“تقاضٍ استراتيجي” حول الفصل 230 في تونس: المثلية ليست جرما


2021-12-20    |   

“تقاضٍ استراتيجي” حول الفصل 230 في تونس: المثلية ليست جرما

نظّمت كلّ من الجمعية التونسية للعدالة والمساواة “دمج” والجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية ومنظمة محامون بلا حدود نقطة إعلامية بتاريخ 16 ديسمبر 2021 أمام مقرّ محكمة التعقيب بمناسبة تقديمهم ملف التقاضي الاستراتيجي الذي يخوضونه حول الفصل 230 من المجلة الجزائية والمجرّم للمثلية الجنسية في تونس. تناول هذا الملف قضيّة شابّين يبلغان من العمر 26 سنة تمّ سجنُهما لمدّة سنة بتهمة اللواط بعد أن توجّه أحدهما لتقديم شكاية لدى مركز للأمن قصد استرجاع حقّه في قضية أخرى، ليجدا نفسيهما أمام تتبعات قضائية لا شأن لها بالقضية الأصلية وعقوبة سجنية ثقيلة تعصف بحياتهما وتدمّرها. 

مقابل تناقضات مواقف الدولة وتجريمها الممنهج لأشخاص ذي هوية جندرية مختلفة، تخوض الجمعيات هذا التقاضي الاستراتيجي أملا في أن يكون لمحكمة التعقيب الكلمة الفصل وأن تحسم بضمان الحريات الفردية للأشخاص. 

نقطة إعلامية أمام محكمة التعقيب

ضحايا الفصل 230: بين تعسّف البوليس وتملّص القضاة 

تمّ إيقاف ضحيّتيْ ما يُعرف بقضية الكاف في جوان 2020، بعدما توجّه أحدهما لتقديم شكاية ضدّ الآخر في مركز الشرطة لاسترجاع حقّه. ما بدأ كخلاف بسيط بين شابّين يبلغان من العمر 26 سنة ويعيشان في ظروف صعبة، انتهى باتهام لكلا منهما من قبل الأعوان بممارسة اللواط وبعقوبة سجنية تعدّ من أثقل ما تم إصداره من أحكام في مثل هذه القضايا إلى هذا اليوم. 

انطلقت التتبعات القضائية ضدهما دون وجود أي أثر ماديّ في الملف يوثّق إذن النيابة العمومية بانطلاق الأبحاث، بحسب ما صرّحت به المحامية حسينة الدراجي، لتنتهي بالحكم بسجنهما لمدة سنتين ابتدائيا، ثم تخفيفها لسنة نظرا لصعوبة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشانها. عقوبة سجنية مهينة جاءت لتعمّق من هشاشتهما ولتعصف بحياتهما وعلاقاتهما بعائلتيهما. إذ واجها تبعات كثيرة على غرار انقطاع طردهما من بيوتهما. ولم تقتصر معاناتهما على هذا فحسب، فقد تسببت هذه التهمة في قطع أرزاقهما بطردهما من عملهما وعدم قدرتهما على مزاولة أنشطة أخرى خصوصا بعد تسجيل التتبعات ببطاقة السوابق العدلية. فحُرما بذلك من أي فرصة للالتحاق بالوظيفة العمومية ومن مواصلة التكوين بالنسبة لإحدى الضحيتيْن. تهمة لا شأن لها بالقضية الأصلية، جاءت لتعصف بحياتهما، وتتركهما في الشارع من دون مأوى أو عائلة وتحت وطأة الرفض المجتمعي. 

بعد إتمام الأعمال البحثية التي اقتصرتْ على الاستماع، في ظلّ رفض المتهميْن الخضوع للفحص الشرجي، صدر الحكم الابتدائي يوم 06 جوان 2020 وقضى بسجنهما لمدة سنتين دون أيّ تعليل لهذا الحكم من الدائرة القضائية ليتمّ تخفيضه بعد الطعن فيه أمام محكمة الاستئناف في جويلية 2020 إلى سنة نافذة قضياها بين 4 سجون في ظروف صعبة جدا.

رغم أن الفصل 230 يقتضي حالة التلبّس لإقرار الجريمة وهو ما لم يكن واقعا طبعا بقضية الحال ورغم كل التجاوزات الإجرائية وعدم تقديم أية إثباتات، ارتأى القضاة الحكم بالإدانة واعتبار رفض المتّهمين الخضوع للفحص الشرجي كدليل إدانة ضدّهم. في هذا الإطار، عبّرت المحامية عن استنكارها للحكم الصادر بحجّة أنّه يستند إلى فصل غير دستوري. ففي ظل تأكيد عدة فصول في الدستور على المساواة بين المواطنين وعلى وجوب حماية الحرمة الجسدية من قبل الدولة وعلى ضمان هذه الأخيرة للحريات الفردية، يصرّ القضاة على مواصلة تطبيق هذا الفصل متملّصين بذلك من مسؤوليتهم الدستورية بحماية الحقوق والحريات. كما استنكر سيف العيادي (ممثّل عن جمعية دمج) اعتبار رفض الخضوع للفحص الشرجي كدليل إدانة من قبل القضاة مذكّرا أنّ اللجنة الأممية لمكافحة التعذيب فد اعتبرت هذا الفحص انتهاكا للكرامة الإنسانية وتعدّيا صارخا على الحرمة الجسدية. فكيف يكون رفض التعذيب أو انتهاك الكرامة دليلا على ارتكاب الجرم؟ وعليه خلص العيادي أن هذا التمشي إنما يسلب المتهمين قرينة براءتهم وحقهم في الدفاع، ويتعارض تماما مع مبادئ المحاكمة العادلة ويعكس بشكل واضح استقالة القضاة وتملّصهم من تحّمّل مسؤولياتهم للدفاع عن الحقوق والحريات وتحقيق العدالة. 

تعهدات واهية للدولة وفوضى المؤسسات

ضمّت الندوة الصحفية أيضا ممثّلا عن الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب الذي كان حاضرا للتأكيد بأن الهيئة تعمل في إطار تعهّد الدولة التونسية ومصادقتها على اتفاقية مناهضة التعذيب والبروتوكول الاختياري التابع لها والذي أرسى اللجنة الفرعية لمناهضة التعذيب. وقد قامت هذه الأخيرة بتضمين عدّة قرارات على الدول الأعضاء احترامها، أهمّها أنه من الناحية الطبية لا يمكن للفحص الشرجي أن يؤدي إلى إثبات الممارسة المثلية وهو بالتالي لا يعدّ دليلا طبيّا يمكن أن يستند عليه القاضي لإثبات الإدانة. كما أقرّت هذه اللجنة أنّ ممارسة هذا الفحص من قبل الدول إذا ما تمّ قسريّا على الأفراد يرتقي لجريمة التعذيب وأنه إذا ما تمّ رضائيا فهو انتهاك للكرامة واعتداء على الحرمة الجسدية. وفي هذا الإطار، ذكّر لطفي عزّ الدين الممثل عن الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب أن الهيئة ملزمة بتنفيذ هذه التوصيات وهي تعمل على هديها. إضافة إلى ذلك، أكّد لطفي عزّ الدين على دور الهيئة في متابعة ومراقبة مدى التزام الدولة التونسية بتعهداتها، خصوصا وأن هذه الأخيرة كانت قد تعهّدت سنة 2017 خلال الدورة 36 لمجلس حقوق الإنسان بالتوقف عن ممارسة الفحوصات الشرجية القسرية. ودعا بذلك السلطة القضائية أن تلعب دورها في حماية الحقوق والحريات وعدم الالتجاء لمثل هذه الاختبارات. كما دعا عموم المواطنين لتقديم شكايات لدى الهيئة في حال إجبارهم على القيام بالفحص الشرجي لتقوم هي بعد ذلك بإحالة الأشخاص الذين ينفّذونه على القضاء بتهمة التعذيب. 

على صعيد آخر، وجب التذكير  بالموقف الواضح الذي كان قد صدر عن عمادة الأطباء بتونس والذي طالبت من خلاله جميع الأطباء التونسيين بعدم  إجراء الفحص الشرجي  الذي يتعارض وأخلاقيات المهنة الطبية. وقد دعا لطفي عزّ الدين الأطباء إلى عدم الخوف والامتناع عن إجراء الفحص الشرجي حتى وإن تلقوا تسخيرا من وكيل الجمهورية معلّلا بأن الأطباء يتحلّون بحماية متعددة؛ حماية توفّرها العمادة وحماية مستمدة من التعهّد الرسمي للدولة التونسية وأخرى تستند على عدم وجود أي دلالة علمية للفحص. 

من جهة أخرى، استنكر سيف العيادي الممثل عن جمعية دمج استمرار تطبيق الفصل 230 على مرور أكثر من 100 سنة رغم غياب الركن المادي للجريمتين المقدمتين به ألا وهما اللواط والمساحقة وعدم تعريفهما أو تقديم الأفعال المتعلقة بهما. وهو ما يفتح المجال لباحث البداية بأن يتوسّع في تأويل الفصل وأن يقوم باستثارة الجريمة. وفي غياب أي إمكانية لتأكيد الجريمة في حالة تلبّس، يقوم الباحث بتوجيه التهم للأفراد بناء على مظهرهم الخارجي أو طريقة لباسهم أو حديثهم أو عند مخالفتهم لمعاييره المجتمعية أو حتى عند حملهم لشعارات أو ملصقات تعود لجمعيات مدافعة عن مجتمع ال”م.ع”. وفي بعض الأحيان، يقوم بالاعتداء على المعطيات الشخصية للأفراد أو اعتبار الواقي الذكري على سبيل المثال كدليل إدانة وهو ما يتناقض تماما مع سياسة الدولة التي تهدف لمكافحة الأمراض المنقولة جنسيا عبر توزيعه مجانا للمواطنين. إنّ هذه الممارسة الاعتباطية التي لا تقوم على أسس قانونية تُفضي بطريقة ممنهجة إلى تجريم الأشخاص المنتمين لمجتمع ال”م.ع” على أساس هوياتهم الجندرية لا الأفعال. كما أكّد العيادي أخيرًا بأن توجّه الجمعيات لمحكمة التعقيب في 16 ديسمبر 2021، يرمي لانتزاع موقف واضح من الدولة التونسية من الفصل 230 عبر إحدى سلطها، قائلا “لا زلنا نؤمن بأنّ القضاء التونسي سُينصف ضحايا الفصل 230 نظرا لما أصدرته محكمة التعقيب من أحكام مشرّفة تحمي الحريات الفردية، وإن لم يتحقق ذلك فسنتوجه إلى القضاء الدولي لمقاضاة الدولة التونسية“. 

تذكير بالتجربة اللبنانية

يذكر أن المنظمات الحقوقية العاملة ومنها المفكرة القانونية كانت نجحتْ خلال فترتيْ 2012 في انتزاع قرارات من نقابة الأطباء في بيروت ووزارة العدل بوقف الفحوصات الشرجية في لبنان وفي وقف هذه الفحوصات فعليا في 2014. كما أعدّت المفكرة القانونية بالتعاون مع جمعية حلم (جمعية تعنى بحقوق المثليين) مرافعة نموذجية استُخدمت للدفاع عن الأشخاص المدّعى عليهم أمام محاكم مختلفة على خلفية قيامهم بعلاقات مثلية، أحيانا في إطار تقاضٍ استراتيجي. بنتيجة ذلك، صدرتْ أحكامٌ عدّة عن المراجع الابتدائية والاستئنافية بإبطال متابعة هؤلاء. من أهمّ هذه الأحكام الحكم الصادر في 2017 عن القاضي المنفرد الجزائي في المتن ربيع معلوف والذي اعتبر أن المثلية حق طبيعي يبرأ من أي عقوبة من يمارسه من دون تجاوز. وقد انتهى إلى ذلك بعدما ذكّر أن الدور الأول والأساس للمحكمة هو حماية الحريات العامة وصون حقوق الإنسان بما يحفظ له كيانه وكرامته ضمن المجتمع الذي يعيش فيه دون تمييز أو تفضيل لأي فرد على آخر.    


1 الفصل 230، تاريخ من تجريم المثلية الجنسية في تونس، لرامي خويلي ودانييل ليفين سباوند.

2  مضافة من المحرر.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تونس ، حريات ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، مساواة ، احتجاز وتعذيب ، جندر ، تقاضي استراتيجي ، المرصد القضائي ، محاكم مدنية ، محاكم جزائية ، فئات مهمشة ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني