حملة “تعلم عوم” في مواجهة النقابات الأمنيّة: “يا القاضي طالبين الحقّ، ملّينا الكلام الفاضي”


2022-02-05    |   

حملة “تعلم عوم” في مواجهة النقابات الأمنيّة: “يا القاضي طالبين الحقّ، ملّينا الكلام الفاضي”
صورة من المسيرة الشبابية بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية عام 2021 | المصدر: صفحة النادي الأفريقي على فيسبوك

إنّ سبب الوفاة المباشر هو الغرق وابتلاع الأوحال” هكذا فسّر التقرير الطبي، الذي صدر بعد 6 أسابيع من حادثة وفاة عمر العبيدي. شهيد الرياضة كما أطلق عليه البعض. شابّ يبلغ من العمر 19 سنة، فارق الحياة بعد حضوره مباراة كرة قدم في الملعب يوم 31 مارس 2018 لتشجيع ناديه. وتعود ملابسات الحادثة إلى نشوب بعض أحداث العنف في مدارج الملعب لتتدخل على إثرها قوات البوليس. حيث طارد أعوان الأمن المشجّعين خارج أسوار الملعب إلى أن بلغوا واديا يقع على بعد كيلومترين منه. هناك، وخلافا لما أقدم عليه بعض رفاقه، توقّف عمر العبيدي وأعلم عون الأمن الذي يطارده بأنه لا يتقن السباحة. حسب شهود عيان للحادثة، كانت إجابة العون بالتهجّم عليه بالضرب ثم بدفعه إلى لوادي قائلا “تعلّم عوم” أي “تَعلّمْ السباحة” لتصبح هذه العبارة رمزا للجرائم البوليسية. بعد أربع سنوات من الحادثة، وإثر تأجيل الجلسة إلى تاريخ 17 فيفري 2022، ما زالت العائلة تكافح من أجل حقّ ابنها المهدور، وما زال المحامون يسعون لتحقيق العدالة ضدّ نقابات أمنية تكرّس الإفلات من العقاب، ومازالت الجماهير الرياضية ومجموعاتها تضغط لافتكاك اعتراف بتجاوزات السلطة في مدارج الملاعب وعنف الدولة المسلّط ضدّهم. 

عمر العبيدي: عنوان آخر لجرائم الدولة 

التحق عمر العبيدي بملعب رادس يوم 31 مارس 2018 لمتابعة اللقاء الكروي الذي يجمع نادي أولمبيك مدنين بالنادي الافريقي، ناديه المفضّل، وسط حضور جماهيري ضعيف. وهو ما تثبته مشاهد المدارج التي كانت فارغة تقريبا. ومع اقتراب نهاية المباراة، سادتْ حالةٌ من التوتر في صفوف المشجّعين، لتتطوّر إلى أحداث عنف. وتكشف فيديوهات المراقبة، آخر ساعات عمر العبيدي، الذي كان واقفا في مدرّج فريقه من دون أن يشارك في تلك الاضطرابات مكتفيا بمراقبة ما يحدث من حوله. بينما يحاول في مرة أخرى الابتعاد عن الفوضى التي سادتْ المكان في إثر تدافع المشجّعين للفرار من هراوات أعوان البوليس التي انهالتْ عليهم في المدارج والتي تواصلتْ عبر مطاردتهم خارج أسوار الملعب. 

بحسب شهادة المحامي التومي بن فرحات الممثّل لفريق الدفاع عن عمر العبيدي، أجمعت روايات الشهود على أنّ المطاردة طالت بعض المشجّعين من بينهم الضحية الذين ارتأوا التوجّه نحو الوادي الذي يبعد ما يقارب الكيلومترين من الملعب والمحاط بمنطقة خضراء وأشجار قصد الاختباء هناك من بطش أعوان التدخّل. عند بلوغهم ذلك المكان الذي تتكدّس فيه الفضلات الأوحال، نزل بعض المرافقين لعمر العبيدي في الماء والوحل قصد الهروب بينما توقّف عمر واستدار متوجّها للعون بالقول “ما نعرفش نعوم” أي أنا لا أُتقن السباحة، في رجاء منه لأن يمنحه بعض الرحمة وأن يتركه حرّا. إلاّ أنّ إجابة هذا الأخير كانت مغايرة، فانهال عليه بالسبّ والشّتم، ثمّ ضربه على ساقيه بالهراوة لإيقاعه أرضا. أخيرا، قام بدفعه نحو الماء عبر توجيه الهراوة على مستوى صدره قائلا بكل استهزاء بأنه عليه تعلّم السباحة: “تعلّم عوم”. 

هذه الشهادات التلقائية التي تمّ تجميعها خلال الأيام الأولى من الأبحاث، أثبِت تطابقها فيما بعد مع ما تمّ تضمينه في تقرير الطب الشرعي الذي صدر بعد ستة أسابيع. فقد بيّن هذا الأخير بأنّ سبب الوفاة المباشرة يتمثّل في الغرق وابتلاع الأوحال ولكنّه أفاد أيضا بوجود آثار عنف واضحة على مستوى الفخذ الأيمن و الفخذ الأيسر وعلى مستوى الصدر باستعمال آلة حادة وصلبة والتي، بحسب التومي، تشبه الهراوة المستعملة من قبل الأعوان. 

رغم أن الحادثة كانت بتاريخ 31 مارس 2018 إلا أنّ انتشال الجثة لم يتم إلا تقريبا على الساعة السابعة صباحا من اليوم الموالي لأن فريق الغوص التابع للحماية المدنية لا يملك التجهيزات اللازمة للقيام بأعمال البحث ليلا. مشاهد انتشال الجثة من المياه الملوّثة بالفضلات والأوحال كانت موجعة ومؤلمة لما تجسّده من نهاية مروّعة وما تعكسه من وحشية المتسبب فيها. تلك الصور شكّلت صدمة للجماهير وهزّت الشارع التونسي ووحّدت تفاعلات الأندية المتنافسة. غضب الشارع والجنازة الجماهيرية لعمر العبيدي، دفعا الحكومة ورئيسها يوسف الشاهد آنذاك للإعلان عن فتح تحقيق إداري لم يرَ النور بعد. حسب الأستاذ التّومي، فإن أعمال التحقيق الإداري لم تتمّ أبدا، ولم يصدر أي تقرير أو تسلّط أي عقوبات، بل رجّح بأنّ بعض الأعوان الذين كانوا موضوع البحث القضائي قد تمتّعوا بترقيات إدارية. 

بين مطرقة القضاء وسندان النقابات الأمنية: كفاح ضدّ طمس الحقيقة

بدأت الأعمال البحثية القضائية بفتح محضر طبقا للفصل 31 من المجلة الجزائية وهو باختصار الفصل الذي يخوّل البحث ضدّ مجهول إذا لم يكن هناك معلومات كافية عن حيثيات الجريمة. هذا ما اعتبره المحامي التومي أصل الداء في هذا الملف، إذ أنّ الوقائع والمعلومات المقدمة حسب الشهادات التلقائية من قبل العديد من المشجعين الذين شهدوا الحادثة كانت كافية حسب رأيه لحصر المتسببين في الوفاة وتحديد الفرق الأمنية التي كانت تقوم بتأمين الملعب وقامت بأعمال المطاردة. إلاّ أن أعوان الضّابطة العدليّة بالقرجاني ارتأوا القيام بأعمال البحث ضدّ مجهول. استغرقتْ الأعمال البحثية أكثر من شهر لتتمّ إحالة الملفّ على وكيل الجمهورية بعد ذلك، ومن ثم توجيه تهمتيْن إلى 17 عونا أمنيا تابعين لأحد الفرق الأمنية التي كانت في الملعب، قبل أن يتقلّص عددهم بعد ذلك الى 14 عونا بإقصاء أولئك الذين لم يكونوا قد شاركوا في الواقعة كالسائقين ورئيس الفرقة. عبّر المحامي المُمثّل لفريق الدفاع عن الضحية عمر العبيدي عن استيائه من التهم الموجهة للأعوان التي اقتصرت على القتل غير العمد (طبقا للفصل 217 من المجلة الجزائية وبعقوبة قصوى لا تتعدّى عامين سجنا) وعدم إنجاد شخص في حالة خطر ممّن توجب عليه صفته الانجاد (يقع على الأمنيين واجب الانجاد نظرا لصفتهم) لما اعتبره من تساهل وعدم الأخذ بعين الاعتبار الأدلة التي كانت متوفّرة والتي تخلُصُ للقتل العمد حسب رأيه. وأضاف هذا الأخير، أنّه حتى إذا ما اكتفينا بالفرضية التي تقتصر على المطاردة فقط وعدم أخذ العنف الذي تم تسليطه على الضحية وحقيقة دفعه في الوادي بعين الاعتبار، فإنه يمكن تكييف الحادثة للقتل العمد لما تحمله أعمال المطاردة من قيود وشروط وجب على رجل الأمن احترامها للمحافظة على حياة الأشخاص المطاردين معلّلا بأن فقه القضاء الفرنسي يعتبر الموت الناشئ عن المطاردة من قبيل القتل العمد.  

في تعليقه عن عدم المساواة أمام القانون خصوصا إذا كان أعوان البوليس طرفا في القضية، أفاد محامي الضحية بأنه رغم تغيير أقوالهم واعترافهم بتزييف الحقائق، فانّ مكتب التحقيق لم يتّخذ أي إجراء ضدّهم. فقد أفاد أعوان الأمن خلال السماعات الأولى التي تمت يوم 25 أفريل 2018 بأنهم لم يقوموا بالمطاردة وأنكروا تجاوزهم لحدود الملعب. لكن تمت مجابهتهم فيما بعد بالفيديوهات يوم 11 ماي، فاعترفوا حينها بأنهم قاموا بالمغالطة وأنهم التقوا قبل السماع الأول في مقهى لتنسيق شهاداتهم والاتفاق على رواية موحّدة تُنكر المطاردة. خلال السماع الثاني، قدّم الأعوان رواية أخرى تعترف بالمطاردة ولكنها لم تتجاوز الوادي بحسب روايتهم. تمسّك المحامي باعتبار هذه الرواية الجماعية كاذبة أيضا، معلّلا ذلك بوجود بقايا قنابل الغاز المسيل للدموع في مناطق تتعدى الحدود التي ادّعوا عدم تجاوزها. 

من جهة أخرى، أكّد المحامي بأن عون الأمن الذي تعرّف عليه بعض الشهود والذي حسب روايتهم قام بنزع ثيابه محاولا إنجاد الضحية، قد أنكر محاولته مساعدة عمر العبيدي تحت ضغط رفاقه والنقابات الأمنية لضمان تقديم رواية جماعيّة موحّدة. إن محاولات طمس الحقيقة لم تقف عند هذا الحدّ، حيث أكّد المحامي بأنّ محاولات الضغط طالتْ أحد الشهود الأساسيّين الذي قام بتصوير الحادثة وقدّم شهادة مصورة لأحد الصحفيين ليتوارى عن الأنظار لاحقا لأسباب غامضة. وبعد بحث طويل من قبل العائلة والمحامين للوصول إليه، لم يتمّ سماع هذا الشاهد من قبل قاضي التحقيق رغم تقديم محامي الدفاع طلبا في الغرض. كما قامت الشرطة الفنية بعد التدقيق في هاتفه لاسترجاع الفيديو المسجّل الذي تمّ محوه من قبل، ولتقوم لاحقا بتقديمه مقطّعا ومجزّءا إلى فريق الدفاع رغم طلب المحامين التحصّل عليه كاملا. من جهة أخرى، أفاد المحامي بأنه سيقع الاستماع لهذا الشاهد يوم 09 فيفري مكتبيا أي في مكتب القاضي لا في قاعة الجلسة، ربّما بهدف توفير الظروف الآمنة والسرية حماية وطمأنة للشاهد أو لأهداف أخرى غير معلومة. في هذا الإطار، عبّر المحامي عن رفضه لهذا الإجراء الذي لا يسمح لفريق الدفاع بطرح أسئلتهم على الشاهد، مضيفا بأن هذا الاجراء لن يشمل هذا الشاهد فقط، بل سيشمل شاهدا آخر، وهو عون أمن، كان قد استمع لأحد الأعوان يعترف بوقائع الحادثة وقد تمّ التثبت بأنه ينتمي لنفس الفرقة موضوع التحقيق. 

محاولات الضغط والتأثير على أعمال التحقيق تمثّلت أيضا في حضور النقابات الأمنية المكثّف والمُرهب في أروقة المحكمة وأمام مكتب قاضي التحقيق خصوصا عند القيام بالمكافحات. هذه الممارسات ليست بمعزل عمّا سبقها من حوادث عدة، فقد سبق للنقابات الأمنية أن تدخّلت بأعمال القضاة في المحاكم عبر احتلال أروقتها من قبل العديد من الأعوان وهم يحملون أسلحتهم، كما حدث سابقا في محكمة بن عروس، المحكمة ذاتها المتعهدة بقضية عمر العبيدي. هذا وأكّد المحامي بأن محاولات ترهيب الشهود طالتْ أحد المشجعين الذي قدّم شهادة أساسية في الملفّ، ليقع لاحقا اتهامه بسرقة هاتف واستدعاؤه للاستماع له من قبل أعوان الأمن بهدف الضغط عليه. تحت وطأة الضغط والتخويف، اختار هذا الشاهد فيما بعد مغادرة البلاد بينما ما زال آخرون يقاومون النقابات الأمنية لتحقيق العدالة.  وقد شدّد المحامي الممثل لفريق الدفاع عن عمر العبيدي على ضرورة التسريع بإصلاح القضاء والأمن وجعل أعوان الضابطة العدلية تابعين للسلك القضائي وتحت إشراف وزارة العدل بدل وزارة الداخلية معتبرا هذه الخطوة عنصرا مركزيا لتفادي تغوّل النقابات الأمنية وتطويعها للأعمال القضائية. 

حملة “تعلّم عوم”: جماهير تقاوم ضدّ الإفلات من العقاب

تحت وقع بشاعة الفاجعة وهولها، كان تعاطف الجماهير والمواطنين تلقائيا. فلم تقتصر التفاعلات على المتابعين للشأن العام والمدافعين عن حقوق الإنسان وإنما شملت فئة أخرى كالرياضيين والأندية والمشجّعين بشكل خاص وعموم المواطنين. مثّلت الشهادات المُتلفزة للحادثة وتفاصيل الواقعة صدمة للرأي العامّ. وتمّ تداول عبارة “تعّلم عوم” التي ترسّخت في أذهان المواطنين وفي الذاكرة الجماعية، كعنوان للإجرام البوليسي في حقّ المواطنين، فتم اعتمادها كاسم للحملة المطالبة بالعدالة في قضية عمر العبيدي والتي ضمّت العديد من الفاعلين والمشجّعين خصوصا.في هذا السياق، يؤكّد أيوب عمارة، منسّق “تعلّم عوم”، أنّ الحملة جمعت المتعاطفين والمناصرين لقضية عمر العبيدي من أندية مختلفة. هذه الحملة الواسعة التي أكّدت وعيها بمدى خطورة ضغط النقابات الأمنية وتدخّلها لطمس الحقيقة، عبّرت عن إدانتها له وعن سعيها للدفاع عن حق عمر العبيدي في مناسبات عدة. حيث أفاد منسّقها بأنّ “عمر العبيدي ليس (لا يمثّل) النادي الإفريقي أو مجموعته أو حيّه فقط، عمر العبيدي هو عبد السلام زيان، هو أحمد عمارة، هو أيمن العثماني، هو وليد دنقير، هو الطفل الذي وقعت تعريته (من قبل الأمنيين) بسيدي حسين  وأيمن بن فرج وهو أيضا رمز للعديد من الضحايا الآخرين الذين يتعرضون يوميا للعنف من قبل البوليس“.  ليضيف أيوب عمارة تعليقا على تدخّل النقابات الأمنية بهدف حماية الأعوان المرتكبين لهذه الجرائم وتكريس الإفلات من العقاب، بالتشديد على ضرورة حلّ ما سمّاه بالميليشيات المسلّحة المستترة تحت غطاء النقابات الأمنية. وفي انتظار الجلسة القادمة للمحاكمة التي ستكون يوم 17 فيفري والحكم الذي قد يصدر بعدها، اقترح منسّق حملة “تعلّم عوم” اعتبار يوم 31 مارس (تاريخ الحادثة) يوما وطنيّا للتصدي للإفلات من العقاب، داعيا مختلف مكوّنات المجتمع المدني والسياسي والرياضي وخصوصا مؤسسات الدولة إلى تبنّي المقترح وتفعيله.


1. عبارة “يا القاضي طالبين الحق…” مقتطعة من أغنية “يا حياتنا” التي تمّ إصدارها من قبل مجموعة African Winners المشجعة للنادي الافريقي. يتعلّق هذا المقطع بقضية عمر العبيدي وهو عبارة عن دعوة للقاضي للتسريع بالحكم وتحقيق العدالة. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، أحزاب سياسية ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني