تفكّك المجلس المؤقت للقضاء العدلي (3): من يستفيد من الفراغ؟


2023-10-27    |   

تفكّك المجلس المؤقت للقضاء العدلي (3): من يستفيد من الفراغ؟

يوم نصّب الرئيس قيس سعيد مجلسه المؤقت للقضاء، سارعت المفكرة القانونية إلى التنبيه لما يمثّله في قواعد تسييره وتركيبته وصلاحياته من تراجع على ما سبق وتحقق للقضاء التونسي من مكتسبات. ولمّا انطلق ذاك المجلس في عمله، تأكدت مخاوفها بدليل ما بات يعانيه القضاة من هشاشة مهنية، من مظاهرها ما تمّ وسطهم من إعفاءات. وما يهمّ المفكرة اليوم هو أن تنبّه لكون ما كان من تراجع قد يعقبه تراجع أكبر جرّاء تطوّر جديد يتمثّل في تفكك هذا المجلس. وفي إطار عملية الرصد تلك، تقدّم المفكرة لقرائها سلسلة مقالات حول هذه التطورات، في سياق سعيها إلى توثيق تاريخ القضاء التونسي وهو جهد التزمتْ به منذ بداية عملها. في الحلقة الأولى من هذه السلسلة، تحدّثنا عن الفراغ الذي صنعته أو دفعت إليه السلطة السياسية. في الحلقة الثانية، تناولنا الأسباب التي يرجح أن تكون دفعت السلطة السياسية إلى تفكيك المجلس الذي صنعته. في هذه الحلقة، نطرح السؤال عمن يستفيد من الفراغ القضائي (المحرر).

بداية الشهر الأول من سنة 2023، أحيل الرئيس الأول لمحكمة المحاسبات رئيس مجلس القضاء المالي بحكم صفته على التقاعد لبلوغه السن القانوني. عشرة أشهر بعد ذلك، لا زال منصبه على أهميته شاغرا رغم أن المجلس المالي فتح باب الترشحات له ووجّه لرئيس الجمهورية قائمة ضمّت ثمانية خيارات أي أكثر من المطلوب وهو ستة. أمرٌ ينسجم مع ما عرف عن صاحب سلطة القرار من ميْل لتأجيل ما هو مطلوب من تعيينات في المناصب القيادية في مختلف المؤسسات بما في ذلك الحكومة. وقد يدفع للقول بأن طرح السؤال عن الفراغ مستعجل خصوصا بعد استعمال وزيرة العدل لما ورد في القانون عدد 29 لسنة 1967  لتصدر مذكرات تنظم بها جانبا هاما من الحياة المهنية للقضاة.

مذكرات وزيرة العدل

بتاريخ 29-04-2023، استندت وزيرة العدل ليلى جفال للفصل 14 من القانون عدد 29 لسنة 1967 [1] لتصدر عشر مذكرات عمل سدّت بموجبها جانبا من الشغورات التي نتجت عن الإعفاءات وتعلقت بمناصب عليا على علاقة مباشرة بمنظومة العدالة الجزائية. بعد ذلك، وتحديدا خلال النصف الثاني من شهر جويلية، استعملت الوزيرة جفّال الفصل 54 من ذات القانون لتحجر العمل [2]على خمسة قضاة [3] مباشرين.

وعليه، استعملت الوزيرة في مذكراتها الأحكام الخاصة بإدارة المسار المهني للقضاة العدليين الواردة في القانون سندها أي تلك التي تتعلق بضبط صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء صلبه وتبيّن مجالات تدخل وزارة العدل فيها [4]. وقد كان الرأي السائد وسط القضاء والمؤيد بفقه قضاء إداري في المجال قبل ذلك يتجه للقول بأن مذكرات العمل أو صلاحيات وزير العدل الواردة في القانون عدد 29 والمتعلّقة بتأديب القضاة ونقلتهم وترقيتهم نُسخت بموجب القانون الأساسي عدد 13 لسنــة 2013 مؤرخ في 2 ماي 2013 المتعلق بإحداث هيئة وقتية للإشراف على القضاء العدلي [5]. فقد أسند هذا القانون بصريح الفصل الثاني منه للهيئة التي استحدثها صلاحية “النظر في المسار المهني للقضاة من تسمية وترقية ونقلة وتأديب”.  وتأكّد القطع معها بدستور 2014 الذي فرض في الفصل 114 أن تكون المجالس القضائية هي التي تبتّ في المسارات المهنية للقضاة وفي القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 المؤِرخ في 28 أفريل 2016 المحدث للمجلس الأعلى للقضاء.

وقد كان يعتقد أن دستور 2022 [6] والأمر عدد 11 لسنة 2022 المحدث للمجلس المؤقت للقضاء [7] مع كل ما فيهما من عصف بضمانات استقلالية القضاء لم يسندا للوزيرة أيّ دور في إدارة المسار المهني للقضاة بما يؤكد عدم خروجهما على ما سبقهما في هذه المسألة تحديدا. إلا أن ما صدر من مذكرات فرض أمرا واقعا جديدا غيّر فعليّا التصوّر الوظيفي لمجلس القضاء وطرح السؤال عن مدى الحاجة إليه.

المذكرات: هل أنهت الحاجة للمجلس؟

نفّذ المعنيّون مذكّرات الوزيرة فيما تعلق بالتعيينات، وأيّدتها لاحقا الحركة القضائية. كما تولّى المشرفون على المحاكم تنفيذ مذكرات تحجير العمل وتعهّد المجلس المؤقت للقضاء العدلي بملفات المعنيين بها تأديبيا دون أدنى اعتراض منه على صحة إجراءاتها.

في ذات الإطار، لم تثِر التعيينات منازعات قضائية جدّية. وإذ عمد أحد القضاة إلى الطعن في مشروعية قرار تحجير العمل الصّادر بحقّه أمام المحكمة الإدارية طالبا إيقاف تنفيذه بالصورة المستعجلة، لم تنظر المحكمة حتى الآن في هذا الطلب رغم مضي الأجل القانونيّ للنظر فيه.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن وزير العدل السابق كان حاول بتاريخ 14-10-2013 فرض إبقاء تعيينات القضاة السامين من الصلاحيات الحكومية وفق أحكام قانون 1967 وإخراجها من نطاق صلاحيات هيئة القضاء العدلي، إلا أن المذكّرات الصادرة آنذاك تولّدت عنها مقاومة قضائيّة شملتْ المعنيين بها وعموم القضاة. كما انتهى الطعن فيها أمام القضاء إلى قرارات ناجزة صدرت في آجالها وكانت حاسمة في منطوقها  [8]. بالمقابل، مرّت المذكرات الصادرة عن الوزيرة الحالية بسلاسة وتمّ التسليم بها وتنفيذها جميعها حتّى من قبل المجلس الذي قُضمت صلاحياته.

ونتيجةً لهذا الواقع، يبدو أنه لن يكون لغياب المجلس المؤقت العدلي من جدول المؤسسات الناشطة على المشهد القضائي أي تأثير عملي على تنفيذ نوايا السلطة السياسية داخل القضاء. التأثير الوحيد هو أنه سيتعيّن على هذه السلطة أن تنفذ ما تريده مكشوفة الوجه، مما يفقدها إمكانية الحديث عن استقلالية القضاء في الخارج والداخل. بمعنى أن مصلحتها الوحيدة في إعادة تفعيل المجلس تكمن في مصلحتها في اصطناع صورة لمراعاة هذه الاستقلالية، وإن كانت صورة لا تصمد أمام أي تحليل جدّي.

إعادة تأثيث المجلس: الحاجة للصورة

يحدّد الفصل 08 من المرسوم المُحدث للمجلس آليات سدّ الشغورات فيه. وهي تقوم على فتح باب الترشّحات لها متى تعلّقت بأعضاء من القضاة المتقاعدين من وزارة العدل، فيما يلزم المجلس متى كان المعني بها من القضاة المعينين بالصفة بتقديم 6 مرشحين لشغلها في أجل أقصاه 21 يوما من تاريخ معاينته للشغور. ويسند للرئيس متى لم تصله الترشيحات ضمن الأجل صلاحية كاملة وغير مقيدة في تعيين من يراه.[9]

وعليه، وبالنظر إلى تعذّر انعقاد المجلس المؤقت للقضاء العدلي لعدم توفر النصاب القانوني، سيكون رئيس الجمهورية صاحب السلطة في تعيين كامل أعضاء مجلسه المؤقت للقضاء العدلي. ولا يُعلم هنا إن كان الرئيس سيستغلّ هذه الفرصة ليؤثّث مجلسه بقضاة ينسجمون مع مشيئته أم أنه سيؤجل ذلك إلى زمن آخر بانتظار إيجاد من يلتزمون بأن يكونوا كذلك. ولكن من المؤكد أن الأعضاء المراد تعيينهم هم أعضاء يلتزمون مسبقا بعدم معاندة رغبات السلطة السياسية مهما بدتْ تعسفيّة وغير محقّة. بمعنى أنه لن يكون له أي دور غير الصورة التي ستسوّق عبرهم لمؤسسة سيُقال أنها من تشرف على القضاء وأن وجودها يكفي بحدّ ذاته للقول بكونه مستقلا.

و يؤول هذا  الى تطبيق حتمي لفرضية التعيين المباشر من رئيس الجمهورية بما يقطع مع تقاليد أرسيت فترة الانتقال الديموقراطي و فرضت التناظر بين القضاة وسيلة للتعيين في الخطط القضائية السامية

الرئيس يستفيد من الفراغ : كل السلطة له .

انفراد رئيس الجمهورية بسلطة تعيين سامي القضاة دون شروط إجرائية تقيده في ذلك ولا التزام بمقترحات حصرية تصله من هيئة قضائية

في هذا يبدو الفراغ الحاصل مؤذنا بتحول نوعي في تركيبة المجلس بما أنه يمكن رئيس الجمهورية من تعيين من يريد ومن يستجيب بالتالي لما يراد منه وربما يعبر مسبقا عن ذلك أو كان في عمله قدم دليلا على انسجامه غير المشروط وهو ما يطرح السؤال حول طبيعة الشغورات التي تزامنت؟


[1] ينص على أنّه ” ينظر المجلس الأعلـى للقضـاء فـي نقلـة القضـاة الجالسـين قبـل بدايـة العطلـة القضائية من كلّ سنة قضائية، ولوزير العدل خلال السنة القضائية أن يأذن بنقلة قاضٍ لمصـلحة العمـل ويعـرض الأمر على المجلـس الأعلـى للقضـاء فـي أول اجتمـاع لـه”

[2] ينص الفصل 54  من القانون عدد 29 لسنة 1967 على أنه “عندما يتّصل “وزير العدل  “بشكاية أو يبلغه العلم بأمور من شأنها أن تثير تتبّعات تأديبية ضد قاض يمكن له إن كان في الأمر تأكّد التحجير على القاضي المفتوح ضدّه بحث مباشرة وظائفه إلى أن يصدر القرار النهائي في ذلك التتبع، ويجب في هاته الصورة أن يتعهد مجلس التأديب بالموضوع في ظرف شهر واحد.يمكن أن يكون تحجير المباشرة الوقتي مصحوبا بالحرمان من بعض الجراية أو كاملها، ولا يمكن نشر هذا القرار لدى العموم وفي هذه الحالة يجب البت في الدعوى التأديبية خلال أجل أقصاه ثلاثة أشهر.إذا لم يصدر على القاضي المعني بالأمر أي عقاب تأديبي أو كان العقاب من غير الإيقاف على العمل أو العزل يكون لهذا القاضي الحق في كامل جرايته التي حرم منها. “

[3]  قاضيان من دائرة قضاء محكمة الاستئناف بنابل  ، قاضيان من دائرة قضاء محكمة الاستئناف بسوسة ، قاض من دائرة قضاء محكمة الاستئناف بالقصرين .

[4]  يتعلق القانون عدد 29 لسنة 1967 المؤرخ في 14-07-1967 المتحدث عنه حسب صريح تسميته بثلاث مسائل هي   ” نظام القضاء العدلي” أي تصنيف المحاكم و”المجلس الأعلى للقضاء ” أي آلية إدارة المسار المهني للقضاة  العدليين من ترقية وتأديب ونقل  و ” القانون الأساسي للقضاة  ” أي حقوق القضاة المهنية كموظفي دولة وواجباتهم

[5]  يراجع ميما تعلق بفقه القضاء في المجال   القضاء التونسي خلال مرحلة الانتقال الديموقراطي: نحت الجسد الحي محمد العفيف الجعيدي -منشورات المفكرة القانونية صفحة 97 وما بعدها

[6]  ورد بالفصل 119 منه ينقسم القضاء إلى قضاء عدليّ وقضاء إداريّ وقضاء ماليّ. ويشرف على كلّ صنف من هذه الأقضية مجلس أعلى.

[7] نص الفصل 15 منه على انه ينظر كل مجلس مؤقت للقضاء في إعداد حركة القضاة السنوية من تسمية وتعيين وترقية ونقلة وإعفاء وفي مطالب رفع الحصانة والاستقالة. ولم يشر لاي وجه لتدخل وزيرة العدل في هذا الاختصاص في غير ما تعلق بإحالة ملفات في التأديب او كتابة تقارير في الاعفاء

[8]  للاطلاع على التفاصيل التاريخية لمختلف التحركات والمواقف  المرجع السابق – صفحة 89 وما بعدها

[9]  ينص الفصل 8  في حالة الشغور النهائي في تركيبة المجلس المؤقت للقضاء تتم إحالة قائمة الترشحات إلى رئيس الجمهورية طبق مقتضيات الفصلين 6 و19 من هذا المرسوم في أجل لا يتجاوز واحدا وعشرين (21) يوما من تاريخ حصول الشغور النهائي.

بانقضاء الأجل المذكور بالفقرة السابقة، لرئيس الجمهورية تعيين من يراه ممّن تتوفر فيه الشروط المنصوص عليها بهذا المرسوم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، مقالات ، تونس ، المهن القانونية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني