- نشرت النسخة الأولى من هذه المقالة بتاريخ 15/02/2021 وعدل عليها بتاريخ 12/02/2021
كثيراً ما تبرّر النخب الحاكمة فشل الانتقال الديمقراطي في تحقيق تغيير اجتماعي واقتصادي، بأنّ الأولويّة أُعطيت للحرّيّات العامّة. لكن، حتّى في هذا المجال، ورغم المكاسب المحقّقة، لم ترتقِ الحصيلة إلى مستوى الضمانات الدستوريّة، خاصّة من جهة الجهاز الأمني الذي لم يحيّن كثيرا طريقة تعامله. فسنة 2021 وحدها كانت حافلة بالتجاوزات والجرائم الأمنية الخطيرة، بدءاً بقمع احتجاجات جانفي، وصولاً إلى مشهد سحل وتعرية شابّ في حيّ سيدي حسين، مروراً بحالات الموت المُستراب داخل مراكز الأمن.
استمرار الأساليب القمعية، وتعطُّل إصلاح القطاع الأمني، وإفلات المعتدين من العقاب، ليس ناتجاً عن غياب الإرادة السياسية فقط، وإنّما لا يمكن فهمه بدون الرجوع إلى دور النقابات الأمنية. هذه الأخيرة، التي استفادت من الثورة لتفرض وجودها[1]، تحوَّلت إلى سلطة قمعية في حدّ ذاتها، متحرّرةً من واجب الانضباط كما من ضوابط العمل النقابي الأمني، ولم تتردّد في تحدّي السلطات الثلاث للدولة في أكثر من مناسبة. فقد حاصرت هذه النقابات في شهر فيفري 2016، مقرّ رئاسة الحكومة في القصبة للضغط عليها من أجل تحقيق مطالب مادّية. كما أجمعت أكبر النقابات الأمنية في بيان مشترك، في نوفمبر 2017، على تهديد النوّاب والسياسيين بعدم تأمين حمايتهم إن لم يصادقوا على مشروع قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين في غضون أسبوعين. ويبقى التجاوز الأخطر عندما حاصرت نقابتان أمنيّتان، من بين الأكثر تمثيلاً، محكمة بن عروس في فيفري 2018 خلال نظرها في اتّهام بعض أعوان البوليس بجريمة التعذيب. وتكرّر الأمر في أكتوبر 2020، للضغط على قاضي التحقيق في قضيّة أخرى.
عاد الجدل بقوّة على خلفيّة احتجاجات جانفي الفارط، بعد سلسلة بيانات صادرة عن عدد من النقابات الأمنية، تضمّنت تهديداً واضحاً للمحتجّين وإعلان منع التظاهر في شارع الحبيب بورقيبة، ودعوة الأمنيين إلى عدم الالتزام بتعليمات قياداتهم بضبط النفس أمام المتظاهرين، وصولاً إلى إعلان بعض النقابات وقف الخدمات الإدارية لأيّام. أعقب هذه البيانات تحرّكات ميدانية احتجاجية، أبرزها في ولاية صفاقس، حيث صدح النقابيون الأمنيون بشعارات تكفيرية، قبل أن يتهجّموا على وقفة نفّذها ناشطون حقوقيون وعائلات شبّان موقوفين على خلفيّة الاحتجاجات الأخيرة ليحاولوا دهسهم بسيّاراتهم الأمنية. أتت هذه الانفلاتات الخطيرة احتجاجاً على ما اعتبرته النقابات “مسّاً بكرامة الأمنيين” خلال تظاهرة 30 جانفي، حين ألقى المتظاهرون بالونات مليئة بالطلاء الأبيض والملوَّن على البوليس الذي تمترس لمنعهم من مواصلة التقدّم في شارع الحبيب بورقيبة.
انفلات غير مسبوق للأيادي القمعية… بسبب بضع صُوَر من تظاهرة
عشيّة يوم 30 جانفي، تجمّع مئات المتظاهرين، معظمهم من الشباب، لمساندة احتجاجات الأحياء الشعبية والتنديد بالقمع الذي واجهته، والذي حصد أكثر من 2000 موقوف، بالإضافة إلى وفاة الشابّ هيكل الراشدي متأثّراً بإصابته بإحدى قنابل الغاز المسيّل للدموع. لم تستهدف الشعارات المرفوعة رئيس الحكومة هشام المشيشي وحزامه السياسي فقط، بل طالت أيضاً الجهاز الأمني المسؤول ميدانياً عن التجاوزات الكثيرة الحاصلة. ولجأ بعض الشباب المحتجّين، أمام تمترس قوّات الأمن لمنع تقدّمهم في شارع الحبيب بورقيبة، إلى أساليب غير معهودة في تونس مستوحاة من التحرّكات الاحتجاجية حول العالم، كإلقاء بالونات طلاء على الأمنيين، واستعمال دروعهم لتثبيت أحمر الشفاه.
وفي ظلّ الانتقادات الواسعة، وطنياً ودولياً، التي طالت التعامل الحكومي مع الاحتجاجات، تلقّى الأمنيون تعليمات شدّدت على ضبط النفس وعدم استعمال القوّة… أمام كاميرات الإعلام. إذ أصبحت استراتيجيّة الحكومة في مواجهة الاحتجاجات تقوم على إغلاق أكبر عدد ممكن من المنافذ أمام وصول المحتجّين إلى مكان التظاهر، وانتظار تقلّص عدد المتظاهرين ورحيل الصحافيين وكاميراتهم، لبدء الاعتقالات. ورغم أنّ ضبط النفس من طرف حامل السلاح وممثِّل الدولة أمام “استفزازات” المحتجّين السلميين من البديهيات الديمقراطية، أحدثت صورُ التظاهرة موجةَ تضامنٍ مع قوّات الأمن، استغلّتها نقاباته لإطلاق تحرّكات احتجاجية بعنوان حماية “كرامة الأمنيين”.
تتالت البيانات من مختلف نقابات الأمنيين، الوطنية والجهوية، معلنةً سلسلة تحرّكات يصعب إحصاؤها. تضمّنت هذه البيانات تهديداً واضحاً للمحتجّين بالملاحقة، وبقمع أيّ تظاهرة مستقبلاً، بغضّ النظر عن تعليمات القيادات. كما استهدفت تحرّكات النقابات البوليسية منظّمات المجتمع المدني المسانِدة للاحتجاجات، مع تركيز لافت على الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والجمعيّات المدافعة عن حقوق مجتمع الميم، بشعارات تكفيرية وتخوينية ومناهِضة لحقوق الإنسان.
ولم يتوقّف الأمر عند الشعارات، على خطورتها، بل استعمل نقابيون أمنيون صفحاتهم ومجموعاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي للتحريض على الناشطين ونشر صورهم ومعطياتهم الشخصيّة، ودعوة الأعوان إلى الانتقام منهم، وهو ما حصل على الأرض. تكرّر إثر ذلك استهداف هؤلاء الناشطين، ومنهم مسؤولون في اتّحاد الطلبة وفي جمعيّات حقوقية وأحزاب يسارية. كما شملت التوقيفات الناشطين الكويريين (Queer) الذين شاركوا في التظاهرات. وكانت التوقيفات بمعظمها أشبه بعمليّات خطف، حيث تمّت مراقبتهم واعتراض طريقهم بدون أيّ إذن قضائي والاعتداء العنيف عليهم، سواء داخل مراكز الأمن أو في أماكن معزولة، ونفي وجودهم في مراكز الأمن بغية تعطيل وصول المحامين، قبل إطلاق سراحهم. روى أحد ضحايا عمليّات الخطف والتعنيف، من المشاركين في الحراك الاحتجاجي، أنّ الأعوان الذين اعتدوا عليه كانوا يردّدون: “تريدون حلّنا؟ هكذا؟”، في إشارة إلى مطلب حلّ النقابات الأمنية[2].
لم تقتصر بلطجة النقابات الأمنيّة على الناشطين، وإنّما شملت تهديد وسائل الإعلام. فقد كشف موقع الكتيبة، نقلاً عن شهادات، عن “قيام نقابيين أمنيين بالاتّصال خلال الأيّام التي تلت مسيرة السبت الشهيرة، بعدد من مديري ورؤساء تحرير مؤسّسات صحفية من أجل تهديدهم بالتنكيل بصحفييهم ومنعهم من العمل في الميدان والانتقام منهم في حال تعرّضوا للأمن والنقابات الأمنية بالانتقاد”[3].
لم تجد كلّ هذه الانتهاكات الخطيرة للحقوق والحرّيات أيّ ردٍّ رادع من رئيس الحكومة ووزير الداخليّة بالنيابة آنذاك هشام المشيشي الذي، على العكس من ذلك، أمّن لها الغطاء السياسي. فقد استقبل المشيشي النقابات الأمنية، وأبدى تفهّمه لغضب أعوان الأمن، ووعد بالاستجابة لمطالبها المهنية، في محاولة لتهدئتهم وثَنْيِهم عن مواصلة الاحتجاج.
التعدّدية النقابية: “دمقرطة القرار القمعي” عِوض دمقرطة جهاز الأمن؟
مقابل الغطاء السياسي الذي منحه رئيس الحكومة لتجاوزات النقابات الأمنية وقمع الاحتجاجات، فسّر البعض موقف رئيس الجمهورية قيس سعيّد، خصوصاً عند ترجّله في شارع الحبيب بورقيبة محاطاً بعددٍ من المارّة قبل الدخول إلى مقرّ وزارة الداخليّة، على أنّه مساندة للحقّ في التظاهر في هذا الشارع. لكنّ خطاب سعيّد لم يتطرّق إلى تجاوزات النقابات الأمنية، واكتفى بدعوتها إلى الاتّحاد صلب نقابة واحدة. فقد بدأ حينها الصراع بين رأسَيْ السلطة التنفيذية على وزارة الداخليّة، إثر إقالة الوزير توفيق شرف الدين المحسوب على رئيس الجمهوريّة، من طرف المشيشي. أصبحت منذ حينها أولويّة سعيّد ضمان ولاء الأجهزة الأمنية، سواء عبر التأويلات الدستورية أو ترقية القيادات أو الزيارات المتكرّرة.
لكنّ موقف رئيس الجمهوريّة، رغم ضعفه الشديد، سلّط الضوء على أحد أسباب الانفلات الكبير الذي يميّز عمل النقابات الأمنية في تونس، وهو تعدّدها اللافت. فبعد أن سمح مرسوم ماي 2011 للأمنيين بالتنظّم في نقابات، نشأت خلال بضعة أشهر أكثر من 100 نقابة أساسية حسب السلك والإقليم[4]. ولئن برزت بعض الهياكل الجامعة لعدد من النقابات الطامحة لتمثيل جميع قوّات الأمن، حافظت النقابات القاعدية على قدر عالٍ من الاستقلاليّة عن المركز. تجلّت هذه الاستقلاليّة مثلاً عبر إصدار عدد من النقابات المحلّية والقطاعية، بدون غطاء من التمثيليّة المركزية، مواقف خاصّة حول تظاهرة 30 جانفي، وإقرارها تحرّكات بمفردها، مثل ما حصل في صفاقس أو المنستير أو تونس.
