مرسوم الشركات الأهليّة: مشروع للعدالة أم الهيمنة؟

،
2022-04-12    |   

مرسوم الشركات الأهليّة: مشروع للعدالة أم الهيمنة؟
رسم عثمان سلمي

انبثق مرسوم الشركات الأهلية الصادر يوم 20 مارس 2022، ضمن سياق سياسي تَميّز بسعي سلطة التدابير الاستثنائية إلى البحث عن إجابات فورية لمآزق اقتصادية واجتماعية هيكلية (الفقر، البطالة التفاوت الجهوي، مأزق الإنتاج الفلاحي…). في سياق التمهيد لهذا المشروع، كان الرئيس قيس سعيد يستعرض في أكثر من مناسبة عرائض مواطنية منددة بطرق استغلال الأراضي الدولية الفلاحية، مشيرا إلى أن الحل يكمن في ابتداع “صنف جديد من الشركات”. وقد صرّح سعيّد بأن “المشروع جاهز حتى تعود الأملاك إلى الشعب ولا تُسوّغ بثمن بخس” مبينا أنه يهدف إلى مراجعة طرق استغلال الأراضي الدولية وتفويضها إلى المواطنين في الجهات.

على عكس المتوقع، أسقَط نص المرسوم من فصوله ملف الأراضي الدولية، واكتفى بإشارة عامة في فصله الخامس إلى إمكانية التصرف في الأراضي الاشتراكية، لكن مع “مراعاة التشريع الجاري به العمل”. بالإضافة إلى هذا، وضَع المرسوم نفسه ضمن فلسفة “الاقتصاد الاجتماعي التضامني” دون التصريح بذلك. واعتبره الرئيس خطوة نحو تقنين تجارب اجتماعية تضامنية على غرار تجربة واحات جمنة.

رغم التأكيد على إبداعية الفكرة، فإن مرسوم الشركات الأهلية لم يولد على أرض جرداء. دخل النص الجديد في حالة تقاطع وإنكار مع قوانين وتجارب سابقة. كما وُلِد متأثرا بحسابات السلطة القائمة وتصوراتها للمجتمع والسياسة. لذلك يحاول هذا المقال تفكيك الأبعاد القانونية والسياسية والاجتماعية للمرسوم ورهانات سلطة التدابير الاستثنائية من ورائه. 

بناء الجديد بتجاهل الموجود

يوم 30 جوان 2020، ختم رئيس الجمهورية قيس سعيّد قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، بعد أقلّ من أسبوعين من مصادقة مجلس نواب الشعب عليه بشبه إجماع. لم يستعمل حينها الرئيس الصلاحيات التي يتيحها له الدستور للطعن في القانون أو تعطيله، ولم يُبدِ موقفا سلبيا منه. بعد أقلّ من سنتين، أصدر قيس سعيّد مرسوم الشركات الأهليّة، من دون أيّ إحالة إلى قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني. فرغم أنّ فكرة الشركات الأهلية تستلهم الكثير من مبادئ الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، جاء مرسوم الشركات الأهلية متجاهلا تماما كلّ ما سبقه من تشريعات. فقد اقتصرت “الإطلاعات” التي تسبق الفصول في المرسوم، على الدستور (في إطار السعي المحموم لإقناع نفسه أو الآخرين بأنّه لم ينقلب عليه) والأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 المتعلق بالتدابير الاستثنائية. كما لم تذهب سلطة التدابير الاستثنائية في خيار تنقيح قانون 30 جوان 2020، أو إضافة باب جديد له، أو حتّى التنصيص على تمتّع الشركات الأهلية بعلامة “مؤسسة اقتصاد اجتماعي وتضامني” التي تفتح الباب للتمتع بامتيازات هامّة في التمويل. على العكس، كان هنالك قرار واضح بتجاهل قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، بل والمفهوم في حدّ ذاته، كلّيا في المرسوم. يأتي ذلك بالتزامن مع تعهّد الحكومة، في برنامج الاجراءات العاجلة لتنشيط الاقتصاد، بإصدار النصوص التطبيقية لقانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني. 

تجاهل لا يُترجم فقط انفصام الخطاب بين رئيس السلطة وحكومته، بل يعكس أيضا هاجس “المقاربات الجديدة” الذي يحكم فكر الرئيس، القائم على القطع مع كلّ ما أنتجتْه منظومة الانتقال الديمقراطي، وموقفه المشيطن لبرلمان 2019 وما أنتجه من تشريعات “صيغت على المقاس” و”كثرت معها اللصوص”. لكنّه يعود أيضا إلى سبب آخر، وهو التناقض الجوهري بين فلسفتي مرسوم الشركات الأهلية وقانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني.

يظهر هذا التناقض من خلال المقارنة بين الفصل السادس من المرسوم، الذي تضمّن المبادئ التي تقوم عليها الشركات الأهلية، والفصل الرابع من قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني. فعلى الرغم من استلهامه الكثير من المبادئ، كأولوية الإنسان على رأس المال،والربحية المحدودة واعتماد قاعدة صوت لكلّ عضو عند أخذ القرارات والملكية الجماعيّة غير القابلة للتقسيم، استبعد المرسوم مبدأ مركزيا في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وهو الاستقلاليّة في التسيير تجاه السلط العموميّة. لا يتعلّق الأمر بمجرّد سهو، إذ يكفي الإطلاع على بقيّة فصول المرسوم كي نفهم أنّ تبعية الشركات الأهلية للسلطة التنفيذية كان خيارا متعمّدا عند صياغته.

وقد كان الخضوع المباشر للسلطة التنفيذية من أبرز معوقات التجربة التعاضديّة، الذي حال دون تحوّلها إلى قطاع اقتصادي ثالث قوي، أسوة بتجارب مقارنة. لذلك، انبنى قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني على فلسفة تحاول البناء على النسيج الموجود، من تعاضديات وتعاونيات وغيرها، التي تبقى خاضعة أيضا للقوانين الخاصّة بها، وجذبه نحو الانخراط في مبادئ الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، عن طريق خيار “العلامة” المنفتحة على أشكال قانونية عدّة والتي تفتح باب الامتيازات مقابل الالتزام بالمبادئ. 

انعكس هاجس الاستقلالية أيضا، في قانون 30 جوان 2020، في تعدّد آليات التمويل الخاصّة بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني، والتي تمرّ ليس فقط عبر الدولة، وإنما أيضا عبر المؤسسات المالية الخاصّة وعبر بنوك تعاضديّة، وهو ما من شأنه أن يحرّر هذه المؤسسات من التبعيّة المالية للدولة أو القطاع الخاصّ. أمّا تمويل الشركات الأهليّة، فلا يجيب مرسومها عليه، وإنّما نجد إجابة جزئيّة في مرسوم الصلح الجزائي، الذي يقتضي تخصيص 20% من عائداته للجماعات المحليّة “للمساهمة في رأس مال مؤسسات محلية أو جهوية تأخذ شكل شركات ذات صبغة أهلية أو استثمارية أو تجارية”. بذلك، وقع التراجع عن الخيار الذي ظهر في الصيغة المسرّبة من مشروع المرسوم، والذي كان يربط مباشرة بين عائدات الصلح الجزائي والشركات الأهلية، عن طريق شركة أمّ خاضعة لإشراف رئيس الدولة، تتولى الاستثمار في الشركات الأهلية والإشراف عليها. لكنّ النتيجة هي تقلص حظوظ الشركات الأهلية في الحصول على تمويلات، دون تصوّر بديل عن ذلك، مما سيعزّز أكثر فأكثر تبعيّتها المالية للسلطة، في انتظار ما قد يجهّزه سعيّد من تغييرات دستوريّة وتشريعيّة في علاقة بالجماعات المحلّية.

ولئن كانت خيارات قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني قابلة للنقاش، إلاّ أنّها على الأقلّ انبنتْ على دراسات معمّقة ومسار تشاركي دام سنوات، فجاءت منسجمة مع الأهداف التي رُسِمت للقانون. على العكس، فضّل سعيّد في مرسومه أن يتجاهل ليس فقط التشريعات، وإنّما أيضا النسيج المؤسساتي الموجود، لصالح شكل قانوني جديد وهو الشركات الأهلية، خاضع للسلطة تمويلا ورقابة. فعلى الرغم من تغيّر خيارات المرسوم منذ النسخة المسرّبة، يبقى الخضوع للسلطة هو القاعدة، مع تغيّر الآليات والأشكال. بذلك، يسترجع سعيّد، باسم “المقاربات الجديدة”، الروح التسلّطية للتجربة التعاضديّة، تلك الروح التي حاول قانون 2020 تذويبها داخل مقاربة حديثة وديمقراطية للاقتصاد الاجتماعي والتضامني.

شركات أهلية خاضعة لرقابة السلطة

تستدعي قراءة المرسوم البحث عن موقع السلطة الحاكمة وأجهزتها إزاء مشروع الشركات الأهلية. فقد جاء هذا النصّ ليمنح السّلطة دورا مهَيْمَنا بالأساس، يتمظهر من خلال ممارسة الرقابة والتدخّل في أخذ القرارات. وحسب الفصلين 34 و38 من المرسوم، بإمكان سلطة الإشراف المبادرة بالدعوة إلى الجلسات العامة العادية والجلسات العامة الخارقة للعادة. وطالما أنها جهة داعية فهي تمتلك صلاحية ترؤس تلك الجلسات وفقا للفصل 39. كما تشير الفقرة الثانية من الفصل 44 إلى أن مراقب الحسابات أو المُحاسب مُلزمان بتوجيه نسخة من التقارير المالية والرقابية إلى سلطة الإشراف.

يتكرر التنصيص على تدخل السلطة في تسيير الشركات الأهلية من خلال الباب السادس المتعلق بـ”الإحاطة والإشراف”. ويتوزع هذا الإشراف بين السلط المحلية والجهوية والمركزية. وفي هذا السياق يبرز بشكل ملفت للانتباه دور الولاة والوزير المكلف بالاقتصاد. ووفقا للفصل 64 فإن الشركات الأهلية المحلية مطالبة وجوبا بعرض ميزانياتها التقديرية وقائماتها المالية وتقارير الرقابة على الوالي المختص ترابيا. وهو ما ينسحب أيضا على الشركات الأهلية الجهوية المطالبة بعرض ميزانياتها وتقاريرها المالية والرقابية ومحاضر الجلسات العامة ومحاضر جلسات مجلس الإدارة على الوزير المكلف بالاقتصاد.

لا ينتهي دور الوالي عند تلقي الإشعارات والتقارير وإنما يمنحه الفصل 65 حق التدخل في تسيير الشركات الأهلية المحلية عبر إبداء “الملاحظات والتحفظات” واقتراح “التدابير اللازمة”. وتكون مجالس الشركات الأهلية مُلزمة بتطبيق هذه الملاحظات. وفي صورة إخلالها بذلك ستجد نفسها عرضة للعقاب، وهو ما تنص عليه بوضوح الفقرة الثالثة من الفصل 65: “في صورة عدم قيام مجلس الإدارة بما هو مطلوب منه أو أن التدابير المتخذة لم تأت بنتيجة، يمكن للوالي، وبعد تنبيه يوجهه إلى الشركة الأهلية المحلية وبقي دون نتيجة بعد مرور شهر من تاريخ إرساله، سحب المرفق والأملاك العمومية الموضوعة تحت تصرف الشركة الأهلية المحلية منها”. وتُمنح تقريبا نفس تلك الصلاحيات للوزير المكلف بالاقتصاد الذي يتمتع بنصيب أكبر في الإشراف على الشركات الأهلية الجهوية، إذ بإمكانه إبداء التحفظات والملاحظات واقتراح بعض التدابير، وفي صورة عدم تجاوب مجالس الإدارة بإمكانه حرمانها من حق التصرف في الأملاك العمومية الموضوعة تحت ذمتها وفقا للفقرة الثالثة من الفصل 68.

يظهر الدور الرقابي والتوجيهي للسلطة أيضا من خلال مصطلح فضفاض يطلق عليه المرسوم “سلطة الإشراف”. إذ تتمتع سلطة الإشراف حسب الفصل 70 بالحقّ في حلّ مجالس الإدارة وتعيين لجان إدارية وقتية بعد الدعوة إلى جلسة عامة خارقة للعادة. وعندما يتبين لها أن “التدابير التي تم أخذها لتدارك الإخلالات المبينة أعلاه لم تأت بنتيجة” بإمكانها أيضا مطالبة المحكمة المختصة ترابيا بحل الشركة الأهلية، وذلك وفقا للفقرة الثانية من الفصل 70.

لا تؤسّس روح المرسوم فقط لضرب مبدأ الاستقلالية، بوصفها أحد مرتكزات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وإنما تُبرز أيضا مضمون العلاقة الجديدة بين الدولة والمجتمع التي تريد السلطة القائمة إرساءها. بواسطة إمكانيات الدولة الموزعة بين المركزي والجهوي والمحلي، ستسعى السلطة إلى إيجاد حالة “امتِثالية”، تصبح من خلالها الشركات الأهلية نسيجا اقتصاديا تابعا لسياسة المركز الأحادية -الممثلة في الرئيس قيس سعيد- وليست أداة لإفراز مناويل تنموية محلية ذات أفق اجتماعي واقتصادي، يهدف إلى التقليص من نسب الفقر والبطالة والمساهمة في خلق اقتصاد مُنتج. كما يُظهر مشروع الشركات الأهلية توجّها نحو اختراق المجتمع المحلي وربطه بالسلطة القائمة من خلال إيجاد قاعدة اقتصادية جديدة، تربطها بالحاكم علاقة تبعية وموالاة وخوف دائم من قرارات الحلّ والتصفية والعقوبات التي تتكرر بشكل ملفت للانتباه في المرسوم.

مفهوم “الأهلي” كمدخل لتحطيم الاجتماع السياسي

لا يعكس مرسوم الشركات الأهلية فقط تطلّعا سلطويا نحو الهيمنة على المجتمع المحلّي وإنما يُخفي وراءَه  أيضا تصوّرا كاملا للاجتماع والسياسة. إذ يشير الفصل 9 من المرسوم إلى أن مشروع الشركات الأهلية سيسير على أرض خالية من التسامح إزاء أي شكل من أشكال العمل السياسي أو الانتماء أو التداول تحت طائلة التجريم. وقد ورد في الفصل المذكور: “يُمنع على الشركات الأهلية ممارسة أي نشاط سياسي أو الانخراط في مسارات سياسية أو تمويلها”. ولا يقف المرسوم عند حدود المنع وإنما يُجّرم هذه الأفعال وفقا للفصل 96 الذي ينص أنه “يعاقب بالسجن مدة سنة واحدة وبخطية قدرها عشرة آلاف دينار كل من خالف أحكام الفصل 9 من هذا المرسوم”.     

وعلى عكس قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني الذي اعتمد صيغة أكثر وضوحا في تنظيم علاقة مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني بالعمل السياسي من خلال التنصيص على مبدأ الاستقلالية في التسيير تجاه السلط العمومية والأحزاب السياسية، فإن مرسوم الشركات الأهلية يعتمد صيغا فضفاضة وعامة في تنظيم علاقة الشركات الأهلية بالفعل السياسي. إذ أن مصطلحات من قبيل “نشاط سياسي” و”الانخراط في مسارات سياسية” تُوسّع مساحات التأويل وتُلغي كل أشكال التعبير السياسي. إذ بإمكان المواقف والمقترحات والتدوينات والمداولات والنقاشات واختلافات الآراء والتصورات أن تصبح تعبيرا عن “الانخراط في مسارات سياسية” وبإمكان المرسوم إذ ذاك تجريمها. ويُفهم من تمطيط التأويل سعي السلطة السياسية إلى إيجاد حالة من الانسجام السياسي القسري، التي تؤدّي في نهاية المطاف إلى إنتاج وحدانية سياسية مُعبرة بشكل حصري عن صوت السلطة واتجاهاتها.     

يُشكّل العمل السياسي بجميع أشكاله وتمظهراته الحصانة الوحيدة للحدّ من هيمنة السلطة السياسية على المجتمع، وتسليحه بأدوات الرقابة عليها ونقدها ومعارضة قراراتها. ويساهم الفصل 9 من المرسوم في تجريد المجتمع من كل آليات الرقابة والنقد والاحتجاج على خيارات السلطة، خاصة الاقتصادية منها، التي تبدو إلى حد الآن متعارضة مع الانتظارات الشعبية، لأنها تدفع نحو المزيد من اللّبرلة وربط الاقتصاد المحلي بشروط المؤسسات الدولية المانحة. في المقابل سبق وأن أشرنا إلى أن المرسوم يمنح السلطة السياسية صلاحيات رقابية وعقابية واسعة، وهو ما يؤدي إلى تأسيس معادلة غير متكافئة: سلطة تُراقب وتُصادر مقابل مجتمع خاضع.

يُحيل أيضا مفهوم “الأهلي” على مقاربة سياسية مسكونة بمنطق تحطيم الروابط السياسية والمدنية التي سادت داخل المجتمع واستبدالها بالروابط الأهلية (روابط القرابة الجغرافية والدموية). وتتطلع هذه المقاربة إلى الروابط الأهلية بوصفها علاقات اجتماعية نقية وخالية من شوائب التحزب والانخراط السياسي، وتُعبر بأكثر صدقية عن “ضمير الشعب”. وفكرة العودة إلى “الأهلي” و”المحلي” لا تحيل في التصور الرئاسي إلى القرب من المجتمعات المحلية وفهم مشاكلها وخصوصياتها وربطها بالاجتماع الوطني على قاعدة المواطنة والمشاركة السياسية الحرة، وإنما تعكس نزوعا إراديا نحو إعادة تشكيل الهوية الجمعية، وهو أفق نضالي لعديد الشعبويات التي تنتج خطابا قائما على طوباويات النقاء (نقاء العرق، نقاء الشعب، نقاء القومية…) وفي السياق التونسي يسعى الخطاب الشعبوي الماسك بزمام السلطة إلى إشاعة “طوبي القاعدة المحلية”، وربط المشروع السياسي المركزي في المستقبل بهذه الطّوبى من خلال ما أصبح يعرف بمشروع البناء القاعدي.

ترجمة اقتصادية للبناء القاعدي

ما الذي يمكن أن يجمع مشروعا اقتصاديا كالشركات الأهلية، بمشروع نظام سياسي بديل؟ لا تقتصر الإجابة على أنّهما يمثّلان، بالإضافة إلى الصلح الجزائي، كلّ ما في جعبة الرئيس سعيّد من “مشاريع”. فقد كرّر سعيّد عند ترشحه إلى الانتخابات بأنه لا حاجة لأن يكون له مشاريع، وأنه يكفي “إعادة السلطة للشعب” عبر البناء القاعدي، كي تنبع الحلول تلقائيا من الناس في القاعدة، ليقع تأليفها جهويا ووطنيا. الصلح الجزائي والشركات الأهلية ليسا مشروعين مستقلّين، بقدر ما يمثّلان تعبيرات عن الشعار ذاته، وهو أن “نعيد للشعب” ما “سُلب منه”، أي ليس فقط “القرار السياسي”، وإنما أيضا مقدّراته وأمواله المنهوبة وأدوات الفعل الاقتصادي. يبقى أنّ المشاريع الثلاثة يحكمها التناقض ذاته بين تحرّرية الشعار، وتسلّطية المضمون، إذ أنّ جميعها مبني على منطق الخضوع إلى السلطة التنفيذيّة. فالنظام السياسي، حتى إذا اقتصر تطبيقه على الأضلع الثلاثة التي مهّدت لها الاستشارة الإلكترونية، وهي الاقتراع على الأفراد وسحب الوكالة من النواب والنظام الرئاسي، سيؤدي إلى اختلال التوازن بين السلط لصالح السلطة التنفيذية. أمّا الصلح الجزائي، فتتحكّم في إبرامه وفي توزيع موارده السلطة التنفيذيّة، وكذلك حال الشركات الأهليّة.

لكنّ الالتقاء بين المشاريع الثلاثة يظهر كذلك من خلال مركز ثقلها الترابي، وهو المعتمديّة. هذه الأخيرة ليست فقط قاعدة التمثيل السياسي في البناء القاعدي، بغضّ النظر عن وزنها الديمغرافي، وقاعدة توظيف محصول الصلح الجزائي، مرتّبة حسب درجة فقرها، وإنّما هي أيضا قاعدة تأسيس ونشاط الشركات الأهليّة. فما يميّز الشركات الأهلية عن مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، وما يضمن طابعها “الأهلي”، هو ارتباطها المباشر بالتقسيم الترابي، أي أساسا بالمعتمديات، ثم الولايات فيما يخصّ “الشركات الأهلية الجهوية”. يظهر ذلك أوّلا من خلال الهدف الذي وضعه الفصل الثالث من المرسوم للشركات الأهلية، وهو “تحقيق التنمية الجهوية وأساسا بالمعتمديات وفقا للإرادة الجماعية للأهالي”. كما يتأكد كذلك في الفصلين الرابع والخامس اللذيْن يشدّدان على ارتباط النشاط الاقتصادي للشركات الأهلية بالجهة الترابية المنتصبة بها. إذ لا يجوز للشركة الأهلية المحليّة أن يتجاوز نشاطها حدود المعتمديّة الأمّ والمعتمديّات المجاورة. أمّا الشركات الأهلية الجهوية، فيشمل نشاطها إمّا كامل تراب الولاية، أو معتمديات غير متجاورة. ولمزيد إحكام هذا الارتباط، وضع المرسوم شروطا صارمة بخصوص تأسيس الشركات الأهلية والمشاركة فيها. إذ تتكوّن الشركة الأهلية المحلية من أشخاص طبيعيين لا يقلّ عددهم عن 50 شخصا، “تتوفّر فيهم صفة الناخب في الانتخابات البلدية”، والمقصود من هذا المعيار، هو إثبات الانتماء السكني للمعتمديّة. أمّا المشاركة في الشركات الأهلية بعد تأسيسها، فتخضع أيضا إلى شرط السكنى بالمعتمدية المنتصبة بها الشركة الأهلية المحلية، أو الولاية إذا تعلّق الأمر بشركة جهوية. لكنّ المرسوم يذهب إلى أبعد من هذا الحدّ، حيث لا يمكن للمؤسسين أن يرفضوا مشاركة من تتوفّر فيه الشروط. يعني ذلك أنّ الانتماء إلى معتمديّة واحدة يعلو على حقّ الشركاء في اختيار بعضهم البعض. أي أنّ المنطق الأهلي الذي يتجسّد في المعتمديّة، يفوق المنطق الاقتصادي أو حتى الاجتماعي الذي يدفع أشخاصا للالتقاء في نشاط ما.

لقد قام التنظيم الترابي لدولة الاستقلال على منطق سياسي يهدف إلى الحدّ من الروابط القبليّة، وفي الوقت ذاته، إلى تسهيل هيمنة المركز، وذلك بالجمع بين الدور الأمني والاستعلامي والرقابي والدور الزبوني عبر المساعدات الاجتماعية. ارتكاز “مشاريع” سعيّد على هذا التنظيم الترابي يكشف تناقضاتها الداخليّة، ليس فقط في البحث عن نقاوة أهلية داخل أُطر أنشئت لكسرها، ولكن أيضا في استرجاع المنطق والأدوات التسلّطية لما قبل الثورة، مع إلباسها شعارات ثوريّة وتحرّرية. 

لقراءة المقال باللغة الإنكليزية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تشريعات وقوانين ، تونس ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني