه ذلك على العكس من ذلك تماما من تسهيل استقدام العاملات وإبقاء فرص الاستغلال قائمة، ولو على نحو يناقض المصلحة العامة بشكل كبير. 

بيرم ينسف إيجابيّات عقد يمّين

في تعليقنا على العقد الذي أقرّته الوزيرة السابقة يمين، أشرْنا إلى بعض الإيجابيات. وبمراجعة اقتراح العقد الجديد، يتبيّن أنه عمد إلى إلغاء القسم الأكبر من هذه الإيجابيات، ومنها الاعتراف بحقوق بديهية، أو الالتفاف حولها. 

فقد تمّ إلغاء “استفادة العاملة من الحد الأدنى للأجور”، حيث كان عقد “يمين” نصّ أنّ صاحب العمل يسدّد للعاملة في نهاية كل شهر عمل أجرها الشهري المتفّق عليه على ألّا يقلّ عن الحدّ الأدنى للأجور، محسوماً منه نسبة التقديمات العينية التي يقوم بها صاحب العمل (بدل المأكل والملبس والسكن) والتي حددتها وزارة العمل في تعميم لاحق بـ30% من الأجر كحد أقصى. ويشكّل إلغاء هذه الإيجابية تراجعا عن مسعى إلى مساواة العاملات المنزليات مع سائر الأجراء، وإن كانت ضمانة الاستفادة من الحدّ الأدنى ذات طابع رمزيّ محض في الفترة الراهنة في ظلّ  انهيار قيمة العملة الوطنية والظروف الاقتصادية والمالية الراهنة.

كما تمّ الالتفاف على حقّ التقاضي أمام مجلس العمل التحكيمي من خلال تضمين العقد بندا تحكيميا مُلزما يتولّى وزير العمل بموجبه تعيين أحد موظفي وزارة العمل كمحكم ينظر في النزاع بصورة مبرمة وغير قابلة لأي استئناف أو مراجعة. وبذلك تكون وزارة العمل ألغتْ تماما حقّ العاملة باللجوء إلى القضاء من خلال وضع يدها على اختصاص بتّ النزاعات. وما يزيد من هذا الأمر خطورة هو العلاقة المشبوهة التي باتت قائمة وراسخة بين مكاتب الاستقدام والعديد من موظّفي الوزارة، مما يلقي ارتيابا مشروعا على حيادية الأشخاص المخولين أداء وظيفة التحكيم. 

كما تمّ إلغاء المادة التي تضمن للعاملة الاحتفاظ بأوراقها الثّبوتية (جواز سفر وإقامة..)، كأنما الوزارة تُعيد النظر بحقّ بديهي آخر. ومن شأن هذا الأمر أن يحدّ من حرية العاملات بالتنقل والخروج والدخول وأن يجعلها أكثر تبعية لصاحب العمل وقابلية للاستغلال. 

كما تمّ الالتفاف حول حرية العاملة بترك العمل بموجب إنذار توجهه قبل شهر، من خلال اشتراط أن تضمن العاملة لصاحب العمل تعويضا عن نفقات الاستقدام التي بذلها، على أن تسدّد إمّا من جيبها الخاص وإمّا من جيب صاحب العمل الذي قد ترغب بالانتقال للعمل لديه. وقد تمّ الالتفاف على هذا الحقّ من خلال ثلاثة أمور: (1) إنه بخلاف عقد “يمين”، تمّ إرغامها على تسديد هذا التعويض من جيبها الخاص  في حال أرادت العودة إلى بلدها قبل انتهاء مدة العقد أو في حال لم يرد صاحب العمل الجديد ذلك، وهذا أمر من شأنه أن يشكل حائلا عمليا دون ممارستها هذا الحقّ بفعل عجزها عن تسديد قيمته؛ (2) إنه تمّ إلغاء المعادلة التي تحتسب بها خسارة صاحب العمل على نحو يرتبط بالمدة المتبقية من العقد بحيث “تقسّم الكلفة الإجمالية للاستقدام على عدد أشهر العقد ويتحمّل صاحب العمل الجديد تكلفة الشهر غير المستخدمة من العقد”. ومؤدى ذلك هو فتح الباب أمام التعسّف والابتزاز وبروز أشكال من النخاسة. ومن شأن هذا الالتفاف أن يجعل الاعتراف بحقها بإنهاء العقد بإرادتها المنفردة حقا وهميا مما يعيدنا إلى نقطة الصفر حيث يكون “الفرار” الطريقة الوحيدة لوضع حدّ لعلاقة غير سليمة. وما يفاقم من ذلك هو جعل مدة العقد ثلاث سنوات بدل سنتين مما يزيد من مطالب صاحب العمل ومن حبس العاملة في هذه العلاقة. ويلحظ أن عقد يمين كان وضع عبء تسديد التعويض على صاحب العمل الجديد (في حال كانت العاملة راغبة في العمل لدى صاحب عمل آخر) أو مكتب الاستقدام (في حال كانت راغبة بالعودة إلى بلدها). إلا أن العقد الحالي جاء ليحرر مكتب الاستقدام تماما من أيّ عبء وليفتح باب تحصيل التعويض من العاملة نفسها. 

كما تمّ الالتفاف على حقّ العاملة بإنهاء العقد في حال وفاة صاحب العمل، وذلك من خلال توريث العقد لمن يخلف صاحب العمل. ومن شأن هذا الأمر أن يؤدّي إلى تشييئ العاملة وتحويلها إلى سلعة من خلال فرض عملها لدى أشخاص قد يشكلون خطرا عليها من دون أن يكون لإرادتها أي اعتبار. 

كما تمّ الالتفاف على حقّ العاملة بالتمتّع بغرفة خاصة منفصلة جيّدة التهوئة والإضاءة ومستوفية الشروط ومجهّزة بقفل، تحوز العاملة مفتاحها وحدها وتراعى فيها خصوصيتها. هذا الالتفاف حصل من خلال إضافة إمكانية “السماح للعاملة مشتركة إحدى سيدات العائلة بالمنامة في غرفة واحدة”. ومن شأن هذا الأمر ليس فقط أن يبطل حق العاملة بالخصوصية، بل أن يعرّضها إلى عمل إضافي خلال الليل في حال كانت سيدة العائلة بحاجة إلى عناية ليلية.  

كما تمّ إلغاء حقّ بديهي آخر وهو منع حجز العاملة (المادة 9). وهذا يشمل ممارسات من نوع إغلاق الباب عليها أو منعها من الخروج في فترات الراحة والعطل. ولم يكتفِ المقترح الجديد بذلك، بل ذهب إلى تحليل الاحتجاز وتاليا تحليل ارتكاب جناية طوال الفترة التجريبية (ثلاثة أشهر) وذلك بحجة حمايتها من أي عملية استغلال خارجية. 

كما تمّ إلغاء اشتمال التأمين الصحّي الإلزامي للعاملة طبابة الأسنان. 

وعليه، تقلّصت الحقوق التي حافظ عليهاِ المُقترح بدرجة كبيرة بحيث باتت تقتصر على حق الخروج في العطل الأسبوعية والإجازات وعطلة حداد (من دون منحها الحق بالخروج خلال الأشهر الثلاثة الأولى أو في أوقات الراحة) أو الحق بتعويض عن فترة المرض (خمسة عشر يوما بأجر كامل وخمسة عشر يوما بنصف أجر) أو تحديد ساعات العمل والحق ببيئة عمل آمنة ولائقة وحق اقتناء هاتف أو الاستفادة من خدمة الإنترنت في حال توفرها، فضلا عن الحق بتعيين ممثل عنها لدى وزارة العمل. 

عدم معالجة سلبيات عقد يمين وثغراته

بالإضافة إلى نسف إيجابيات عدة وردت في العقد السابق، استعاد المقترح جملة من البنود السلبية التي كانت “المفكرة القانونية” انتقدتها سابقا ومن أبرزها ضرب الاستقرار الوظيفي للعاملة.  

فمقابل منح العاملة حرية وهمية في فسخ العقد بإشعار أو حق إنهائه من دون إشعار في حال ارتكاب صاحب العمل مخالفات معينة (ومنها مخالفة أحكام العقد الموحد)، فإنّه تمّ منح صاحب العمل حقوقا مشابهة بل ربما أوسع كما سنبين لاحقاً، بما يمكّن هذا الأخير من التخلّص من التزاماته التعاقدية تجاه العاملة بسهولة متناهية ويحرمها تاليا من الإستقرار الوظيفي ويزيد من هشاشة وضعها في لبنان.

وقد تجلّى ذلك في ثلاثة أمور وردتْ في العقد أو نستشفّها منه:

الأمر الأول، أعطي صاحب العمل الصلاحية نفسها المعطاة للعاملة بفسخ العقد في أي حين بموجب إشعار. وفيما خوّل العقد صاحب العمل الحصول على تعويض من كلفة الاستقدام، فإنّه لم يمنح العاملة أي حقّ بالتعويض، ولا حتى الحقّ بالحصول على بطاقة سفر للعودة. ويعكس هذا التفاوت في الوضعية جهلا لحقيقة الأمر، حيث غالبا، وخلافاً للمعايير الدولية حول التوظيف والاستقدام العادل، تتكلّف العاملة أكلافا باهظة للتمكّن من مغادرة بلدها لتوقعها بالحصول على عقد لمدة معينة. ومن هنا وبغياب ما يضمن لعاملة إيجاد عقد عمل بديل، من غير العادل تحميلها عبء كلفة إنهاء العقد الحاصل بإرادة صاحب العمل أو على مسؤوليته.. ومؤدّى هذا الأمر تمييع طبيعة العقد من عقد محدد المدة (سنتين أو ثلاث سنوات) إلى عقد محدّد المدة بشهر قابل للتجديد ضمنا حتى سنتين أو ثلاث سنوات.

ومجرد إعطاء هذا الحق لصاحب العمل إنما يؤدي عمليا إلى زيادة الامتيازات  التي بإمكانه استخدامها ضدّ العاملة بحيث يكون بإمكانه طردها أو ترحيلها في أي حين من دون أن يكون بإمكانها مداعاته أو مطالبته بالبدلات المستحقة عن الفترة اللاحقة. هذا مع العلم أن مهلة الإنذار تبقى شهرا ولا تزيد كما يحصل في العقود الخاضعة لقانون العمل وفق أقدمية العقد.

الأمر الثاني، في موازاة تمكين العاملة من فسخ العقد لأسباب معينة من دون إشعار مسبق، تمّ تمكين صاحب العمل هنا أيضا من القيام بالأمر نفسه. واللافت هنا أنه بخلاف قانون العمل حيث أحيط حق صاحب العمل في إنهاء العقد لخطأ الأجير بضوابط عدة تحدّ من امكانية التعسف في استخدامه، فإن عقد العمل الموحّد جاء خالياً في هذا الصدد من أي ضوابط. وهذا ما يتأتى ليس فقط من تحديد أخطاء العاملة بصورة فضفاضة، ولكن أيضا من خلال تحرير صاحب العمل من أيّ موجب بإبلاغ وزارة العمل بالأخطاء المرتكبة من العاملة ضمن فترة قصيرة من ارتكابها (ثلاثة أيام مثلا كما ورد في المادة 74 من قانون العمل).

ومن أكثر البنود القابلة للجدل في هذا المضمار هو تمكين صاحب العمل إنهاء العقد في حالة عدم التنفيذ المتكرر من جانب العاملة لموجباتها بموجب العقد من دون سبب. فبخلاف قانون العمل الذي يفرض على أصحاب العمل الراغبين في إنهاء عقود أجرائهم على خلفية الأخطاء المتكررة المرتكبة منهم أن يوجّهوا مسبقا ثلاثة إنذارات خطية إليهم في السنة نفسها، يكتفي العقد باشتراط أن يوجه للعاملة إنذاران فقط وأن يوجه هذان الإنذاران شفاهة أي من دون أن يبقى لهما أي أثر أو أن تعطى العاملة فرصة الرد على أي منهما.

لا بل إنّه من المفجع حقيقة أن الإشارة الوحيدة للتحرش الواردة في العقد إنما جاءت في سياق المخالفات المرتكبة من العاملة تبريراً لفسخ العقد معها، وليس في سياق المخالفات المرتكبة من صاحب العمل حيث اكتفى العقد بالإشارة إلى سلوكيات وممارسات غير مقبولة. ومن شأن هذا الأمر وحده أن يعكس النظرة التمييزية لصالح صاحب العمل.

وفيما يقلل الوضع الهشّ للعاملة من امكانية ممارستها لحق فسخ العقد لخطأ من صاحب العمل تعسّفا، فإنّ منح هذا الحقّ لصاحب العمل ذات السلطة والامتيازات الواسعة إنما يبقى محفوفا باحتمالات التعسّف، وهي احتمالات تزيد بغياب الدقة في وصف الأخطاء أو غياب الضمانات والضوابط على اختلافها.

هذا فضلا عن تمكين صاحب العمل من إنهاء العقد بصورة فورية ومن دون إشعار مسبق في حال إصابة العاملة ب “مرض خطير”، من دون التأكيد على مراعاة حق العاملة في الإجازة المرضية المدفوعة أو من دون اشتراط أن يكون المرض يمنع استكمال العقد بشكل دائم أو على الأقل لفترة غير قصيرة. وأكثر ما يخشى هو أـن يستغل صاحب العمل هذه المادة لإنهاء عقود العمل مع العاملات اللواتي قد يصبن بفيروس الكورونا، وربما يصبن به بعدوى من صاحب العمل أو أحد أفراد عائلته.

الأمر الثالث الذي يؤدّي إلى نسف الاستقرار الوظيفي أيضا هو خلو العقد من أي ذكر لحق العاملة بالتعويض، ليس فقط في حال حصل الفسخ بإرادتها أو بخطأ منها (وهذا أمر بالإمكان فهمه فقط في حال كان الخطأ المسبب جوهريا) إنما أيضا في حال حصل الفسخ بإرادة صاحب العمل الأحادية أو بخطأ منه (وهذا أمر لا يمكن فهمه البتة). ومن هذه الوجهة، شكّل العقد تراجعا بالنسبة ليس فقط إلى قانون العمل والذي يخول الأجير حال صرفه في أي من هذه الحالات المطالبة بتعويض من جراء الصرف التعسفي قد يصل إلى بدل إثني عشر شهرا، بل أيضا لقانون الموجبات والعقود والذي يخضع له عقد عمل العاملات.

وانطلاقا مما تقدم، يؤدّي كمّ الهشاشة الناتجة عن نسف الاستقرار الوظيفي إلى قلب كفّة العقد الموحد الجديد لمصلحة صاحب العمل، وبخاصة بعد إلغاء كمّ كبير من الإيجابيات وفق ما ذكرناه أعلاه.

محدودية عقد العمل الموحّد في إحداث التغيير

إلى جانب ما تقدم، يبقى أن عقد العمل الموحد هو خطوة سهلة بإمكان وزير العمل أن يتخذها بمفرده في سياق صلاحيته في تحديد شروط منح إجازة العمل. إلا أن هذه الخطوة لا تؤدّي إلى نتائج إيجابية ما لم تتبعْها إصلاحات أخرى في المجالات الأخرى، سواء على صعيد التشريع أو الممارسات المعمول بها لدى الأمن العام أو أيضا على الصعيدين المؤسساتي والقضائي. ومن أبرز المسائل التي تظهر فيها بشكل جليّ محدودية العقد في معالجتها، المسائل الآتية:

  1. المسؤولية الجزائية لعدم تجديد العقد

أن إعفاء العاملة من تحمّل مسؤولية عدم تجديد إقامتها لا يتم من خلال إعادة ترتيب علاقتها مع صاحب العمل وحسب إنما يفترض أيضا وبالدرجة الأولى، إلغاء العقوبة الجزائية التي تبقى مسلّطة عليها، لأسباب خارجة عن إرادتها وبمعزل عن نواياها.

  1. نظام الكفالة

من المعلوم أن نظام الكفالة يقوم على ربط نظامية الإقامة لعامل أجنبي باستمرار عقد العمل مع شخص محدّد. فلا تكون إقامة العامل نظامية في حال إنهاء العقد لأي سبب من الأسباب إلا في حال موافقة الكفيل على انتقاله للعمل لدى كفيل آخر. وتاليا، فإن تمكين العاملة من إنهاء العقد لأسباب محددة أو بإرادتها المنفردة لا يؤدي إلى نسف هذا الربط بحد ذاته. ولا يكون خلاف ذلك ما لم يترافق ذلك مع تعديل التعليمات الداخلية والممارسات لدى الأمن العام، بحيث تعطى العاملة فترة سماح لإيجاد صاحب عمل جديد ولا يتصل انتقالها للعمل لديه بحال من الأحوال بإرادة صاحب العمل الأول.

  1. ضمان حقّ صاحب العمل في استرداد كلفة استثماره:

من البيّن أن تغيير المنظومة لا يتم فقط من خلال تكريس نصوص وضعية يبقى تطبيقها مرتبطا بتوازن القوى بين أطراف العقد، وبخاصة في ظل صعوبة وصول العاملات إلى العدالة وضعف المؤسسة القضائية نفسها. إنما هو يفترض معالجة هواجس صاحب العمل حيال فقدان استثماره المتمثل في تسديد نفقات الاستقدام وهي هواجس غالباً ما تدفعه إلى التعامل مع العاملة على أنها رهينة وتقييد حريتها. ولا يمكن معالجة خوفه من حريتها من خلال منحها مزيدا من الحرية كما فعل العقد، ولا من خلال افتراض تسديده جزءا من هذا الاستثمار من صاحب العمل الجديد طالما أن هذه الأمور تبقى غير مضمونة وقد تدخل الفرقاء في نزاعات غالبا ما تدفع العاملة ثمنها.

ومن هنا، يبدو أن لا مناصّ لحسن تطبيق هذا النظام إلا بوجود شخص ثالث ضامن، وهو يفترض مبدئيا أن يكون هيئة رسمية. وفيما تبدو المؤسسة الوطنية للاستخدام المؤسسة المختصة في هذا المجال، فإن هذه المؤسسة تبدو غير جاهزة في تركيبتها ومواردها الحالية لأداء هذا الدور.

ويبقى من الضروري في المدى المنظور إعادة النظر بالكلفة العالية للاستقدام، وتنظيم ومراقبة عمل المكاتب تماشياً مع التطلعات لإلغاء نظام الكفالة بشكل حقيقي وعملي.

  1. الأحكام التمييزية ضد العاملات:

من البيّن أن وضع حدّ للأحكام التمييزية يبقى محدودا وقابلا لتأويلات عدة ما لم تتساوَ هذه الفئة من العاملات مع سائر الأجراء من خلال إلغاء استثناء العمل المنزلي من الخضوع لقانون العمل. وللأسف، وفيما تلوّح وزارة العمل بنيتها بإلغاء هذا الاستثناء، فإن العقد تضمن خلافا لهذه النية المعلنة عددا من الأحكام التمييزية والتي ذهبت في اتجاه مناقض تماما وعير مبرر.

انشر المقال

متوفر من خلال:

حقوق العمال والنقابات ، محاكم إدارية ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مؤسسات عامة ، قرارات إدارية ، عمل منزلي ، حرية التنقل ، الحق في الحياة ، استقلال القضاء ، لجوء وهجرة واتجار بالبشر ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني