ماريا (اسم مستعار)، عاملة مهاجرة من سريلانكا، تقف خارج شقتها في بيروت، الأحد 10 كانون الثاني 2021. تعمل ماريا لحسابها الخاص في البيوت وفي أحد المطاعم في بيروت. خلال الإغلاق العام بسبب فيروس كورونا، يقفل المطعم أبوابه. وبما أنّها تعمل بأجر يومي، لا تحصل ماريا على أيّ أجر خلال الإغلاق. منذ انتشار فيروس كورونا في لبنان، توقّف الناس عن الطلب منها القدوم لتنظيف بيوتهم خوفاً من انتشار الفيروس. (داليا خميسي)
خلال حرب 1975-1990 ومن بعدها بشكل خاصّ، تصاعدتْ ظاهرة عاملات المنازل في البيوت. فلم تقتصرْ على الطبقة التي تسمح لها مداخيلها بالعيش بشيء من الرفاهية، إنما شملت طبقات ذات مداخيل جاز وصفها بالمتوسطة أو حتى المحدودة. وهذا الأمر ما كان ليتمّ لولا تدنّي أجور العاملات وارتفاع قيمة العملة اللبنانية والأهم نظام الكفالة الذي سمح لأصحاب العمل باستغلال العاملات في وظائف عدّة لا تضمن راحتهم فقط بل تمكّنهم من القيام بواجباتهم العائلية تجاه كبار السنّ والأطفال فضلاً عن زيادة مداخيلهم، من خلال تمكين كلا الزوجين من العمل برواتب هي حكماً أعلى من رواتب العاملات. وعليه، انتشر في الخطاب الداخلي للإدارات المعنية وأيضاً في الخطاب العام الحديث عن الحقّ بتوظيف عاملة، وتالياً عن وجوب إبقاء الكلفة متدنيّة ضماناً لفعالية هذا الحقّ. ومن هذا المنطلق، يصبح أيّ حدّ من إمكانية الاستغلال أو تحسين شروط العمل (سواء لجهة تمتّع العاملة بحريّة الخروج أو بوضع حدّ أقصى لساعات العمل أو تأمين غرفة خاصّة لها أو ضمان حقّها في الحدّ الأدنى للأجور) بمثابة تهديد لهذا الحقّ الذي أخذ في غالب الأحيان طابع الإجازة بإخضاع أشخاص في منتهى الضعف للعمل القسري (أحد أوجه الاتّجار بالبشر). وكذلك الأمر في حال تمكين العاملات من اللجوء إلى القضاء أو التمتّع بأيّ حماية قانونية أو قضائية. ولا نبالغ إذا قلنا إنّ ضمان هذا الحق لفئات واسعة من الناس شكّل إحدى المنافع التي مكّنت السلطة الحاكمة العامّة من التمتّع بها على حساب الحدّ الأدنى من مبادئ الكرامة الإنسانية والانتظام العامّ. وبكلمة أخرى إحدى الرشى التي استخدمتها السّلطة لتحسين حياة المواطنين على حساب القوانين والأهمّ على حساب أشخاص آخرين هم عاملات يتمّ استقدامهنّ من الخارج.
هذا النظام الذي تمّ إرساؤه، يشهد اليوم تحوّلات كبيرة ويتوقّع أن يشهد مزيداً منها. وهذا الأمر يتأتّى بالدّرجة الأولى عن الانهيار الاقتصادي وتراجع قيمة العملة الوطنية فضلاً عن خسارة فرص العمل، وهي أمور تجلّت بوضوح في تشرين الأول 2019. وقد أتت أزمة كورونا وما فرضته من إغلاق عامّ لتزيد من انكماش الاقتصاد اللبناني وتضيّق من قدرة آلاف العائلات التي دأبتْ على استخدام عاملات سابقاً، على تسديد بدلاتها أو إقناعها بتخفيضها أو استقدام عاملات أخريات من الخارج. وقد انعكس هذا الأمر بشكل واضح في تراجع سوق العمل في هذا المجال كما تشير إليه بوضوح كلّي الأرقام الرسمية في وزارة العمل وأيضاً إغلاق عشرات مكاتب استقدام العاملات وتراجع أرقام أعمالها وعدد موظفيها بشكل كبير. كما تُرجم هذا الأمر بمشهد العاملات الراقدات قرب أبواب سفاراتهنّ طلباً للعودة إلى بلادهنّ، فضلاً عن مشهد أصحاب العمل الذين عمدوا للتخلّص (رمي) من العاملات لديهم أمام أبواب هذه السفارات كمن يتخلّص من عبء لم يعد قادراً على احتماله. ولا يخفى أنّ ثمة مصلحة وطنية اليوم في تخفيض الفاتورة بالعملة الصعبة التي يتعيّن تسديدها أو تحويلها إلى الخارج، بعدما شحّت هذه العملة في لبنان، بمعنى أنّ ثمّة مصلحة اقتصادية تضاف إلى المصلحة الإنسانية في تخفيض عدد العاملات في لبنان.
وفيما يؤمل في ظروف كهذه أن يدفع الواقع الجديد إلى إعادة الأمور إلى نصابها، لجهة تقويض فكرة “الحق في استقدام عاملة أجنبية واستغلالها” في اتجاه البحث عن حلول اجتماعية ومؤسّساتية أخرى لضمان قدرة العائلات على القيام بأعمالها المنزلية وبالأخص لجهة رعاية الكبار والمعوّقين والأطفال ومعه الاعتبارات التي يقوم عليها نظام الكفالة، فإنّ ذلك لا يقلّل من المخاوف اليوم على وضع العاملات المتواجدات كما لا يقلّل من المخاوف من ابتداع طرق جديدة مؤدّاها تأمين يد عاملة بأكلاف أقلّ من أكلاف العاملات السابقات وأكثر عرضة للاستغلال منهنّ، وذلك من خلال البحث عن دول أخرى لاستقدام عاملات منها. وبإمكاننا القول إنّ سوق العمالة المنزلية ومعه نظام الكفالة المأزوم يبدوان اليوم أمام مفترق طرق: فإمّا أن يتّجها نحو الانحلال بدافع من اعتبارات اقتصادية تضاف وتقوّي الاعتبارات الحقوقية التي طالما أثيرت سابقاً، وإمّا أن نحو مزيد من التصلّب والاستغلال من خلال استقدام عاملات من دول أخرى يكنّ أقلّ كلفة وأكثر عرضة للاستغلال.
هذا ما سنحاول درسه في هذا البحث الذي يتكوّن من ثلاثة أجزاء.
(1)
مشهد مرئي لعاملات يُرمين في الشارع
ومشهد غير مرئي لعاملات يشتدّ عليهنّ الخناق
المشهد الذي نقلته وسائل الإعلام مراراً في سنة 2020 تمثّل في العاملات الراقدات أو المصطفّات أمام السفارات، وبخاصة سفارتي أثيوبيا وبنغلادش، طلباً لتسريع معاملات تسفيرهنّ إلى بلادهنّ بأكلاف معقولة. وفيما أنّ عدداً كبيراً من هؤلاء هنّ من العاملات غير النظاميات اللواتي كنّ الأكثر تضرّراً من تراجع القدرات المالية للمواطنين، فإنّ عدداً لا بأس منهنّ أيضاً روينَ أنّه تمّ رميهنّ في هذا المكان من قبل أصحاب العمل الذين لم يعودوا قادرين أو راغبين في مواصلة تسديد الأجور المستحقّة أو حتى في تسديد تذكرة سفر العودة. إلّا أنّ هذا المشهد المرئي الذي أمكن للعديد من وسائل الإعلام نقله والحديث عنه لا يجب أن ينسينا مشهداً غير مرئي بقي خارج الاهتمام العام، ويرجّح أنّه ليس أقلّ مأساوية. ويتمثّل هذا المشهد في وضع العاملات ضحايا الظلم المتواري تحت ستار خصوصية البيوت. ففيما قد يكون تراجع الإمكانات المالية لأصحاب العمل برّر للعديد منهم الامتناع عن تسديد الأجور أو تأخيرها أو اتّخاذ قرار منفرد باستبدالها بأجور بالليرة أو بتخفيضها، مع ما يستتبع ذلك من معاناة لدى العاملات اللواتي قلّما يملكنَ سبل الاعتراض على ذلك، فإنّ الإغلاق العامّ والحجر المنزلي الذي تواصل لأشهر ضيّق الخناق على العاملة، حيث يرجّح أنّه أدى إلى زيادة الأعمال المنزلية المطلوبة وتالياً ساعات العمل، في موازاة تضييق المساحة الخاصّة المتروكة للعاملة في المنزل والحدّ من إمكانية خروجها من المنزل خشية إصابتها بالفيروس ممّا يهدّد صحّة العائلة برمّتها. ورغم الخطر المُحدق بالعاملات، فإنّ هذا الأمر بقي بمنأى عن أيّ إجراء أو انتباه رسمي، لتترك مرة أخرى العاملات بمثابة أسيرات أو رهائن تحت رحمة أصحاب العمل.
ولفهم خطورة هذا الأمر، يقتضي التذكير بأمور ثلاثة:
أوّلاً، أنّ نسبة كبيرة من أصحاب العمل (تقدّر بـ75%) كانوا لا يزالون يمنعون العاملات من الخروج من المنازل بحججٍ مختلفة، أهمّها الخوف من هربهنّ على نحو يسبّب لهم خسارة المبلغ المُسدّد من أجل استقدامهنّ وفق دراسة لمنظمة العمل الدولية والجامعة الأميركية بُنيت على استطلاع رأي لأصحاب العمل أنفسهم. وغالباً ما أدّى هذا الأمر إلى التعامل مع العاملات كرهائن يتمّ أسرهنّ ضماناً لاستيفاء قيمة هذا الاستثمار. ورغم الطابع الاستعبادي غير المبرّر لمنع العاملات من حرّية الخروج، فإنّ هيئات رسمية عدة برّرته بمناسبة مناقشة العقد الموحّد أو مسودّة مشروع القانون الخاص بالعمالة المنزلية، بحجج من بينها ضرورة حماية العائلة من احتمال إصابة العاملات بفيروسات معدية. ويُخشى تالياً أن تؤدّي سياسات التباعد الاجتماعي إلى تقوية هذه الحجّة، على نحو ينسف كلّ التطوّر الاجتماعي المحقق في العقود الأخيرة في اتّجاه الاعتراف بحريّة العاملات بالخروج من المنازل.
ثانياً، أنّ الخروج من المنزل غالباً ما شكّل الفرصة الوحيدة للعاملة لاحترام صاحب العمل وعائلته لحقّها في الراحة (من دون تلقّي أوامر من أيّ من أفراد الأسرة) وأيضاً لتمتّعها بشيء من الخصوصية، فضلاً عمّا لذلك من أهمية في تكوين شبكات تضامن بين العاملات وحولهنّ. في المقابل، يشكّل بقاؤهنّ القسّري في المنازل تهديداً جديداً لهذه المكتسبات (البديهية).
ثالثاً، أنّ قانون حماية أفراد الأسرة من العنف الأسري لا يشمل صراحة العاملات ضمن تعريف الأسرة. وفيما قضى قاضي الأمور المستعجلة في المتن أنطوان طعمة بتاريخ 23/6/2016 بوجوب توسيع التعريف ليشملهنّ، بقيت هذه حالة معزولة أمام المحاكم اللبنانية. عليه، وإذ سجّلت منظّمات عدّة تفاقم درجة العنف الأسري ضد النساء بنتيجة الحجر الصحّي بدليل كثرة الاتّصالات على الخطوط الساخنة واللجوء إلى القضاء، يرجّح أنّ العنف ازداد بدرجة مماثلة أو ربّما مضاعفة على العاملات بنتيجة اجتماع عوامل ضعف عدّة في أشخاصهنّ، من دون أن يكون لهنّ أيّ حماية خاصّة. وهنا أيضاً تظهر بوضوح إحدى الثغرات الهائلة في توفير أدنى درجات الحماية لهنّ: فلا هنّ يستفدن من حماية قانون العمل بحجّة أنّ لعملهنّ خصوصية حصوله ضمن العائلة ولا هنّ يستفدن من حماية الأسرة بحجّة أنهنّ لسن أعضاء فيها. ومن المفيد بمكان هنا التذكير بأنّ القاضي طعمة برّر قراره بقوله إنّ “الخادمة التي تترك بلادها لكي تمكث في منزل مخدومها لتقديم الخدمة له لقاء أجر معيّن، ومبارحتها المنزل المذكور واهتمامها بحاجات أفراد الأسرة ولا سيّما الأطفال منهم، ومعايشة تلك الأسرة ليلاً نهاراً، …. لا يمكن إلّا اعتبارها من ضمن أفراد الأسرة بمفهوم قانون العنف الأسري، الذين يتوجّب تأمين الحماية لهم من العنف الحاصل في إطار الأسرة، حفاظاً على كرامتها الإنسانيّة”.
(2)
تحوّلات عمل المكاتب
تتولّى استقدام العاملات مكاتب مرخّصة من وزارة العمل. وقد شهد عمل هذه المكاتب تحوّلات كبيرة ليس فقط في حجم عملها وقدرتها على الاستمرار، إنّما أيضاً وبشكل خاص في طبيعة أعمالها. وقد فرضت هذه التحوّلات نفسها بعدما تقلّص الطلب بشكل كبير على استقدام عاملات من الخارج. فقد انخفض عدد الموافقات المسبقة للقدوم للعمل في لبنان من 49889 في 2019 إلى 7040 في 2020 (حتى 9 كانون الأول). هذا مع العلم أنّ القسم الأكبر من عدد الموافقات المسبقة الممنوحة في 2020 قُدّم في النصف الأول من السنة (5196) فيما لم يتجاوز عدد الموافقات المسبقة المقدّمة في النصف الثاني من 2020 (حتى 9 كانون الأول) 1844. وعليه، يظهر التراجع في 2020 بالنسبة إلى 2019 بنتيجة الأزمات الاقتصادية والمالية والتي كلّلتها أزمة كورونا، حيث بلغت الموافقات المسبقة في 2020 1/7 من عدد الموافقات المسبقة في 2019 والتي كانت بدورها بلغت ما يقارب نصف عدد الموافقات المسبقة الممنوحة في 2018 (والتي بلغ مجموعها 93000).
في موازاة ذلك، منحت وزارة العمل في 2019 ما مجموعه 32.955 إجازة عمل للمرّة الأولى، في مقابل 9.135 إجازة عمل للمرّة الأولى في 2020 (حتى 9 كانون الأول) علماً أنّ إجازات العمل الممنوحة للمرّة الأولى بعد 1 تموز بلغ 1493 إجازة فقط. وللإحاطة بهذه المسألة، يجدر أن نذكّر أنّ مجموع إجازات العمل الممنوحة للمرّة الأولى أو المجدّدة في 2020 (حتى 9 كانون الأول) بلغ 108.951 فيما بلغ 182.481 في سنة 2019.
ولدى مراجعة المكاتب، أمكن التثبّت من بروز تحوّلات في توجّهاتها سعياً للتأقلم مع الواقع الجديد، أهمّها التوجّهات الآتية:
التوجّه الأول، هو استبدال استقدام العاملات الأجنبيات بـ”تصديرهنّ”، وتحديداً إلى دبيْ. فوفق الإحصاءات التي زوّد الأمن العام بها “المفكرة” بها بناءً على طلبها، غادرت 6844 عاملة أثيوبية بيروت في اتجاه دبي خلال سنة 2020 (حتى 5 تشرين الأوّل). وقد نشرت “المفكرة” في استقصاءٍ سريع أنّ ثمّة سوقاً نشأتْ لتحقيق انتقال العاملات إلى دبي لقاء عمولات سمسرة، شاركت فيه عددٌ من النساء الأثيوبيات أنفسهنّ فضلاً عن المكاتب العاملة في لبنان. وقد عزا صاحب مكتب في حديثه لـ”المفكرة” انخفاض عدد الأثيوبيات الراقدات أمام سفارة بلادهنّ بعروض العمل في دبي، في موازاة اعترافه أنّه ينشط في إقناع هؤلاء العاملات غير النظاميات أو اللواتي تمّ إنهاء عقودهنّ بالسفر إلى دبي.
التوجّه الثاني، هو زيادة حجم تدخّل المكاتب لنقل العاملات من صاحب عمل إلى آخر داخل لبنان (وهو ما نسمّيه إعادة الاستخدام) مقابل الانخفاض الحادّ في استقدام عاملات جدد. ففيما لم يتجاوز عدد العاملات الحاصلات على موافقات مسبقة للمرّة الأولى في سنة 2020، 7040، ولم يتجاوز عدد العاملات الحاصلات على إجازة للمرة الأولى في سنة 2020، 9135، فإنّ عدد إجازات العمل التي تمّ تجديدها في هذه السنة (حتى 9 كانون الأول) بلغ 99.816، بمعنى أنّ نسبة العاملات الحاصلات على إجازة عمل للمرّة الأولى في هذه السنة لم تتجاوز 8.4% من مجموع العاملات النظاميات. ولإدراك أهمية هذا الرقم، يكفي مقارنته بالنسب في 2019 حيث بلغت نسبة العاملات الحاصلات على إجازة عمل للمرّة الأولى في هذه السنة 18% من مجموع العاملات النظاميات (وقد بلغ عددهنّ 32955 من أصل 182481). وعليه، حصل تراجُع الطلب على العاملات المنزليات بدرجة أكبر بما يتّصل بالعاملات المستقدمات من الخارج. ويفهم تالياً توجّه المكاتب إلى التعويض عن جزء من خسارتها الفادحة نتيجة التراجع المحسوس في سوق “الاستقدام” من خلال السعي إلى تحقيق أرباح في إعادة “استخدام” العاملات المقيمات في لبنان. وهذا الأمر إنّما يشكّل مخالفة لقانون إنشاء المؤسّسة الوطنية للاستخدام الذي حصر الاستخدام على طول الأراضي اللبنانية فيها.
التوجّه الثالث للمكاتب تمثّل في البحث عن دول جديدة بإمكان المكاتب أن تستقدم منها عاملات تكون أقلّ كلفة وأكثر عرضة للاستغلال. وهذا ما نستشفّه من تراجع نسب العاملات اللواتي يتمّ استقدامهنّ من دول آسيوية مقابل ازدياد ملحوظ في نسب العاملات القادمات من دول إفريقية، وبخاصّة من الدول التي لم تكن سابقاً على خارطة استقدام العمالة إلى لبنان. وهذا ما نستشفّه عند الاطّلاع على قائمة الموافقات المسبقة لاستقدام عاملات في 2020 (حتى آخر تشرين الثاني 2020) والتي اقتصر فيها عدد الحائزات عليها المتحدّرات من دول آسيوية على 1031 من أصل 7040 أي ما نسبته 14.6%. في المقابل، فإنّ دولاً أفريقية عدّة تظهر تدريجياً في هذه القوائم وفي طليعتها كينيا ونيجيريا وسيراليون وبنين.
(3) كيف تعاملت الدولة مع هذه التحوّلات؟
كيف تعاملت الدولة مع هذه التحوّلات؟ للردّ على هذا السؤال، يقتضي النظر في اتّجاه وزارة العمل والمديرية العامّة للأمن العام. وفيما بقي دور القضاء في حماية هذه الفئة هامشياً بفعل نظام الكفالة كما أثبتنا في تقرير منفصل وقد أصبح أكثر هامشية بفعل تعطيل المحاكم، فإنّ مجلس شورى الدولة قام على العكس من ذلك بدور سلبيّ حين علّق تنفيذ عقد العمل الموحّد الجديد الذي سعت وزارة العمل من خلاله إلى تحسين وضع العاملات. وهذا ما سنتناوله في سياق النظر في دور وزارة العمل.
مراقبة شروط العمل (وزارة العمل)
أكثر ما امتاز به شغل وزارة العمل في هذا الخصوص هو سعيها لتعديل العقد الموحّد كأحد شروط منح رخصة عمل. وكان هذا الأمر بدأ في 2019 بحثّ من وزير العمل السابق كميل أبو سليمان وتمّ استكماله من قبل الوزيرة الحالية لميا يمّين. وقد تضمّن هذا العقد أفكاراً هامّة لتحسين عمل العاملات، جاز اعتبارها بمثابة إنجازات وإن بدت بديهيات من منظور حقوقي. إلّا أنّه وفيما يعنينا هنا، يسجّل أنّ العقد الذي تمّ الإعلان عنه في خضمّ التعبئة العامّة لمواجهة الجائحة قد تضمن بنداً قد يؤدّي إلى الإضرار بالعاملة قوامه تمكين صاحب العمل من إنهاء العقد بصورة فورية ومن دون إشعار مسبق في حال إصابة العاملة بـ”مرض خطير”، من دون اشتراط أن يكون المرض يمنع استكمال العقد بشكل دائم أو على الأقلّ لفترة غير قصيرة. وأكثر ما يخشى منه هو أن يستغلّ صاحب العمل هذه المادة لإنهاء عقود العمل مع العاملات اللواتي قد يصبن بفيروس كورونا، وربما يصبن به بعدوى من صاحب العمل أو أحد أفراد عائلته. إلّا أنّه ورغم محدودية هذا العقد، فإنّ مجلس شورى الدولة اتخذ بتاريخ 14 تشرين الأول 2020 قراراً بوقف تنفيذه وذلك بناء على طلب تقدّمت به نقابة مكاتب الاستقدام.
وردّاً على أسئلة “المفكرة”، أفادت رئيسة دائرة تفتيش العمل في وزارة العمل جمانة حيمور أنّ الوزارة تلقّت فعلاً على الخط الساخن العديد من الشكاوى التي تركّزت حول عدم دفع أصحاب العمل الأجور بالدولار، كما أكّدت تكاثر هذه الشكاوى بدءاً من آذار 2020 (تاريخ التعبئة العامّة)، من دون أن يكون بإمكانها تزويدنا بأيّة أرقام في هذا الخصوص.
ولم تخفِ حيمور محدودية الخيارات المتاحة أمام الوزارة في هذا الشأن، نتيجة إقفال المطار لفترات طويلة والعديد من المكاتب والصعوبات الاقتصادية الفعلية التي كان يمرّ بها أصحاب العمل، فضلاً عن تعدّد أسعار الصرف. وعليه، أعطي فريق الوزارة تعليمات شفهية تفيد بتطبيق ما ينصّ عليه “الاتّفاق بين صاحب العمل والعاملة، وشو بتقبل العاملة مع صاحب العمل”. وفي هذا السياق، تتابع حيمور شهادتها: “هناك أصحاب عمل كثر اتفقوا مع العاملة على دفع راتبها بالعملة الوطنية”، وهناك عاملات “رفضن ذلك وطالبن بالدولار على سعر الصرف في السوق السوداء أو السعر في المصرف، كلّ حالة بحالتها”. تقول حيمور “وصلنا إلى حائط مسدود” فكانت “نصائح الوزارة” تفيد بضرورة إيجاد حلّ وسطي بين صاحب العمل والعاملة بانتظار أن نرى كيف ستسير الأزمة”. وتؤكّد حيمور أنّه عندما تصرّ العاملة على قبض راتبها بالدولار، “كانت الوزارة تطلب من صاحب العمل الدفع بالدولار فقط”. وترى أنّ “الأزمة كانت ع الكلّ، وإن كانت في النهاية على حساب العاملات أكثر من غيرهنّ كون العاملة كانت تقبض 200 دولار، ولم تعد قيمتها باللبناني، أي 300 ألف ليرة على سعر الصرف الرسمي، تتجاوز 35 دولاراً”. وتلفت حيمور إلى أنّ فتح المطار مهّد الطريق للترك الطوعي، و”تمّت معالجة كل حالة بحالتها، والمشاكل كانت متعددة، وتدور حول الرواتب وقيمتها “كنا نرسل وراء صاحب العمل والمكتب والعاملة ونقف على تفاصيل القضية ونتابع هاتفياً حالات العاملات، ونرسل بعضهنّ إلى الجمعيات في حال فتحت أبوابها”. وفيما أوضحت حيمور أنّ إقرار مصرف لبنان “الدولار المدعوم” لتحويل راتب العاملة إلى الخارج حلّ جزءاً كبيراً من مشكلة رواتب العاملات، علمت “المفكرة” من أصحاب عمل عدّة أنّ هناك سماسرة دخلوا على خط الدولار المدعوم، وصار ثمن المئة دولار المدعومة على سعر 3900 ليرة للدولار نحو 550 ألف ليرة لبنانية لكل مئة دولار بدل 390 ألف ليرة، أي أنّ السمسار يتلقى 160 ألف ليرة عن كل مئة دولار مدعومة يتوسّط ليؤمّنها.
في مقابل كثرة شكاوى العاملات على أصحاب العمل بسبب الرواتب وقيمتها، تلحظ حيمور نسبة قليلة من الشكاوى على المكاتب “كتير قليلة لأنّه العاملات الموجودات في لبنان مش عم يجوا ع المكاتب، كما تضاءل حجم الاستقدام وفق أرقام الوزارة الخاصة بالموافقات المسبقة، ومش لأنّه أداءهم تحسّن”. فهي توثق ورود 117 شكوى ضد أصحاب العمل من عاملات وجمعيات وسفارات في مقابل 54 شكوى ضد مكاتب. وانتهت متابعة هذه الشكاوى، وفق حيمور، بوضع 15 مكتباً على اللائحة السوداء ممّا يقفل الباب أمام استقدامها عاملات لحين تسوية أوضاعها ومخالفاتها.
ولدى سؤالها عن قدرة جميع العاملات على التشكّي لدى الوزارة، شكّكت حيمور في إمكانية وجود عاملة منزلية “لا تعرف بالخط الساخن للوزارة وأيضاً بحقها بالراتب وبالدولار”. وتشير إلى أنّ العاملات اللواتي لجأن إلى السفارة الأثيوبية هنّ بمعظمهنّ ممّن كنّ قد تركن منازل أصحاب العمل ويعملن لحسابهنّ الخاص على الساعة، علماً أنّ “المفكرة” وثّقت العديد من قصص عاملات منزليات ممّن تركهنّ أصحاب عملهنّ أمام السفارة ليواجهن مصيرهنّ بأنفسهنّ. وتتابع حيمور: “وصلتنا لوائح بأسماء العاملات وعندما استدعينا أصحاب العمل أبرزوا لنا محاضر بهروب العاملات لديهم”، كما تقول. علماً أنّ البلاغات لا تبرّئ أصحاب العمل من الممارسات التي قد تكون أدّت إلى دفع العاملة إلى ترك عملها (في حال حصول ذلك فعلاً أو من احتمال أن يكون هؤلاء أنفسهم قد تركن العاملات أمام السفارة بعيد أو قبيل الإبلاعغ عن “فرارهنّ”.
مراقبة شروط الإقامة (المديرية العامّة للأمن العام)
بمراجعة التدابير المتخذة بشأن شروط إقامة العاملات، وبخاصّة من المديرية العامّة للأمن العام، يتبدّى أنّها تنسجم إلى حدّ كبير مع تحوّلات سوق العمالة المنزلية وتراجع عدد العائلات القادرات على تسديد كلفة استقدام العاملات من الخارج. وقد ذهبت هذه التدابير في اتّجاهات ثلاثة، مؤدّاها الاستفادة من العاملات الراغبات في البقاء في لبنان مع تسهيل سفر العاملات الراغبات في مغادرته. وهذه الاتجاهات هي الآتية:
- الأوّل: تسهيل تشريع العمالة المنزلية الموجودة في لبنان. نستشفّ هذا الأمر من خلال توسيع باب تسوية أوضاع العاملات المنزليات في لبنان. فإلى جانب إعفاء العاملة وصاحب العمل من الغرامات المتأخّرة من جرّاء عدم تجديد إقامتها (المادة 21 من قانون الموازنة العامّة لسنة 2020)، تمّ تمكين العاملة من تقديم طلبها بهدف تسوية وضعها لدى صاحب عمل جديد “الكفيل الجديد” من دون اضطرارها لإبراز تنازل من صاحب عملها السابق “كفيلها الأساسي”. ونستشفّ من التعليمات الصادرة عن الأمن العام في هذا الخصوص توجّهاً معلناً لتجاوز “الكفيل الأساسي” تماماً في حال عدم استجابته للحضور لدى الأمن العام وللاستنساب في تقدير مدى مشروعية أيّ اعتراض قد يرد عنه على انتقال العاملة “المكفولة سابقاً” إلى صاحب عمل جديد. ومن هذه الزاوية، شكّلت تعليمات الأمن العام انعطافة هامة في اتجاه تعزيز حق العاملة في تغيير صاحب عملها وفي اتجاه التضييق من امتياز الكفالة.
- الثاني: تسهيل انتقال العاملة النظامية من صاحب عمل إلى آخر. وهذا ما نستشفّه من التعليمات الاستثنائية المعمول بها حالياً حتى الآن. فعدا عن إعلان فترة سماح من 17/10/2019 إلى 30/6/2021 لإجراء المعاملات الضرورية لتدوين حصول التنازل من صاحب عمل إلى آخر، فإنّ التعليمات سمحت للعاملة بتسجيل تنازل مماثل حتى ولو كانت استفادت سابقاً من تنازلين أو أكثر، وذلك خلافاً للقواعد المعمول بها سابقاً من قبل الأمن العام.
- الثالث، رفع العراقيل أمام العاملات غير النظاميات الراغبات في المغادرة. وهذا ما تمّ بموجب قانون الموازنة العامّة الذي أعفى العمال الأجانب عامّة من تسديد غرامات التأخير من جرّاء كسر إقاماتهنّ في لبنان.
وعليه، يرجّح أن تنتهي تدابير الأمن العام إلى ثلاث نتائج: تخفيف عدد العاملات اللواتي يتم استقدامهنّ من الخارج، وتمكين العائلات القادرة والرّاغبة من توظيف عاملات من دون تحمّل تكاليف استقدامهنّ، وتخفيف عدد العاملات غير النظاميّات وعدد العاملات عموماً بما ينسجم مع تراجع قدرات سوق العمالة المنزلية وحاجاته.