ولعلّ ما يعزّز هذه الاستقلاليّة هو المنافسة بين الهياكل الكبرى على تمثيل جميع قوّات الأمن، وبالتحديد نقابة موظّفي الإدارة العامّة لوحدات التدخّل (SFDGUI)، والاتّحاد الوطني لنقابات الأمن التونسي (UNSFST)، والنقابة الوطنية لقوّات الأمن الداخلي (SNFSI). أفشلت هذه المنافسة مختلِف محاولات توحيد النقابات في هيكل جامع، وشجّعتها على المزايدة والقُصْوَوِيّة، ودفعت المركزيّات إلى السكوت عن تجاوزات أعضائها وهياكلها خشية انتقالهم إلى المنظّمة المنافسة.
بالإضافة إلى تقاعس الحكومات المتعاقبة عن إصلاح الجهاز الأمني وتنظيم العمل النقابي صلبه، أسهمت عوامل عديدة في هذه الطفرة النقابية، منها استعمال بعض المديرين العامّين، المهدَّدين بشبح الإبعاد مع كلّ تداول في السلطة، النقابات لتحصين مواقعهم[5].
كما أصبحت النقابات الأمنية، التي تعتبر نفسها جزءاً من “المجتمع المدني”، شريكاً معتمَداً لدى بعض المنظّمات المحلّية والدولية في مشاريع “إصلاح القطاع الأمني”، مع ما يتيحه ذلك من امتيازات وفرص للنقابيين. أبرز هذه المشاريع “شرطة القرب”، يجمع صندوق الأمم المتّحدة للتنمية بأكبر نقابتَيْن أمنيتين[6]، استمرّ من 2013 إلى 2019 بموازنة تجاوزت 10 ملايين دولار[7]. لم يساهم هذا التمويل، رغم ضخامته، في أيّ تغيير يُذكر في طريقة التعامل الأمني، بل نجحت النقابات الأمنية في فرض رؤيتها لمفهوم “الأمن الجمهوري”. وتقوم هذه الرؤية على عنصرَيْن: تحقيق أكبر قدر من الاستقلاليّة عن السلطة السياسية، بما يعيق أيّ رقابة ديمقراطية على وزارة الداخليّة، وتحسين صورة العمل الأمني بدون المساس بأولويّاته أو أساليبه[8].
أخيراً، ساهمت الطفرة النقابية في تفكّك الجهاز الأمني، وإحداث مراكز نفوذ عديدة صلبه، بعضها مرتبط بعلاقات زبائنية مع بعض أصحاب الأعمال، بحسب شهادات مِن داخل الجهاز الأمني[9]. نتج عن ذلك تقلّص التبعيّة المطلقة المُمركَزة والرسمية للسلطة السياسية، لصالح تبعيّة جديدة متفرّقة وغير مُعلَنة لرأس المال[10]. إنّ تعدّد العلاقات والولاءات يعيق كلّ توجّهٍ إلى توحيد المنظّمات في جهاز مركزي موحَّد، ويُمعن في تفكيك المؤسّسة الأمنية، بخاصّة في ظلّ ضعف السلطة السياسية وعجزها عن فرض الانضباط في وزارة الداخليّة ومحاسبة كلّ خروج عن القانون والتراتيب.
استغلّت النقابات الأمنية هذا الضعف لتتجاوز المطلبيّة الاجتماعية، وتتدخّل في الخيارات الأمنية، وصولاً إلى تحريض منظوريها على عدم احترام تعليمات ضبط النفس أمام المتظاهرين. وقد أظهرت صورٌ وشهادات من تظاهرة 6 فيفري، قيادات أمنية تحاول منع الأعوان الأقلّ رتبة من الاعتداء على محامين، وتواجه صعوبة كبيرة في فرض الانضباط.
وممّا زاد الأمر تعقيداً نجاحُ النقابات الأمنية، في سياق التنافس بينها على مَن يصعّد أكثر في المطالب، في زعزعة التنظيم الهرمي للأمن عبر انتزاع مطلب تعميم الرتبة الأفضل التي يصل إليها عون، على كلّ أفراد دفعته[11]، فلم يعُد الارتقاء في الرتبة مرتبطاً بالشهادات العلمية ودورات التكوين المستمرّ. لم يزد هذا التنازل الغريب أعوان الأمن سوى غضباً وإحباطاً، نظراً إلى عدم كفاية الخطط المتناسبة مع هذه الترقيات الجماعية، لتبقى “تسوية المسار المهني”، إلى اليوم، أهمّ مطالب النقابات.
في المحصّلة، ساهمت النقابات البوليسية في تفكيك سلسلة القيادة وإضعاف الانضباط في صفوف قوّات الأمن، ودمقرطة القرار القمعي بمعنى تحريره من احتكار رأس الهرم السياسي وجعله متاحاً لعدد كبير من الفاعلين، سواء داخل المؤسّسة الأمنية، أو حتّى خارجها عبر علاقات زبائنية.
وفي الوقت نفسه، ساهمت النقابات بقدر كبير في تعطيل أيّ تقدّم في إنجاز استحقاق دمقرطة جهاز الأمن، بمعنى أن يخضع للرقابة الديمقراطية ويحمي حقوق الناس والمجتمع، عِوض أن يرهبهم، ويفرض تطبيق القانون داخله كما خارجه. فالحصيلة في هذا المجال، بمرور عشر سنوات على الثورة، ورغم كلّ التمويلات الخارجية المرصودة، هزيلة جدّاً.
النقابات الأمنية: درع البوليس في وجه كلّ رقابة أو محاسبة
على الرغم من كلّ المكتسبات التي حقّقتها الثورة في مجال الحقوق والحرّيّات، لا بدّ من الاعتراف بأنّها لم تنجح في تقليم أنياب البوليس، وإخضاعه للرقابة الديمقراطية. وقد لا نبالغ إذا قُلنا إنّها زادت في تحصينه واستقوائه بسلاحه. يتلخّص واقع إفلات الأعوان من المحاسبة والعقاب في مشاهد حصار النقابيين الأمنيين للمحاكم التي تنظر في قضايا التعذيب، بدون أن يقتصر على القضاء، إذ يشمل كافّة مستويات الرقابة.
ففي الأشهر الأولى بعد الثورة، حُلَّ، بقرار من وزير الداخليّة الأسبق فرحات الراجحي، جهاز التفقّدية العليا لقوّات الأمن الداخلي الذي كان بمثابة “شرطة الشرطة”[12]، رغم نقائصه. لكنّه لم يُستبدَل بجهاز مماثل، كما بقي مشروع إصلاح وزارة الداخليّة، الذي أعدّه الوزير الأسبق المكلّف بهذا الملفّ الأزهر العكرمي في كتاب أبيض، حبراً على ورق. إذ تركته الحكومات المتعاقبة لأسباب عديدة، أوّلها ضعف الإرادة السياسية، وثانيها بروز التهديد الإرهابي، وليس أقلّها مقاومة النقابات الأمنية لأيّ إصلاح من شأنه جعل الأعوان عرضة للمحاسبة. وطالت هذه المقاومة مقترح صياغة مدوَّنة قواعد السلوك لتنظيم عمل الأمنيين، في إطار مشروع صندوق الأمم المتّحدة للتنمية حول شرطة القرب، الذي تصدّت له النقابة الوطنية لقوّات الأمن الداخلي رغم مشاركتها في المشروع[13].
ورغم استبدال التفقّديّة العامّة لوزارة الداخلية في 2017 بتفقّديّة مركزية ذات مشمولات أوسع وإمكانيّات أكبر نسبياً[14]، تركّزت مهامّ الهيكل الجديد حول مراقبة التصرّف الإداري والمالي أكثر من تتبّع انتهاكات الحقوق والحرّيات. وحتّى إنشاء إدارة جديدة تُعنى بحقوق الإنسان، بمقتضى نفس الأمر، لا يملأ هذا الفراغ، إذ تغلب الصيغة الاستشارية على مهامّها، خصوصاً أنّها تبدو أقرب إلى واجهة جذّابة للحصول على تمويل مِن كونها هيكلاً فعّالاً. هذا بالإضافة إلى الحدود الملازِمة لأيّ رقابة داخلية، خصوصاً في الأجهزة الأمنية، وإلى استماتة النقابات في الدفاع عن منظوريها والتغطية على تجاوزاتهم.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الرقابة الخارجية، حيث لا تزال الهيئة الدستورية لحقوق الإنسان، التي تتمتّع بصلاحيّات مهمّة للتحقيق في انتهاكات الحقوق والحرّيّات، ويمكّنها قانونها من زيارة أماكن الاحتجاز ومراكز الإيقاف بدون سابق إعلام، تنتظر أن ينتخب البرلمان أعضاءها. أمّا هيئة الوقاية من التعذيب فينحصر دورها في حدود مجالها وإمكانيّاتها. ورغم أهمّيّة امتلاك هياكل عدّة صلاحيّات تحقيق تمكّنها من النفاذ إلى مؤسّسات التوقيف، فإنّها لا تعوّض هيكلاً مختصّاً في تتبّع تجاوزات الأمنيين، على أن يكون مستقلّاً عن وزارة الداخلية، ويتمتّع بكلّ الصلاحيّات اللازمة.
أمّا المحاسبة القضائية فتبقى استثنائية، إذ إنّ الغالبية الساحقة للشكايات لا تتخطّى مستوى البحث أو التحقيق[15]، حيث تستعمل أساليب عديدة لتعطيلها أو طمس الأدلّة، ممّا يفسّر محدوديّة عدد القضايا التي تبلغ المرحلة الحكمية. وعندها، تلجأ النقابات إلى استعراض جبروتها أمام القضاء، والضغط عليه باستعمال القوّة العامّة، كما حصل في محكمة بن عروس سنة 2018، ولكن أيضاً في محكمة سوسة 2 سنة 2014، حين حاصرتها النقابات الأمنيّة لمدّة 3 أيّام.
ولعلّ استمرار تجاوزات النقابات الأمنية يعبّر عن استبطان الشعور، لدى النقابيين الأمنيين، بأنّهم فوق المحاسبة. في المقابل، يبدو إيداع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان شكاية جزائية ضدّ النقابة الجهوية لقوّات الأمن الداخلي في صفاقس محاوَلة لتحميل القضاء مسؤوليّته في ردع هذا الاستقواء على القانون بقوّة السلاح. ويعبّر شعار «سنلاحقهم، ونحاكمهم، ونحاسبهم»، المقتطف من خطاب للشهيد شكري بلعيد، الذي انتشر استعماله ضدّ النقابات الأمنية بالتحديد، عن التوجّه نفسه. لكن، إلى الآن، لم تتحقّق أيّ نتائج ملموسة.
صحيح أنّ وجود نقابات في الأسلاك الأمنية ليس بدعة تونسية، وأنّ عمل هذه النقابات، حتّى في الديمقراطيّات الأخرى، يشجّع بطبيعته على الإفلات من العقاب، سواء جماعياً، بالتصدّي للإصلاحات التي من شأنها جعل العمل الأمني خاضعاً للرقابة، أو فردياً، بحماية الأعوان المتورّطين من المحاسبة[16]. لكنّ النقابات الأمنية في تونس تتصرّف كما لو أنّ كلّ الوسائل مشروعة لنيل مطالبها بما فيها الإضراب الذي يمنعه القانون، ولا تتردّد في استعمال الوسائل والصلاحيات والأسلحة التي تحتكرها الدولة، لتحقيق مآربها الخاصّة. فقد تحوّلت النقابات الأمنية، التي نشأت بفعل الثورة، إلى حاجز أمام أيّ إصلاح للمنظومة الأمنية، التي حافظت بدرجة كبيرة على الأساليب القديمة باستثناء الانضباط إلى قرار مركزي واحد.
بالتالي، وبغضّ النظر عن الموقف من مبدأ العمل النقابي الأمني الذي أتاحه الفصل 36 من الدستور، يبدو مطلب حلّ النقابات الأمنية المتورّطة في تجاوزات صارخة وخطيرة، خطوة أولى لا مفرّ منها لبناء أمن ديمقراطي ومسؤول. هذا الإصلاح، الذي قد يتمّ بطريقة تشاركية تستمع لآراء الأعوان وهواجسهم، قد يشمل كذلك تنظيماً للعمل النقابي، وتحديداً واضحاً للأساليب التي يُمنع استعمالها، والمجالات التي تخرج عن المطلبيّة النقابية، والعقوبات التي تنتظر المخالفين. عدا ذلك، تكون الثورة التي أحيينا ذكراها العاشرة، رغم كلّ مكتسباتها في مجال الحقوق والحرّيّات، قد أخرجتنا من الدولة البوليسية، لتدخلنا في “دولة النقابات البوليسية”.
نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه
زلزال ديمقراطيّة فتيّة
[1] نشأت في الأشهر الأولى بعد الثورة عشرات النقابات الأمنية، بدون أيّ إطار قانوني ينظّمها، قبل أن تتحصّل في ماي 2011 على اعتراف رسمي، عبر إصدار المرسوم عدد 42 لسنة 2011 المنقّح للنظام الأساسي العامّ لقوّات الأمن الداخلي الذي أجاز العمل النقابي لأعوان الأمن لكن بدون الحقّ في الإضراب. تمّ تأكيد هذا المبدأ في الفصل 36 من الدستور الذي استثنى قوّات الأمن الداخلي من الحقّ في الإضراب فقط، لا من الحقّ النقابي.
[2] نشرت الشهادة على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك.
[3] وليد الماجري، تونس: ”كتائب“ النقابات المسلّحة .. شوْكة في خاصرة الديمقراطية، موقع الكتيبة، فيفري 2021.
[4] Sharan Grewal, Time to Rein In Tunisia’s Police Unions, POMED, March 2018, p. 2.
[5] International Crisis Group, Réforme et stratégie sécuritaire en Tunisie, Rapport Moyen-Orient/Afrique du Nord n°161, 23 juillet 2015, p. 10.
[6] نقابة موظّفي الإدارة العامّة لوحدات التدخّل والنقابة الوطنية لقوّات الأمن الداخلي.
[7] Audrey Pluta, « Pas de révolution pour la police ? Syndicats et organisations internationales autour de la « Réforme du secteur de la sécurité » en Tunisie après 2011 », Lien social et politiques, N° 84, 2020, p. 122-141.
[8] Ibid.
[9] International Crisis Group, op. cit., p. 11.
[10] Ibid.
[11] International crisis group, op. cit., p. 7.
أُقرّت هذه الترقيات الاستثنائية بمقتضى الفصل 52 من قانون الماليّة التكميلي لسنة 2014، والأمر عدد 3632 لسنة 2014 المؤرَّخ في 30 سبتمبر 2014 يتعلّق بالمصادقة على قائمات الترقية المنجزة وفقاً لمقاييس تسوية المسار المهني لأعوان سلك الأمن الوطني والشرطة الوطنية وسلك الحرس الوطني وسلك الحماية المدنية سنة 2014.
[12] Audrey Pluta, op. cit., p. 135.
[13] Ibid.
[14] وذلك بمقتضى الأمر الحكومي عدد 737 لسنة 2017 المؤرَّخ في 9 جوان 2017 يتعلّق بتنقيح الأمر عدد 543 لسنة 1991 المؤرَّخ في غرة أفريل 1991 المتعلّق بالتنظيم الهيكلي لوزارة الداخلية.
[15] Alice Masson, « Torture : l’impunité des forces armées », Inkyfada, Novembre 2017.
[16] Benjamin Levin, What’s wrong with police unions?, Columbia Law Review, Vol. 120, N°5, p. 1340.