“عطاءات” بدل النقل تفوق ضعفي الحدّ الأدنى للأجور


2021-12-02    |   

“عطاءات” بدل النقل تفوق ضعفي الحدّ الأدنى للأجور
رسم رائد شرف

بعملية حسابية بسيطة يجمع باسل، عامل الديليفري، بدل النقل الذي قرّرت لجنة المؤشر الثلاثاء 30 تشرين الثاني 2021 خلال اجتماعها برئاسة وزير العمل مصطفى بيرم، رفعه إلى 65 ألف ليرة لبنانية عن كل يوم عمل، ليتبين له أن ما سيتقاضاه من “نقليات” يزيد عن ضعفيْ راتبه المحدّد بالحدّ الأدنى للأجور، أي 675 ألف ليرة. يبتسم باسل بمرارة ليصنّف نفسه بين الفئة “ل ما عادت تشوف خط الفقر وين، قد ما غرقت تحت الأرض”. يأمل باسل كما غيره من الموظفين والعاملين في لبنان تصحيح أجورهم ورواتبهم بشكل يتناسب مع التضخّم الحاصل، ولاسيّما أنّ قانون العمل ينصّ في المادة 45 “على وجوب أن يكون الحد الأدنى كافٍ لسدّ حاجات الأجير الضرورية وحاجات عائلته” كما تنصّ “المادة 46 من القانون نفسه “على إعادة النظر بالحد الأدنى كلما دعت الظروف الاقتصادية إلى ذلك”.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن آخر تصحيح للأجور تمّ في سنة 2012 في ظلّ جدل احتدم آنذاك حول مدى قانونيّة بدل النقل. وفي حين بات تصحيح الرواتب والأجور اليوم مطلبا ملحا بعدما فقدت أكثر من 90% من قيمتها تبعا لانهيار الليرة، تتّجه السلطة وبتخلّ واضح عن مسؤولياتها، إلى تقديم ما تسميه “مساعدة طارئة” ورفع بدل النقل، في خطوة تحرم الموظّفين والأجراء من حقوق أساسية لهم. فهذه الزيادات لا تدخل ضمن الراتب الأساسي، أي أنّها لا تُحتسب ضمن تعويض نهاية الخدمة، وفي داخل الرواتب التقاعدية، فضلا عن أنّها لا تنطلق من أيّ معايير واضحة ترتبط بغلاء المعيشة والتضخّم كما تنصّ القوانين والأطر الناظمة لتصحيح الرواتب، ما يجعلها “زيادة وهمية”. هذا فضلا عن أن هذا التعديل يعيد التذكير بالنقاش الذي احتدم في 2012 حول قانونية بدل النقل. آنذاك، نازع وزير العمل الأسبق والأمين العام لحركة مواطنون ومواطنات في دولة شربل نحاس في قانونية بدل النقل باعتباره يحرم الأجير من حقوق أساسيّة، ممتنعا عن توقيع مرسوم النقل الذي يتقاضاه الأجير منفصلا عن الراتب بحجة أنّه لا وجود لعنصر خارج الأجر يُسمّى “بدل النقل”. وقد انتهى النقاش إلى تقديم نحاس استقالته في حين بقي “بدل النقل” منفصلا عن الراتب بعدما أقرّ المشرّع قانونا خاصّا يجيز للحكومة تحديد بدل نقل (القانون رقم 217 الصادر في 31/3/2012).   

 وحصل رفع بدل النقل إلى 65000 ليرة إثر عودة لجنة المؤشّر إلى الاجتماع مؤخّرا (بعد انقطاع دام 7 سنوات)، حيث كان الوزير بيرم أعلن فور تسلّمه وزارة العمل أنه سيطلق عمل لجنة المؤشر بهدف معالجة موضوع رواتب وأجور العاملين في القطاع الخاص.

الأمر متروك للظروف الاقتصادية

تعتبر لجنة المؤشّر التي يرأسها وزير العمل وتضمّ ممثلين عن العمال وأصحاب العمل، الجهة الرسمية المعنيّة بمعالجة الأجور، فمن مهامها الرئيسيّة درس تطور الأسعار وأسباب ارتفاعها، ودرس سياسة الأجور وتقديم المقترحات والتوصيات الآيلة إلى مكافحة الغلاء والحدّ من ارتفاع الأسعار.

ولكنّ على الرغم من التضخّم الذي يسلك مسارا تصاعديا منذ العام 2009 بداية الانهيار الاقتصادي، لم تجتمع اللجنة إلّا مؤخرا لتخرج بقرار زيادة بدل النقل دون التوصّل إلى أي قرار يُعنى بالأجور. وقال وزير العمل بعد الاجتماع الأخير للجنة: “الطروحات وصلت إلى مكان حسّاس جدّا، قررنا ألا نعلن عنها الآن ونرفعها الى رئيس الحكومة لأن من حق أصحاب العمل أن يدافعوا عن مصالحهم، وكذلك العمال من حقهم وواجبهم أن يدافعوا عن مصالحهم (…) وإذا لم نصل إلى نتيجة في هذا المجال سنذهب إلى المسار الكلاسيكي ونعلن عن أرقام الأجور رسميا طبقا لعملية التضخم. والدولة هي التي تقرر ما إذا كان الظرف الاقتصادي يسمح بإقرارها ونحن نكون قمنا بما علينا في هذا الإطار”.

الخلاف الذي لمّح له وزير العمل بين أصحاب العمل والعمال في اجتماعات اللجنة “لم يكن على موضوع رفع الأجور” حسب ما يؤكّد مصدر من لجنة المؤشّر في حديث لـ “المفكرة القانونية” مشيرا  إلى “أنّ النقّاش أصلا لم يتطرّق إلى رفع الأجور، فمنذ الجلسة الأولى اتفقت اللجنة أنّ ما ستناقشه خلال اجتماعاتها هو المساعدات الطارئة”.

 ويضيف المصدر من لجنة المؤشر، والذي فضّل عدم ذكر اسمه، أنّ وزير العمل فصل في هذا السياق بين مسار سريع يحدّد بالمساعدات وبين المسار البطيء المتعلّق بتصحيح الرواتب والأجور مع تأكيده على عودة اجتماعات لجنة المؤشر لدرس تصحيح الأجور بعد الانتهاء من حسم بدل النقل والمساعدات.

وفي الإطار نفسه يشير مصدر نقابي، فضّل أيضا عدم ذكر اسمه، إلى أنّ التركيز كان خلال اجتماعات لجنة المؤشّر الأربعة على ما سميّ “جرعة منشطة” أي مساعدة موظفي القطاع الخاص بشكل طارئ. لذلك تمحور الجدل خلال اجتماع اللجنة في جلساتها حول أمرين، الأوّل رفع بدل النقل والذي كان الاتفاق عليه “ميسرا”، إذ رأى الاتحاد العمالي العام أنّ رفعه إلى 65 ألف ليرة يوميا أي مليون و 400 ألف شهريا (23 يوم عمل) ملائما وكذلك رأى أصحاب العمل، فلم يواجه الاتفاق على رفع بدل النقل أيّ معوقات.

ويوضح المصدر النقابي في حديث مع “المفكرة” أنّ الأمر الثاني والذي أخذ الجزء الأكبر من النقاش كان “المساعدة الطارئة” والتي حدّدت بـمليون و325 ألف ليرة تعطى للموظف بشكل دائم، مضيفا أنّ الخلاف حول هذه النقطة ارتبط بجانبين الأول تحديد الفئة التي ستستفيد من هذه المساعدة، والثاني إدخالها في أساس الراتب.

ويلفت إلى أنّ الاتحاد العمالي العام طالب بأن يستفيد من هذه المساعدة كلّ من يتقاضى راتبا محددا بـ 5 ملايين ليرة أو أقل الأمر الذي رفضه أرباب العمل مطالبين بأن تحصر هذه الزيادة بمن راتبه 3 ملايين أو أقل، ليتم بعد النقاش الاتفاق على أن يستفيد من المساعدة فقط من راتبه 4 ملايين وأقل كحلّ وسطي بين العمال وأصحاب العمل، ويبقى الخلاف على شكل هذه المساعدة من حيث إدخالها في أساس الراتب من عدمه.

وفي هذا الإطار، يقول المصدر النقابي إنّ الاتحاد العمالي العام أصرّ أن تدخل هذه الزيادة في الضمان حتى تحتسب في تعويضات نهاية الخدمة فيما انقسم أصحاب العمل بين مؤيّد للأمر على قاعدة “القبول يبقى أفضل من الذهاب إلى اعتماد أرقام الأجور رسميا طبقا لعملية التضخم” ولاسيّما أنّ الاتحاد العمالي العام أصرّ على أنّه في حال عدم إدخال الزيادة بأصل الراتب سيكون البديل الذهاب إلى أرقام المؤشر، وبين من رفضها بشكل قاطع.

الموضوع بات وحسب وزير العمل عند الحكومة التي من صلاحياتها التدخّل لتصحيح الأجور، ولكنّ هذه الصلاحيّة ليست استنسابية بحسب ما يؤكّد المدير التنفيذي للمفكرة القانونية نزار صاغية أي أنّه وبمعنى  آخر “يتعين على الحكومة التدخل لتصحيح الأجور بعد فقدان قيمتها الشرائية”.  

ويذكّر صاغيّة في هذا الإطار بالرأي الاستشاري الذي كان أصدره مجلس شورى الدولة في 27-10-2011 لجهة (1) أن زيادة الأجور ليست صلاحية استنسابية للحكومة إنما هو موجب يتعين عليها الالتزام به دوريا (مرة كل سنة) بموجب الاتفاقية العربية رقم 15، و(2)، أن الزيادة لا تتمّ جزافا إنما بناء على معايير موضوعية، مما يفرض إنجاز دراسات وجداول الأسعار تمهيدا لزيادة البدلات. 

زعبرة على الأجر

يصف الوزير الأسبق شربل نحاس، ما يحصل حاليا من إقرار زيادة للأجراء تحت مسمى “مساعدات” أو “عطاءات” بـ “التلاعب على مفهوم الأجر وبالزعبرة الواضحة والاحتيال على الموجبات المترتبة على الزيادة. إذ إن السلطة تعمد بدلا من زيادة الأجر إلى رفع بدل النقل الذي لا يدخل بأساس الراتب، وإلى تقدّيم مساعدات لتحرم الموظف من الاستفادة من هذه الزيادة في تعويض نهاية الخدمة. كما لا تسدد اشتراكات عنها إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي”.

ولفهم ما يحصل حاليا يشرح نحاس في حديث لـ “المفكرة” أنّ الأجر وبمفهومه العلمي هو “المبلغ الذي يتقاضاه العامل لقاء العمل سواء كان محددا أو على القطعة، وسواء كان يقبضه من رب العمل أو من شخص آخر حسب الاتفاق نقدا أو عينا” وهو “ما يترتّب عليه اشتراكات لتأمين تعويض نهاية الخدمة ويخضع لرقابة مفتّشي الضمان،  ويضيف أنّ هذا الأجر هو ما يجب زيادته لحماية حقوق العامل.

ويضيف نحاس “أمّا بدل النقل فهو من الأمور غير المرتبطة  بالعمل إنما بمستلزماته، أي أنّه كلفة إضافية  يتم توزيعها بين رأس المال والعامل بالاتفاق، وغير متعلقة بعوض عن العمل وهي تحدّد حسب كلفتها وليس مقطوعة كما الراتب، ومن هنا لا يمكن أن تكون مبلغا مقطوعا يزيد ويقلّ حسب الراتب وغير مرتبطة بكلفة النقل الحقيقية ويقول: “هذا احتيال موصوف لسرقة جزء من الأجر، وحرمان الموظف من الحصانات والضمانات المرتبطة به”.

وليس بعيدا، يعتبر رئيس قسم التحرير والدراسات في المرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين أسعد سمور أنّ ما تعمد إليه السلطة حاليا هو “رشوة وزيادة وهمية” ولاسيّما أنّ الزيادة مقطوعة ولا تنطلق من أيّ معيار يحدّد كلفة النقل في وقت سعر صرف الدولار غير ثابت وكذلك سعر النفط العالمي، مذكرا أنّ بدل النقل كان 8 آلاف ليرة يوميا أي ما كانت قيمته 5 دولارات فأتت السلطة لتقول إنّها رفعته ليحدّد بـ 65 ألف ليرة أي ما قيمته أقل من 3 دولارات، ما يعني أنّ لا زيادة فعلية، فبدل النقل الذي تحدّده لا يكفي كلفة النقل الحقيقيّة.

ويذكر صاغية في هذا الإطار أنه نتيجة الآراء الاستشارية لمجلس شورى الدولة، صدر القانون 217 بتاريخ 30 آذار 2012 والذي أعطى الحكومة تفويضا بتحديد بدل نقل للأجراء. إلا أن هذا التفويض لا يعفي الحكومة من واجبها في تعديل الأجور. 

مخالفة دستوريّة تهدّد حتى المساعدات

من جهة أخرى يشدّد صاغيّة أنّ الخلل لا يتأتى فقط عن تخلّي الحكومة عن مسؤولياتها في تصحيح الأجور، بل أيضا عن إقرارها بموجب آلية غير دستوريّة. فقرارات مثل قرار رفع بدل النقل والأجور لا تؤخذ إلا من الحكومة مجتمعة في حين أن الموافقات الاستنائية التي يوقع عليها رئيسا الجمهورية والحكومة هي غير دستورية. وكان ديوان المحاسبة ومجلس شورى الدولة أكدا في قرارات على عدم دستورية هذه الموافقة.

يأتي تصريح صاغية تعليقا على تصريح وزير العمل الذي قال إنّ مرسوم رفع بدل النقل الذي وقّعه “لن ينتظر انعقاد الحكومة فقد وافق مجلس شورى الدولة عليه، وهو سيذهب الى الامانة العامة لمجلس الوزراء، وسيرفع إلى رئيس الجمهورية ميشال عون فور عودته من الخارج للتوقيع عليه مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي”.  وكذلك الحال مع مرسوم رفع بدل النقل للقطاع العام والذي أحاله وزير المال يوسف الخليل على الأمانة العامة لمجلس الوزراء.

ويشدّد صاغيّة على أنّ عدم قانونيّة هذين المرسومين يفتح المجال أمام أصحاب العمل للطعن بهما أو حتى عدم تنفيذهما مما يعرض الأجير لخسارة حتى هذه المساعدات البخسة.

انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، سياسات عامة ، تحقيقات ، قرارات إدارية ، نقل عام ، لبنان ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، الحق في الصحة والتعليم ، حقوق العمال والنقابات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني