محاكم الجنوب تعمل تحت النيران بهمّة موظفين وقضاة قبلوا المخاطرة


2024-03-21    |   

محاكم الجنوب تعمل تحت النيران بهمّة موظفين وقضاة قبلوا المخاطرة
سراي مرجعيون

تنضمّ الحرب الإسرائيلية على لبنان إلى لائحة أزماته المتعدّدة الطبقات التي يرزح تحتها منذ أربعة أعوام، لتُشكل أزمة إضافية على العدالة تطال المحاكم في الجنوب الذي تتعرّض بعض مناطقه لغارات يومية منذ 8 تشرين الأوّل 2024. وكما عزلت الحرب الجنوب عن باقي لبنان، فهي تعزل محاكمها أيضًا، فلا يدري بمصابها إلّا أهلها، من قضاة ومساعدين قضائيين ومحامين الّذين يُحاولون، قدر المستطاع، تسيير العمل ولو بحده الأدنى رغم تهديدات الحرب.

وتتحمّل محاكم محافظة النبطية الجزء الأكبر من أثقال الحرب، وهي تضمّ محاكم حاصبيا، مرجعيون، بنت جبيل وتبنين إلى جانب قصر العدل في مدينة النبطية، مركز المحافظة. فهذه المحاكم لا تزال تحاول التعافي من آثار ما مرّ من أزمات أدّت إلى تعطيل عملها، بدءًا من الأزمة الاقتصادية التي نتج عنها إضرابات الموظفين العدليين والمحامين واعتكافات القضاة، عدا عن انتشار فيروس كورونا وصدور قانون تعليق المهل لعامين، إضافة إلى تسكير الطرقات التي شهدتها مرحلة التظاهرات بعد 17 تشرين 2019.

وقد تسبّبت الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان في انخفاض وتيرة العمل في محاكم النبطية، بخاصّة تلك المتواجدة في المناطق الخطرة مثال محاكم مرجعيون وبنت جبيل التي تعمل بالحد الأدنى. ومع نزوح مُعظم أهالي المناطق الحدودية، خلت هذه المحاكم من زوّارها وباتت متابعة الملفات القضائية مهمّة تحدق بها المخاطر. فمعظم المتقاضين والمحامين غير قادرين على الوصول إليها إلّا في حالات نادرة تتطلّب قبول المخاطرة والتنقّل، في الوقت الذي تستهدف فيه النيران الاسرائيلية المدنيين ومنازلهم وسياراتهم ومصالحهم، ما يعني أنّ الخطر يُهدّد حياة الجميع. والمساعدون القضائيون نزحوا أيضًا مع عائلاتهم، وبقي منهم من يحمل مسؤولية المناوبة في المحكمة، فيسلكون الطريق من النبطية أو صيدا أو بيروت لتسيير الحد الأدنى من العمل.

محاكم تعمل بالحد الأدنى على وقع القذائف

يوجد في محافظة النبطية أربع محاكم إلى جانب مركز المحافظة الرئيسي أي قصر العدل في مدينة النبطية، والمحاكم الأربعة هي تبنين التي يعمل فيها قاضيان، وبنت جبيل، مرجعيون وحاصبيا التي يعمل في كّل منها قاض واحد. وجميع هذه المحاكم يتولّاها قضاة منفردون يعملون في القضايا الجزائية  والمدنية، ولا يتعدى أعداد المساعدين القضائيين فيها 22 موظفًا. وقد تأثرت هذه المحاكم بالحرب بشكل متفاوت حيث تواجه المحاكم الأقرب للحدود الظرف الأصعب مثل بنت جبيل ومرجعيون، فأدّى تعذّر الوصول إليها إلى توقّف عقد الجلسات، واقتصر العمل على تسيير الأمور الإدارية من قبل بعض المساعدين القضائيين الّذين لا يزالون يتوجهون إليها رغم خطورة الوضع. أمّا تبنين وحاصبيا، فيحضر موظفوها وقضاتها ويزاولون عملهم بالشكل العادي، إنّما تراجعت وتيرة الجلسات بسبب نزوح المحامين والمتقاضين من المناطق المحيطة بهما. وعليه، قرّر القضاة في المحاكم الأربعة عدم محاكمة المتغيبين عن الجلسات معتبرين أنّ أسباب التغيّب تعود للظروف القاهرة. في موازاة ذلك، يستمرّ العمل في قصر عدل النبطية، وهو مركز المحافظة حيث تتواجد النيابة العامّة وقضاة التحقيق ومحاكم الاستئناف، بشكل عادي لناحية الجلسات والمراجعات المتعلّقة بالمهل القانونية وكافة المعاملات القضائية، علمًا أنّ القصف الاسرائيلي طال أيضًا قلب مدينة النبطية وأدّى إلى استشهاد سبعة من أسرة واحدة.

ومنذ بداية الحرب على لبنان في 8 تشرين الأول 2023 بالتزامن مع حرب الإبادة على غزة، تعمل هذه المحاكم على قاعدة “اللا مؤكّد”. فتفتح المحكمة أبوابها، لكن قد يقع أي حدث يدفع موظفيها وقضاتها إلى إغلاقها والخروج بحثًا عن الأمان، أو قد تخرق طائرة حربية إسرائيلية جدار الصوت فجأة فتحدث حالة من الهلع في المحكمة. ومن هذه الأحداث، نذكر سقوط طائرة استطلاعمسيّرة في محيط سراي مرجعيون في 11 كانون الأول 2023، أو حين أغارت الطائرات الحربية الاسرائيلية على بلدة تول في النبطية. كما تتعرّض بنت جبيل للغارات المتواصلة التي تدمر أحياءها وأحياء القرى المحيطة، علمًا أنّ القصف طال محيط المحكمة في 12 شباط حيث سقط شهيد، فيما يطال القصف القرى المحيطة بتبنين بشكل متواصل لا سيّما بيت ياحون والسلطانية ومجدل سلم حيث يُمكن سماع أصوات انفجار الصواريخ أثناء عقد الجلسات. وحال تبنين كحال حاصبيا التي يطال القصف القرى المحيطة بها، مثل مزارع شبعا، كفرشوبا، الهبارية والماري وكفر حمام وغيرها بشكل متواصل.

لا بدّ هنا من الإشارة إلى واقع محاكم محافظة لبنان الجنوبي، التي تضمّ محاكم صيدا (مركز المحافظة)، وجزين، وجويّا وصور، والتي تواجه هي الأخرى تعطّل لعملها بشكل محدود. فقد طال القصف الإسرائيلي المناطق المحيطة بجزين وصيدا وصور أكثر من مرّة، ممّا أثار حالة من الحذر من احتمال توسّع رقعة الحرب. ورغم ذلك، لا تزال هذه المحاكم تعمل بشكل عادي إلى حد ما، ما عدا محكمة جويّا التي من الممكن أن يعرقل القصف الإسرائيلي إمكانية الوصول إليها، فيلجأ القاضي أحيانًا إلى عدم محاكمة المتغيّبين.

“نذهب إلى العمل والرب يحمينا”

على وقع القذائف، يتوجّه المساعدون القضائيون في هذه المحاكم إلى أعمالهم، علمًا أنّها مهمة محفوفة بالمخاطر، “الرب يحمينا” يقول أحد الموظفين في إحدى محاكم محافظة النبطية. ويؤكّد لـ “المفكرة القانونية” “أتوجّه يوميًا إلى المحكمة وأسلك نحو 10 قرى للوصول وأسمع فوقي صوت المسيّرة الإسرائيلية”. ويسأل “ما العمل؟ فمن غير الممكن ترك المحكمة، علينا الاستمرار رغم الظروف”. ويؤكد الموظف أنّه “طيلة الوقت نسمع أصوات القذائف في القرى المحيطة، وفي حال حصل أي قصف على مقربة منّا نغلق المكاتب ونعود إلى بيوتنا”. ويؤكّد أنّ “معظم المحامين باتوا يتواصلون معنا على الهاتف للسؤال عن الملفات حيث أنّ نسبة زائري المحاكم تدنّت بشكل كبير بسبب نزوح معظم الجنوبيين”. 

صورة الواقع القضائي في الجنوب ينقلها المحامي إلياس كسرواني المقيم في مرجعيون لـ “المفكرة”، مؤكدًا أنّ “القاضي محمد عبدالله، وهو القاضي الوحيد في مرجعيون، يحاول هو والموظفين قدر الإمكان تسيير العمل، ويبذلون أقصى الجهود كي لا تتعطّل الملفات”. ويلفت إلى أنّ “قضاة الجنوب لا يزالون يُصدرون الأحكام ويبتّون بطلبات إخلاء السبيل وغيرها من الملفات الملحّة رغم الصعوبات التي تعتري العمل”. ويشرح أنّ القاضي المنفرد الجزائي في حاصبيا فارس أبو نصّار، وهو أيضًا القاضي الوحيد في حاصبيا، “يسلك طريق البقاع من بيروت للوصول إلى حاصبيا لعقد الجلسات وتسيير الملفات”. من جهة أخرى، يصف كسرواني الوضع بـ “الكارثي على المتقاضين وأعمال المحامين بخاصّة لناحية الأعمال المتّصلة بالسجلّ العقاري والأحوال الشخصية، والملفات التي تحتاج لتعيين خبير”. 

حلول جزئية لتسيير العمل وجلسات “أونلاين”

في ظلّ غياب أي خطّة لعمل المحاكم خلال الحرب، اتّجهت المحاكم إلى اعتماد الحلول الممكنة وفقًا للقوانين الحالية. بداية، سمح مجلس القضاء الأعلى، بالاتفاق مع الرئيسة الأولى لمحكمة الاستئناف في النبطية القاضية نضال شمس الدين، بمناوبة مساعد قضائي واحد في مركز المحافظة في النبطية لتنفيذ بعض الأعمال القلمية والإدارية الخاصّة بمحكمة مرجعيون، كالمعاملات التي ترتبط بمهل قانونية. كما انتقلت الأعمال المماثلة الخاصّة بمحكمة بنت جبيل إلى مركز محكمة تبنين، فيما يتعذّر قانونيًا إمكانية عقد جلسات محكمة تبنين خارج نطاق قضاء بنت جبيل.

ويحرص القضاة في المحاكم المتأثرة من الحرب على إيجاد آلية للنظر في الملفات التي لا تحتمل التأجيل، كاستجواب الموقوفين عن بعد عبر الانترنت، والبتّ بملفّات يمكن النظر فيها من دون عقد جلسات عبر البريد. مثال على ذلك الطلبات المتعلّقة بإخلاء السبيل ومنع السفر. أمّا لناحية ملفات الموقوفين الّذين هم الحلقة الأضعف في هذه الظروف نظرًا لحرمانهم من حرّيتهم بانتظار محاكمتهم، فعلمت “المفكرة” من خلال التواصل مع مصادر قضائية ومحامين أنّ ملفات الموقوفين في حاصبيا ومرجعيون لا تتعدى 5 ملفات حاليًا، فيما لا يوجد أيّ ملف لموقوف في بنت جبيل وتبنين. ويعمد القضاة الجزائيون إلى استجواب الموقوفين عن بعد عبر الانترنت. عدا عن ذلك، أكدّ مصدر من قوى الأمن الداخلي أنّ “الموقوفين في النظارات التابعة للمحاكم المتواجدة في الأماكن الخطرة نُقلوا إلى خارجها”.

يُشار إلى أنّ مركز دائرة قضاة التحقيق يقع في مدينة النبطية، ولم تتأثر ملفات الموقوفين المحالين أمامها بسبب الحرب، إذ أنّ عدلية النبطية تعمل بالشكل العادي ويستمر سوق الموقوفين إليها إلّا في حال تعذّر السوق لأسباب أخرى. 

كذلك تفاقمت أزمة تنفيذ التبليغات للأوراق القضائية في الملفات الجزائية التي تتولّاها القوى الأمنية بسبب الحرب، علمًا أنّ عملية إجراء التبليغات متعثرة منذ سنوات بسبب الوضع الاقتصادي، ممّا أدّى إلى اعتماد القوى الأمنيّة على الهاتف لتبليغ المتقاضين في حين أنّ الأصول القانونية تفرض التبليغ خطيًا في مكان السكن.

 “ضرورة إصدار قانون تعليق مهل”

من جهته، يُشدد المحامي نجيب فرحات في حديث مع “المفكرة” أنّه رغم حرص موظّفي الأقلام على عدم تعطّل العمل في المحاكم ولو بالحد الأدنى وقيام القضاة بعقد الجلسات وتسيير الملفات قدر المستطاع من دون محاكمة المتغيبين، إلّا أنّ ذلك لا يكفي. ويؤكّد على ضرورة إصدار تشريع يأخذ بعين الاعتبار جميع المشاكل الناتجة عن الحرب على رأسها إصدار قانون لتعليق المهل وآلية لحماية الملفات القضائية وإعادة تكوينها في حال تلفها أو فقدانها. ويلفت إلى أنّه عمل مع النائبة بولا يعقوبيان على اقتراح قانون يعالج جميع آثار الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وتمّ تقديمه لمجلس النوّاب مؤخرًا، وينصّ على “تعليق المهل في كل أقضية محافظة النبطية وقضاء صور من محافظة لبنان الجنوبي، اعتبارًا من 8 تشرين الأوّل 2023، ويعيد العمل بالمرسوم الاشتراعي رقم 40/1977 بالنسبة لإعادة تكوين الملفات التي طالها التلف أو الفقدان جرّاء الاعتداءات الإسرائيلية”. 

التهميش يزيد من صعوبة العمل القضائي في النبطية

مشاكل محاكم محافظة النبطية قديمة العهد إنّما تتفاقم كلّما طرأت أزمات جديدة. فمنذ بداية الأزمة الاقتصادية وانتشار جائحة كورونا والمحاكم تعاني كما غيرها من العدليات في لبنان. فهناك صعوبات تتعلق بالكهرباء والقرطاسية والتبليغات التي تعيق العمل اليومي، كما إجحاف فيما يتعلّق برواتب القضاة والمساعدين القضائيين، وكلّ ما أنتجته الأزمة الاقتصادية من صعوبات على عمل القضاء.

ومن ناحية أخرى، لا تلبّي أعداد القضاة في هذه المناطق الحاجة الفعلية، فيتولّى القضاة في هذه المحاكم العمل في أكثر من محكمة، إذ أنّ التشكيلات القضائية وقرارات توزيع الأعمال لطالما أجحفتها. على سبيل المثال، لا يوجد حاليًا في محكمة الاستئناف في النبطية  إلّا 4 مستشارين للعمل في غرفها الثلاث (تحتاج كل غرفة إلى مستشارين يجلسان في المحكمة إلى جانب رئيسها)، تبعًا لقبول استقالة القاضي محمد مازح  في نهاية العام 2020.  كما توّقف مجلس العمل التحكيمي في النبطية عن الانعقاد بعد وفاة ممثل العمّال قبل نحو ثلاثة سنوات، إضافة لتقاعد مفوّض الحكومة قبل نحو عام ونصف العام من دون تعيين بديل عنهما منذ ذلك الوقت. وفي مرجعيون وحاصبيا وبنت جبيل، يتولّى القاضي محكمة البداية بجزئيها المدني والجزائي وحتّى التنفيذ. وفي الحالات التي يظهر فيها تضارب في المصالح تستوجب تنحّي القاضي، يتمّ انتداب قاضٍ من محكمة أخرى للنظر في الملف، ممّا يؤدي إلى تراكم الملفات. 

وكانت ورقة بحثية أعدّتها “المفكّرة” في عام 2018 حول الخارطة الجغرافية والوظيفية للهيئات القضائية أظهرت أنّ محافظة النبطية حصدت نسبة الشغور والنقص في الطاقات القضائية الأعلى بين مختلف محافظات لبنان في مرسوم التشكيلات القضائية الصادر في عام 2017، إذ وصلت نسبة الشغور في المراكز القضائية إلى 44.3% ونسبة النقص في الطاقات القضائية إلى 58.1%.

المصدر: ورقة بحثية للمفكرة القانونية بعنوان “الخارطة الجغرافية والوظيفية للهيئات القضائية”، شباط 2018
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، لبنان ، مقالات ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني