الصلح الجزائي: عندما تصطدم العصا السحرية للرئيس بإكراهات الواقع


2023-03-30    |   

الصلح الجزائي: عندما تصطدم العصا السحرية للرئيس بإكراهات الواقع
من موقع باب بنات، مقتطفة من فيديو أداء اليمين لأعضاء لجنة الصلح الجزائي.

أطفأ مرسوم الصلح الجزائي يوم 20 مارس الفارط شمعته الأولى من دون أن يرى هذا النصّ تطبيقا يُذكر. فالمستجدّ الأبرز الطارئ بخصوصه هو إنهاء مهام رئيس لجنة الصلح الجزائي القاضي مكرم بن منا بعد ثلاثة أشهر من تعيينه من قبل الرئيس. “إقالة” كانت منتظرة خاصة غداة ترؤّس سعيّد يوم 16 مارس 2023 اجتماع مجلس لجنة الصلح الجزائي مؤكّدا على أنّ “من قام بتعطيل مسار استرجاع أموال التونسيين سيتحمّل مسؤوليته”، محمّلا بذلك عبء تعثّر مسار الصلح الجزائي الى رئيس اللجنة، دون الالتفات إلى وجاهة فكرة الصلح الجزائي من عدمها. وقد تزامن إنهاء مهامّ رئيس لجنة الصلح الجزائي مع إعلان اللجنة “الانطلاق في نشاطها” وفق مقتضيات الفصل 21 من المرسوم المنظم لها، ليبدأ بذلك سريان أجل الشهر للتعهّد بمطالب الصلح التي يقدمها المشمولون بأحكام الفصل 3 من القانون الأساسي عدد 77 لسنة 2016 المؤرخ في 6 ديسمبر 2016 المتعلق بالقطب القضائي المالي.

استحوذت فكرة الصلح الجزائي على سعيّد منذ سنة 2012 حيث قدّمها إلى المجلس التأسيسي بتاريخ 20 مارس 2012 بصفته “خبيرا دستوريّا”. الاّ أنّ مقترحه جوبه بالرفض إبانها. فكرة لم تراوحه من حينها فحققها بسلطة المراسيم في 20 مارس 2022، بعد انقلابه على دستور 2014، مؤسسا من خلالها الضلع الماليّة لمشروع البناء القاعدي، في ارتباط وثيق بضلعه الاقتصاديّة، وهي الشركات الأهليّة.

تتابع المفكّرة منذ السنة الفارطة هذا المرسوم منذ كان مشروعا ذهب ضحيّته المجلس الأعلى للقضاء  المنتخب، وصولا إلى صدور نسخته النهائيّة في الجريدة الرسميّة، بوصفه الضلع الماليّة لمشروع سعيّد، المعروف بالبناء القاعدي، بارتباط ببقيّة الأضلع وبالخصوص بمشروع الشركات الأهلية، التي تشترك جميعا في الفلسفة ذاتها، وفي القاعدة الجغرافية-الإدارية وهي المعتمديّة، وفي بيع الأوهام.

تطبيق متعثّر للمرسوم… وسعيّد غاضب

ثمانية أشهر لتسمية أعضاء لجنة الصلح الجزائي، تنقّلات متكرّرة إلى مقرّها، خطب توجيهية لأعضائها، تعهّدات متكرّرة لاسترجاع آلاف المليارات، لم تسفر سوى على إعفاء رئيس لجنة الصلح مكرم بن منا.

لم يكن رئيس اللجنة أوّل من تمّ انهاء مهامّه صلبها وإن لم يتجاوز عمرها بضعة أشهر، حيث سبق ذلك إعفاء مقررتها، السيدة منية الجويني، وتعيين السيدة حياة بالعربي محلّها بتاريخ 18 جانفي 2022، من دون أي توضيح يذكر لأسباب الإعفاء.

ليلة إنهاء مهام بن منا، استنكر سعيّد استغراق اللجنة شهرين لإعداد النظام الداخلي -في خرق للفصل 13 من المرسوم الذي ينصّ على أجل 15 يوما من تاريخ مباشرة المهامّ-، معتبرا ذلك إضاعة للوقت مؤكّدا على أنّ “النصوص والمؤسسات توضع لتحقيق الأهداف ومن قام بالتخفّي وراء النصوص والأنظمة الداخلية عليه أن يتحمل مسؤولية التراخي والتخلف عن القيام بواجبه” في إشارة ضمنيّة لرئيس اللجنة وفي تمهيد لقرار إنهاء مهامّه. لكنّ هذا الأخير اعتبر في المقابل أنّ اللجنة قد قامت بواجبها في الآجال من خلال تسليم سعيّد النظام الداخلي بتاريخ 22 ديسمبر 2022، إثر المصادقة عليه من قبل اللجنة بتاريخ  في 19 ديسمبر، مما قد يفهم منه بأنّ مسؤولية تأخّر صدور النظام الداخلي قد يتحمّلها سعيّد نفسه.

لم يفسّر القاضي مكرم بن منا الأسباب الكامنة وراء قرار انهاء مهامّه بل اكتفى بالتشديد على أنّه قبل مهمّة رئاسة اللجنة من باب تحمّل المسؤولية التاريخية. كما أكّد أنّه لم يتمّ إعلامه بقرار انهاء المهامّ رغم “احترامه وجاهة قرار الرئيس”. كما أكّد بن منا أنّ اللجنة عملت في ظلّ غياب الموارد اللوجستية والبشرية اللازمة لعملها، وأنّ المقرّ المخصّص لها “في حالة كارثيّة”. واعتبر أنّ العديد من التعطيلات الخارجيّة شابت عمله، على غرار التأخير في فتح صندوق الخزينة من قبل وزارة المالية، والتأخير في تحديد تاريخ تأدية اليمين. كما أكّد أنّ هناك “أجندة مافيوزية تصدّى لها طيلة 4 أشهر…أرادت تمييع عمل اللجنة وإفشال مشروع الرئيس” معتبرا أنّ “هذه الأجندة أرادت اللعب بالمال العام” عبر أربعة محاور وهي المصادرة وكيفية التصرف في المصادرة والضمانات المالية المقبولة وغير المقبولة ومعايير إدارة التفاوض الصلحي وموضوع التثقيلات على المبلغ المتصالح في شأنه”. 

وكانت منظمة أنا يقظ قد طالبت بتاريخ 30 جانفي 2023 المجلس الأعلى المؤقت للقضاء برفع الحصانة عن القاضي مكرم بن منا رئيس اللجنة الوطنية للصلح الجزائي بعد أن وُجهت له تهمة “الاعتداء على الملك العمومي بالمياه”، مؤكدة على أنّ المجلس تلقى مطلباً في الغرض، في إطار  قضية مرسمة تحت العدد 72316 بناحية منزل بوزلفة. لكن الرئيس لم يُشر إلى الأمر لتبرير إعفاء بن منا، على خلاف تُهم وملفات أخرى مشابهة تخصّ قضاة آخرين، كان قد عمد في استغلالها وتضخيمها لتشويه القضاء تمهيدًا لإخضاعه. فشبهات الفساد التي يعمّمها على كلّ من يعارضه، لا يمكن أن تطال مسؤولي عهده الجديد. 

عدم المصادقة ونشر النظام الداخلي ليس الخرق الوحيد الذي تمّ تسجيله، حيث لم يتمّ احترام واجب التصريح بالمكاسب وتضارب المصالح ومكافحة الإثراء غير المشروع الوارد بالفصل 10 من المرسوم. فلم تسعَ السلطة إلى تسهيل عمليّة التصريح لدى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد على غرار ما قامت به إبّان قيام حكومة بودنّ بفتح مكتب التصريح استثنائيا للتصريح بمكاسب أعضاء الحكومة، إثر شهرين من غلق هيئة مكافحة الفساد تعسفيّا بأمر من سعيّد. فمكاتب الهيئة مغلقة بقرار سياسي، وإن لم يقع حلّها قانونا، مما عطّل إجراءات التصريح بالمكاسب والمصالح. ليس فقط بوصفها سلطة مضادّة لا مكان لها في عهد الحكم المطلق، ولكن أيضا لأنّ اشتغال الهيئة وتطبيق قانون 2018 المنظم للتصاريح والمجرّم للإثراء غير المشروع، لا يتلاءم مع سرديّة الرئيس حول عشرية الانتقال الديمقراطي التي كان “الفساد” عنوانها الوحيد. من جهة أخرى، أخلّ سعيّد بمقتضيات الفصل الثامن من مرسومه من خلال عدم إصدار الأمر المتعلّق بتحديد منحة رئيس اللجنة وأعضائها إلى حدود اللحظة.

علاوة على التأخير والإخلالات المتراكمة، برزت نقطة خلافية في فهم المرسوم بين سعيّد ولجنته. فمن جهته، شدّد سعيّد لدى ترؤسه مجلس اللجنة يوم 16 مارس الفارط على أنّ “المدّة الأولى هي ستة أشهر من نوفمبر إلى مارس ولكن لا أرى شيء تحقق على الاطلاق… المؤسسات لا توجد إلا لتحقيق مقاصدها والنصوص لا توضع إلا لتحقيق أهدافها.. المدة الأولى قابلة للتجديد بستة أشهر…وتقريبا انتهت المدّة الأولى… هذا التراخي والتخفي وراء الأنظمة الداخلية غير مقبول”. لم يكن هذا التصريح الأوّل الذي يدلي به سعيّد في الغرض بل قام بمناسبة أداء اللجنة اليمين بتاريخ  7 ديسمبر 2022 بالتأكيد على أنّه أمام اللجنة ستّة أشهر للعمل وأنّه يجب اختصار الآجال وتفادي إمكانية التمديد لمرّة أخرى نظرا لكون كلّ الوثائق لدى القطب المالي ويمكن الاستعانة بها. في المقابل، اعتبرت اللجنة على لسان العضوة فاطمة اليعقوبي في تصريح لها لديوان اف ام بتاريخ 23 مارس أنّ “فترة الستة أشهر القابلة للتجديد مرّة واحدة تخصّ عضويّة اللجنة وليس عمر اللجنة، بالتالي الستة أشهر تهمّ الأعضاء”، مانحة بذلك عمرا لا متناهيا للجنة الصلح الجزائي في تناقض مع كنْه الصلح الجزائي  الذي يقدّمه سعيّد على أنّها الطريقة الأنجع والأسرع لاسترجاع الأموال المنهوبة، إن وُجدت. هذا التضارب الواضح بين أقوال الرئيس ولجنته ومحاولات التأويل التعسّفيّة يعود لمشكلة هيكلية في هندسة النصّ وفكرته. في الواقع، يتحمّل سعيّد رأسا مسؤوليّة وضع أجل سنة -في حال التمديد- للنظر في مجال واسع جدّا من الملفات، ونسف الأمان القانوني من خلال عدم التنصيص على أجل يمكن انطلاقا منه احتساب آجال سقوط التتبع. من جهتها، لا يمكن أن تتهرّب اللجنة من مسؤوليّة القبول بالانخراط في مشروع غير قابل للتحقيق سواء من حيث مدّة إنجازه أو من حيث أهدافه.

علاقة سعيّد بمؤسسات 25 جويلية: بين الطاعة والشمّاعة

تنقّل سعيّد بتاريخ 13 جانفي 2023 الى مقرّ اللجنة الوطنية للصلح الجزائي، ليجد رئيسها وأعضاء في أهبة الاستعداد لتطمئنه على مسار مصالحة المتورطين في جرائم اقتصادية ومالية. لم يخلُ اللقاء من المشاهد التي اعتدناها في علاقة الرئيس بالمؤسسات التي أرساها في مراسيمه: فوقيّة في الخطاب، تعليمات مباشرة للمعنيين، تأكيد على المهمّة التاريخية الموكلة لهم. في الواقع، ليس من المستغرب أن يقوم الرئيس بزيارات تفقديّة للجان المعيّنة من طرفه وأن يوجّه لها التعليمات، وخاصّة في وضعيّة لجنة الصلح الجزائي. حيث لا يجب أن نغفل أنّ اللجنة قانونا خاضعة لرئيس الدولة، الذي يتحكّم في اختيار أعضائها وله وحده حق إعفاء أيّ عضو من أعضائها متى شاء.

من جهتهم، لم يختلف أعضاء لجنة الصلح عن باقي “المؤسسات” المعيّنة منذ 25 جويلية 2021، من حيث التأكيد على الجاهزية والوقوف كسدّ منيع ضد “الخونة والعملاء”، وإن اختلفت تسمياتهم ومراكزهم. حيث اقتصرت في وضعيّة لجنة الصلح على التشكي من بعض “الأطراف” التي تسعى لعرقلة عمل اللجنة إداريا وبشريا والتوعّد وتحميلهم مسؤولياتهم والوقوف ضدّهم بهدف استرجاع أموال الشعب. 

شهر فصل هذا اللقاء عن لقاء 16 مارس الذي تمّ خلاله إقصاء رئيس اللجنة القاضي مكرم بن منة. حيث أنّ ترؤّس الرئيس لهذا المجلس كان منبئا بوشوك إنهاء مهام رئيس اللجنة الذي ما انفكّ سابقا يؤكّد على جهوزيّة لجنته للفصل في الملفات واسترجاع أموال الشعب التونسي. فلم تشفع فروض الطاعة لرئيس اللجنة وتمّ تحميله رأسا مسؤولية تعطّل الصلح الجزائي من خلال إعفائه بتاريخ 20 مارس 2023.

الصلح الجزائي …أكثر من مجرد مرسوم

“أين ذهبت أموال الشعب؟” هو السؤال المحوري الذي يؤسس عليه قيس سعيّد فكرة الصلح الجزائي التي لا يفوّت فرصة من دون أن يذكّر بأنه تقدّم بها إلى المجلس التأسيسي سنة 2012 إلا أنها جوبهتْ بالرفض. فكرة لم يخترْ سعيّد تطبيقها عن طريق صلاحية المبادرة التشريعيّة التي كان يسمح بها الفصل 62 من دستور 2014 بل اختار تنزيلها على أرض الواقع من خلال الانقلاب على دستور 2014، بقوّة التدابير الاستثنائية وبتعلّة تحقيق التنمية واسترجاع أموال الشعب التونسي. أخذت بداية تطبيق أحكامه من الرئيس ثمانية أشهر اختار خلالها “بعناية” أعضاء اللجنة فأصدر بتاريخ 11 نوفمبر 2022 تركيبتها ذات الأغلبية الإدارية -40% فقط منها من القضاة- وأوكلهم “رسالة تاريخية” في استرداد أموال الشعب المنهوبة. في الشهر الموالي وتحديدا بتاريخ 7 ديسمبر 2022، أدّى أعضاء اللجنة اليمين أمام خطبة ألقاها سعيّد، أكّد خلالها وجوب الانطلاق في استرجاع أموال الشعب، معرّجا على تعطّل عمليّة استرجاع الأموال خلال العشرية الأخيرة ومشدّدا على ضرورة الانتهاء من الأعمال في غضون الستة أشهر المقبلة وفي أقصى الأحوال في أجل سنة.

من العبث مناقشة مرسوم الصلح الجزائي كنصّ تشريعي منفصل عن الغاية السياسية منه. إذ أنه علاوة على أنه ترجمة لفكرة استحوذت على سعيّد منذ سنة 2012، فإن الصلح الجزائي يشكّل  “خزينة تمويل” لمشروع البناء القاعدي لسعيّد حيث يفترض أن يتمّ توظيف عائداتها لتمويل الشركات الأهليّة التي تمّ تكريسها هي الأخرى بمقتضى مرسوم صدر في التاريخ ذاته. في الواقع، يشير مرسوم الصلح الجزائي في فصل يتيم للشركات الأهليّة، حيث ينصّ فصله 30 على أنّ 20% من العائدات تخصّص لفائدة الجماعات المحليّة بغاية المساهمة في رأس مال مؤسسات محليّة جهويّة تأخذ شكل شركات ذات صبغة أهليّة أو استثماريّة أو تجارية.

فعلى خلاف مشروع المرسوم الذي عرض على المجلس الأعلى للقضاء الذي تمّ حلّه، والذي كان يعبّر صراحة على العلاقة بين الشركات الأهليّة والصلح الجزائي ويدمجها في نفس النصّ، انتهى سعيّد إلى الفصل بين المرسومين وإصدارهما في اليوم ذاته، مُعتبرا أنّ هذه المراسيم تعدّ “خطوات تاريخيّة واستعادة لكرامة التونسيين”. سياسيّا، يمثلّ مرسوما الصلح الجزائي والشركات الأهليّة “أهمّ” ما في جعبة سعيّد من مشاريع والركائز الأساسية لبنائه القاعدي. ففي حين تمثّل الشركات الأهليّة الضلع المؤسساتية-الاقتصادية للبناء القاعدي، يعدّ مرسوم الصلح الجزائي في معظمه الضلع المالية لتمويل مشروع الرئيس العاجز عن إيجاد حلول عمليّة لمشاكل الشعب والمكتفي بمنحه المال والإطار المؤسساتي والإطار التنظيمي على المستوى المحلّي لكي يتمّكن الشعب من حلحلة مشاكله تلقائيا انطلاقا من أصغر الرقع الجغرافية -العمادات- ليتمّ لاحقا تأليفها جهويا ووطنيّا.

هذا الربط الوثيق بين الشركات الأهليّة والصلح الجزائي ليس فقط قراءة قانونية للمراسيم بل هو كذلك ما أكّده سعيّد في جلسة ترأسها بتاريخ 16 مارس 2023 معتبرا أنّ تعطيل مسار الصلح الجزائي لا يعطّل فقط استرجاع أموال التونسيين بل كذلك يعطّل تمويل الشركات الأهليّة التي يعتبرها حلاّ لمشاكل المناطق الأكثر فقرا وقد وضّح به نهائيا الربط القانوني الملتبس بالشركات الأهليّة.

لتحقيق غايته، لم يتوانَ الرئيس عن إصدار مرسوم يضرب في العمق القواعد القانونية الأساسيّة. حيث لا يعترف المرسوم بمبادئ اتصال القضاء وعدم رجعية القوانين وكذلك النص الأرفق بالمتهم -وهو استثناء لمبدأ عدم رجعيّة القوانين- وعدم إمكانية تتبع نفس الشخص من أجل ذات الفعل مرتين، بل يمكن أن يطبق على أشخاص لم تثبت إدانتهم بعد أو أنهم محل تتبع إداري فقط ليبلغ حد ملاحقة أشخاص ليسوا محل تتبع أصلا، حيث ينصّ الفصل 3 من المرسوم على أنّه يشمل ” كل شخص مادي أو معنوي… أو قام بأعمال كان من الواجب أن تترتب عنها جرائم اقتصادية ومالية”.

من حيث المبدأ، تعمد الدولة من خلال هذا المرسوم الى المصالحة حول أموال الشعب التونسي المنهوبة دون استشارته أو الخوض في نقاش مجتمعي حول الموضوع. فمن المهمّ التذكير بأنّ مصالحة الأشخاص الفاسدين قد طرحت سابقا من قبل الباجي قايد السبسي ولاقتْ معارضة شرسة من الشارع وحتى من قبل جزء من نوّاب الشعب. علاوة على ذلك، قرّر سعيّد وحده المصالحة في أموال الشعب مغيّبا عنصرا جوهريا في العدالة ألا وهي كشف الحقيقة قبل المصالحة. أكثر من ذلك، تعمل اللجنة منذ أشهر على ملفات واسعة المرمى من دون أن يكون لدينا ولو تقديريا عدد المعنيّين بالصلح الجزائي. فلا تأكيد متاح حول إعلان نوايا الصلح التي تمّ تلقيها ولا حول مصير ملفّات العدالة الانتقالية التي تمّ إيداعها في ظلّ تداخل مرسوم الصلح الجزائي معها من حيث الموضوع. كما يطرح مسار الصلح العديد من الأسئلة حول شفافيّة العمليّة خاصّة وأن عدم شفافيّة عمليّة المصالحة لدى تقديم الباجي قايد السبسي لمشروعه كانت من أبرز أسباب رفضه. فهل ستنشر قائمة المتصالح معهم؟ هل توجد جلسات علنيّة لكشف الحقيقة والاعتذار أم لا؟ هل يمكن الحديث عن صلح من دون كشف الحقيقة والمساءلة والمحاسبة والاعتراف والاعتذار وجبر الضرر؟ ألن يكون الصلح فرصة إضافية لتبييض الفساد ورسكلته من دون كشف الأطراف الضالعة فيه؟ ألا يكرّس الصلح عدالة عرجاء ترجّح كفّة الفاسدين من أصحاب الأموال على حساب الفساد الصغير وخاصّة على حساب مبدأ المساواة بين المواطنين؟ 

يقدّم سعيّد الصلح الجزائي كحلّ للأزمة الاقتصادية التي تعيشها تونس، حيث تعجّب خلال لقائه بلجنة الصلح الجزائي من اللجوء إلى الاقتراض من الخارج والحال أنّ الأموال موجودة في تونس. كما يبشّر منذ أشهر بوشوك استرجاع مبلغ 13500 مليون دينار الذي تضمّنه تقرير المرحوم عبد الفتاح عمر، دون أن يفكّر في مدى واقعيّة هذه الإمكانية أو التحدّيات التي يمكن أن تعترضها من قبيل وفاة العديد من المعنيين بهاته الأموال المنهوبة، أو تعلّق معظمها بأفراد عائلة بن علي المتواجدين بالخارج وغير المهتمين بالعودة الى تونس، أو حتى بتداخل هذا الملف مع ملفات أخرى على غرار العدالة الانتقالية التي لا تزال جلساتها جارية أو بملفّ الأموال المصادرة. 

يندرج تعامل سعيّد مع هذا الملف صلب فلسفة فريدة يواجه وفقها الأزمات السياسية بالنصوص القانونية ويواجه المتورطين في الفساد بالصلح والأزمة الاقتصادية بأوهام استرجاع أموال طائلة يتمّ توزيعها على الشعب ليحقق مشاريعه التنمويّة. تعثّر مسار الصلح الجزائي المنشود من قبل سعيّد منتظر ولعلّه جاء أسرع مما كنّا نتوقّع. حيث ارتطمت اللجنة منذ بدايتها بتناقضاتها الداخلية وإكراهات الواقع قبل المرور إلى مشاكلها المهمّاتيّة. ورغم إصرار سعيّد على أنّ الصلح الجزائي حلّ سحري لمشاكل البلاد، وانخراط بعض وسائل الإعلام العمومي في هذه البروباغندا، فإنّ حبل الأوهام يبقى قصيرًا، مهما طال.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تشريعات وقوانين ، مرسوم ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني