“صواريخ” الرئيس التي طالتْ العدالة الانتقالية


2022-04-18    |   

“صواريخ” الرئيس التي طالتْ العدالة الانتقالية

في كلمة ألقاها بتاريخ 20-09-2021، وصف الرئيس قيس سعيّد المراسيم التي يعتزم إصدارها  بالصواريخ على منصّاتها والتي تكفي إشارة منه لتدكّ من يتآمرون عليه في أعماقهم. وكان الرئيس أصدر خلال الأسابيع الماضية مرسومين “صاروخين” سيكون لهما تأثير كبير على تصورات العدالة الانتقالية ونتائجها وهما مرسوم الصلح الجزائي الذي صدر بتاريخ 20-03-2022 والذي يبين لأول مرة كيفية التعاطي التي قررها الرئيس مع ملف الفساد المالي ومرسوم مؤسسة فداء الذي صدر بتاريخ 09-04-2022[1] والذي تتناول أحكامه حقوق جرحى الثورة. وقد أتى هذان المرسومان ليعطيا أجوبة كثيرة على السؤال الذي طرح كثيرا بعد إجراءات 25 جويلية 2021 بشأن موقف الرئيس من العدالة الانتقالية بإلحاح في وسط المهتمين بها، بعدما انقسموا بين شقّ يرى فيه صانع ربيع جديد لها ودليلهم على ذلك قربه من جرحى الثورة وعائلات شهدائها وحديثه الدائم عن محاسبة من يسميهم الفاسدين واسترداد الأموال المنهوبة، وشقّ معارض له يستند لما برز من شيطنة لمطالب ضحايا الاستبداد بالتعويضات عشية 25 جويلية.

هذا ما سنحاول القيام به في هذا المقال، من خلال الإضاءة على الإجابات التي نستشفها من هذين المرسومين حول تصورات حاكم قرطاج حول العدالة الانتقالية.

ماضي أفكار الرئيس مستقبل الوطن

في سنة 2012، وبفعل ما كان من ملاحقات جزائية طالتْ عددا من أصحاب الأعمال على خلفية ما يدّعى من تورطهم في الفساد المالي لمنظومة الحكم قبل الثورة، تعالت أصواتٌ تردّ ما بدأت تظهر ملامحه من ضعف نسق استثمار داخلي وتراجع الاستثمار الأجنبي ونسق التصدير لما قالت أنه تحاجير السفر التي أصدرها قضاة التحقيق المتعهدين في نظر تلك القضايا وشملت أكثر من 460 صاحب أعمال وكانت سببا في الحدّ من حرية تنقلهم وعطلت بالتالي قدرتهم على التحرك خارج تونس خدمة لمصالحهم الاقتصادية. في ذاك الفاصل الزمني، ازدهرت فكرة البحث عن مشاريع للمصالحة مع هذه الشريحة الاجتماعية تضمن جبر الضرر للمجموعة وتنهي التتبعات الجزائية للمعنيين. وكان من ضمن من انخرطوا فيها أستاذ القانون قيس سعيد الذي صاغ تصوّرا لما قال أنه مشروع للمصالحة بمقاربة تنموية مختلفة[2].

في ذات الحيّز الزمنيّ، كان الحديث عن ضرورة الاعتراف بفضل جرحى الثورة وشهدائها في تحرير تونس من الاستبداد. ومرّة أخرى، كان سعيّد في الموعد ليطرح أفكارا فيما تعلق بالموضوع. لم يخرج آنذاك “الخبير” عن عُرْف المرحلة الذي أرساه مختصو القانون مع ناشطي المجتمع المدني والسياسي وتمثّل في المساهمة في الجهد التشريعي بصياغة مقترحات نصوص قانونيّة تعرض على الرأي العام للحوار فيها وتقدّم لجهة القرار مع طلب اعتمادها. ولكن ما بدا مستغربا أنه ولما أضحى يحتكر كل السلطة السياسية تحت مسمى رئيس جمهورية فترة الاستثناء، عاد ليحيي نصوصه القديمة دون اهتمام بما كان من أثر لمرور الزمن على موضوعها أو بقيم الديموقراطية التشاركية التي كتبت في ظلها وربما كان ذلك مما جعل تلك المتعلقة منها بالعدالة الانتقالية في قطيعة تامّة مع قيمها.

قطع مع المفاهيم الأساسية للعدالة الانتقالية

يستدعي الحديث عن العدالة الانتقالية حصول انتقال سياسيّ تستشعر بعده الحاجة لمعالجة انتهاكات الماضي بكشفها ومساءلة المسؤولين عنها والانتصاف لضحاياها بموازاة حماية السلم الاجتماعي. وفي انسجام كامل مع هذا التصوّر، حدّدت تجربة العدالة الانتقالية التونسية لنفسها هدف “فهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا وردّ الاعتبار لهم بما يحقّق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثّقها ويرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان.”  وعلى عكس هذا، أنهتْ مراسيم سعيّد ما كان من ربط بين الفساد المالي والاستبداد لتفتح باب تحصيل اتفاقات المصالحة أمام كل من نسب له ارتكاب جريمة مالية قبل تاريخ نشر قانون الصلح الجزائي بالجريدة الرسمية. كما أنها قسمت بمقاربتها التمييزية مجتمع ضحايا الاستبداد الذي كان قبلها موحدا حيث عدّدت الامتيازات الماديّة التي تعد بها جرحى الثورة وأسر شهدائها، من دون أيّ ذكر لسائر ضحايا فترة الاستبداد. وهي بذلك فرضتْ حقوقا لصنف من الضحايا لتحجبه عن سواهم بما يذكر بالتعاطي الذي كان قبل صياغة قانون العدالة الانتقالية. وهذا التمييز إنما يطرح السؤال بشكل خاص حول موقف الدولة من ضحايا الاستبداد ولا سيما بعدما بات الرئيس في موضع خصومة معلنة ضدّ فئة هامة منهم تتمثل في أنصار الإسلام السياسي والمنتسبين لحزب العمال.

وهو سؤال يظلّ من دون جواب واضح، وإن كان امتناع سعيد عن تقديم اعتذار رسميّ لهم باسم الدولة التونسية وفق ما يلزمه به القانون يؤشر إلى اتّجاه لطي صفحة الانتصاف لهم. وهو موقف إن صحّ يعدّ خطيرا جدا وهو يضع جميع مؤيدي العدالة الانتقالية في التصدي له بعدما أصبح أمرا واقعا.

بعد إرساء العدالة التعويضية أي مواقف؟

قبل انفراد سعيد بالسلطة السياسية، كانت العدالة الانتقالية من أكثر المواضيع التي تثير الجدل في المجتمعيْن المدني والسياسي. فقد كانت القوى التي تصنف نفسها في خانة المساندة للثورة تتمسك بطلب تفعيل مخرجاتها وترفض كل حديث عن إخلالات شابت تنزيلها، فيما كان من يحسبون على النظام السابق يجاهرون برفضهم لها ومعارضتهم لما ترتب عليها من ملاحقات القضائية واستحقاقات للضحايا. ولم يكن من المتصوّر لهذا الاعتبار أن يتمّ المس بثوابت العدالة الانتقالية ومرتكزاتها بيسر. وليس أدلّ على ذلك من المعارضة الكبرى التي قادها المجتمع المدني ضدّ مشروع المصالحة الاقتصادية الذي عرضه الرئيس الراحل باجي قايد السبسي والذي هدف إلى إجراء صلح مع من تورطوا في فساد مالي قبل الثورة باستعمال نفوذ الدولة. تمت المواجهة آنذاك تحت شعار ما نيش مسامح وأرغمت السبسي على التراجع عنه .

على أرض الواقع وخلافا للمتوقع، لم يصطدم مرسوم سعيّد حول الصلح الجزائي بمعارضة تزيد عن مواقف وبيانات لبعض الجمعيات والأحزاب. وباستثناء جمعية أوفياء لشهداء وجرحى الثورة، لم تبدِ القوى والهيئات الفاعلة في ملف شهداء وجرحى الثورة اعتراضا على إفرادها بمرسوم خاص يخرج ملفهم من نطاق العدالة الانتقالية. وحدها الجمعية المذكورة تمسكت بكون الشهداء والجرحى ناضلوا من أجل تونس ديموقراطية ولا يمكنهم أن يقبلوا استحقاقا خارج إطارها ذاك. ويتحصّل من ذلك أن مراسيم الرئيس وإن كانت لا تلقى ترحيبا فهي لا تواجه معارضة مشابهة لما حصل قبل 25 جويلية. ويماثل في هذا ما حصل تماما بخصوص القيم الديمقراطية حيث انبرى العديد ممن غالوا في الدفاع عنها قبل 25 جويلية عن اتخاذ أي موقف مندّد بنظام يجهد لنسف كل ما تحقق منها.


[1] المرسوم عدد 20 لسنة 2022 المؤرخ في 9 أفريل 2022 والمتعلق بمؤسسة “فداء” للإحاطة بضحايا الاعتداءات الإرهابية من العسكريين وأعوان قوات الأمن الداخلي والديوانة وبأولي الحق من شهداء الثورة وجرحاها في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية.
[2]  في توثيق هذه الحقبة يراجع للكاتب مقال ” العدالة الانتقالية في تونس: إذا كنت ضعيفا فعقاب، وإذا كنت قويا فلنصالح ” نشر بشهر 01 لسنة 2013 بالعدد الخامس بمجلة لمفكرة القانونية لبنان والذي ورد فيه ” … فبعدما كان البحث في الفساد المالي واسترداد الأموال التي نهبت داخل البلاد من أولويات الاستحقاق الثوري بدليل بعث لجنة تقصي الحقائق حول الرشوة والفساد ومن بعدها هيئة مكافحة الفساد، أضحى التعامل مع ملفات الفساد معضلة تؤرق السلطة وتمنع تحقيق مشروعها الإنمائي. فالبحث في هذه الملفات أدى إلى الكشف عن تورط عدد هام من بارونات الاقتصاد الوطني في منظومة الفساد بما يتجاوز التصور الأولي الذي كان يحصر المسألة في أفراد عائلة الرئيس المخلوع وأصهاره والمقربين منهم. وبعدما كانت المحاسبة تبشر باسترداد الثروات المنهوبة وتصنع الحلم بتوفير الأموال، تبيّن سريعا أن الاجراءات الاحترازية أعاقت عددا من رجال الأعمال من الحصول على السيولة المالية لتطوير الاستثمار، فباتت المحاسبة بمثابة عبء ثقيل على عجلة الاقتصاد. وعلى هذا المنوال، دفع العبور السريع من مرحلة الثورة الى مرحلة تأسيس دولة الثورة دوائر القرار إلى ايجاد مخرج من الأزمة في إطار تصور مصلحي معلن. فأكد المسؤولون الحكوميون في أكثر من مناسبة على أن إيجاد حلول تحقق المصالحة مع رجال الأعمال وتنهي التهديد الذي يشعرون به من أعمال المحاسبة هو من أولويات العدالة الانتقالية. وبالفعل، تتالت محاولات المصالحة وغلق ملفات رجال الأعمال. فمن جهة، بادرت لجنة المصادرة بتاريخ 5-5-2012 إلى إصدار بلاغ تضمن دعوة رجال الأعمال الذين استفادوا من منظومة الفساد للتقدم بتصريح تلقائي لها يتضمن كشفهم عن المال الفاسد الذي استفادوا منه وتسليمه لها، على أن تمتنع بالمقابل عن الكشف عن أسمائهم وعن إعلام النيابة العمومية في حال قيامهم بذلك. كما طرحت أكثر من مبادرة لإيجاد حلول صلحية مع رجال الأعمال الفاسدين كان أبرزها الاقتراح الذي تقدم به رجل القانون البارز الأستاذ قيس سعيد الذي اقترح أن يتم الصلح مع هؤلاء مقابل تعهدهم بالاستثمار بالجهات الأقلّ حظوة من التنمية. وانتهت أخيرا وزارة العدل إلى إعلان عزمها على بعث قطب قضائي متخصص في قضايا الفساد يضمن سرعة الفصل فيها.”  للاطلاع على المقال كاملا اضغط هنا
انشر المقال

متوفر من خلال:

عدالة انتقالية ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني