المحكمة الجنائية الدولية والارتياب الفلسطيني المشروع


2024-04-09    |   

المحكمة الجنائية الدولية والارتياب الفلسطيني المشروع
رسم رائد شرف

وأنت تتنقّل بين صفحات الموقع الإلكتروني الرسمي للمحكمة الجنائية الدولية، تُطالعك عبارةٌ ثابتة باللغة الإنكليزية في رأس كلّ صفحة، تعريبها: “محاكمة الأفراد بتهمة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية والعدوان”، وهو الدور الرئيسي للمحكمة. وقد تظنّ، أنت الذي تشهد الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في حق الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر 2023، أنّك عند ولوج الخانة المخصّصة للمتّهمين أمام المحكمة، ستجد على الأقل قائدًا أو اثنين من قادة الكيان. ولكنك في الواقع ستجد صورًا لحفنة من مجرمي الحروب، معظمهم قادة جيوش أو ميليشيات أو مسؤولين حكوميين أفارقة، وبعضٌ آخر قليل من جورجيا.

تستمرّ بالبحث، فتجد في خانة “أوضاع قيد التحقيق” صفحة مخصّصة لـ “دولة فلسطين” حيث يظهر أنّ تحقيقًا قد فُتح في الحالة في تاريخ 3 آذار 2021، وذلك بعد أن أعلنت الدائرة التمهيدية في المحكمة في تاريخ 5 شباط 2021 أنّ صلاحيتها القضائية تشمل غزة والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية. يتناول التحقيق الجرائم المرتكبة فيها منذ 13 حزيران 2014، وفقًا لطلب قدّمته حكومة دولة فلسطين في 1 كانون الثاني 2015 على إثر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في تمّوز 2014.

تنزل إلى أسفل الصفحة، فلا تجد أيّ استدعاء أو مذكّرة اعتقال أو ادّعاء بحق أحد، ولا نتائج أو إجراءات معلنة في التحقيق رغم مرور ثلاث سنوات على بدئه. كلّ ما تجده صدر بعد 7 تشرين الأوّل 2023 ويتعلّق بتلقّي المدعي العام إحالتيْن حول الحالة في فلسطين، وإطلاق مكتبه منصّة رقمية لتقديم الشكاوى والأدلة على الجرائم المرتكبة، بالإضافة إلى أخبار أخرى عن نشاط المدّعي العام، وبعض تصاريحه التي أفصح عنها أثناء زيارته للأراضي الفلسطينية المحتلة: “خلال هذه المهمّة، كان لديّ رسالة بسيطة مفادها أنّ مكتبي موجود لضمان شعور الجميع بحماية القانون”. فهل وصلت رسالة المدّعي العام؟

 ما قبل 7 أكتوبر: عدالة انتقائية ذات معايير مزدوجة

بعد أيّام قليلة من إعلان المحكمة صلاحيّتها للنظر في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، انتُخب المحامي البريطاني كريم خان في 12 شباط 2021 مدّعيًا عامًا لدى المحكمة، ليخلف المدعية العامة السابقة فاتو بينسودا التي فرضت عليها إدارة ترامب عقوبات في العام 2020 على خلفية تحقيقاتها في فلسطين وأفغانستان، ورفعتها إدارة بايدن في العام الذي تلاه. وقد أعلن خان مع بداية ولايته أنّ مكتبه سيعطي الأولوية للنظر في الإحالات الصادرة إليه من مجلس الأمن. وبحسب نظام روما الأساسي الذي أنشأ المحكمة، فإنّ المدعي العام يفتح تحقيقًا في الجرائم سواء بإحالة من إحدى الدول الأطراف في الاتفاقية (كما هي الحال لفلسطين) أو بإحالة من مجلس الأمن أو من تلقاء نفسه.

ومنذ انتخابه إلى ما قبل 7 أكتوبر، شهد الملفّ الفلسطيني لدى المحكمة ركودًا لم يحرّكه تقديم عدد من منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية أدلةً وتقارير هامّة للمدّعي العام، ودعوتهم إيّاه مباشرة تحقيقه وإصدار أوامر لتوقيف المشتبه فيهم وتحقيق العدالة للضحايا الفلسطينيين. ولم تكن كفيلةً بتحريكه عمليات القتل والانتهاكات الأخرى التي ارتكبها الاحتلال خلال اعتداءاته المتكررة والمستمرة في فلسطين بعد العام 2021، ومن بينها اغتيال الصحافيّة شيرين أبو عاقلة الذي أحالتْه شبكة “الجزيرة” الإعلامية إلى المحكمة.

تزامن هذا الجمود، مع فتح المدعي العام تحقيقًا بشأن الوضع في أوكرانيا في آذار 2022، وذلك بعد أن تقدّمت 34 دولة أعضاء في المحكمة بطلب التحقيق في الجرائم المرتكبة داخل أوكرانيا بعد الاجتياح الروسي. وزار خان أوكرانيا أكثر من مرّة، كما أرسل فريقًا من عشرات المحققين للتحقيق في الحالة، لتصدر الدائرة التمهيدية الثانية في المحكمة، بناء على طلب خان، وبعد حوالي سنة من التحقيق، مذكّرة توقيف بحقّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مع العلم أنّ روسيا وأوكرانيا ليستا طرفين في نظام روما الأساسي.

هذا التحرّك السريع والنشيط والفعّال في الملف الأوكراني من قبل المدعي العام لديها، أثار قلق عدد من الحقوقيين ومجموعات حقوق الإنسان، التي التمست ازدواجية في المعايير في التعاطي مع الملفات المطروحة أمامها، ونيّة في تجميد الملف الفلسطينيّ.

ما بعد 7 أكتوبر: تزايد الشكوك حول النزاهة

لم يتبدّد هذا القلق الفلسطينيّ من أداء المحكمة بعد 7 أكتوبر. فلم يرتقِ أداء المدّعي العام إلى المستوى المتناسب مع هول الإبادة التي تنفّذها إسرائيل بحقّ الفلسطينيين، حتّى بعد صدور قرار محكمة العدل الدولية في 26 كانون الثاني 2024 الذي أقرّ بوجود خطر الإبادة. فبعد خمسة أيّام على عملية 7 أكتوبر، أكّد كريم خان أنّ “لديه الصلاحية للتحقيق في الجرائم المرتكبة من قبل فلسطينيين على الأراضي الإسرائيلية”، كون فلسطين انضمّت إلى نظام روما. وقد شدّد خان أيضًا في تصريحه أنّه شكّل فريقًا للتحقيق في قضية فلسطين بعد تولّيه منصبه، وأنّ مكتبه لا تتوّفر لديه الموارد الكافية للتحقيق في جميع القضايا إذ يعود للدول أن تقدّم له الأدوات اللازمة لذلك. 

وعقب زيارته معبر رفح في أواخر تشرين الأوّل 2023 التي وُصفت بالاستعراضية، حيث كان على بعد كيلومترات قليلة من المجازر التي ترتكبها إسرائيل، وأمتار من شاحنات المساعدات المتوقفة، أطلق كريم خان تصريحات من القاهرة كان طابعها متعاطفًا مع الضحايا الإسرائيليين، وتضمّنت تغنّيًا بالتدريب الجيّد للجيش الإسرائيلي الذي يملك محامين يقدّمون إليه النصيحة بشأن الأهداف التي ينبغي استهدافه، ولديه نظام معدّ لضمان امتثال الجيش للقانون الدولي الإنساني.   

ولكن الانحياز الفاضح لخان تجلّى في زيارته إلى “إسرائيل” والضفة الغربية في أوائل كانون الأوّل 2023، بناء على دعوة عائلات الضحايا الإسرائيليين، علمًا أنّ إسرائيل ليست طرفًا في نظام روما. فعَكَس بيانه عقب هذه الزيارة أداءً غير مهنيّ وغير محايد تجاه الجانب الفلسطيني، ومحابيًا للجانب الإسرائيلي. وتجلّى ذلك في وصفه قوى المقاومة الفلسطينية، ومن ضمنها “حماس”، بأنّها “منظمات إرهابية”، علمًا أنّ مصطلح الإرهاب لا وجود له في نظام روما الأساسي أو في القانون الدولي الإنساني وأنّ الشعوب المحتلّة، كالشعب الفلسطيني، لها الحقّ في مقاومة الاحتلال، بما فيها المقاومة المسلّحة، لمواجهة انتهاك حقّها في تقرير مصيرها. كما استخدم صفة “بريء” لوصف المدنيين الإسرائيليين من دون أن يشير إلى نظرائهم الفلسطينيين بالصفة نفسها، ناهيك عن سكوته عن خطر الإبادة الجماعية في غزة. 

دفع هذا السلوك منظّمات حقوقية فلسطينية هي مؤسسة الحق، والهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، ومركز القدس للمساعدة القانونية إلى رفض الاجتماع مع خان بسبب الشكوك في نزاهته ودوره في تسييس المحكمة. كما وقّع أكثر من مئتي ناشط وحقوقي حول العالم رسالة مفتوحة موجّهة إلى جمعية الدول الأطراف عبّروا فيها عن قلقهم البالغ بشأن نزاهة مكتب المدعي العام، وتشكيكهم في التزامه بمبادئ مدوّنة قواعد السلوك الخاصّة به والتي تقتضي الحياد والالتزام بأعلى معايير النزاهة، وطالبوا بالتحقيق في سلوكه واتخاذ التدابير المناسبة وفقًا لصلاحية الجمعية المستمدّة من المادة 112 من نظام روما، كما بتوفير الدعم السياسي والمالي الكافي للمحكمة. 

وقد اتسّعت دائرة الشكّ التي تحيط بخان بعد تعيينه مؤخّرًا المحامي البريطاني أندرو كيلي للإشراف على التحقيق حول فلسطين بدءًا من آذار 2024، وهو المدعي العام العسكري البريطاني السابق الذي أدّى دورًا رئيسيًّا في قرار المدّعية العامّة السابقة للمحكمة بإغلاق التحقيق في ملف ارتكابات جنود بريطانيا خلال احتلال العراق. 

استمرار الإحالات رغم الشكوك

لم يحلْ أداء المدعي العام المثير للجدل، دون أن تنهال على مكتبه عشرات الشكاوى والإحالات من دول ومنظمات ومحامين من حول العالم تتضمّن أدلة على ارتكاب إسرائيل لجرائم الإبادة والحرب والجرائم ضدّ الإنسانية. كان أبرزها الإحالة الصادرة عن دول جنوب أفريقيا وبنغلادش وبوليفيا وجزر القمر وجيبوتي، وإحالة أخرى صادرة عن دولتي تشيلي والمكسيك، ومبادرة المحامي الفرنسي جيل دوفير الذي تقدّم بشكوى برفقة أكثر من 500 محامٍ و118 منظمة غير حكومية، بالإضافة إلى شكاوى من منظمة “مراسلون بلا حدود” بشأن جرائم الحرب المرتكبة ضد الصحافيين ومن قناة “الجزيرة” حول ملفّ اغتيال مصوّرها سامر أبو دقة. كما وردت شكاوى من ثلاث منظمات حقوقية فلسطينية (الحق، والميزان، والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان) ومن نقابات المحامين في الأردن وفلسطين والجزائر وتونس وموريتانيا بالتنسيق مع منظمات ونقابات حقوقية عربية، ومن 3061 محاميًا تركيًا، ومن وزارة الخارجية الفلسطينية. وفي آذار 2024، أعلنت منظمة القانون من أجل فلسطين، بالتحالف مع مجموعة كبيرة من المؤسّسات النقابية والحقوقية الدولية والعربية، أنّها تقدّمت ببلاغ إلى مكتب المدّعي العام يتضمن تحليلًا قانونيًا مفصّلًا لجريمة الإبادة الجماعية التي يرتكبها القادة السياسيون والعسكريون الإسرائيليون ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر، داعية المدّعي العام إلى إعطاء الأولويّة للتحقيق فيها.

 ولم تطلْ الإحالات إلى المحكمة قادة الكيان الإسرائيلي فحسب، بل تعدّته إلى داعميه باعتبارهم شركاء في الجريمة، على غرار الإحالة التي تقدّمت بها مجموعة من المحامين الأستراليين بوجه رئيس الوزراء الأسترالي مؤخرًا.

تُشكّل هذه الإحالات والشكاوى توثيقًا هامًّا للجرائم الإسرائيلية. وعلى أيّة حال سيُوفّر تفاعل مكتب المدعي العام مع هذا الكمّ من الأدلة الموثقة، جوابًا يقينيًّا حول الشكوك التي تحوم حول نزاهته وحياده ومصداقيته، وحول مصير قضية “حالة فلسطين” أثناء ولايته التي تمتدّ تسع سنوات لغاية 2030، إذا لم يطرأ استقالة أو عزل وفقًا للمادة 46 من نظام روما الأساسي

خلاصة

جوابًا على السؤال المطروح في المقدّمة، مشاعر كثيرة انتابت الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر حتى اليوم: الجوع والخوف والحزن وخطر الموت المتربّص من كلّ حدب وصوب، والخذلان، لكنّهم بكلّ تأكيد، لم يشعروا حتى الآن بحماية القانون الدولي. يبعث هذا الاستنتاج على تساؤلات من نوعٍ آخر: هل بات شخص المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية عائقًا أمام حماية الفلسطينيين ووصولهم إلى العدالة، وسببًا في إفلات المسؤولين الإسرائيليين عن ارتكاب الإبادة من العقاب؟ أم هل سيحاول تبديد هذا الارتياب المشروع منه عبر إصدار مذكرات توقيف، وهل ستقتصر على قادة الكيان فحسب أم تطال قادة فلسطينيين أيضًا؟

نشر هذا المقال في الملف الخاص في العدد 72 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان

لتحمل الملف بصيغة PDF

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، مقالات ، فلسطين ، المحكمة الجنائية الدولية ، جريمة الإبادة الجماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني