محاكمة إسرائيل عن الإبادة: هل نشهد اليوم التالي لزمن إفلاتها من العقاب؟


2024-04-09    |   

محاكمة إسرائيل عن الإبادة: هل نشهد اليوم التالي لزمن إفلاتها من العقاب؟

يشهد قصر السلام في لاهاي في هولندا حيث مقرّ محكمة العدل الدولية (وهي تابعة للأمم المتحدة) نشاطًا متزايدًا بنتيجة المبادرة التي اتخذتها جنوب أفريقيا بالادّعاء على إسرائيل، بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية ضدّ الفلسطينيين في غزّة منذ 7 أكتوبر الماضي. شكّلت هذه الدعوى صرخةً مدوّية ليس في وجه إسرائيل التي تمثل للمرة الأولى أمام المحكمة كمدّعى عليها فحسب، بل في وجه بعض العالم الراقد في سباته الأخلاقيّ والحقوقيّ والإنسانيّ تجاه القضية الفلسطينية، معيدة الاعتبار إلى مرجعيّة القانون الدولي من خلال استرداد أدوات ومفاهيم قانونيّة وحقوقيّة بدا لردحٍ من الزمن، أنّ استخدامها حكرٌ على دول الشمال السياسي، وأنّه قد تمّ نسيانها وتجاهلها في سياق الحرب على غزة.

في المقابل، بذلت إسرائيل وحلفاؤها الذين طالما مارسوا تفوّقًا أخلاقيًّا مزعومًا على سائر دول المنطقة وشعوبها ويمارسونه اليوم على الهيئات الدولية، جهدًا لنقض المبادرة الجنوب أفريقيّة باستخدام حجج قانونيّة في غير محلّها تارةً، ولتسفيهها باستخدام خطاب سياسيّ وإعلاميّ يقذف جنوب أفريقيا بالكذب والهراء تارة، وبأنّها تعمل كذراع قانونيّة لـ “حماس” تارةً أخرى. لم يمنع ضغط إسرائيل، المحكمة من دحض حججِها في قرارها الأوّلي بشأن التدابير الاحترازيّة، إذ أقرّت بوجود أسباب معقولة للاعتقاد بأنّها ترتكب جرائم الإبادة الجماعية ضدّ الفلسطينيين في غزة، وأفعالًا محظورة أخرى بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (اتفاقية الإبادة)، مع التأكيد على وجود خطر حقيقي ووشيك لإلحاق أضرار بهم غير قابلة للإصلاح. وقد أمرت المحكمة إسرائيل باتخاذ بعض التدابير العاجلة للحدّ من ارتكاباتها والتخفيف من معاناة الفلسطينيين. 

تباينت الآراء حول القرار، بين من وجده انتصارًا قانونيًّا ضدّ إسرائيل نظرًا لرفضه جميع طلباتها وأمرها بوقف قتل الفلسطينيين وتدمير مقوّمات الحياة في غزّة، ومن عبّر عن خيبة أمله لعدم استجابته لطلب وقف الأعمال العسكرية في غزة، معتبرًا إياه بمثابة تمديد للإبادة بحقّ الفلسطينيين. غير أنّ هذا القرار التاريخيّ يبقى الأوّل من نوعه الصادر عن محكمة دوليّة ضدّ إسرائيل، والذي يعلن عن انطلاق محاكمتها بشبهة الإبادة وبداية للقطع مع إفلاتها من الملاحقة عن جرائمها بحقّ الفلسطينيين. كما أنّه يسهم في محاصرة إسرائيل على المستوى الدولي ويدعم جهود الحراك العالمي الداعم للقضية الفلسطينية تبعًا لإقراره بوجود خطر الإبادة. ويبقى أنّ تنفيذ هذا القرار هو في عهدة الدول التي تمتلك حقّ الفيتو في مجلس الأمن الذي يعدّ الذراع التنفيذي للمحكمة. 

وتكتسي هذه الدعوى أهمّية مضافة كونها تشكّل وعاءً قانونيًّا يوثّق عددًا هائلًا من تقارير وبيانات أجهزة وأشخاص تابعين للأمم المتحدة ووسائل إعلاميّة وصحافيين، تشكّل أدلّةً ناجعة تؤسّس لإدانة إسرائيل قضائيًّا وسياسيًّا بارتكاب الإبادة الجماعيّة. وهذا ما يفسّر حرب إسرائيل الموازية على الإعلاميين والصحافيين والجهات الدولية التي توثّق جرائمها وارتكاباتها.

نعرض في هذه المقالة المسائل القانونيّة التي كانت محور الادّعاء والمرافعات أمام المحكمة، وموقفها منها وما ترتّب عليه من من آثارٍ ونتائج.

ادّعاء جنوب أفريقيا: مسعى لوقف الإبادة 

على وقع الإبادة في غزة، تحرّكت جنوب أفريقيا، التي عانى شعبها لعقود من نظام الأبرتهايد الذي كان حليفًا لإسرائيل. فقد حافظت هذه الأخيرة على أفضل العلاقات معه ورفضت مقاطعته حين اتّحد العالم ضدّه. وعليه، قدّمت جنوب أفريقيا في 29/12/2023 دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضدّ إسرائيل، بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية ضدّ الفلسطينيين في غزّة. وتناولت الدعوى انتهاكات إسرائيل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة، طالبةً إدانتها بموجب المادة الثالثة من الاتفاقية التي تنصّ على معاقبة جريمة الإبادة الجماعية ومحاولة ارتكابها، والاشتراك فيها، والتآمر والتحريض المباشر والعلني على ارتكابها.

واعتبرت  جنوب أفريقيا  أنّ التزامات إسرائيل بموجب الاتفاقية هي التزامات إزاء الجميع (أي المجتمع الدولي)، مما يمنحها الصفة بمقاضاة إسرائيل أو ما يُعرف بالصفة Erga Omnes، مستندةً إلى المادة التاسعة منها التي تُتيح لأيّ دولة من الأطراف الموقّعة أن تطلب من المحكمة النظر في مسؤولية دولة ما عن إبادة جماعية، والمادة الثامنة التي تولي المحكمة حق اتخاذ ما تراه مناسبًا من التدابير لمنع أفعال الإبادة الجماعية وقمعها.

واستعادت الدعوى السياق التاريخي للإبادة، المتمثّل بأكثر من 75 سنة من الاحتلال والحصار والاضطهاد وفرض نظام أبرتهايد على الفلسطينيين وإنكار حقّهم في تقرير المصير. وإثباتًا للعناصر المادية لجريمة الإبادة الجماعية والنيّة بارتكابها، استعانت جنوب أفريقيا بعشرات التقارير لهيئات دولية تؤكّد أنّ إسرائيل تنوي تدمير الفلسطينيين في غزة كجزء من القومية الفلسطينية الأوسع من خلال قتلهم بأعداد كبيرة (تجاوزت عند تقديم الدعوى 21000، واليوم 31000)، وإلحاق أذى جسدي ونفسي بهم، وتهجيرهم جماعيًّا، وفرض تدابير تهدف إلى منع ولاداتهم، بالإضافة إلى حرمانهم من الوصول إلى الطعام والماء والرعاية الطبية والمأوى، كما تدمير الحياة في القطاع  عبر استهداف البنى التحتية المدنية. واستندت الدعوى إلى تصريحات مسؤولين إسرائيليين تنزع الصفة البشرية عن الفلسطينيين وتدعو إلى إبادتهم لإثبات وجود النيّة الخاصّة بالإبادة.

وطلبت جنوب أفريقيا إصدار تدابير مؤقتة قبل البتّ بالدعوى، أهمّها وقف أعمال إسرائيل العسكرية الإسرائيلية بشكل فوريّ، وإلزامها بأن تضمن ألّا توجّه قوّاتها العسكرية النظامية وغير النظامية لارتكاب أيّ من أعمال الإبادة، واتخاذ إجراءات لمعاقبة مرتكبيها، وإلزامها بحفظ الأدلة المتعلّقة بالقضية وعدم التصرّف بما يمنع أو يقيّد وصول بعثات تقصّي الحقائق واللجان الدولية، والسماح بوصول المساعدات الإنسانيّة، وتقديم تقرير للمحكمة يثبت التزامها بتطبيق التدابير.

وقد اتّسمت مرافعات جنوب أفريقيا الشفهية في 11/1/2024 والتي شارك فيها وزير العدل الجنوب الأفريقي رونالد لامولا، بطابع تضامنيّ مع الشعب الفلسطينيّ، انطلاقًا من تجربة الفصل العنصريّ التي عانى منها شعبها. فذكّر فريق الادّعاء بأنّ الفلسطينيّين، بوصفهم مجموعة وطنيّة وعرقيّة، لديهم الحقّ في الوجود، وهو ما تنتهكه جرائم الإبادة الإسرائيليّة. وأكّد أنّه في مرحلة الإجراءات المؤقّتة، لا يجب إثبات وجود إبادة بشكل حاسم، بل يكفي أن يكون هناك أساس معقول لاحتماليّة وقوع مخالفات لاتفاقية الإبادة. وقد استبقت الدعوى الحجّة الإسرائيلية المتوقّعة القائمة على الدفاع عن النفس، من خلال نفي هذا الحق باعتبار إسرائيل سلطة احتلال، وهو ما أقرّت به محكمة العدل الدولية نفسها في رأيها الاستشاري حول الجدار العازل في العام 2004.

وتضمّنت المرافعات عرضًا لمعدّل الضحايا اليوميّ المتزايد، وتحذيرًا من خطر المجاعة الوشيك، ممّا يتطلّب اتّخاذ إجراءات احترازية مستعجلة. كما أكّدت على أهميّة الوقف الفوري للعمليات العسكريّة لكونه الطريق الوحيد لضمان الاستجابة الإنسانيّة وتفادي الموت والتدمير. وقد اعتبرت الامتناع عن الأمر في التدابير الاحترازية بمثابة السماح بمواصلة الإبادة.

دفاع إسرائيل: اجترار أكذوبة الدفاع عن النفس

وكما كان متوقّعًا، شرع فريق الدفاع الإسرائيلي في مرافعاته الشفهية في 12/1/2024 بالردّ على الادّعاءات من باب حقّ الدفاع عن النفس “المشروع” متّهما جنوب أفريقيا بأنّها تنقل صورة مشوّهة عن الواقع، وأنّها بطلبها للتدابير الاحترازية تهدف إلى حرمان إسرائيل من الدفاع عن مواطنيها ورهائنها. وقد عرض فريق الدفاع مشاهد عن أحداث 7 أكتوبر في المستوطنات الإسرائيليّة، معتبرًا إيّاها سبب الحرب القائمة من دون أن يكون لسياق الاحتلال منذ 75 عامًا أيّ صلة بها خلافًا لما تطرحه جنوب أفريقيا.

وتطرّق الفريق الإسرائيليّ إلى مسألة النيّة، معتبرًا أنّ التصريحات العشوائية للسياسيّين الإسرائيليين لا تعكس سياسة الحكومة، وأنّ لا نيّة لدى إسرائيل بالإبادة، وأنّه من الطبيعي أن تؤدي حرب المدن إلى وفيات وأضرار ودمار مأساوي، ولكن في غزة تتفاقم هذه النتائج غير المرغوب فيها لأنّ “حماس” ترغب في ذلك وتتخذ من المدنيين دروعًا بشرية، وهي التي تمنع وصول المساعدات. كما زعم هذا الفريق بأنّ إسرائيل تبذل كلّ الجهود لتخفيف الضرر على المدنيين عبر المكالمات الهاتفية والمنشورات لتحذير السكان، مشدّدًا أنّها دولة ديمقراطية تخضع لحكم القانون والقضاء. واعتبر أنّ جنوب أفريقيا ليست طرفًا في الحرب الدائرة، ولا نزاع بينها وبين إسرائيل، وبالتالي لا حقّ لها في إقامة هذه الدعوى، وأنّ لا اختصاص للمحكمة للنظر فيها لأنّها تتعلق بقوانين النزاع المسلّح وليس الإبادة الجماعية.

قرار أوّلي للمحكمة: نعم ما نراه قد يكون إبادة

بعد سماعها المرافعات، أصدرت المحكمة في 26/1/2024 قرارًا أوّليًّا بالتدابير المؤقتة. وقررت قبول الدعوى ورفض حجج إسرئيل، معلنةً اختصاصها المبدئيّ للنظر فيها كون الأدلة المقدّمة كافية للقول بوجود مخالفة محتملة لاتفاقية الإبادة. وفي تفاصيل القرار، قبلت المحكمة دعوى جنوب أفريقيا معتبرة أنّ هناك خلافًا بين دولتين، وبالتالي فإنّها مختصّة ظاهريًّا (Prima Facie) للنظر في الدعوى واتخاذ أوامر بشأن التدابير المطلوبة. ثمّ أكّدت أنّ عدد الضحايا الكبير وحجم الدمار والسلوك الإسرائيلي كلها وقائع تؤكّد ثبوت احتماليّة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة، رافضة الإنكار الإسرائيلي في هذا الشأن. واستعانت ببيانات عدد من الأجهزة والأشخاص التابعين للأمم المتحدة، بما فيها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” التي توثّق المأساة في غزة، وبتصريحات المسؤولين الإسرائيليين التي تشير إلى نيّة الإبادة.

كما أكدّت المحكمة أنّ للفلسطينيين في غزة الحق في الحماية من أعمال الإبادة، وبأنّ بعض التدابير المؤقتة المطلوبة تهدف إلى حماية هذه الحقوق. واعتبرت أنّ الوضع الإنساني الكارثي في القطاع معرّض للتدهور بشكل خطير قبل أن تصدر المحكمة قرارها النهائي، ممّا يقتضي معه إصدار أوامر بالتدابير المؤقتة.

بالنتيجة، أصدرت  المحكمة أمرًا في حقّ إسرائيل باتّخاذ التدابير المؤقتة التالية:

1. اتخاذ جميع التدابير في حدود سلطتها لمنع ارتكاب جميع أفعال الإبادة الجماعية الواردة في المادة الثانية من اتفاقية الإبادة الجماعية وهي: (أ) قتل أعضاء من الجماعة. (ب) إلحاق أذى جسدي أو معنوي خطير بأعضاء من الجماعة. (ج) إخضاع الجماعة، عمدًا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا. (د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة. (هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.

2. اتخاذ إجراءات فورية لضمان عدم ارتكاب قوّاتها العسكرية أيًّا من أفعال الإبادة الجماعية.

3. منع ومعاقبة التحريض المباشر والعلني على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.

4. اتخاذ تدابير فورية وفعّالة لتوفير الخدمات الأساسية الملحّة وتقديم المساعدة الإنسانية بشكل عاجل للتصدّي للظروف السّيئة التي يواجهها الفلسطينيون في غزة.

5. اتخاذ تدابير فعّالة لمنع تدمير وضمان الحفاظ على الأدلة المتعلّقة بادّعاءات أفعال تندرج ضمن مفهوم المادة الثانية والثالثة من اتفاقية الإبادة الجماعية.

6. تقديم تقرير إلى المحكمة حول جميع التدابير التي تمّ اتخاذها لتنفيذ هذا القرار في غضون شهر واحد من صدوره.

ووافق 15 قاضيًا من المحكمة على جميع التدابير، بينما عارضها القاضي الإضافي الإسرائيلي أهارون باراك باستثناء التدبيرين 3 و4 وعلّق عليها آخرون. وباراك هو الرئيس السابق للمحكمة العليا في إسرائيل الذي ساهم أثناء تولّيه هذا المنصب في تشريع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي المحتلة في العام 1967 واضطهاد الفلسطينيين، وسبق له أن خالف الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الآيل إلى عدم قانونية الجدار العازل الإسرائيلي. وصرّح مؤخّرًا أن إسرائيل لم تخرق القانون الدولي الإنساني في حربها القائمة على غزة. وشكّك باراك في رأيه المخالف للتدابير، في حسن نيّة جنوب أفريقيا في الدعوى، مؤكّدًا أنّ إسرائيل دولة ديمقراطية تحترم قواعد القانون الدولي، وبأنّ اتفاقية الإبادة ليست الإطار القانوني المناسب للوضع في غزة، ولا توجد أدلة مقبولة لتوفّر القصد الخاص لارتكاب جريمة الإبادة. ورغم موافقته على التدبيرين 3 و4 لاعتباره أنّها تقتصر على تذكير إسرائيل بموجباتها القانونية، أبدى عدم اقتناعه بوجود جريمة إبادة.

المفاجأة جاءت من القاضية الأوغندية جوليا سيبوتندي التي عارضت جميع التدابير، معتبرة أنّ جنوب أفريقيا لم تثبتْ وجود نيّة لدى إسرائيل بالإبادة وأنّ النزاع بين الشعب الفلسطيني ودولة إسرائيل تاريخي وسياسي بشكل أساسي، ولا يمكن حلّه من خلال المحكمة، وهو أمر مستغرب خصوصًا أنّها محكمة لحلّ الخلافات بين الدول.

يذكر أنّ أيًّا من المحكمة أو من قضاتها لم يقدّم تفسيرًا حول أسباب عدم أمر المحكمة بوقف العمليات العسكرية، إلّا أنّ هذا الأمر قد يعود إلى انعدام صلاحيّتها بأن تأمر بوقف العمليات العسكرية من طرف واحد (إسرائيل) في حين أنّ الطرف الثاني في النزاع المسلّح (حماس) ليس دولة ولا يمكنها إلزامه بأوامرها.

محاولات لاستصدار أوامر إضافيّة في ظلّ استمرار الإبادة

على الرغم من أنّ القرار لم يتضمّن أمرًا صريحًا بوقف العمليّات العسكرية، إلّا أنّه عند تفسيره، يتبادر السؤال حول مدى إمكانيّة وقف القتل والأذى في حق الشعب الفلسطيني ووقف تدمير البنى التحتية في غزة، من دون وقف العمليات العسكرية. يُفضي ذلك إلى استنتاج أنّ قرار المحكمة يتضمّن أمرًا ضمنيًّا بوقف العمليات العسكرية، لأنّ لا مجال لتطبيقه من دون ذلك. ولكن ذلك لم يثنِ إسرائيل عن مواصلة الإبادة والإيغال فيها، ولا الولايات المتحدة الأميركية عن إشهار الفيتو بوجه مشروع القرار الذي تقدّمت به الجزائر بناء على قرار المحكمة لوقف الأعمال العسكريّة في غزة.

هذا الواقع، بالإضافة إلى التهديد الإسرائيليّ بشنّ حملة عسكرية واسعة على مدينة رفح، وتجويع السكّان المتزايد، دفع جنوب أفريقيا في 12/2/2024 إلى تقديم طلب مستعجل في الدعوى نفسها، طلبت فيه اتخاذ تدابير إضافية، معتبرةً أنّ ثمة تطوّرات بارزة في الوضع في غزة تتطلّب انتباه المحكمة العاجل. وطالبتْ جنوب أفريقيا المحكمة باتّخاذ تدابير توقف هجوم إسرائيل المخطّط على رفح، من دون أن تحدّد ما هي التدابير المطلوبة. وسارعتْ إسرائيل في 15/2/2024 إلى تقديم جواب على طلب جنوب أفريقيا اعتبرتْ فيه أنّ لا أساس واقعيًا أو قانونيًا له، وبأنّه “بغيض أخلاقيًّا”. وأنكرتْ أن يكون قد وقع أيّ تطورات بارزة في الفترة بين إصدار قرار المحكمة وتقديم الطلب بالتدابير الإضافية، طالبةً إهمال الطلبات. واستغلّت عدم إصدار المحكمة لأمر صريح بوقف العمليات العسكرية لتبرير استمرار أعمالها الإباديّة، وكذلك دعوة المحكمة في القرار أطراف النزاع إلى إطلاق سراح الرهائن، لتعطي شرعية لعملياتها في غزة من خلال اعتبار أنّ من حقها القانوني السعي لاستعادتهم.

بالنتيجة، أصدرت المحكمة قرارًا في تاريخ 16/2/2024، اعتبرتْ فيه أنّ الوضع الخطير في رفح يتطلّب التنفيذ الفوري والفعّال للتدابير المؤقّتة التي أمرتْ بها المحكمة في قرارها السابق، والتي تنطبق على جميع أنحاء غزّة بما فيها رفح، ولا يتطلّب الإشارة إلى تدابير مؤقتة إضافية. وشدّدت على أنّ إسرائيل لا تزال ملزمة بالامتثال الكامل لالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة وبالأوامر التي أصدرتها المحكمة بما فيها ضمان سلامة الفلسطينيين في غزة وأمنهم.

ويبدو هذا القرار أشبه بقرارٍ تفسيريّ لقرار المحكمة الأساسي بالتدابير المؤقتة، = كما يُعدّ مضمونه تحديثًا للوقائع التي تناولها القرار الأساسيّ، وتأكيدًا من المحكمة بأنّ إسرائيل لم تلتزم بعد بأوامرها السابقة، وأن خطر الإبادة لم يزل يخيّم على الفلسطينيين في غزة. ويُذكر أنّه بعد أيام من صدور القرار، وإنفاذًا لأمر المحكمة، قدّمت إسرائيل إليها تقريرًا تبيّن فيه مدى التزامها بأوامرها، إلّا أنّ المحكمة قررت إبقاء هذا التقرير سرّيًّا لغاية الآن. 

وقد دفع استمرار الإبادة والتجويع، جنوب أفريقيا إلى تقديم ثالث طلباتها في 6/3/2024، جاء فيه أنّها “مضطرّة للعودة إلى المحكمة في ضوء الحقائق الجديدة والتغيّرات في الوضع في غزة، وبخاصّة حالة المجاعة واسعة النطاق، الناجمة عن الانتهاكات الفاضحة المستمرّة لاتفاقية الإبادة”. وقد طلبت جنوب أفريقيا من المحكمة اتخاذ مزيد من التدابير المؤقتة و/أو تعديل التدابير المؤقتة التي سبق أن أصدرتها، وصولًا إلى وقف العمليات العسكرية بصورة صريحة وفورًا وفكّ الحصار عن غزة. 

وفي ردّها على طلب جنوب أفريقيا، حاولت إسرائيل التنصّل من مسؤوليتها عن المعاناة الإنسانية والتجويع المتزايد في غزة،. وأشارت إسرائيل إلى تزايد المساعدات الإنسانية والدعم الغذائي في غزة، متجاهلةً عشرات التقارير بينها ما هو صادر عن هيئات دولية وآخرها عن برنامج الأغذية العالمي، تحذّر من مجاعة وشيكة في شمال غزة، نتيجة عرقلة إسرائيل دخول المساعدات.  

وفي تطوّر أخير في موقفها، أصدرت المحكمة في 28/3/2024 قرارًا بفرض تدابير إضافية على إسرائيل، لاعتبارها أنّ الفلسطينيين في غزّة لا يواجهون خطر المجاعة كما كانت الحال لدى إصدارها قرارها الأوّل، بل إنّ المجاعة بدأت بالفعل. وبعد التأكيد على أوامرها السابقة، قرّرت المحكمة إلزام إسرائيل بـ (1) اتّخاذ جميع الإجراءات الضرورية والفعّالة لضمان (ensure) توفير الخدمات الأساسية الملحّة والمساعدات الإنسانيّة لكامل قطاع غزّة من دون تأخير وبالتعاون مع الأمم المتحدة (فيما اكتفت سابقًا بإلزام إسرائيل بـ “إتاحة” (enable) وصول المساعدات)، مع تشديدها على ضرورة فتح المعابر البرّية لأطول مدّة ممكنة، و(2) الضمان الفوري لعدم ارتكاب جيشها أيّ أفعال تنتهك حقوق الفلسطينيين بصفتهم مجموعة يتوجّب حمايتها من الإبادة، بما فيها منع وصول المساعدات، و(3) إلزامها بتقديم تقرير إلى المحكمة حول التزامها بهذه التدابير خلال شهر. ورغم إشارتها إلى قرار مجلس الأمن الصادر في 25/3/2024 الذي طلب وقفًا فوريًا لإطلاق النار خلال شهر رمضان، وأخذها العلم بموقف مقدّمي المساعدات في غزّة بأنّه لا يمكن معالجة الوضع الإنساني المأساوي إلّا بإنهاء العمليات العسكرية، إلّا أنّها لم تستجب لطلب جنوب أفريقيا بذلك، مبررةً ذلك بعدم صلاحيتها لإصدار أوامر بحق طرف غير ممثل في الدعوى. 

وللمرّة الأولى منذ بداية القضية، برز النقاش بين القضاة حول مسألة أمر إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية، إذ عارض 6 من أصل 15 قاضِ بشكل صريح في إعلاناتهم المستقلّة قرار المحكمة بعدم إصدار أمر بذلك. فعبّر القضاة هيو (الصين) وبرانت (البرازيل) وروبليدو (المكسيك) وتلادي (جنوب أفريقيا) في بيانهم المشترك عن خيبة أملهم من عدم إصدار المحكمة أمرًا بذلك، مع تأكيدهم على أنّ إسرائيل تبقى سلطة احتلال في غزة وليست دولة منخرطة في حرب مع كيان خارجي. وكذلك اعتبر القاضي يوسف (الصومال) أنّ لا معنى للحجة القائلة بأنّه لا ينبغي إلزام الدولة التي تتصارع مع منظمة (ليست دولة) بوقف عملياتها العسكرية ما لم يتمّ نزع سلاح المنظمة. وفي الاتّجاه نفسه، أعلنت القاضية تشارلزوورث (أستراليا) أنّه كان يجب على المحكمة أمر إسرائيل صراحةً بوقف العمليات العسكرية لأنّها الطريقة الوحيدة لضمان وصول المساعدات. أما رئيس المحكمة القاضي نوّاف سلام (لبنان) فاعتبر أنّ الأوامر الجديدة الصادرة لا يمكن أن تأخذ مفاعيلها بشكل كامل من دون وقف فوري لإطلاق النار في شهر رمضان وفقًا لقرار مجلس الأمن الأخير. ويُسجّل أنّ القاضية سابوتندي (أوغندا) قد صوّتت لصالح الأوامر الجديدة التي أصدرتْها المحكمة بعد أن سبق وعارضت أوامرها السابقة، في حين بقي القاضي الإسرائيلي باراك وحيدًا في فريق المعارضين حيث انفرد بالتصويت ضدّها، معتبرًا في رأيه المعارض أنّ الحرب على غزة هي حرب استقلال ثانية لإسرائيل.

ويذكر أنّ نيكاراغوا قدّمت طلبًا للتدخّل في دعوى جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل، في 23/1/2024 باعتبار أنّ لها مصالح ذات طبيعة قانونية نابعة من الحقوق والالتزامات التي تفرضها اتفاقية الإبادة على جميع الدول الأطراف فيها، ولأنّها تعتبر أنّ إسرائيل تنتهكها. كما تقدّمت بدعوى منفصلة أمام المحكمة نفسها ضد ألمانيا بتهمة الاشتراك في الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة، وذلك من خلال دعمها العسكريّ لإسرائيل، وقطعها التمويل عن الأونروا. كما أعلنت إيرلندا نيّتها تقديم طلب للتدخّل في دعوى جنوب أفريقيا أيضًا.

خلاصة

ولّدت حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة فضاءً من الأسئلة حول جدوى القانون الدولي وفعاليّة أجهزته القضائية، وشكّلت دعوى جنوب أفريقيا مختبرًا لتفحّصها. وبالنتائج الأوّلية، ظهرت شوائب أساسية تتعلّق بغياب الآليات التنفيذية للأحكام، مما يقوّض من قوّتها. وهذا الأمر يستدعي مراجعة شاملة لهذه الآليات لتستجيب إلى واقع الحال وتؤدّي الغرض الإنساني المنشود، بخاصّة لجهة تعديل نظام حقّ الفيتو. وفي جميع الأحوال، يُحسب لجنوب أفريقيا، أنّها نجحت في وضع حدٍّ لإفلات إسرائيل المتكرّر من الملاحقة وأنّها نجحت في اختراق حلقة الهيمنة للقوى العظمى، ليس على مؤسّسات القانون الدولي فحسب، بل على قيمه ومفاهيمه وأدواته أيضًا.

نشر هذا المقال في الملف الخاص في العدد 72 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان 

لتحميل الملف بصيغة PDF

انشر المقال



متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، فلسطين



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني