زيادة الاجور: “منة” سياسية ام حق اجتماعي؟


2012-01-26    |   

زيادة الاجور: “منة” سياسية ام حق اجتماعي؟

الفصل الاخير من السنة المنصرمة تميز بعنوان عريض: الحد الادنى للاجور ومعه زيادة الاجور. وهكذا، احتلت بعض المفاهيم الطارئة مكانة اساسية في التخاطب العام: مؤشر غلاء المعيشة، الاتفاق الجماعي او الرضائي، الرأي الاستشاري لمجلس شورى الدولة، الصفة التمثيلية للاتحاد العمالي العام.. وكلها مفاهيم لا تتصل بمصالح زعيم معين او بصورته انما تعني شرائح واسعة من المواطنين في حياتهم اليومية. وتبعا لذلك، ومهما بلغت نسبة زيادة الاجور في نهاية المطاف، ثمة انجازا هاما تحقق ويتحقق على صعيد التخاطب العام، انجازا يعيد الحقوق الاجتماعية الى الاجندا الوطنية. وكانت “المفكرة” قد اضاءت في عدديها السابقين على مكاسب مماثلة: الاول، ما حصل عقب ما سمي انتفاضتي السجون والبناء، وقد اسهمت الانتفاضة الاولى في اقرار عدد من القوانين الحيوية او في تسريع ذلك، ومنها زيادة رواتب القضاة تمهيدا لتفعيل اعمالهم وتعديل قانون تنفيذ العقوبات فضلا عن اقرار موازنة لبناء سجنين جديدين.. كما تولي لجنة الادارة والعدل حاليا اهتماما بارزا لتعديل قانوني اصول المحاكمات الجزائية وجرائم المخدرات، فضلا عن اعادة النظر في قانون مدة السنة السجنية.. اما المكسب الثاني فيتمثل في المكانة المتزايدة لحقوق النساء: فالى الاعتصامات المتصلة باقرار قانون العنف ضد المرأة، الى الاعتصامات امام دار الافتاء لرفع سن الحضانة في بادرة هي الاولى من نوعها على صعيد اصلاح نظام الاحوال الشخصية من الداخل، وصولا الى التظاهر ضد جميع اشكال الاغتصاب. كما شهد العام المنصرم اقرار قانونين ذات انعكاسات رمزية عالية كالغاء المادة الخاصة بجرائم الشرف او وضع قانون لجرائم الاتجار بالبشر، والذي لا بد ان يسهم في تقويض “نظام الكفيل” او ايضا “نظام الفنانات”.. المفكرة طبعا ترى في جميع هذه التطورات مظاهر حيوية هي في صلب مشروعها، مظاهر يؤمل منها ان تسهم في اعادة حقوق المواطنين وهمومهم ومشاغلهم الى قلب المدينة. بالمقابل، من المؤسف ان يبقى تعطيل مجلس العمل التحكيمي تبعا لتأخير صدور مرسوم بتعيين المستشارين المنتهية صلاحياتهم منذ اكثر من سنة في غرفه، خارج دوائر الاهتمام: فاي معنى لحقوق الاجراء، اذا حرم الاجير من حماية القضاء؟ (المحرر).

زيادة الاجور: “منة” سياسية ام حق اجتماعي؟
اذا تجاوزنا بعض تفاصيل المواجهة الحاصلة بشأن زيادة الاجور، امكن القول دون مبالغة انها تضع وجها لوجه القوى الراغبة في تغليب الاعتبارات والمصالح السياسية على الحقوق الاجتماعية بحيث تبقى وقفا على توفر ارادة سياسية باقرارها، وتلك الراغبة على العكس تماما في ترسيخ هذه الحقوق بحيث تصبح بمثابة ضرورة يتعين على السلطات التأقلم معها، مهما كانت تطلعاتها او توجهاتها الاجتماعية. وبكلام آخر، وبما يعنينا في هذا المقال، هل تشكل زيادة الاجور قرارا سياسيا يخضع لموازين القوى وتحديدا للتجاذب بين الزعماء والمصالح المحيطة بهم ام انه حق ملازم للاجراء، ومستمد من حقوقهم بحياة كريمة من دون خوف او عوز؟ ومهما تكن النتيجة التي ستنتهي اليها هذه المواجهة (ويصعب الآن التنبؤ بها)، تجدر الاشارة الى ان استمرارها طوال الاشهر الماضية –وهذا ما ابينه من خلال الجولات المفصلة ادناه- اعاد بحد ذاته بعض التوازن الى حقوق شرائح واسعة من المواطنين ازاء هيمنة الزعماء على الخطاب العام، مما يهيئ لمواجهات يرجح ان تكون اكثر ثباتا وتأثيرا.
الجولة الاولى: مجلس شورى الدولة يخاطب الحكومة: زيادة الاجور حق وصلاحياتك مقيدة..
اللاعبان الاساسيان (اقله الظاهران) في هذه الجولة هما وزير العمل شربل نحاس ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي، بما يمثل كل منهما من منطلقات ومصالح. وفيما وضع نحاس مشروعه على اساس تقديرات عدة بشأن نسبة غلاء المعيشة وتبعا لعدد من الاجتماعات عقدتها لجنة مؤشر غلاء المعيشة، اخرج فريق رئيس مجلس الوزراء مشروعا اعد في الكواليس، ويؤول الى زيادة مبالغ مقطوعة على الاجور وفق قيمتها مع استثناء الاجور التي تزيد قيمتها عن مليون وثمانمائة الف ل.ل. وهذا المشروع، الذي حظي بتصويت اكثرية الوزراء، التقى بروحيته الى حد كبير مع مرسوم زيادة الحد الادنى الذي وضعته الحكومة اللبنانية في 2008 والذي اضاف مبلغا مقطوعا (مئتي الف ل.ل) الى الاجور كافة.
الا ان المواجهة لم تنته مع التصويت لصالحه، بل اعاد مجلس شورى الدولة فتحها على مصراعيها بموجب رأيه الاستشاري الصادر في 27-10-2011 والذي آل عمليا الى رفض الاستنساب السياسي في هذا المجال وفي موازاة ذلك، الى تحسين مواقع الفريق الداعم لترسيخ “الحقوق الاجتماعية” الملازمة للاجراء.
وبالفعل، فقد وضع المجلس قواعد عدة تصب في هذا الاتجاه، ابرزها الاتية: (1) ان زيادة الاجور ليست صلاحية استنسابية للحكومة انما هو موجب يتعين عليها الالتزام به دوريا (مرة كل سنة) بموجب الاتفاقية العربية رقم 15، و(2)، ان الزيادة لا تتم جزافا انما بناء على معايير موضوعية، وهكذا يشكل عيبا جوهريا خلو ملف المشروع من الدراسات وجداول الاسعار، كما يشكل عيبا وضع مبالغ مقطوعة طالما ان غلاء المعيشة امر نسبي، و(3) ان الزيادة حق لجميع الاجراء وليس لفئة منهم، ولا مجال اذا للتمييز ضد اصحاب الاجور المرتفعة نسبيا، و(4) ان فرض زيادة بدل النقل غير قانوني كونها تشكل تدخلا في الحرية التعاقدية من خارج التفويض التشريعي المعطى للحكومة، مما يشكل ادانة لممارسة حكومية متمادية مفادها اقرار بدل نقل او منح تعليمية بدلا من زيادة الاجر، وهي اضافات لا تحتسب لا في تعويض الصرف ولا في تعويض نهاية الخدمة ولا في اشتراكات الضمان الاجتماعي. وقد بدا رأي المجلس من هذه الزاوية نموذجيا: فقد عبر عن الوظيفة الاساسية للقانون في اخضاع المصالح السياسية لضوابط معينة، وتلاقى تماما مع قرار شهير كانت محكمة القضاء الاداري في مصر قد كرسته بتاريخ 30-3-2009 لجهة التأكيد على واجب الادارة في وضع حد ادنى للاجور ومراجعتها دوريا[1].
ورغم ان المجلس استند الى قواعد هي بمثابة مسلمات قانونية، جاء هذا الرأي مناقضا لآرائه السابقة[2] في قضايا مماثلة، حيث ابدى تماهيا واضحا مع الارادة الحكومية انذاك. وربما، يكون مجلس شورى الدولة قد استفاد في هذا الصدد من المواجهة السياسية الحاصلة لفرض نفسه كلاعب اساسي بمقدوره تقوية مواقف هذا الفريق او ذاك، او اضعافها، اقله من حيث مشروعيتها.
وهكذا، بعد ممانعة تمثلت في السعي الى فرض مشروع ثان[3]، خرجت الحكومة من هذه الجولة قانعة بانها ليست مطلقة الصلاحية، وانتقل اذ ذاك الفريق الخاسر فيها الى البحث عن آليات اخرى للتملص من الالزامات القانونية في تحديد الحد الادنى ونسب زيادة الاجور، ويبدو انه وجد ضالته في نظرية “الاتفاق الرضائي” التي وردت عرضا في الرأي الاستشاري المذكور اعلاه.
الجولة الثانية: قدسية الاتفاق الرضائي؟
هذه الجولة بدأت فصولا مع اجتماع الحكومة للتباحث في مشروع مرسوم ثالث. وهكذا، وفي موازاة اجتماع الوزراء، وفي المكان نفسه (قصر بعبدا)، انعقد اجتماع بين ممثلي الاتحاد العمالي العام والهيئات الاقتصادية. وقد بدت الامور وكأنما ثمة سباقا حقيقيا بين توصل هذه الهيئات الى “اتفاق” وطرح مشروع نحاس على التصويت. واللافت خلال المداولات، ان كلا الفريقين تذرع برأي مجلس شورى الدولة: ففيما ادلى رئيس مجلس الوزراء بضرورة احترام الاتفاق الذي توصلت اليه الهيئات المجتمعة عملا بهذا الرأي، رأى وزير العمل، والذي فاز مشروعه بالتصويت هذه المرة، ان لا بد من مراعاة الضوابط الموضوعية التي تضمنها هذا الرأي بالذات والتي هي بمثابة انتظام عام[4]، فضلا عن تشكيك البعض بالصفة التمثيلية للاتحاد العمالي العام ومنهم الوزير وائل فاعور[5].
وقد جاء رأي مجلس شورى الدولة الصادر في 3-1-2012 بعدّ المشروع الثالث غير قانوني، ليبقي المواجهة بشأن الزامية “الاتفاق الرضائي” على اشدها. ففيما رأى المجلس ان المشروع يخالف القانون في جوانب عدة منه، اكتفى بالتذكير بوجوب تقيد الحكومة بالاتفاقات الرضائية بشأن زيادة الاجور عملا بالمادة 2 من اتفاقية العمل الدولية (131)، من دون اتخاذ موقف واضح فيما اذا كان المشروع المعروض عليه قد خالف فعليا هذه القاعدة وتاليا فيما اذا كان التوافق الحاصل بين الهيئات المجتمعة في قصر بعبدا توافقا مطابقا للمفهوم الذي نصت عليه الاتفاقية المذكورة وتبعا لذلك ذات طابع ملزم.
وقد انعكس استمرار المواجهة بهذا الشأن في الخلاف المحتدم في اجتماعي لجنة مؤشر غلاء المعيشة المنعقدين في 11 و12 من شهر كانون الثاني، حيث ذهب البعض الى حد احاطة الاتفاق المذكور بالقدسية[6].
والواقع ان القول بالزامية الاتفاق المذكور في الظرف اللبناني امر مشكوك به وهو يؤدي بأية حال الى اعادة مسألة زيادة الاجور الى التجاذب السياسي، مع فارق بسيط يتمثل في اشراك مزيد من اللاعبين فيها. وهذا الامر يعود الى مجموعة من العوامل منها: (1) غياب الحرية النقابية في لبنان طالما ان تأسيسها يحتاج الى ترخيص مسبق وان لبنان لم ينضم بعد الى اتفاقية العمل الدولية الخاصة بحرية النقابات، و(2) آليات التفاوض المعتمدة: فهي تنحصر بمفاوضات تجري على صعيد الدولة، من دون اي مفاوضات سابقة او موازية على صعيد القطاعات او حتى الشركات، مما يجعل القرار مركزيا بل فوقيا[7]، و(3) ما يزيد الامر فداحة، هو اعطاء الاتحاد الصفة التمثيلية بموجب قرار حكومي من دون وضع اي معايير لاكتساب هذه الصفة او فقدانها، مما يجعل الاتحاد في حال احتكار رسمي لهذه الصفة التي تبدو اذ ذاك وكأنها مستمدة من الحكومة اكثر منها من النقابات او من اعضائها. والخطورة في هذا الامر تكمن في امكانية استغلال هذا الاحتكار لوضع اليد على الحركة العمالية من خلال استمالة القيمين على الاتحاد وتسييسهم، وعلى نحو يخالف تماما مقررات منظمة العمل الدولية الخاصة بشأن استقلالية الحركة النقابية والصادرة بتاريخ 26-6-1952. وكانت هذه المقررات قد نصت بالحرف انه على الحكومات ان تعي ان اي تعاون مع النقابات لتنفيذ اي من سياساتها الاقتصادية او الاجتماعية، يشترط بالضرورة تمتع الحركة النقابية بالحرية والاستقلالية، وانه عليها الامتناع عن اي مسعى لاستخدام هذه الحركة كأداة سياسية للوصول الى اهدافها السياسية.
ايا يكن، ومن دون الدخول في تحليل مواقف القيمين على الاتحاد (والتي تحتاج ربما الى تحقيق رسمي للتثبت من مدى التزام السلطات العامة بمبدأ استقلالية الحركة الانقابية)، يسجل ان التذرع بالزامية “الاتفاق الرضائي” لفرض نتائجه، حدا بالقوى المعارضة في الحركة العمالية الى الطعن بالصفة التمثيلية للاتحاد وباستقلاليته رفضا للتسليم بها[8]. وهكذا، تكون هذه الجولة التي لم تؤد الى نتائج حاسمة قد اذنت بفتح معارك عمالية لا تقل اهمية عن مسألة الاجور، ومحورها حرية تأسيس النقابات والاتحادات، وكيفية اكتسابها للصفة التمثيلية.
الجولة الثالثة: العودة الى صاحب الارادة الحرة: المجلس النيابي.. 
لا حل الا من خلال المجلس النيابي الذي هو صاحب الارادة السياسية شبه المطلقة.
وهذا الامر يتحصل من موقف مجلس شورى الدولة المتمثل في اعتبار الحكومة غير مخولة بفرض بدل نقل او منح تعليمية وفق ما سبق بيانه. كما يتحصل من توجهه الى ابطال القرارات السابقة الصادرة منذ 2002 بفرض بدلات نقل مما قد يؤدي الى تهديد الاجراء بفقدان البدلات  المقبوضة منهم منذ ذلك الحين، وذلك تبعا لاخراج المراجعات المقدمة ضد هذه القرارات والتي كان قد عمد الى “تنويمها” منذ 2002[9]. ومن خلال ذلك، بدا مجلس شورى الدولة وكأنه يتصرف كلاعب سياسي، اقله بما يخص توقيت النظر في المراجعات، في اتجاه اقناع فريقي المواجهة بان لا مناص من التوجه الى المجلس النيابي.
فكما ان الفريق الراغب بتحرير مسألة الاجور من الالزامات بحاجة الى انتزاع تفويض تشريعي اوسع ولا سيما في اتجاه تكريس حق الحكومة بفرض بدلات نقل ومنح تعليمية، كذلك الامر بشأن الفريق الداعم لترسيخ الحق الاجتماعي، والذي بات يحتاج الى قانون لمنع ابتزاز الاجراء باسترداد بدلات النقل المدفوعة، اي بما شكل طوال سنوات اداة للنيل من حقوقهم[10].
وفيما ان اللاعب الاساسي في هذه الجولة هو الذي كان يؤدي دور الحكم فيها، فان نتيجتها المرجحة تتمثل في اعادة المسألة الى التجاذب السياسي المفتوح بين القوى السياسية، سواء داخل المجلس النيابي او خارجه في حال حصلت مساومة سياسية من النوع الثقيل، وهي نتيجة تناقض من حيث مفاعيلها تماما النتيجة التي خلصت اليها الجولة الاولى والتي هي انتهت الى التذكير بالحق الاجتماعي وما يحيط بها من ضمانات وقواعد… على امل ان يؤدي صراع القوى السياسية في الجولة القادمة الى انتصار “مفهوم الحق” مجددا..

نشر هذا المقال في العدد الثالث من مجلة المفكرة القانونية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، حراكات اجتماعية ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، حقوق العمال والنقابات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني