“نحبّ حقّ ولدي”: شهادات أمّهات ضحايا الاعتداءات البوليسيّة


2024-02-21    |   

“نحبّ حقّ ولدي”: شهادات أمّهات ضحايا الاعتداءات البوليسيّة

سنوات عديدة تمرّ من دون تحقيق المحاسبة. لا يختلف الأمر كثيرا إن كانت الجريمة قبل الانقلاب على الدستور أو بعده أو فيما سبق الثورة أو ما لحقها. ففي تونس٬ يبقى إفلات أعوان البوليس من العقاب قاعدة ثابتة في تاريخ هذا البلد. حتى بشاعة الجريمة أو انشغال الرأي العام بها أو تبنّيها من قبل المنظمات الحقوقية والإعلام، لا تكفي للضغط أو لتسريع كشف الحقيقة. إذ أن الحصانة التي يتمتّع بها أعوان البوليس حين يعتدون على المواطنين العزّل تتجاوز كلّ المسلّمات ووسائل الضغط التي يتمتّع بها المجتمع. وهي تخترق المؤسسات وتجعل من البوليس جهازا يتعالى على المحاسبة وتحقيق العدالة. يتناقل الإعلام جرائم القتل٬ يفصّل الشهودُ الوقائع والشهادات٬ تقدّم المنظمات الحقوقية مساندتها٬ يُقبل المحامون على الدفاع عن حقّ الضحايا٬ تُرفَع صور الضحايا بالملاعب وعلى مواقع التواصل الاجتماعي وتُحفظ الأغاني التي تحفر الجرائم بالذاكرة الجماعية. ورغم كلّ تلك المحاولات للانتصار للضحايا، يعجز القضاء عن تحقيق العدالة في ظلّ عدم استجابة الأعوان لأبسط الإجراءات القضائية ليصل بهم الأمر إلى حدّ محاصرة المحاكم ومكاتب القضاة أحيانا.

رغم كلّ هذه العقبات٬ تواصل عائلات الضحايا تمسّكها بمطالب تحقيق العدالة وتُثابر في البحث عن الحقيقة وإبقاء الذاكرة الجماعية حيّة في ظلّ إفلات المجرمين من العقاب. في هذا الإطار انتظمت في تاريخ 13 ففري ندوة صحفية جمعت عائلات خمس ضحايا للانتهاكات البوليسية٬ تعاقبت خلالها الأمّهات على المصدح لمشاركة الرأي العام معاناتهنّ جرّاء فراق الأبناء وركضهنّ وراء عدالة لم يَنلنَها بعد. فسرَدن وقائع الجرائم وعبّرن عن آلام الفقد وطالبْن رئيس الدولة قيس سعيّد بالتدخّل وقبول لقائهنّ لمساعدتهنّ على تحقيق المحاسبة. طلبٌ يعبّر عن واقع انخرام دولة المؤسّسات الذي كرّسه الرئيس بجعل القضاء وظيفة لديه وتلاشي فكرة الاستقلالية على المستوى المؤسساتي وأيضا الرمزي في أذهان صاحبات وأصحاب الحقّ. فأصبحوا يأملون في تدخّل الحاكم المنفرد بالسلطة بأعمال المحاكم والقضاة ويطلبون أوامره لإنفاذ عدالة تعلّقت بها آمالهم وهممهم. 

“لن أتخلّى عن حقّ ابني إلى آخر لحظة في حياتي”

كانت السيدة وسيلة والدة عمر العبيدي أوّل المتدخّلات في الندوة الصحفية. بدأت بالتصريح بأنّ يوم 16 فيفري يوافق آخر تاريخ للمرافعات في قضية قتل إبنها في الطور الاستئنافي، بعد عدّة طلبات للتأخير استجابت لها المحكمة. قضية قتل عمر العبيدي٬ تعدّ إحدى القضايا القليلة المتعلّقة بجرائم البوليس التي بلغت الطور الثاني من التقاضي. تحقّق الاستثناء لتضافر شروط عدّة أوّلها اهتمام الرأي العام ومتابعة وسائل الإعلام لأطوار القضية منذ وقوع الجريمة٬ ونجاح حملة “تعلّم عوم” في إبقاء القضية حية في أذهان الناس٬ وانتماء عمر لمجموعة تشجيع كروية حرصت على تحقيق المحاسبة وأخيرا بشاعة الجريمة التي صدمت وحرّكت الضمائر. قُتل عمر العبيدي (19 سنة) يوم 18 مارس 2018 بعد أن طارده أعوان البوليس خارج أسوار الملعب الذي شهد أعمال عنف خلال مباراة كرة القدم التي حضرها عمر لتشجيع فريقه المفضّل النادي الإفريقي. تواصلت المطاردة للمشجّعين إلى حين بلوغ واد في تلك المنطقة. في حين ألقى بقية المشجعين أنفسهم في الماء للهرب، توقّف عمر العبيدي وأعلم عون الأمن الذي يطارده بأنه لا يتقن السباحة. تهجّم عليه هذا الأخير بالضّرب ثمّ دفعه إلى الوادي قائلا “تعلّم عُوم” أي “تعلّم السباحة”. تمّ العثور على جثّة عمر العبيدي الغارقة في الماء الملوّث والوحل في اليوم اللاحق وبدأ منذ حينها صراع محتدم مع أعوان البوليس ومختلف الهياكل التي تحميهم. صدر الحكم الابتدائي في نوفمبر 2022 واعتمد تكييف الجريمة بالقتل على وجه الخطأ بدل القتل العمد، وقضى بالسجن لمدة عامين اثنين في حق 12 عونا. وهو ما أثار غضب الشارع ومجموعات التشجيع الكروية على وجه الخصوص تحت شعار “إمّا العدالة أو الفوضى”. كما استنكرته هيئة الدفاع التي لم تُأخذ طلباتها وملاحظاتها بعين الاعتبار على غرار الاستناد إلى تقرير الطب الشرعي الذي يُثبت الاعتداء بالضرب وسماعات الشهود الذين تمّ تهديدهم وهو ما كان بالإمكان أن يُغيّر تكييف الجريمة من القتل على وجه الخطأ إلى القتل العمد. 

قدّمت وسيلة العبيدي والدة عمر مداخلة مقتضبة وبسيطة تُشبهها، ولعلّ جلوَسها أمام كاميرات الصحفيين كان شجاعة لا بدّ على الأمّ اجتيازها للدفع نحو تحقيق العدالة. بينما ظهر تردّدها في بداية المداخلة٬ بدت صلابة الأمّ وإصرارها كلّما ردّدت “أنا نحبّ حقّ ولدي” (أنا أريد حقّ ابني). فذكّرت بالمماطلة التي تشهدها المحاكمة ومعاناتها في كلّ تأخير للجلسات بينما يُمارس المتّهمون حياتهم العاديّة ويزاولون عملهم. كما كرّرت طلبها لمقابلة رئيس الدولة قائلة “أريد أن أحدّثه عن ابني وما فعلوا به” في رجاء منها لكي يتمّ التسريع في تحقيق العدالة، علما أنّه سبق أن قدّمت طلبا كتابيّا للقاء الرئيس ولم يتمّ الاستجابة له.

“لقد كسروا جمجمة ابني”

قُتل أسامة الأعطر يوم 23 ديسمبر 2018 عن عمرٍ يُناهز 19 سنة بعد مطاردته من أعوان الحرس الوطني بمنطقة جبنيانة. انتهت مطاردة أسامة وصديقه رامي التيس باصطدام سيارة الحرس بالدراجة النارية التي كانا على متنها وخروجها عن الطريق ووقوعهما في أحد المجاري المائية. توفّي أسامة في حين تمكّن صديقه من النجاة بعد قدوم المتساكنين الذين اتّصلوا بالإسعاف. 

تحدّثت شافية السّعفي والدة أسامة الأعطر عن حيثيات مقتل ابنها، الذي كان يدرس في آخر سنة من التعليم الثانوي، وقد خرج يومها (فترة العطلة) مع صديقه للتنزّه على متن الدراجة النارية. طاردهم أعوان الحرس واصطدموا بهم من الوراء ومن ثمّة تركوهم هناك من دون إسعاف أو تدخّل لإنقاذهم. “لقد كسروا جمجمته وتركُوه للموت كأنّه حيوان”.

تمّ تكييف الجريمة على أنها قتلٌ على وجه الخطأ، وتمّ الحكم ابتدائيّا على أحد الأعوان بخمس سنوات سجن والثاني بثلاث سنوات مع النفاذ العاجل، رغم تخلّفهم عن الحضور في كلّ جلسات المحاكمة. فقام أحدهما بالاعتراض على الحُكم ليتمّ تخفيفه لسنتين سجنًا. عبّرتْ  شافية والدة أسامة الأعطر عن عدم رضاها على الحكم الصّادرلأنّه كيّف الجريمة بالقتل على وجه الخطأ وليس بالقتل العمد. كما طالبتْ  بمقابلة الرئيس مؤكّدة أنّ طلب اللقاء يتمحور فقط على المحاسبة وليس طمعا في مساعدات أو امتيازات، قائلة: “أريد أن تسمعنا الدولة وأن يسمعنا الرئيس.. أنا لن أطلب شيئا غير جزاء من قتلوا ابني”. خلال توجّهها للصحفيين٬ تساءلت شافية عن أسباب استهداف أبناء الطبقات الفقيرة من طرف أعوان البوليس قائلة: “ألا يمكن لأبناء الفقراء أن يتجوّلوا بدراجاتهم أو يذهبوا للملاعب؟ ألا يحقّ لهم الترفيه؟ هل يجب أن يموتوا؟”. في الأثناء٬ تمّ تحديد جلسة استئنافية فيما يتعلّق بالقضية بتاريخ 05 مارس 2024. 

“تمسّك ابني بشهادة الحقّ فألقوا به في السجن لسبع سنوات”

لا توجد ضحية واحدة في قضية مقتل أسامة الأعطر بل ضحيّتان. فبعد أن أُسعف صديقه رامي التيس  بفضل تحرّك الأهالي وإسراعهم لإنقاذه٬ وجد هذا الأخير نفسه في مواجهة طغيان الماكينة البوليسية وجبروتها بعد الإدلاء بشهادته فيما يخصّ جريمة القتل. 

تحدّثت فوزية الشطي والدة رامي التّيس عن علاقة الصداقة القويّة التي جمعت رامي وأسامة منذ طفولتهما حيث كبُرا معا وشاركا سويّة في العمل الفلاحي الذي عُرفت به منطقة جبنيانة. قدّم رامي شهادته التي وصفتها الأمّ بأنّها شهادة الحقّ ومنذ ذلك “لم يذق ابني طعم الراحة”. بدموع منهمرة، توجّهت الوالدة للصحفيين لتعلمهم بالحقيقة التي تقف وراء تغييب ابنها. فقد تمّ إيقاف رامي التيس والحكم عليه بالسجن لسبع سنوات، بعد أربع محاولات من الإيقاف والزجّ به في قضايا أخرى لا دخل له فيها. يقبع الشاهد بالسجن لسبع سنوات بينما يُترك القاتل في حالة سراح إلى حين صدور الحكم الاستئنافي.

“أفكّر في القيام بانتحار جماعي مع ابني وزوجي لكي لا أترك أيّ أحد منهم بعدي”

توفّي عبد السلام زيّان في الثاني من مارس 2021 في مركز الاحتفاظ بصفاقس بسبب عدم تلقّيه جرعة الأنسولين التي كان يحتاجها رغم توجّه عائلته للمركز وإعلامهم الأعوان بمرضه وتوسّلهم لكي يقدّموا له دواءه. تمّ إيقاف عبد السلام زيّان رفقة أخيه بتهمة خرق حظر التجوّل (الذي تمّ فرضه في إطار مواجهة تفشّي الكورونا) وهضم جانب موظّف عمومي٬ التهمة المفضّلة لدى الأمنيين التي تستعمل في كثير من الأحيان لإيقاف المواطنين بصفة اعتباطية. لم يتمّ تقديم الدواء الذي جلبته العائلة ولا التعاطي بجدّية مع  تدهور صحّة عبد السلام وطلبات أخيه. عند تدهور حالته بصفة خطيرة، تمّ نقل عبد السلام للمستشفى ولم ينتظر الأعوان استكمال بقيّة الفحوص والتحاليل، فلم يقدّم الأطبّاء العلاج الملائم وأعادوه  لمركز الاحتفاظ حيث توفّي.

صرّحت دلندة قصارة، والدة عبد السلام زيّان، أنّ صدور تقرير الطبّ الشرعي في وقت وجيز خلافا لما يحصل في العادة  في قضايا القتل المشابهة على أيدي الأمنيين، كان بفضل عملها كممرضة في المستشفى نفسه، فكان من الصعب إخفاء نتائجه في ظلّ توجّهها لمعرفة الحقيقة سريعا. ثلاث سنوات تقريبا مرّت ولايزال ملفّ القضية يتأرجح بين قاضي التحقيق ودائرة الاتهام ومحكمة التعقيب فيما يخصّ تكييف الجريمة. فقد تمّ توجيه تهمة القتل على وجه الخطأ لـ14 عونا رغم تأكيد تقرير الطب الشرعي لما تمّ نقله من شهادات عن تدهور صحة عبد السلام الذي وصل حدّ تقيّؤ الدم، وعدم إنجاده وتدليس محضر إيقافه المقدّم لوكيل الجمهورية (حيث تمّ ذكر معلومة كاذبة فحواها أنّ عبد السلام وأخيه أصحاب سوابق عدلية) الذي أصدر بناءً عليه قرارا بإيداع الأخويْن بالسّجن. 

عبّرت الأمّ عن إصرارها على الدفاع عن حقّ ابنها، إذ صرّحت أنّها لن تستسلم و”ستتوجّه للقضاء الدولي إن لزم الأمر” لمحاسبة قتلة ابنها. على غرار رفيقاتها٬ لم تتمكّن دلندة من كبح مشاعرها ودموعها فتكلّمت عمّا فقدته: “لقد كنّا بمثابة عائلة مثالية أنا وزوجي وأبنائي الاثنيْن، ولكنّهم حرموني من ابني ودمّروني. لم تعدْ لديّ أيّة حياة، لم أعد أقدّم عزائي لأحد ولم أعد أقوى على تهنئة أي شخص٬ لم أعد أقوى حتى على الخروج أو ممارسة أيّ من عاداتي السابقة. لقد فكّرت مرّة في القيام بانتحار جماعي أنا وابني وزوجي لكي لا يبقى أحد منهم بعدي”.  

تتمسّك دلندة بالعدالة القضائية وتُضيف: “في كلّ مرّة أتوجّه لمكتب أحدهم بالمحكمة، يقولون لي أنّ الأمن هو الحاكم الحقيقي بالبلاد. أليست السلطة للرئيس والوزراء؟”. دفعها ذلك لطلب لقاء رئيس الدولة حيث تريد أن تقدّم له طلبا وحيدا ألا وهو إيلاء ملفّ إبنها الأولوية للبتّ فيه وتقول: “أطلب منه فقط أن يسمعني وأن يطلب من القضاء إيلاء الأولوية لملفّ ابني وملفّ بقية المفقودين للبتّ فيهم سريعا٬ هل سأنتظر عشر سنوات لكي تتحقق العدالة؟”

“هل تريدوننا أن نحقّق العدالة بأنفسنا؟…نحن نريد عدالة القانون” 

لم تقوَ أمّ مالك السليمي على أخذ الكلمة أمام الكاميرات فتولّى الأب نور الدين ذلك. تحدّث الأب عن مقتل إبنه بطريقة مختصرة ولكنّها حملت التفاصيل الأهمّ. فقد قُتل مالك السليمي يوم 12 أكتوبر 2022 إثر خروجه مع أصحابه على متن دراجات نارية. صرّح الأب بأنّ إبنه قد حاول الهرب يومها من أعوان البوليس الذين اعتادوا أن يطلبوا منه النقود مقابل عدم تحرير خطيّة بسبب عدم خلاصه تأمين الدراجة النارية. فرّ مالك من قبضة أعوان البوليس لأنّه لم يكن معه الأموال الكافية وحاول الصعود على سور، فقام الأعوان بشدّه من ساقيه ودفعه ليسقط في منحدر ويلقى حتفه بعد أيام متأثّرا بإصابته. 

كغيره من الضحايا٬ لم يتقدّم البتّ في ملفّ مالك ولم يصدر تقرير الطبّ الشرعي النهائي رغم مرور أكثر من سنة على الواقعة. أمّا المتّهمون، فلا يزالون في حالة سراح بعد الاكتفاء بنقلتهم في العمل، وذلك رغم تقديم رفاقه الذين كانوا معه شهاداتهم وتنقّل المحامية المتواتر لتفقّد تقدّم مجريات القضية. عبّر الأب عن إحساسه بالعجز مقابل مصيبته فصرّح بجمل متقطّعة: “تهتمّ المحامية المتطوّعة بملفّ ابني لأننا لا نملك الأموال لذلك. يزورني أصحابه ويسألونني عن مستجدّات القضية فأقول لا شيء يُذكر”. طلب الأب أيضا لقاء رئيس الدولة للنظر في تأخر البت في ملفّ إبنه قائلا: “أتريدوننا أن نستردّ حقوق أبنائنا بأيدينا؟.. نحن نريد إقامة العدل عبر القانون”. 

“لن أمكُث في البلد الذي قاموا بتعريتي وإهانتي فيه”

انتهت الندوة الصحفية بمداخلة زكية العياري والدة الطفل فادي الهراغي. لم يكن فادي ضحية جريمة قتل ولكنّه تعرّض، حين كان يبلغ من العمر 15 سنة، لواحدة من أبشع الجرائم البوليسية التي تمّ توثيقها. فقد قام أعوان البوليس في 10 جوان 2021 بالاعتداء عليه ونزع ملابسه ومن ثمة ضربه وسحله في الطريق العام أمام أعين المارّة الذين قام البعض منهم بتصوير الحادثة. تمّ تداول الحادثة في وسائل الإعلام لما مثّلته من ممارسات بوليسية وحشية صدمت الرأي العام. رغم ذلك، لم تتمّ محاسبة المعتدين من أعوان البوليس. على عكس ذلك٬ تحدّثت الأمّ عمّا طال ابنها من تعبٍ نفسيّ جرّاء ما مورس عليه بعد الواقعة. فقد تمّ استنزافه لمدّة ستة أشهر بالذهاب المتكرّر إلى مركز الأمن بتعلّة إجراءات التعرّف على الجناة. أكّدت الأمّ بأنّهم كانوا يقدّمون له في كلّ مرّة أشخاصا جددا ويسألونه إذا كان يتذكّر من اعتدى عليه وهو يؤكّد بأنّ من تمّ تقديمهم ليسوا الجناة، فلم يتمّ إيقاف أي عون إلى حدّ الآن. استنزاف وهرسلة لطمس حقيقة الاعتداء والمسؤولين عنه كان لها أثر بليغ على الطفل والعائلة. أكّدت زكية على تدهور الحالة النفسية لطفلها الذي لم يعد يحبّذ لقاء أصدقائه أو الاختلاط بالناس بل يؤثر الانعزال في غرفته. لم يعد فادي يأمل بأي مستقبل له بتونس. تُؤكّد الأم بأنّ كلّ ما يستحوذ على تفكير ابنها هو مشروع  مغادرة البلاد. إذ يقول لها بأنّه لن يمكُث بالبلد الذي تمّت تعريته وإهانته فيه مهدّدا: “راني بش نحرق” (أي سيهاجر عبر طرق غير نظامية). تُضيف الأمّ: “وعدته بأن أطلب قرضا بنكيا وأن أساهم في تأسيس مشروع صغير له في علاقة بالتكوين المهني الذي تلقّاه. لقد طلبت منه التخلّي عن فكرة الهجرة والبقاء للعيش في وطننا بكرامة فأجابني: أين هي هذه الكرامة وأين هي هذه الحرية التي تتحدّثين عنها؟”.

أكّدت زكية على مرور سنتيْن من دون محاسبة المعتدين ولا متابعة وضع الابن وصحّته النفسية من طرف الجهات المحمول عليها ذلك. “لقد اكتفى المسؤولون بتقديم باقة ورود لنا وأخذ صورتيْن معنا ومن ثم لم يكترثوا لحالنا”. وأضافت بأنّه وقع إيهام الرئيس بأنّه التقى بها خلال زيارته لحيّ آخر، مؤكّدة انتحال صفتها من قبل امرأة أخرى تمّ تقديمها له على أساس أنّها والدة الضحية. فطلبت كبقية الأمهات لقاء سعيّد لكي تقدّم له الحقيقة كاملة مؤكّدة على طلبها الوحيد المتمثّل في محاسبة المعتدين. تأثّرت زكية عندما صرّحت عمّا أحدثه الاعتداء بكافة العائلة وتأثيره عليهم: “لم نعد نضحك بالمنزل ولم يعد لنا أي حديث آخر غير الاعتداء. يُخبرني ابني كلّ يوم عن عزمه الحرقة. يصرّ على تذكيري به بعد الغداء وبعد العشاء وفي كلّ مناسبة وكلّما طلبت منه العدول عن ذلك يبدأ بالبكاء ويقول لي لماذا لم تتمّ محاسبة أيّ منهم؟” أضافت زكية أمام الكاميرات بصوت مرتعش: “لا أملك غير ابني بهذه الحياة٬ إذا تركني وغادر البلاد سأقتُل نفسي”. 

اشتركت مداخلات أهالي الضحايا في صراحتها وتأثّرها وتعبيرها عن إصرارها لتحقيق المحاسبة مؤسساتيّا. في ظلّ تواصل إفلات أعوان البوليس من المحاسبة القضائية وتأخّر القضاء في البتّ٬ قرّرت العائلات طلب لقاء رئيس الدولة بصفة رسمية فتوجّهوا إثر الندوة الصحفيّة للقصر الرئاسي لتقديم طلب كتابي للقاء الرئيس. تعدّ طلبات العائلات وتوجّههم لرئيس الدولة في تناسق تامّ مع انفراد سعيّد بالحكم وإخضاعه للسلطة القضائية. لقد استوعب المُواطنون وأهالي الضحايا على وجه الخصوص طبيعة النظام القائم واستبطَنوا هيمنة الرئيس على القضاء فأصبحوا يوجّهون طلباتهم له مباشرة لتحقيق العدالة المرجوّة. لقد آثر رئيس الدولة تشويه مبدأ المحاسبة عبر استغلاله في حربه المزعومة على الفساد بصفة انتقائية، وتدمير ما تبقّى من مؤسسات دولة القانون على المستوى المادّي والمعنوي بدل إصلاحها. فلم يعد لها مكان في مخيّلة المواطنين ووعيهم وهو ما سيجعل أثر الخيبات أعمق وأعنف عندما سيواجهون تخلّيه هو الآخر عن قضاياهم. إذ أن تمسّك عائلات الضحايا والمواطنين بالعدالة عبر مؤسسات الدولة، يتآكل شيئا فشيئا في ظلّ  تأخّر استرداد الحقوق وتمتّع فئات معيّنة وعلى رأسها أعوان البوليس بالإفلات من العقاب. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، محاكم عسكرية ، قرارات قضائية ، مقالات ، تونس ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني