الصلح الجزائي: آلية قديمة لبناء جديد؟


2022-02-17    |   

الصلح الجزائي: آلية قديمة لبناء جديد؟

يبدو أنّ مشروع مرسوم الصلح الجزائي، الذي لم يكد يغيب عن خطابات رئيس الدولة ولا عن طاولة مجلس الوزراء طيلة الأشهر الماضية، يوشك على الصدور. هذا المشروع، الذي يدافع عنه قيس سعيّد منذ 2012، كان على الأرجح من الأسباب المباشرة التي دفعته إلى حلّ المجلس الأعلى للقضاء، الذي أبدى بخصوصه رأيا لم يرق للرئيس. ولئن كانت المصالحة مع أصحاب الأعمال المتورطين في الفساد فكرة قديمة-جديدة، إذ لا تختلف عن الضلع الأوّل من المشروع الذي دافع عنه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي والذي أسقطته حينها معارضة الشارع، فإنّ الجديد في مشروع سعيّد هو مآل مداخيل الصلح، التي ستذهب إلى رأس مال شركات أهليّة في كلّ معتمديّة. فالصّلح الجزائي ليس فقط وسيلة “لاسترجاع أموال الشعب” ودفع التنمية المحليّة، وإنّما ينخرط في صميم مشروع “البناء القاعدي”، الذي يمضي رئيس الدولة في التأسيس له عبر الاستشارة الوطنية وما سيعقبها من تعديلات دستوريّة. إلاّ أنّ التمعّن في مشروع مرسوم الصلح الجزائي يكشف الوجه الخفيّ للبناء القاعدي، وهو السيطرة المباشرة لرئيس الجمهوريّة لا فقط على الذراع القضائيّة له، وإنما أيضا على الذراع الاقتصاديّة-الاجتماعيّة. فكما في النظام السياسي القاعدي، “إرادة المتساكنين” لن تكون، في الشركات الأهليّة، سوى واجهة تخفي مركزة مفرطة للقرار بين يدي رئيس الدولة.

الصلح الجزائي: مقاربة جديدة؟

قبل الخوض في تفاصيل مشروع الصلح الجزائي من ناحية القانون والدلالات، يبدو ضروريا تقديم الفلسفة العامّة للصلح الجزائي. يروم مشروع المرسوم تحقيق المصالحة مع من تورّط في الجرائم الاقتصادية والمالية، وتوظيف الأموال المتأتية منها للتنمية المحليّة في المعتمديّات. هذا ويشمل الّصلح الأشخاص الذين وردت أسماؤهم بتقرير اللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق حول الفساد والرشوة، الصادر في أكتوبر 2011، “بعد التثبت فيها وتحيينها”، وكذلك كلّ من تعلقت به قضايا فساد مالي واقتصادي لدى القطب القضائي والاقتصادي والمالي. ويتمّ النظر في الصلح بين من سبق ذكرهم من قبل هيكل قضائي جديد يسمى “القطب القضائي للصلح الجزائي”. لاحقا، يتمّ توظيف محصّلات الصلح الجزائي عن طريق شركة أمّ تقوم بالمساهمة في رأس مال شركات أهليّة تبعث على مستوى جميع المعتمديات بغرض تحقيق مشاريع محليّة تقترحها وتخضع لموافقة الشركة الأمّ أو ما يسمّى بشركة المساهمة العامّة ذات النفع الاجتماعي تحت الإشراف المباشر لرئاسة الجمهورية.

ولئن يعرّف المشروع الصلح الجزائي بكونه “مقاربة جديدة تمكّن الشعب التونسي من الاستفادة المباشرة من الأموال المتأتية من الصلح”، فإنّه يقوم على ذات الأهداف التي قام عليها قانون المصالحة الاقتصادية مع رجال الأعمال الذي تبنّاه الباجي قائد السبسي. حيث تتفق كلّ النسخ المتواترة على فكرة تسوية وضعيّة المتورطين في قضايا الفساد بهدف تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتشجيع الاستثمار. وإن كان الصلح الجزائي أو مصالحة سعيّد تضفي بعدا محليّا على كيفية استثمار الأموال المتأتية من الصلح فانّ المبدأ هو ذاته ” المال… مقابل الإفلات من العقاب”. مبدأ، كانت قد رفضته الحركات الشبابية ممثلة في “مانيش مسامح” ومكوّنات المجتمع المدني سابقا رافعين شعار “شعب تونس شعب حر…والفساد لن يمرّ”.

رئاسة الجمهورية: محاربة الفاسدين نهي عن المنكر… مصالحتهم فرض عين

لا يمكن القول بأنّ فكرة الصلح الجزائي مع أصحاب الأعمال المتورطين في قضايا فساد جديدة على طرح سعيّد. في الواقع، منذ أولى سنوات الثورة وتحديدا سنة 2012 بدأ قيس سعيّد بصفته أستاذ قانون دستوري في الحديث عن تصوّره حول كيفيّة تعامل الدولة مع المتورطين في قضايا الفساد المالي وقدّم حينها إلى حركة النهضة، حسب تصريحه، مشروع المصالحة مع أصحاب الأعمال والذي يقتضيبأن يتمّ ترتيب المعتمديات من الأكثر فقرا الى الأقلّ فقرا ليتمّ لاحقا وضعنوع من الصلح الجزائي” مع المتورطين في قضايا الفساد المالي والذي يفضي لتبنّى كلّ صاحب أعمال معتمدية، وذلك بعد ترتيبهم من الأكثر تورطا الى الأقلّ تورطا، ومن ثمّ يتمّ ضخّ الأموال المنهوبة في تنمية هذه المعتمديات. ويستند سعيّد في مقترحه منذ سنة 2013، على تقديرات مداخيل مفترضة للصلح الجزائي تقدّر ب 13 ألف و500 مليون دينار.

حينها، لم تجِد الفكرة الصّدى المنشود لدى الأطراف الحاكمة رغم توجّه الباجي قايد السبسي نحو ما يعرف بقانون المصالحة الذي لا يختلف من حيث الجوهر في مصالحة الفاسدين بدلا عن محاسبتهم، عن مشروع الرئيس الحالي.

 عبّر قيس سعيّد منذ توليه سدّة رئاسة الجمهورية عن نيّته تقديم مبادرة خاصّة متعلّقة بالصلح الجزائي مشيرا إلى أنّه تم إعداد تصور كامل لمشروع قانون في الغرض وأكّد على”أنّ العهد هو العهد، وستُقدَّم هذه المبادرات وليتحمّل يومئذ كلّ طرف مسؤوليّاته كاملة أمام الله وأمام الشعب وأمام التاريخ”[1] في إشارة إلى البرلمان.

ولئن أكّد على أنه سيقدّم المبادرة التشريعية حينها الى مجلس نواب الشعب إلاّ أنّ ذلك لم يحدث. حيث لم ترَ النسخة الأولى النور إلاّ عن طريق نصّ مسرّب على صفحات التواصل الاجتماعي بتاريخ 23 أكتوبر 2020.

غداة 25 جويلية، وفي لقائه بسمير ماجول، رئيس اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة، جدّد سعيّد تشديده على ضرورة استرجاع الأموال المنهوبة من الفاسدين بناء على القائمة الواردة بتقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد والتي تضمنت 460 صاحب أعمال تورطوا في قضايا فساد.

صيغت ثلاث نسخ لمشروع الصلح الجزائي منذ أكتوبر 2020 إلى اليوم وذلك في ترجمة عمليّة لإصرار الرئيس على فكرة الصلح الجزائي.

 نسخة أولى تمّ تسريبها على صفحات التواصل الاجتماعي وأكّد الرئيس حينها قرب تقديمها الى البرلمان ولم يفعل. نسخة ثانية مسرّبة، وهي التي تمّ عرضها على المجلس الأعلى للقضاء الذي أعلن الرئيس حلّه في الأسبوع الماضي لإبداء الرأي فيها ونسخة ثالثة مسرّبة كذلك وهي التي من المنتظر المصادقة عليها قريبا ويجب الاشارة الى كونها لا تختلف جوهريّا عن سابقتها.

يبدو أنّ مصالحة الفاسدين أصبحت فرض عين بالنسبة لرؤساء الجمهورية المتعاقبين، حيث لا تختلف فلسفة قانون المصالحة في المجالين الاقتصادي والمالي للباجي قايد السبسي عن النسخة الأولى أو الثانية أو الثالثة لمشروع الصلح الجزائي لقيس سعيّد. كلّ النسخ التي عرضت والمعروضة الآن، وان اختلفت التسميات وادعت جدّة المقاربة بين “حفاظ حقوق المجموعة الوطنية وغلق الملفات” أو “استرجاع المال العامّ …و توظيف محصّله في إنجاز مشاريع تنمويّة” أو “تمكين الشعب التونسي من الاستفادة مباشرة من الأموال المتأتية من الصلح الجزائي…وذلك بتوظيفها لتحسين البنية التحتية أو للتنمية بالمعتمديات” فانّ فلسفتها واحدة: مصالحة الفاسدين.

رأي المجلس الأعلى للقضاء: يتعذّر… ولكن

أبدى المجلس الأعلى للقضاء رأيه الاستشاري عدد 18 حول مشروع مرسوم الصلح الجزائي مع المتورطين في الجرائم الاقتصادية والمالية المعروض على جلسته العامّة بتاريخ 5 جانفي 2022، القاضي بتعذّر إبداء الجلسة العامّة رأيها باعتبار مشروع المرسوم “يعدّ من قبيل القيام بواسطة المراسيم وبمناسبة سريان الحالة الاستثنائية المعلن عنها، بإصلاحات جوهريّة للمنظومة القضائية والقانون المتعلّق بالمجلس الأعلى للقضاء”.

ولئن عبّر المجلس على تعذّر إبداء الرأي في مشروع المرسوم، فانّ ذلك لم يثنِه عن الإشارة إلى عديد مواطن الخلل فيه، منها ما يتعلّق بالاختصاص والآخر يتعلّق بما سمّاه الإجراءات. في الواقع أشار المجلس إلى أنّ “تعهده بالاستشارة يكون بموجب طلب في إبداء الرأي صادر مباشرة عن الجهة صاحبة المبادرة التشريعية” وهو في صورة الحال رئيس الجمهورية، في حين أنّ طلب الاستشارة ورد عليه من قبل وزيرة العدل والتي ليست مختصّة قانونا. من جهة أخرى، أشار المجلس إلى أنّ النص المعروض وجب أن يستوفي جميع مراحل تهيئته وإجراءات النظر الأولي فيه بما في ذلك إجراءات العرض على المجالس الوزارية المختصة، معتبرا بذلك أنّ إجراءات الاستشارة الماثلة أمامه تكون مختلّة باعتبار أنّ الملفّ خالٍ مما يفيد بأنّ الصيغة المعروضة على المجلس هي صيغة نهائية.

من حيث الإجراءات، اعتبر المجلس أنّ مشروع المرسوم استحدث صنفا جديدا من العدالة ألا وهو العدالة التصالحيّة وهي “آلية مستحدثة في فضّ النزاعات لم يتمّ اعتمادها سابقا في المنظومة القانونية والقضائية الوطنية والتي تعتمد على العدالة القضائية الصرفة عبر التقاضي أمام سائر المحاكم مع جواز الصلح في بعض الحالات، والعدالة الانتقالية القائمة على مسار متكامل يرتكز على كشف الحقيقة وجبر الضرر وضمانات عدم التكرار”.

واعتبر أنّ الدور الموكول للقاضي بمقتضى الفصل 102 من الدستور لا يستوعب هذا الدور مضيفا بأنّ المشروع أدخل تعديلا جوهريا في المنظومة القضائية من خلال إحداث محكمة استثنائية لا تندرج ضمن الأصناف الموجودة حاليا معتبرا أنّ إحداثها سينهي فعليّا وجود القطب القضائي الاقتصادي والمالي الحالي، ذلك أن كافة ملفات الفساد والقضايا المتشعبة المتعلقة بالمال العام والجرائم الاقتصادية والمالية المرتكبة في مجال التصرّف في المال العام على معنى الفصل 3 من القانون الأساسي عدد 77 لسنة 2016 المؤرخ في 2016 المتعلق بهذا القطب، سيتعهد بها القطب القضائي للصلح الجزائي سواء آليّا أو بطلب من المدعى عليه”.

كما اعتبر المجلس أنّ مشروع المرسوم المعروض يدخل إصلاحا جوهريا آخر اتصل بالتدخّل في المسارات الوظيفية للقضاة وتحديدا في تسميتهم أعضاء بالقطب القضائي للصلح الجزائي على غير الصيغ الدستورية والقانونية النافذة، حيث نصّ المرسوم على أن تسميتهم تتم بواسطة أمر رئاسي باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء وعلى أن الجلسة العامة لهذا القطب ستتولى تنظيم العمل بالقطب وستقترح نظامه الأساسي الذي ستتم المصادقة عليه بأمر.

من الضروري الإشارة الى كون الرأي المذكور مثّل آخر رأي يدلي به المجلس الأعلى للقضاء قبل أن يعلن سعيّد حلّه. في الواقع، تتابعت التهديدات من قبل الرئيس للقضاء منذ انطلاق التدابير الاستثنائيّة حيث لم ينفكّ يراوح بين توعّده للقضاة واتهامهم بالفساد وعدم رضاه على نسق عملهم من جهة، واستمالة رئيس المجلس من جهة أخرى للقبول بتنقيح قانون المجلس الأعلى للقضاء. وعلى كلّ حال، يبدو أنّ هناك علاقة وثيقة بين الرأي السلبي المتعلّق بالصلح الجزائي وقيام سعيّد بحلّ المجلس الأعلى للقضاء، وهو ما أكّده يوسف بوزاخر رئيس المجلس غداة إصدار المرسوم المتعلّق بإحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء.

الصلح الجزائي: التأسيس القضائي والاجتماعي والمالي للبناء القاعدي

عمليّا، يؤسس مشروع مرسوم الصلح الجزائي، في نسخته المسرّبة، لهيكل قضائي مختصّ ملحق بمحكمة الاستئناف يختصّ بإبرام الصلح الجزائي في الجرائم المالية والاقتصادية وهو “القطب القضائي للصلح الجزائي”. يتكوّن هذا الهيكل من 21 قاضيا من اختصاصات مختلفة على غرار المالي والاداري والمدني والجزائي والمالي والتجاري والعقاري… على أن يكونوا “من ذوي الكفاءة والأقدميّة” ولا تتجاوز المدة الفاصلة عن احالتهم على التقاعد 5 سنوات.

ولعلّ أخطر ما في تركيبة القطب القضائي للصلح الجزائي هو تسمية القضاة من قبل رئاسة الجمهورية باقتراح من المجلس الأعلى للقضاء في حين أنّ تسمية القضاة حسب الفصل 106 من الدستور تتم بأمر رئاسي حتما، ولكن بناء على رأي مطابق من المجلس الأعلى للقضاء. إنّ التكريس لهيكل قضائي مختصّ في قضايا الفساد واقتران تسميتهم بأمر رئاسي بناء على مقترح يتيم من المجلس الأعلى للقضاء يعدّ من قبيل إنشاء محاكم تحت إشراف السلطة التنفيذية، خرقا للدستور وضربا لمبدأ التفريق بين السلط، وهو توجّه يؤكّده مرسوم المجلس الأعلى المؤقت للقضاء الذي أصدره الرئيس منذ أيام.

يختصّ القطب القضائي للّصلح الجزائي بالقيام بالتتبعات وإبرام الصلح والسهر على تنفيذه وختمه الى جانب “مراجعة جميع ملفات الفساد المتوفرة بالنظر الى القائمة الأصليّة للأشخاص المعنيين بما في ذلك تلك التي تمّ النظر فيها من قبل هيئات ادارية أو قضائيّة أو شبه قضائيّة أخرى ولو صدر في شأنها حكم بات”. هذا وتنقسم الجرائم المالية والاقتصاديّة الى صنفين، الأول هو الجرائم الاقتصادية والمالية المرتكبة قبل سنة 2011 من قبل المتورطين مع النظام السابق، كما جاءت في تقرير اللجنة التي ترأسها المرحوم عبد الفتاح عمر، والثاني هو الملفات التي تعهّد بها القطب القضائي الاقتصادي والمالي، والمحالة للصلح بطلب من المعني بالأمر سواء كان ذلك أثناء نشر الدعوى أو بعد صدور حكم نهائي وباتّ.

وللقطب طريقتان للتعهّد. الأولى تكون بصفة آلية وحصريّة بجميع الدعاوى الجارية وتلك التي لا تزال في طور البحث وبصفة عامّة في جميع ملفات الفساد المضمنة بتقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة. والثانية عن طريق النظر في إجراءات الصلح الجزائي المتعلقة بقضايا الفساد والمحالة عليه من قبل القطب القضائي الاقتصادي بطلب من المدّعى عليه بعد مصادقة وكيل الجمهورية سواء كان ذلك أثناء نشر الدعوى أو بعد صدور حكم نهائي وباتّ في شأنها. وتثير طريقة التعهّد بطلب من المدعى عليه سؤالا يتعلّق بمدى إمكانية رفض وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس رفض المصادقة على الطلب.

بهذا المنظور، يؤسس هذا التعهّد لخرق قاعدة جوهريّة وهي اتصال القضاء حيث يفتح الباب على مصراعيه لإعادة فتح ملفات سبق فصلها سواء من قبل القضاء المالي أو الدوائر المتخصصة في العدالة الانتقالية أو غيرها من الهيئات الاداريّة أو القضائية أو شبه القضائية.

من جهة أخرى يضرب مشروع المرسوم مبدأ التقاضي على درجتين حيث حصّن أحكام القطب القضائي للصلح الجزائي بأن جعلها نهائيّة غير قابلة للطعن بأي طريقة من طرق الطعن القضائيّة، فاتحا طريقا وحيدة أمام طالب الصلح المعني في التظلّم أمام الجلسة العامّة للقطب والتي يكون قرارها نهائيا وباتّا.

بغضّ النظر عن القراءة القانونية لما سبق، يجب التساؤل جديّا عن الرسالة التي يريد رئيس الجمهوريّة إرسالها، بمقتضى المشروع، سواء إلى المتورطين في الفساد أو إلى عموم الشعب التونسي من خلال السماح لمن ثبت فسادهم بمقتضى حكم قضائي باتّ في طلب الصلح والتمتّع به رغم حسم القضاء فيه. أو ليس ذلك تأكيدا لزيف شعار محاربة الفساد والفاسدين؟

الشركات الأهليّة… الضلع الاجتماعي للبناء القاعدي؟

لعلّ المستجدّ في مشروع الصلح الجزائي اليوم هو الترابط الصريح بين الصلح بوصفه الأساس القضائي والمالي لمشروع البناء القاعدي من جهة وفكرة الشركات الأهليّة بوصفها الذراع “المؤسساتي” والامتداد الاجتماعي لهذا المشروع. ومن الضروري الإشارة الى كون قيس سعيّد ولئن عبّر منذ 2012 عن إيمانه بالصلح الجزائي كآلية لتوفير الموارد المالية واعادة توزيعها على المستوى المحلّي فانّ ربطها بالشركات الأهليّة بدأ يتضح لأوّل مرّة من خلال تصريحه بتاريخ 19 نوفمبر 2021 وتبلور من خلال مشروع مرسوم الصلح الجزائي.

إذ ينصّ مشروع المرسوم على بعث شركات أهليّة ذات نفع اجتماعي على مستوى المعتمديّات، لتدير وتتصرّف في المشاريع الراجعة لها، على أن تبقى المشاريع على ملكيّة جهة عموميّة “سيحدّدها قانون خاصّ”. يتكوّن رأس مال الشركات الأهليّة من مساهمات المتساكنين بحساب سهم لكل متساكن، بالإضافة إلى حصّة المعتمديّة من مردود الصلح الجزائي، التي تأخذ شكل مساهمة من “شركة المساهمات العامّة ذات النفع الاجتماعي”. هذه الأخيرة هي منشأة عموميّة خاضعة لإشراف مباشر من رئاسة الجمهورية، وهي بمثابة شركة أمّ لمختلف الشركات الأهليّة، وهي التي يعود لها القرار النهائي في اختيار المشاريع المنجزة في المعتمديات. وقد وضع مشروع المرسوم معايير عديدة لاختيار المشاريع، كمواطن الشغل التي تخلقها والمردوديّة الاقتصاديّة والماليّة ومدى تأسيسها “لروابط التضامن الإجتماعي في المستوى المحليّ”، والتعبير عن إرادة المتساكنين. لكن، ولئن كانت الشركات الأهلية تقترح ثلاثة مشاريع سنويا على شركة المساهمات العامّة، فإنّ هذه الأخيرة هي التي تقرّر المساهمة في رأس المال من عدمه، وكذلك حجم المساهمة.

عمليّا، يفضي إبرام الصلح وختمه من قبل القطب القضائي للصلح الجزائي إلى إيداع الأموال في الخزينة العامّة للدولة ومن ثمّ يتولى الآمر بالصرف لميزانية رئاسة الجمهورية تحويل الأموال إلى شركة المساهمات العامّة ذات النفع الاجتماعي باعتبارها الشركة الأمّ. كما تضطلع هذه الشركة بمسك وإدارة مساهماتها في الشركات الأهليّة ذات النفع الاجتماعي وذلك تحت الإشراف المباشر لرئاسة الجمهوريّة.

بعبارة أخرى، تشرف رئاسة الجمهوريّة على الأداة الماليّة والقضائية لتمويل الشركات الأهليّة من خلال تسميتها لأعضاء القطب القضائي للصلح وتصرّفها في الأموال المترتّبة عنه وتشرف كذلك على الشركات الأهليّة من خلال اتخاذ قرار المساهمة من عدمه في رأس مالها من طرف شركة المساهمات العامّة ذات النفع الاجتماعي وتتولّى ترتيب المعتمديات ذات الأولية كما تسلّط رقابتها اللاحقة على إدارة مشاريع هذه الشركات.

صناديق التمويل التضامني التشاركي… الضلع المالي للبناء القاعدي؟

ينصّ مشروع المرسوم على بعث صندوق وطني للتمويل التضامني التشاركي والذي يتمّ بعثه على مستوى شركة المساهمات العامّة ذات النفع الاجتماعي، الخاضعة لإشراف رئاسة الجمهورية. وتتمثّل مهمته في تنشيط شبكة الصناديق المحلية للتمويل التضامني التشاركي،تكوين موظفيها و ناشطيها والتصرّف في التدخلات الماليّة… ويستمدّ هذا الصندوق موارده من “المدخرات المرصودة من شركة المساهمات العامّة ذات النفع الاجتماعي، المدّخرات المرصودة من الصناديق الخاصّة المقررة في قانون الماليّة، الهبات واعتمادات أخرى”.

بدوره يبعث الصندوق الوطني صناديق محلية للتمويل التضامني التشاركي تكون امتدادا له على مستوى المعتمديات، لا تتمتع بالشخصيّة المعنويّة وتعمل تحت “إشراف ومتابعة ومراقبة الصندوق الوطني” بغرض القيام بتدخّلات اجتماعيّة مباشرة لتلبية “بعض حاجيات ذوي الاحتياجات الخاصة” على غرار الأدوية ومصاريف التداوي وتمويل المبادرات الحرّة الصغرى بفوائض لا تتجاوز 3%، على أن تتكوّن المشاريع المموّلة من هذه الصناديق من تكافل 5 أفراد على الأقلّ من باعثي المشاريع الكبرى. ويتمّ خصم نسبة 1% من التمويل بعنوان مساهمة في الصندوق المحلي وتخصيص حصّة من مرابيح المشاريع الصغرى يقدّر ب 5% لإعادة ضخّها في مشاريع صغرى أخرى.

ورغم أنّ هذه الصناديق، كما الشركات الأهليّة، تستلهم شعارات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، فإنّها تفتقد إلى شرط أساسيّ، وهو الاستقلاليّة عن السلطة. فهي أقرب إلى التعاضديّات المنظمة بقانون 1967، منها إلى مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني المنظمة بالقانون المؤرخ في 30 جوان 2020، والذي تجاهله تماما رئيس الدولة في مشروع الصّلح الجزائي. وفي حين خضع قانون 2020 إلى مسار تشريعي مضن وتشاركي، أفضى إلى نسخة مرضيّة عموما، فإنّ مشروع الصلح الجزائي صيغ على مقاس رئيس الدولة، ليؤسّس ذراعا اقتصاديّة واجتماعية خاضعة مباشرة له، قد تتحول بسهولة إلى أداة سيطرة وزبائنية. بهذا المنظور، لا تنفكّ النزعة المركزيّة لمشروع قيس سعيّد تتأكّد رويدا رويدا، إذ وإنّ قدّم الرئيس تصوّره على أنّه قاعدي، فانّ المركز ممثّلا في رئاسة الجمهوريّة يبقي بيده جميع الأوراق القضائيّة منها والمالية وكذلك التنمية على المستوى المحلّي، بالإضافة إلى مركزة السلطة السياسيّة عبر إضعاف المؤسّسة البرلمانيّة[2]. هكذا يتأكّد مضيّ قيس سعيّد في مشروعه، الذي يضع مرسوم الصلح الجزائي أولى لبناته القضائية والاقتصاديّة والاجتماعية، في انتظار التأسيس الدستوري الذي بدأ التمهيد له عبر الاستشارة الوطنيّة.

أضغطوا هنا للاطلاع على مشروع مرسوم الصلح الجزائي


[1] كلمة رئيس الجمهورية بمناسبة عيد الفطر بتاريخ 23 ماي 2020.

[2] في نفس الصدد يمكن مراجعة مقال “في رئاسويّة البناء القاعدي”، زياد كريشان، جريدة المغرب بتاريخ 25 جانفي 2022.

انشر المقال



متوفر من خلال:

قطاع خاص ، استقلال القضاء ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني