الحركات الاجتماعية في تونس: أرض خصبة وبذور عقيمة؟


2022-01-03    |   

الحركات الاجتماعية في تونس: أرض خصبة وبذور عقيمة؟
رسم عثمان سلمي

17 ديسمبر أو 14 جانفي، ما هو التاريخ الأقوم لتقويم وتقييم الثورة؟ هل تعيش تونس بعد 25 جويلية انقلابا على المسار الديمقراطي أم استعادة للمسار الثوري؟ لكن هل هي ثورة حقا؟ هذه بعض الأسئلة التي تتردد في الذكرى الحادية عشرة لاندلاع انتفاضة ديسمبر 2010-جانفي 2011، وفي زحامها يضيع السؤال الأهم: لماذا انتفض التونسيون في ذلك الشتاء القريب/البعيد؟ وحدها الحركات الاجتماعية المستمرّة منذ أكثر من عشرية تذكّرنا بالبدايات والمنطلقات وتحاول أن تحافظ على المعنى. 

“الحركات الاجتماعية” واحدة من العبارات الحاضرة بقوة في “معجم” ما بعد الثورة التونسية خاصة في خطابات وأدبيات المجتمع المدني. لا يوجد تعريف واضح ولا موحّد لمعنى هذه الحركات الاجتماعية، ويبدو أنّ لكلّ واحد تصوّر وتمثل مختلف لها، لكن مع اتفاق حول الملامح الكبرى: تحرّكات ونضالات منظّمة لمجموعة من الأفراد تربطهم تصورات ومصالح مشتركة، يحاولون تغيير سياسات معيّنة من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية. مصطلح الحركات الاجتماعية بمفهومه الحديث برز في العالم في أواخر القرن الفائت مع تراجع اليسار “القديم” وظهور “يسارات” جديدة إثر ماي 1968 وربيع براغ وصولا إلى تفكّك الاتحاد السوفياتي وما رُوّج عن “نهاية التاريخ” وانتصار الديمقراطية الليبرالية وانهيار “السرديات الكبرى” وتحرير الفرد ونضال الأقليات وغيرها من المصطلحات/المفاهيم التي تلتقي نوعا ما عند نبذ المشاريع السياسية الكبرى الجامعة. وإذا ما أحصيْنا كل حركة أو تحرّك نظمته مجموعة من المواطنين في منطقة ما في تونس فسنجد أنفسنا إزاء آلاف الحركات، بعضها لم يدمْ إلا ساعات وبعضها الآخر استمرّ لأشهر وسنوات. ومع هذه الكثرة المدهشة يبرز سؤال بديهي: لماذا لم تُثمر أغلب هذه الحراكات والحركات؟ لماذا لم ينعكس هذا الغليان على الواقع المعيوش لعموم التونسيين؟ 

طبعا ليست هناك إجابات حاسمة بل محاولة استقراء للعوائق البنيوية والجوهرية التي قد تكون المتسبّبة في ضعف خصوبة هذه البذور/ الحركات الاجتماعية. وبحكم كثرتها وتنوّعها وتعدّد مطالبها، فمن المستحيل، عبر تناولها في مقال واحد، أن نحيط بكل الجوانب. لذا اخترْنا أن نتناول بالتحليل أربعة “أصناف” من الحركات لأهميتها و/أو لتكررها بشكل كبير: 

الحركات المدافعة عن الحق في الماء

خلال سنة 2020، تلقى “المرصد التونسي للمياه” 1345 تبليغ مواطني عن مشاكل تتعلق بالمياه: انقطاع طويل المدة دون سابق إعلام، حرمان متواصل من الماء الصالح للشراب أو المخصص للري، تسربات لمدة تفوت 3 أيام، الخ. وقد أحصى المرصد 399 تحركا احتجاجيا للمطالبة بالحق في الماء في أغلب الولايات التونسية خلال نفس السنة. هذه الأرقام توثق الحالات المبلغ عنها للمرصد فقط (لا تتوفر بيانات حول عدد التبليغات والشكايات الموجهة مباشرة إلى السلطات والإدارات المعنية)، وهي لا تختلف كثيرا عن الاحصائيات التي نشرها المرصد في السنوات السابقة. كما تزايدت في السنوات الأخيرة التحذيرات الصادرة عن جهات رسمية وبحثية من تفاقم شحّ الموارد المائية في تونس. كما تتالت منذ 2015 الزيادات في تسعيرة الماء المخصص للاستهلاك المنزلي، وتضاعف استهلاك التونسيين للمياه المعدنية في السنوات الأخيرة لتحتل تونس المرتبة الرابعة عالميا بمعدل 225 لتر للفرد سنة 2020 في ظل تواتر الانقطاعات طويلة المدة وتردّي جودة المياه التي توفرها الشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه “صوناد”. وسجّلت في السنوات الأخيرة عدة تحرّكات احتجاجيّة ضد تلويث المياه و/أو استنزافها بسبب الأنشطة الاستخراجية والصناعية، ومنها على سبيل الذكر لا الحصر التحركات ضد شركة فسفاط قفصة في الحوض المنجمي، والمركب الكيميائي في قابس، ومصانع تعبئة المياه المعدنية في القيروان، ومقطع الحجارة في قرية “الهوايدية” (ولاية جندوبة).  

حركات المتضررين من مصبّات النفايات

أزمة رفع النفايات المنزلية التي تعيشها مدينة صفاقس منذ تجدد الحركة الاجتماعية المطالبة بالغلق النهائي لمصب “القنة” بمعتمدية عقارب، ليست الأولى التي تعيشها تونس ولا الوحيدة ولا الأخيرة. تونس تبدو عاجزة فعليا عن التصرّف في نفاياتها المنزلية، وليس الحال بأفضل بالنسبة للنفايات الصناعية والزيوت والفضلات الاستشفائية ومخلفات البناء والهدم، على الرغم من كل الخطابات الرسمية عن فرز وتثمين الفضلات وتطوير المصبات. 11 مصبا مراقبا وأضعافها من المصبات العشوائية تستقبل سنويا ما بين 2 و3 مليون طن من النفايات. لن نتحدّث عن انتشار الفضلات وتحلّلها في الأحياء السكنية بسبب تأخّر رفعها من قبل البلديات بل عن المصبّات التي صارت تمثّل صداعا مزمنا في عدة مناطق من البلاد. وهي كذلك ليس فقط من حيث اختيار أماكنها حيث تكون ملاصقة لمناطق سكنية ومقامة على أراض فلاحية، بل أيضا لتجاوز مدة استغلالها وللأضرار المتأتية من الروائح والغازات المنبعثة منها في ظل اعتماد السلطات التونسية تقنية الدفن أساسا. ومنذ 2011 لم تتوقف تقريبا الاحتجاجات حول هذه المصبات: في جربة (مصب تالبت/سدويكش بجربة ميدون) والمنستير (طريق الوردانين، مصب قزاح) وسوسة (مصب بوفيشة) ونابل (منزل بوزلفة، مصب الرحمة) وقفصة (المصب البلدي بمنطقة سيدي حمد زروق) والقيروان (مصب الباطن) وتونس (مصب برج شاكير) وصفاقس (مصب القنة ومصب عين فلات/طينة)، الخ. وهذه ليست إلا بعض الأمثلة، فالقائمة تطول ويمكن اجراء بحث في مواقع وسائل الإعلام التونسية وأخبار الجهات للتأكد من أن هذه الاحتجاجات مستمرة منذ سنوات.

الحركات التي تستهدف المؤسسات الاستخراجية

نتحدث هنا عن الاحتجاجات المنظمة والمطوّلة التي جرت في محيط أو داخل منشئات ومؤسسات تعمل في قطاعات النفط والغاز (الكامور/تطاوين، الصخيرة وقرقنة/ صفاقس) والفوسفات (أساسا قفصة وبدرجة أقل المكناسي/سيدي بوزيد) والصناعات الكيميائية (قابس وصفاقس) والجبس (تطاوين).  تنشط جلّ هذه الحركات في وسط وجنوب البلاد بحكم تركز الثروات والأنشطة المعنية هناك. أما الغايات الأساسية لهذه الحركات فهي التشغيل بدرجة أولى، وكذلك المساهمة في تنمية المنطقة والتقليص من الأنشطة الملوثة وجبر الأضرار البيئية. وتعتبر الأكثر بروزا مقارنة ببقيّة الحركات نظرا لتواترها واستمراريتها و”حدّتها”، وكذلك بحكم الثقل الاقتصادي للأنشطة الاستخراجية.

حركات افتكاك وتحوز الأراضي الدولية: 

في الأشهر والسنوات الأولى التي تلت جانفي 2011، قام مواطنون بافتكاك ما يقارب 70 ألف هكتار من الأراضي الدولية (أي على ملك الدولة) غير المستغلة أو حاولوا السيطرة على شركات إحياء فلاحي (ضيعات على ملك الدولة تؤجرها لمستثمرين خواص) في مختلف مناطق البلاد خاصة في جهتها الغربية. أغلب حركات الافتكاك هذه فردية أو عائلية، لكن بعضها كان فعلا جماعيا واعيا أريد منه استغلال الأراضي الفلاحية بشكل بعيد عن منطق السوق، يضمن حقوق العمال ولا يستنزف الأرض ويصرف فائض الأرباح على تطوير وتنمية المنطقة التي تجاور الضيعة. الحالات الثانية هي في الواقع قليلة، أساسا واحتي “الطرفاية” بزعفران و”هنشير معمر” بجمنة من ولاية قبلي، “هنشير بن عرعار” في منطقة الدهماني بولاية الكاف، وضيعات “العمران” و”الاعتزاز” في منطقة منزل بوزيان بولاية سيدي بوزيد. بعض هذه التجارب كان مجرد محاولات استمرت لأيام أو أسابيع، وبعضها الآخر حقق نجاحا مستمرا منذ سنوات كما هو الحال مع “هنشير المعمر” في جمنة.

تجزئة القضايا

من بين أهم الأسباب العميقة لضعف نجاعة الحركات الاجتماعية في تونس، نجد الفصل بين الأسباب والنتائج وسعيها لمعالجة الأعراض من دون تتبع أصل العلّة.

في قضية التمتع بالموارد المائية، لا يمكن معالجة اللاعدالة المائية بمدّ بعض القنوات هنا وهناك وبومضات تحسيسية عن ضرورة الترشيد في استهلاك الماء عند غسل الصحون والكؤوس. الأمر أعمق بكثير ويتعلق بالإدارة السياسية للموارد المائية في تونس. فعلى الرغم من كل الخطابات التهويلية والتحذيرية من خطر العطش وتناقص الثروة المائية في تونس -وفق خطوط الفقر والغنى المائيين التي تحددها منظمات دولية وفق رؤى ليبرالية تنطلق وتنتهي عند نمط العيش والإنتاج الغربيين- فإنّ تونس لا تواجه خطر الجفاف بل خطر الاستنزاف نتيجة للسياسات الفلاحية المتبعة منذ أواخر الستينات، وحتى قبلها. اختارت الدولة التونسية منذ عقود الاستغلال الفلاحي المكثّف وتعبئة أكثر ما يمكن من الموارد المائية لتطوير فلاحة قائمة على الريّ المكثّف والإنتاج الموجّه للتصدير: أكثر من 80% من الموارد المائية المعبّأة تذهب إلى الفلاحة في تونس، لا لتحقيق السيادة الغذائية وفائض إنتاج بل لتصدير أجود المنتوجات إلى الخارج وتحصيل العملة الصعبة اللازمة لاستيراد الحبوب والزيوت النباتية وغيرها. خمسون عاما من السياسات الفلاحية الليبرالية لم تغيّر فقط العادات الغذائية للتونسيين بل جعلتهم يستوردون موادّ ليسوا بحاجة لها أو كانوا ينتجونها قبل أن يتم توجيه الإنتاج نحو محاصيل بعينها. كما أن ترك إدارة المياه في الأرياف للمجمعات المائية التي لا تتوفر لدى أغلب مسيريها الكفاءة والمعرفة اللازمتين لإدارة منشأة مائية كبيرة (صيانة، تصليح وتطوير، محاسبة واستخلاص) جعل منها إحدى بوابات إهدار الثروة المائية. أما بالنسبة للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه فهي تعاني منذ سنوات طويلة تبعات سياسات التقشف وتقليص الدعم العمومي وتجبر على الانخراط في مسار سلعنة الماء. فمنذ 2008 رفعت الدولة يدها ولم يعد للشركة من معيل غير مواردها الذاتية -أي ما تستخلصه من فواتير الاستهلاك-لصيانة شبكة قنوات ومحطات ما انفكت تتقادم وتتعرض للعطب وتتسبب سنويا في تسريب كميات هائلة من المياه لتتبخر في الطبيعة، ناهيك عن العجز الحاصل في القيام بمشاريع جديدة.  باختصار، تتعلق المشاكل المائية أساسا بسوء الإدارة والسياسات التي تخدم المستثمرين لا المستعملين. وقد تجبر الاحتجاجات والحركات الاجتماعية “المائية” الدولة على مدّ بعض القنوات هنا وهناك. لكن ليس هناك ما يضمن -في ظل استمرار نفس السياسات الفلاحية والخيارات الاقتصادية-أنه ستكون هناك مياه كافية في القنوات وأن تكون ذات جودة وصالحة لإرواء البشر والشجر. وتجب الإشارة هنا إلى وجود رهان “مائي” كبير في السنوات القادمة، ألا وهو “مجلة المياه” الجديدة التي تحاول الحكومات التونسية المتعاقبة تمريرها منذ 2016 وتم تنقيح مشروعها وتأجلت المصادقة عليها مرات عدّة بسبب ضغوط مختلفة المصادر، إما من قبل “شركاء” وممولين دوليين لجعلها أكثر ليبرالية أو من قبل منظمات وشخصيات مناضلة تونسية بهدف جعلها أكثر عدالة ومواطنية. 

قضية المصبات تبدو ، نظريا على الأقل، أقل تعقيدا من القضايا الأخرى. فالحلول تقنية بدرجة أولى، وتوعوية بدرجة ثانية. لكن المشكلة مرة أخرى في سياسات الدولة واختياراتها: ما معنى أن تفرض إنشاء مصبّ للفضلات المدفونة في الأرض بجانب منطقة سكنية أو على أرض فلاحية؟ لماذا هذه المنطقة وليس تلك؟ هل هناك مواطنون درجة أولى ومواطنون أدنى مرتبة؟ إلى متى ستستمرّ سياسة دفن الرأس في الرمال عبر الإصرار على سياسة دفن النفايات عوض فرزها وتقليل سمومها وانبعاثاتها واستغلال أكثر ما يمكن في صناعات تحويلية؟ متى ستُقر سياسات تشاركية تعطي للمواطن دورا في التفكير والقرار حول إدارة هذا الملف؟ ماذا عن دور البلديات خاصة بعد إقرار قانون اللامركزية؟ هناك أيضا ما يمكن أن نسمّيه اقتصاد “الفضلات” والذي تتربع على قمّة هرمه الشركات الخاصة المتحصلة على عقود لرفع ونقل الفضلات، وتتنافس في أوسطه شركات ومعامل صغيرة تعمل على إعادة تدوير المخلفات البلاستيكية والمعدنية، وتتزاحم أسفله جيوش “البرباشة” التي ما انفكت تزداد عدادا كل يوم لتصبح قطاعا كاملا يشغل ويعيل آلاف الأسر التونسية في ظروف عمل أقلّ ما يقال عنها أنّها مهينة ومخطرة. وقبل الحديث عن الوعي المواطني يجب توفير أبسط أسبابه: حاويات صغيرة وكبيرة مخصصة لكل صنف من الفضلات في كل مكان. طبعا لن تتغير عادات التونسيين في يوم وليلة، لكن الإرادة السياسية عندما تكون صادقة تنتقل “عدواها” آجلا أم عاجلا ولسنا شعبا “متخلفا جينيا” حتى ينقطع الأمل منها. 

وبالنسبة لمسألة الشركات الاستخراجية ومسؤوليتها الاجتماعية، فإن تشغيل بعض الأنفار كل سنتين أو ثلاث بعد سلسلة من الاعتصامات والمواجهات التي تتسبب أحيانا في سقوط قتلى لا يمكن أن يكون حلا ناجعا ولا دائما. بإمكان الشركات أن تُنهي العقود وتطرد العمال وتُعيد انتداب آخرين بعد الاحتجاجات وهكذا دواليك. كما ستصرف من حين إلى آخر بضعة آلاف من الدينارات لجمعيات رياضية أو لمؤسسات تربوية في المنطقة وتستغل هذه الأمور لتجميل صورتها والتدليل على عمق اهتمامها بمحيطها. في هذه الأثناء، يستمرّ استغلال الموارد الطبيعية بأرخص تكلفة ويستمرّ التلويث وآثاره التي تبقى لعقود وقرون في الأرض والهواء والمائدة المائية. ويوما ما ستنضب الآبار والمناجم، ولا تبقى إلاّ أشباح المباني والمنشآت والبطالة والتلوث. مطلب التشغيل أساسي ولا يمكن المزايدة على المطالبين به. كما أنّ مساهمة المؤسسات الاستخراجية في التنمية هو أمر ضروري لكن لا يجب أن يكون ذلك في شكل منّة أو “تنازلات” تقدّمها المؤسسة من وقت لآخر بل أن تصاغ في شكل قوانين وفي عقود الاستغلال: حدّ أدنى من الوظائف المخصّصة لأبناء المنطقة، النسبة من الأرباح التي ستذهب لتنمية المنطقة وآليات التصرف فيها ومجالات استغلالها، احترام مبدأ العهدة على الملوث، البصمة المائية لنشاطات المؤسسة، تحضير المنطقة وتأهيلها لمرحلة ما بعد نهاية الأنشطة الاستخراجية والتصنيعية.

ملفّ تحوّز الأراضي الدولية هو الأكثر تعقيدًا. هذه الأراضي هي حصيلة أكثر من خمسة قرون من انتزاع ونهب الحكّام المتعاقبين على البلد لأراضي الأهالي خاصة من أبناء العروش. سياسة بدأت مع سيطرة البايات العثمانيين على “الإيالة” التونسية في القرن السادس عشر ميلادي واقتطاعهم لأكثر الأراضي شياعة وخصوبة (من هنا ولدت عبارة “رزق البيليك” أي ممتلكات الباي)، وتكثفت زمن الاستعمار الفرنسي (1881 –1956) بشكل واسع وممنهج ولم تحُدْ عن دربها دولة الاستقلال ولم تقطع معها ثورة 2011. بلغت مساحة هذه الأراضي حوالي 800 ألف هكتار بعد إلغاء نظام “الأحباس” (الأوقاف) في 1957 واسترجاع آخر الأراضي الزراعية التي كان يهيمن عليها الأوروبيون إثر إعلان الجلاء الزراعي في 1964، أي أقل بقليل من عشر المساحة الصالحة للاستغلال الفلاحي في تونس والتي تقدر بأكثر من 8 مليون هكتار. كان أصحاب الأراضي الأصليون يأملون أن  نهاية الاستعمار ستعيد لهم حقوقهم، لكن هذا لم يحصل وتحوّلت هذه الأراضي التي أصبحت “دولية” إلى مخبر لسياسات النظام: تارة النموذج الذي يجب أن تحتذي به “التعاضديات” الاشتراكية (1964-1969)، وتارة المنصة التجريبية للانفتاح الاقتصادي وتحرير قطاع الفلاحة مع تولّي الهادي النويرة للوزارة الأولى في 1970 (تمّ تشجيع المهندسين الفلاحيّين الذين يعملون في الوظيفة العمومية على انشاء مشاريع فلاحية خاصة فوق أراضي دولية)، وتارة أخرى وسيلة لإغراء المستثمرين الخواص وريعا زبائنيا -مع تولي بن علي السلطة- يقتطع للمقربين والموالين. في الأشهر التي تلت جانفي 2011، تتالتْ عمليات الاستيلاء على الأراضي الدولية، وطبعا لا يمكن أن نجزم بمدى مشروعية هذه العمليات ولا بحسن نوايا القائمين بها وهل هم أصحاب حق فعلا. لكن الواضح أنّ اغلب الأراضي المفتكّة فلاحية بالأساس وإنّ من افتكها هم من أهالي المنطقة: عاطلون عن العمل وفلاحون صغار بالأساس. لم تطُلْ عمليات الاستحواذ طويلا، إذ أنّ أغلبها استرجعتْه الدولة “سلميا” أو بالقوة العامّة انطلاقا من سنة 2015. واليوم هناك بضعة آلاف هكتار ما زالت “مفتكّة” وتسعى السلطات إلى استرجاعها. حتى واحة جمنة التي كانت مثالا فريدا بعد 2011 في التسيير الذاتي لمستغلة فلاحية هي قانونيا تابعة للدولة وتستغلها جمعية واحات جمنة بمقابل كأيّ شركة إحياء فلاحي. المنجز الوحيد أنها أفلتت من الاستغلال الرأسمالي المكثف والجشع لتقسم عوائدها على العاملين فيها ولتنمية محيط الواحة. بالإضافة إلى الأراضي الدولية، هناك قرابة 3 مليون هكتار من “الأراضي الاشتراكية” أي التي تتملكها مجموعات قبليّة (في ولايات الجنوب التونسي بالأخصّ)، نصفها تقريبا مراعٍ اشتراكية لا يمكن التصرف فيها إلا جماعيا، ونصفها الآخر يخضع لأشكال مختلفة ومعقدة من الملكية والتصرف. هذه الوضعية تعطل استغلالها أو رهنها والحصول على قروض لاستثمارها. لدينا إذا وضعية عقارية فلاحية شائكة وجيش من صغار المزارعين الذين لا يمتلكون أراضي أو يمتلكون مساحات صغيرة بالكاد تغطي جزءًا من الاستهلاك العائلي، في حين أن هناك مئات آلاف الهكتارات غير مستغلّة بشكل كامل أو جزئي. ومهما كانت كثافة وعدد المحاولات الفرديّة في افتكاك هذه الأراضي، فإنها لن تفلح في وجه آلة الدولة المدجّجة بالقوانين والبوليس والسجون، ولا في اقناع الرأي العام الذي سيراها عمليات نهب للملك العمومي. ويبقى الأمر الأصعب هو أن تُقنع أصلا صغار المزارعين بأهمية الإصلاح الزراعي. حركة “فلاحون بلا أرض” البرازيلية مثلا راكمت عشرات السنوات من النضالات وقتل المئات من منخرطيها خلال افتكاك الأراضي، وكانت تقدّم مشروعا كاملا يجمع بين محو الأمية والتكوين السياسي للفلاحين واستنباط أساليب استغلال جماعي تهدف إلى توفير الاكتفاء والسيادة الغذائيين للفلاحين بعيدا عن منطق السوق والربح والتنافس.

جزر متناثرة في صحراء واحدة

بلغت حصيلة الاحتجاجات الاجتماعية الجماعية في تونس خلال السنوات الخمس الأخيرة، بحسب أرقام المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية: 8759 تحركا احتجاجيا في 2020، و9091 في 2019، و9365 في 2018، و10452 في 2017، و8713 في 2016. استأثر مربّع القيروان/القصرين/سيدي بوزيد/قفصة بأكثر من نصف هذه الاحتجاجات خلال سنة 2020، وتوزّعت بقية الاحتجاجات على كل ولايات الجمهورية مع ارتفاع واضح في إقليم تونس الكبرى وسوسة وصفاقس وولاية تطاوين. آلاف الحركات الاحتجاجيّة كل سنة في كل مكان تقريبا على امتداد عشرية وأكثر. تتشابه مطالب أغلب الحركات (التشغيل، التنمية، الصحّة، الماء الصالح للشراب، رفع ضرر بيئي… إلخ) وتتكرر كل يوم لكنها لا تتقاطع ولا تتعاضد ولا تنسق فيما بينها كأنها تقع وتتحرك في بلدان تفصل بينها محيطات. وهذا على الرغم من توفر الحدّ الأدنى من حرية التعبير والتنظّم والتنقّل، وتطوّر وسائل الاتصال والتواصل الفوري وإمكانيات التنسيق بين عدة جهات ومجموعات في وقت وجيز. في ظلّ هذا التشتّت، يسهل على السلطات المركزية والمحلية الاستفراد بكل حراك على حدة وامتصاصه تدريجيا حتى يخفت صوته وتبهت ألوانه.

نفس الوصفات “السحريّة” غير الفعالة

من الأسباب المؤدّية إلى ضعف نجاعة الحركات الاجتماعية انتهاج نفس التكتيكات والأساليب النضالية تقريبا وكأنها وصفة “سحرية” صالحة لكل زمان ومكان: اعتصامات أمام مؤسسات اقتصادية أو مقرات رسمية، قطع طرقات أو تعطيل حركة القطارات، إضرابات محلية أو جهوية ومسيرات احتجاجية تنتهي بمواجهات تختلف حدّتها مع قوات الأمن أو بإحباط وضجر المحتجّين وعودتهم إلى بيوتهم. الكثير من التونسيين لم يستوعبوا بعد أن “الفسحة” الثورية قد انتهت مع تنظيم الانتخابات التشريعية والرئيسية في 2014 والتي أنهتْ نتائجها حالة “اهتزاز” النظام والدولة، وتاليا أنهت ضرورة تقديم تنازلات كما كان الحال في الأشهر الأولى التي تلت سقوط الديكتاتورية وانهيار الحزب الذي حكم تونس لأكثر من نصف قرن. وحتى مع متطلبات “الديمقراطية” لم تجدْ السلطات صعوبة كبيرة في تفتيت أغلب الاحتجاجات والحركات الاجتماعية في السنوات الأخيرة، مراوحة بين التجاهل والمماطلة وتأليب الرأي العام (مستعينة بماكينة من الإعلاميين والخبراء الاقتصاديين والمثقفين المتشبعين بالأيديولوجيا الليبرالية والمعادين للحقوق الاقتصادية والاجتماعية) والاحتواء وتفتيت المطالب، وكذلك القمع العنيف والقاتل أحيانا. تكرّر الاحتجاجات بنفس المطالب وأشكال التحرّك والخطاب طيلة سنوات جعلها تفقد تدريجيا تعاطف واهتمام الناس وحتى الإعلام. فتحولت إلى “أخبار متفرقة” نادرا ما تتحول إلى “حدث” أو “قضية رأي عام”. 

حركات اجتماعية بلا يسار؟

 لدينا “الدقيق” و”الماء” و”الملح” لكن هناك مكون أساسي ناقص: الخميرة. اليسار هو الخميرة الغائبة أو الموجودة ب”كميات” غير كافية في الحركات الاجتماعية حتى يجعلها تختمر وتنضج فتعطي خبزا طازجا يغني عن جوع. 

يعيش اليسار التونسي بمختلف مدارسه وأحزابه أزمة وجودية عميقة منذ 2011: الانتقال من النضال ضد الديكتاتورية إلى الالتقاء الفعلي بدون حواجز مع “الجماهير”، التمترس في خندق المعارضة أو المشاركة في الحكم، الانخراط في المسار الثوري و/أو الالتزام بقواعد “اللعبة الديمقراطية”، الحقوق الاجتماعية-الاقتصادية أو الحريات الفردية. جزء من اليسار، الذي يصنف وسط يسار أو اجتماعي-ديمقراطي، انخرط منذ البداية في مسار “الانتقال الديمقراطي واختار أولوياته: “بناء المؤسسات الدستورية” و”تثبيت التجربة الديمقراطية” بهدوء وتوافق مع رجال النظام القديم ثم الإسلاميين. أما الجزء الآخر، أو أغلب ما تبقى من الأحزاب اليسارية التي كانت تصنف كراديكالية، فإنها انحازت أكثر للحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي طالبت بها انتفاضة ديسمبر 2010 / جانفي 2011 مع التمسك بتصفية الإرث الديكتاتوري قبل الشروع في بناء الجديد. ومع قدوم حركة النهضة الإسلامية إلى الحكم في أكتوبر 2011 استعمل هذا الجزء من اليسار الحركات الاجتماعية كسلاح ضد الحكام الجدد وكان متواجدا بنشاط وحماس كبيرين في اغلب التحركات الكبيرة -خاصة بعد تأسيس الجبهة الشعبية. لكن مع تواتر العمليات الإرهابية والممارسات العنيفة للميليشيات القريبة من الإسلاميين والاغتيالات السيّاسية تغيرت تدريجيا بوصلة اليسار “الراديكالي” وخفت نفسه الاجتماعي ليركّز أكثر على مسائل الحريات الفردية والديمقراطية، ويدخل في تحالفات غير منطقية ولا مبدئية مع قوى يمينية “حداثية” بهدف التصدّي لما اعتبره “خطر حركة النهضة”. ولئن منحه هذا الاختيار بضعة مقاعد في البرلمان والمرتبة الثالثة في الرئاسيات سنة 2014 فإنه ضرب مصداقيته وعمق الهوة بينه وبين الطبقات الشعبية والشارع تاركا مكانه لقوى سياسية رجعية. او للفراغ الكامل.

وتنبغي الإشارة هنا إلى أنه وعلى الرغم من الحضور الضعيف لليسار كأحزاب وقوى صلب ما يسمّى بالحركات الاجتماعية، فإن حضور مناضلين يساريين بصفتهم الشخصية كأبناء للمنطقة يشكّل أحيانا فارقا مهمّا. وهذا ما يمكن ملاحظته في بعض الحركات التي إما حققت مكاسب جزئية وإما استطاعت على الأقل أن تحدث زخما وتجبر وسائل الإعلام والسلطة على التحرك نحوها.

ناشطون محترفون 

في ظلّ الحضور الباهت للقوى اليسارية في ديناميات هذه الحركات الاجتماعية، وبالتالي ضعف إسناده لها، يبرز “بديلا” اسمه مكونات المجتمع المدني. حضور هذه المكونات هو في أغلب الأحيان بصفة “ملاحظ”. نتحدّث هنا عن المنظمات الحقوقية والمراصد التي تلعب دورا هامّا في رصد الانتهاكات التي يمكن أن تستهدف المحتجين والتعريف بقضاياهم وتحركاتهم وخاصة توفير ما يمكن أن نسميه بقاعدة بيانات أو خارطة الاحتجاجات والحركات الاجتماعية. وعلى الرغم من أهمية هذه الأدوار المحمودة، فإنه ليس بامكانها أن تسدّ الفراغ الذي يتركه غياب القوى السياسية الحاملة لمشاريع جامعة وجمعية. هناك عوائق أساسية تمنع مكوّنات المجتمع المدني، حتى أكثرها نضالية وصدقية، من أن تكون الخميرة التي تنضج خبز الحركات الاجتماعية في تونس. هي تعاني عموما مع بعض الاستثناءات القليلة من نفس الخلل الذي يعطب هذه الحركات: تجزئة القضايا الاجتماعية-الاقتصادية وفصلها عن سياقها و”الخوف” من تسييسها. فمكونات المجتمع المدني هي بصورة عامة بالتعريف والقانون والممارسة مختصة في قضايا ومشاغل بعينها، وحتى أكثرها “راديكالية” غاياته إصلاحية وممارساته “سلمية” وخطاباته/حركاته محسوبة حتى لا يتهم بالتسييس والتحزب و”الانحياز”. كما أن أنشطة المجتمع المدني تعتمد بشكل كبير على التمويل، المحلي والأجنبي، من أطراف من خارج الجمعية/المنظمة. هذا التمويل ليس بالضرورة مصادرا للقرار المستقل، لكنه يشكل بابا في كثير من الأحيان لتغول أجندات لا تتطابق بالضرورة مع أولويات التونسيين وواقعهم. ومن شأن هذه الكيانات أن تصنع جيلا من الناشطين “المحترفين” والمتخصّصين غالبهم لا يتحرّك إلا ضمن قضية/مشكلة واحدة ولا يتقن إلا مهام واحدة. وحتى خطابات وجهود التشبيك مع بقية مكونات المجتمع المدني تكون في أكثر الأحيان مناسباتية وضعيفة. إذ هي تصطدم في الكثير من الأحيان  بال “تنافس” الحاصل بين الجمعيات والمنظمات التي تعمل على نفس القضايا أو تتقاطع اهتماماتها.

****

هذا التحليل لمعوقات تطور الحركات الاجتماعية في تونس وضعف نجاعتها لا يعني بأي حال من الأحوال تبخيسا لنضالاتها ولا انتقاصا من أهميّتها. غالبية الحركات الاجتماعية تتم في الهوامش حيث يضعف حضور الأحزاب والنقابات والناشطين المدنيين، ولا يذهب إليها الإعلام “الجماهيري” إلا في حالات نادرة. وهناك أيضا يكون المستوى التعليمي لأغلب السكان متدنيّا وحتى أبناء المنطقة من المثقفين يكونون في أغلب الأحيان قد استقرّوا في المدن الكبرى للدراسة و/أو العمل، مما يعني صعوبة ضمان الإسناد من القوى الحزبية والمدنية، وضعف القدرة على التنظّم والمناورة وعدم توفر منابر لتعريف الرأي العام بقضايا المحتجين ونضالاتهم.  

وفي ظل تردّي المشهد السياسي الذي تكاد تختفي فيه القوى الحزبية والفكرية الحاملة للواء العدالة الاجتماعية والمناضلة ضد السياسات النيوليبرالية، تبقى الحركات الاجتماعية ضرورة لتخفيف سرعة آلة سحق الحقوق الاقتصادية-الاجتماعية، وفضاء بديلا/مؤقتا للعمل السياسي يصيغات أقل كلاسيكية وتنفيرا للناس. كما أنها تسهم في مراكمة النضالات وإبقاء جذوة المواطنة والكرامة متّقدة، في انتظار أن تختمر الظروف أكثر وتتطوّر وتكبر وتخرج من محابسها الجغرافية والفكرية نحو أفق أرحب.  

نشرت هذا المقالة في العدد 24 من مجلة المفكرة القانونية – تونس: الريع المُخضرم

لقراءة المقال باللّغة الانكليزيّة


1 خارطة العطش لسنة 2020، المرصد التونسي للمياه.

2 استهلاك المياه المعدنية في تونس، الواقع والتحديات، منشورات المرصد التونسي للمياه، جويلية 2021. 

3 استهلاك المياه المعدنية في تونس، الواقع والتحديات، منشورات المرصد التونسي للمياه، جويلية 2021. 

4 انظر الاستراتيجية الوطنية للتصرف في النفايات التي وضعتها الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات. 

5 انظر حوار مبروك كرشيد مع وكالة تونس للأنباء، 17 أكتوبر 2016. 

6  البرباشة الذين يمتهنون النبش في المزابل لاستخراج مواد قد تكون ذات قيمة.  

7  Elloumi, Mohamed, “Les terres domaniales en Tunisie“, in Études Rurales, n°192, 2013, p.p. 43-60.

-Elloumi, Mohamed, “Les terres domaniales en Tunisie“, in Études Rurales, n°192, 2013, p.p. 43-60

-Werner K. Ruf, Le socialisme tunisien : conséquences d’une expérience avortée, in  Introduction à L’Afrique Du Nord Contemporaine, p. 399-411.

9 ملف الأراضي الاشتراكية في تونس عالق بين الدولة والعروشات، ريم بن رجب، العرب، 29 سبتمبر 2016. 

10  انظر تقارير المنتدى لسنوات 2018 و2019 و2020.

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة وتنظيم مدني وسكن ، بيئة ومدينة ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، أحزاب سياسية ، مجلة تونس ، حركات اجتماعية ، قطاع خاص ، حرية التعبير ، حرية التجمّع والتنظيم ، الحق في الصحة ، أملاك عامة ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني