25 جويلية.. يوم استثنائي حمّال دلالات كثيرة


2021-09-27    |   

25 جويلية.. يوم استثنائي حمّال دلالات كثيرة

نشرت النسخة الأولى من هذه المقالة بتاريخ 27/09/2021 وعدل عليها بتاريخ 12/02/2021                                                                                                                                                                                                                                                                  

سطّر يوم 25 جويلية 2021، المصادف لذكرى إعلان الجمهوريّة، فصلاً جديداً للبلاد ضمن طيّات أزمة مركّبة وممتدّة. وعليه، أُضيف هذا اليوم، إلى رزنامة المواعيد التأسيسية في التاريخ السياسي والدستوري للبلاد. وإن سبقت يوم 25 سياقات وأحداث وتفاصيل، ولحقته أخرى، يبقى أنّ اليوم ذاته كان مكثّفاً، بأحداثه المتعدّدة، لمشهد أزمة مركّبة. وهو مشهد قاطع يعبّر عن قديم لا زال بين زوال وترميم وجديد غامض لم تكتمل بعد ملامحه، في ظلّ تزايد المخاوف من ذبول ربيع ديمقراطيّة ناشئة.

 

الاحتجاجات.. السياق والتفصيل

لم تكن أحداث صباح يوم 25 جويلية إلّا العنصر المباشر والمحفّز لصياغة مشهد المساء. شهد صباح يوم ذلك الأحد تجمّعات احتجاجية، سنقف لاحقاً على تفاصيلها، تمركزت في العاصمة أمام مقرّ البرلمان في باردو وبعض الجهات. جاءتْ هذه التجمّعات تفاعلاً مع دعوات أطلقتها مجموعات على فيسبوك، لعلّ أهمّها ما صدر عن مجموعة “NON aux indemnisations aux nahdhaouis” (لا للتعويضات للنهضويين) ذات المتابعة اللافتة، إذ تضمّ المجموعة “المغلقة” حالياً نحو 200 ألف متابع، وهي التي أُنشئت في تاريخ 16 جويلية 2021. لكنّ أصحابها يشيرون إلى أنّ المجموعة الأصلية التي تمّ إغلاقها كانت تضمّ 700 ألف متابع. تصدّرت هذه المجموعة الدعوات إلى الاحتجاج يوم 25 جويلية، بالإضافة إلى تداول بيانات صادرة عن هياكل تصدر بيانات فيسبوكية لا أثر قانوني لوجودها الفعلي على غرار “المجلس الأعلى للشباب” و”جبهة الإنقاذ”، وهي تشكيلات مجموعات شبابية محدودة وغير معروفة مطعّمة أحياناً بشخصيّات سياسية غير وازنة. في الواقع، إنّ الدعوة إلى الاحتجاج يوم 25 جويلية ليست مستجدّة: فقد جرتْ العادة أن يدعو نشطاء أو مدوّنون للاحتجاج في هذا اليوم لما يحمله من رمزيّة مزدوجة: عيد الجمهوريّة وذكرى اغتيال المعارض محمّد البراهمي عام 2013. بيد أنّ المستجدّ في دعوة هذا العام هو السياق، سياق الأزمة السياسية المؤسّساتية التي بلغت درجة القطيعة، تحديداً بين رئاسة الجمهوريّة من جهة والحكومة والأغلبية البرلمانية من جهة أخرى، وثانياً استفحال الأزمة الوبائية بسبب فيروس كورونا. وعنوان الدعوة أيضاً مستجدّ، يعبّر عنه بوضوح اسم المجموعة الفيسبوكية الأكبر التي دعت إلى الاحتجاج (لا للتعويضات للنهضويين).

بداية شهر جويلية، انتشر فيديو بشكل واسع على منصّات التواصل الاجتماعي، لرئيس مجلس شورى حركة النهضة عبد الكريم الهاروني، يخطب في مجموعة من ضحايا الاستبداد مُنتقداً تعطيل الحكومة لانطلاق عمل “صندوق الكرامة” المخصّص لجبر الضرر المادّي لضحايا الاستبداد في إطار تنفيذ العدالة الانتقالية. أثار هذا الفيديو موجة غضب واسع، بخاصّة لتزامنه مع تسجيل البلاد مستويات قياسية من الإصابات والوفيات بسبب كورونا. فقد ظهر فيديو الهاروني إلى جانب موجة مقاطع الفيديو القادمة من الجهات التي تظهر المرضى على أروقة المستشفيات بدون أوكسجين. وكان العنوان الغالب في الصفحات أنّ الهاروني يطلب من الحكومة “صرف التعويضات البالغة 3000 مليون دينار قبل 25 جويلية”. في أجواء الحنق والغضب، خرج الهاروني على الإعلام ليخفّف من أثر الفيديو ويردّ على توظيفه في سياق التحشيد لدعوات الخروج إلى الشارع في اليوم الموعود: قال “كلمة التعويض كذبة” و”تضمّن صندوق التعويضات 3000 مليون دينار كذبة وأطالب بفتح تحقيق” و”أنا طالبت بتوفير مقرّ لصندوق الكرامة قبل 25 جويلية”. الناطق الرسمي باسم النهضة فتحي العيادي، صرّح يوم 12 جويلية 2021 أنّ “حركة النهضة لا تطالب بالتعويضات وهذه إشاعة”. وأصدر الحزب بياناً في اليوم التالي، معلنًا فتح باب التبرّعات لمنخرطيه لمواجهة أزمة كورونا، حتّى إنّه نظّم يوم 16 جويلية ندوة صحافية “لتوضيح بعض سياسات الحركة” تضمّنت تأكيد أنّ “موضوع التعويضات مغلوط شكلاً ومضموناً”، وأُعلن عن تبرّع رئيس الحركة والبرلمان راشد الغنوشي بـ 80 ألف دينار لاقتناء أدوات طبّية للمستشفيات. كان واضحاً أنّ تقديراً داخل الحزب يعي وقع إثارة ملفّ تعويض ضحايا الاستبداد على الرأي العامّ وأقلّه في دفع التحشيد للخروج إلى الشارع، ولذلك كان السعي إلى تقليص الخسائر. وقد كان المعطى المسرَّب حول قضاء رئيس الحكومة هشام المشيشي وبعض الوزراء عطل نهاية الأسبوع في فندق فخم في مدينة سياحية، في خضمّ انهيار المنظومة الصحّية في أيّام جويلية الصيفية، دافعاً إضافياً في مسار تحشيد فورة الغضب لإسقاط “المنظومة”. بذلك، كانت الأجواء مثالية لاستثارة الشارع.

لكن، هل خرج الناس في اليوم الموعود بأعداد كبيرة غير مسبوقة؟ كلا. إنّما تجمّع مئات الأشخاص أمام مقرّ البرلمان مطالبين بحلّه وقد منعهم الأمن من التقدّم إلى البوّابات الرئيسية. كما أظهرت مقاطع فيديو مسيرات تضمّ عشرات أو بضع مئات في بعض المدن، تخلّلت بعضها اشتباكات مع الأمن على غرار ما حصل في مدينة نابل. لكنّ المستجدّ واللافت هو توجُّه المسيرات في بعض المدن إلى مقرّات حركة النهضة. فقد تعرّض مقرّها في توزر، جنوبي البلاد، للاقتحام وتخريب محتوياته. كما تجمهر المحتجّون أمام مقرّاتها في سوسة والقيروان حيث أُتلفت لافتة الحزب. والمثير للانتباه أيضاً تسجيل اقتحام مقرّ الحزب الدستوري الحرّ في سليانة، مع الإشارة إلى أنّ هذا الحزب المعارض أعلن تبرّؤه مسبقاً من دعوات الاحتجاج يوم 25 جويلية. سؤالان حيويان في هذا المضمار: هل توجّه المحتجّون بتلقائيّة إلى مقرّات الأحزاب أم بتوجيه قيادي؟ وهل باغتت هذه التطوّرات الميدانية أجهزة الأمن التي لم تتصدَّ في النهاية لهذه “الانفلاتات”؟ لا تبدو الإجابة قاطعة، وإن كان وجود قيادة شجّعت المحتجّين على التوجّه إلى مقرّات الأحزاب أمراً مرجّحاً.

في هذا الصدد، انتهى الباحث في علم الاجتماع ماهر الزغلامي في حديثه مع “المفكّرة” وإثر ملاحظة ميدانية، إلى اعتبار أنّ التعبيرات الاحتجاجية، بما فيها حرق المقرّات، هي أقرب إلى مثيِّر سياسي مبرمَج وليست فعلاً طوعياً وتلقائياً. ويضيف أنّ هذا الفعل التحم بنوع من المقبوليّة الاجتماعية، أي أنّه لم يلقَ تأييداً واسعاً أو معارضة واضحة على مستوى الممارسة. وبهذا المعنى، تكون الاستجابة المجتمعية للمثير السياسي محدودة ونسبية. تسترجع هذه النقطة إحدى مرتكزات خطاب رئيس الجمهوريّة وهو موقفه الحادّ من المنظومة الحزبية باعتبارها تمثيلاً للنخبة السياسية، التي لا تستجيب لطموحات الشعب في أدنى توصيف، والتي نكثت الوعود وخانتْ الشعب في أقصاها. كان صعود قيس سعيِّد في خريف 2019 تعبيراً جلياً عن لفظ الجماعة الشعبية للأحزاب برمّتها، وليس لحزب سياسيّ بعينه. وهو ما كانت تؤكّده استطلاعات الرأي التي تظهّر تذيّل الأحزاب لسلّم الثقة لدى التونسيين.

إضافة إلى ذلك، أدّت الفسيفسائيّة البرلمانية في انتخابات 2019 أوّلاً، إلى إفراز توازنات غير قادرة على إنتاج أغلبيّة حكم ثابتة ومتوائمة ممّا أدّى إلى حالة من اللا-استقرار السياسي والحكومي. كما تسبّبت لاحقاً في إخراج مشهديّة منفّرة بسبب فشل أحزاب البرلمان في إدارة خلافاتها عبر استثمار بعضها في التجاذبات. وهو ما انتهى إلى جعل صورة البرلمان، الذي بات يُوصَف بـ “السيرك” في أدنى درجات السلبية. لم يكن من الصعب، في أيّ تجمّعات احتجاجية غير متحزّبة، كتجمّعات يوم 25 جويلية، أن يقع توجيه موقع الاحتجاج من مراكز السيادة إلى مقرّات الأحزاب، فذلك يعني انتقالاً في حدّة الاحتجاج: من مقولة الاستياء والمطالَبة إلى فعل الغضب والتصعيد.

 

رئيس استثنائي يعلن الحالة الاستثنائية

مثّلت الأحداث الاحتجاجية، بغضّ النظر عن محدوديّتها في الواقع، دافعاً مثالياً لرئيس الجمهوريّة في اتّجاه استدعاء مقولة “الخطر الداهم” لتطبيق الحالة الاستثنائية. ولذلك دعا سعيِّد قيادات عسكرية وأمنية إلى اجتماع مساء 25 جويلية لإعلان الحالة الاستثنائية، مع الإشارة إلى أنّه اختار، منذ اشتداد الأزمة السياسية، الاكتفاء بعقد اجتماعات مع هذه القيادات من دون دعوة مجلس الأمن القومي. وقد هدف من ذلك إلى إقصاء خصومه داخل الحكم، رئيسَيْ الحكومة والبرلمان، عن المشاركة باعتبار عضويَتهما في المجلس المذكور. عرّج رئيس الدولة، في كلمته، إلى “عمليّات الحرق والنهب” محذّراً من “دفع الأموال في الأحياء للاقتتال الداخلي”. وكأنّه بذلك يختلق خطراً يُعبِّد له الطريق لتطبيق الحالة الاستثنائية. وما يزيد شبهة اختلاق هذا الخطر الأمني هو إعلان رئيس الجمهوريّة بنفسه أنّه كان يُفترَض أن يتّخذ قرار تعليق أعمال البرلمان “منذ أشهر”. وهو ما يعزّز فكرة أنّ الحالة الاستثنائية لم تكن وليدة يوم استثنائي بقدر ما كانت وليدة وضع استثنائي برمّته.

بيد أنّ العنصر اللافت في كلمة رئيس الدولة هو البُعد الاحتفائي بأحداث ذالك النهار، باعتبارها مصادَقة على موقفه السلبي من الحكومة والبرلمان والأحزاب. ويتكثّف هذا البعد بعبارته أنّ “الشعب يواصل ثورته في ظلّ الشرعيّة”، بما يستعيد مقولة “الشعب يريد”، باعتبار أنّ رئيس الدولة، هنا، ليس إلّا مستجيباً لها بعنوان الإنقاذ. كما استطرد رئيس الدولة في كلمته في الحديث عن مظاهر الأزمة مثل “تهاوي المرافق العمومية” و”العبث بالدولة ومقدراتها” متحدّثاً بوضوح عن “إنقاذ الدولة التونسية والمجتمع التونسي”. تحدّث رئيس الدولة بوصفه الممثّل الأعلى للدولة والحامي لمصالحها ممَّن يتصرّفون فيها كأنّها “ملكهم الخاصّ”، وباعتبار أنّ الشعب يستدعي الدولة الحامية، التي يمثّلها الرئيس، في مواجهة السلطة المهترئة، التي تمثّلها أغلبيّة الهيئة التشريعية، ودائمًا عبر استعادة ثنائيّة المشروعيّة والشرعيّة. كما لم يفوّت الفرصة في كلمته لتأكيد أنّ القوانين الصادرة لم تكن تعبّر عن الإرادة العامّة. في هذا الجانب، يؤكّد الباحث في علم الاجتماع ماهر الزغلامي، في حديثه مع “المفكّرة”، أنّ الخطاب السياسي للرئيس كان بمثابة تكثيف رسمي للمثيِّر الاحتجاجي من خلال تعديد مظاهر الأزمة، ولكن أيضاً استجابة سياسية وترجمة إيحائية بإنهاء الأزمة والقطع معها جذرياً. لقد كانت الحالة الاستثنائية، بتعليق عمل مؤسّسة البرلمان وإعفاء رئيس الحكومة، أي بتغيير قواعد الحكم المُدَسترة، عملًا قصووياً مباغتاً، يغيّر التوازنات ولكنّه يعيد توزيع الأزمة من جديد.

لكن تجب الملاحظة أنّ كلمة إعلان الحالة الاستثنائية عكست منذ البداية عنصر غياب التخطيط. فقد أعلن رئيس الدولة عن قراره بتولّي رئاسة النيابة العمومية، ليتراجع عنه لاحقاً. وإذ أكّد أنّ القرارات ستصدر في شكل مراسيم صدرتْ جميع القرارات لاحقاً في شكل أوامر رئاسية. ولا يُظَنّ أنّ أستاذ القانون الدستوري قد ذكر غلطاً المراسيم في البداية. وتحدّث بأنّ تفعيل القرارات سيتمّ “في الساعات القادمة”. والحال أنّ قرار تعليق اختصاصات البرلمان صدر بعد أربعة أيّام في الرائد الرسمي (عدد 29 جويلية 2021)، فيما لم يتمّ بعد زهاء شهرَين تكليف رئيس حكومة جديد. فبقدر ما ظهرت إرادة إعلان الحالة الاستثنائية بتلك التدابير باعتبار أنّه كان يجب اتّخاذ القرارات “منذ أشهر” بعبارة الرئيس، غاب، في المقابل، التخطيط لتنزيل الحالة الاستثنائية وتحديد معالم إدارتها.

من الاحتجاج إلى الابتهاج.. أيّ دلالة؟

إثر إعلان التدابير الاستثنائية، تحوّلت الساحات والشوارع في جلّ مدن البلاد إلى مساحة للتجمّعات المرحّبة بالقرارات المُعلَنة في أجواء احتفائية بامتياز، رغم سريان حظر التجوّل الليلي. انقلب معها مشهد الاحتجاج في النهار إلى مشهد ابتهاج في الليل. لم يكن ردّ الفعل مفاجئ، كما لم يكن سؤال دستوريّة القرارات وشرعيّتها مطروحاً لدى فريق المبتهجين، ليس لأنّها مسألة ثانوية وحسب، بل لأنّها مسألة مشبوهة يثيرها معارضو هذه القرارات لا أكثر. إنّ تعليق أعمال البرلمان، ورفع الحصانة عن نوّابه، وإعفاء رئيس الحكومة، يعني، بالنسبة للمحتفين، استجابة لمطالب “الشعب” ضدّ النخبة “الفاسدة”.

للمفارقة، تذكّر مظاهر الاحتفال ليلة 25 بأجواء الاحتفال بفوز قيس سعيِّد في الدور الثاني، كأنّه انتصار ثانٍ للشخص نفسه في مواجهة الجهة نفسها. يحلّل ماهر الزغلامي لحظة الاحتفالات الليلية، سوسيولوجياً، باعتبارها وبلا ريب استجابة عاطفية لما أوحى (الذي ليس بالضرورة مفهوماً في الوقت نفسه) بالإنهاء الجذري للأزمة. وهي استجابة تتداخل فيها عوامل عديدة، من أهمّها الاحتجاز النفسي الناجم عن طول فترة الحجر الصحّي، التوتّر المرتفع الناجم عن الضغط الإعلامي الناقل لخطاب سياسي لا يقلّ توتّراً، بما يفرز حالة انفصامية تزدري كلّ الفعل السياسي. يكثّف الباحث في علم الاجتماع تقديره بقوله إنّ احتفالات الليل كانت تعبيراً عن كسر حاجز نفسي أكثر من كونها فهم واضح لحدث سياسي.

مثّل حدث الحالة الاستثنائية تقويماً جديداً بالنسبة إلى العموم، وكان حدثاً مؤسّساً مثل حدث الثورة أو نتيجة انتخابات، ومثلها يبدأ من جديد عدّاد التفاؤل من القادم بعد طيّ صفحة الماضي قسرياً. تظهر أرقام البارومتر السياسي التي تعدّها دورياً شركة “سيغما كونساي” (Sigma Conseil) أنّ نسبة التفاؤل منتصف شهر أوت، أي بعد ثلاثة أسابيع من الحالة الاستثنائية، بلغت 77.1%، وهي نسبة قياسية لم تُسجَّل منذ عام 2012 قبل تسع سنوات. ليست النسبة مفاجئة في مطلقها، فهي تعبير عن ذروة أجواء الاحتفاء بالقرارات، مع الملاحظة أنّ قرار رفع الحصانة عن النوّاب كان الأكثر شعبيّة، حسب الجهة نفسها، بمساندة مطلقة بنسبة 87.3% (أكثر من ستّ نقاط من قرار تعليق البرلمان). وهذا الأمر يشير أوّلاً، إلى أنّ الموقف السلبي في مرتبة أولى هو من النوّاب وليس من المؤسّسة البرلمانية بذاتها. كما يؤكّد القناعة بأنّ الحصانة البرلمانية تحوّلت إلى مطيّة لممارسة الفساد والإفلات من العقاب. في جانب آخر، لقد ساهم ضعف الثقافة الديمقراطية في المجتمع، وثمّ الربط في المخيّلة العامّة بين المسار التأسيسي الديمقراطي بعد الثورة وتعطّل المنجز الاقتصادي والاجتماعي، في هشاشة الحاضنة الشعبية للخيار الديمقراطي مع هشاشة تَبْيِئَة شروطه على مدار السنوات المنقضية. ولذلك تكثّفت في المقابل المقبوليّة الشعبية لخيار القطيعة أو طيّ صفحة الماضي، بغضّ النظر عن العنوان ومهما كان الثمن. لم تجد الشعبويّة بيئة مثالية للانتشار فحسب، ولكن أيضًا للمضيّ إلى أقصى درجات خياراتها مع شارع يريد في عمومه معاقبة السلطة بكلّ تمثّلاتها، ليس السلطة السياسية التقليدية فقط، بل أيضًا سلطة المال والإعلام وحتّى المجتمع المدني.

إنّ قراءة اتّجاهات التصويت على مدى العقد المنصرم تُبيّن أنّ أغلب التونسيين لا يهتمّون بالبرامج، أو الأصحّ لا دليل على أنّهم اهتمّوا بها أو صوّتوا على أساسها سابقاً. إذ ينصبّ الاختيار على القدرة على تحقيق المأمول عبر العرض السياسي العامّ بعيداً عن قياس الأداء. فقد كانت النهضة تمثّل عنوان تغيير و”تطهير الدولة” في انتخابات 2011. وكان نداء تونس يمثّل عنوان “هيبة الدولة” في انتخابات 2014، وظهر قيس سعيِّد بعنوان “أَخْلَقَة الدولة” عام 2019. وهو العنوان الذي استثمره لاحقاً في استهداف منظومة الحكم من الداخل، عبر استمرار تصدير تمايزه عنها قبل انقضاضه على قواعد اللعبة. ولقد تطوّر صراعه في مواجهة خصومه من صراع نفوذ في مرحلة أولى إثر انتخابات 2019 إلى صراع صلاحيّات، مع غياب المحكمة الدستورية، ليتحوّل مع الحالة الاستثنائية إلى صراع وجود، فلم يكن تعليق البرلمان إلّا تحييداً لوجود النخبة الحزبية في السلطة، بشكل مؤقّت، ولكن قد يُستدام في شكل خيارات تأسيسية تتعلّق بالبناء الدستوري أو القانون الانتخابي المنتظَر.

لا غرو أنّ يوم 25 جويلية 2021 يوم قاطع في التاريخ السياسي المعاصر لتونس عموماً، وفي سيرورة البناء الديمقراطي منذ عقد. وتعكس أحداثه من ساعات الصباح إلى المساء عمق الأزمة المركّبة في البلاد، التي لا تُمثّل الأزمة السياسية فيها إلّا قمّة جبل الجليد الظاهرة، ووراءها أزمات اقتصادية واجتماعية وثقافية قد تكون أشدّ وقعاً. ولا يزال الغموض هو العنصر السائد لحالة استثنائية أعلنها رجل استثنائي بما يمهّد لنتيجة استثنائية. يعتبر الفيلسوف الإيطالي المعاصر أغامبين الحالة الاستثنائية نقطة المأزق بين القانون العامّ والشأن السياسي، وتُبيِّن جميع المؤشّرات أنّ حالة الاستثناء ليست فاصلة قبل العودة إلى الوضع الدستوري السابق، بل بداية لمرحلة انتقالية جديدة ستنتهي إلى وضع مختلف عن سابقه. ويبقى السؤال حول مدى جذريّة هذا الاختلاف وآثاره على مستقبل ديمقراطيّة ناشئة وهشّة.

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة

لقراءة المقال باللغة الإنجليزية 

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني