بعد أسابيع من تكدّس أطنان النفايات في شوارع صفاقس، ثاني أكبر الولايات التونسيّة، دخلت الأزمة منعرجا جديدا في إثر اتّخاذ السلطة المركزيّة قرارا بإعادة فتح مصبّ (مكبّ) “القنة” بمعتمدية عقارب بالقوّة، رغم احتجاجات السكان المطالبين بتطبيق قرار قضائي بغلق المصبّ صادر منذ 2019. جاء قرار فتح المصبّ بالقوّة العامّة بعد استقبال رئيس الجمهورية قيس سعيّد، يوم 8 نوفمبر، كلّا من رئيسة الحكومة نجلاء بودن، ووزير الداخلية توفيق شرف الدين. وقد عاد سعيّد إلى اتهام البلديّات بالمساهمة في اصطناع الأزمة تنفيذا لأجندة سياسية. أدّى قرار إعادة المصبّ إلى اشتعال الاحتجاجات في معتمدية عقارب، التي واجهتها الآلة القمعيّة بشراسة، مخلّفة وفاة الشابّ عبد الرزاق الأشهب، رغم إنكار وزارة الداخلية، كعادتها، لمسؤوليتها. هكذا، تمخّضت شعارات رئيس الجمهورية، حول “المقاربات والتصورات الجديدة”، وإعادة السلطة للشعب في “القاعدة”، فولدت في النهاية حلاّ قمعيا. حتّى استقبال رئيس الجمهورية، يوم 11 نوفمبر، لمجموعة من النشطاء من عقارب، لم يثمرْ سوى وعودِ بإيجاد حلول “في أقرب الآجال”.
جذور المشكل: سياسة تأجيل الأزمات بدل حلّها
يعود إنشاء “مصبّ القنّة” إلى سنة 2008، على مساحة 36 هكتار، بهدف استيعاب نفايات كامل جهة صفاقس. جاء ذلك في إطار انتهاج الدولة منذ تسعينيات القرن الماضي، سياسة الحدّ من المصبات العشوائيّة وإنشاء مصبات مراقبة جهوية. وفي حين يتمّ إنشاء المصبات من قبل الدولة، عبر الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات، فإن استغلالها يُوكل إلى شركات خاصّة في إطار عقود لزمة.
تولّت شركة “SEGOR”، التابعة جزئيا إلى مجموعة “SUEZ” الأوروبية[1]، التصرّف في مصبّ القنة، على أن تستثمر في تثمين النفايات، بالأخصّ عبر استخراج غاز الميثان، مع معالجة سائل “الرشاحة” (lixiviats) الناتج عنها[2]. في المقابل، لا يقع فرز النفايات عند وصولها إلى مصبّ القنّة، مما يؤدي إلى ردم جزء كبير من النفايات القابلة للتثمين[3]. ففي حين يعتبر القانون عدد 41 لسنة 1996 المتعلّق بالنفايات وبمراقبة التصرف فيها، الردم في المصبات حلاّ أخيرا بعد استيفاء كلّ مراحل التثمين الممكنة، لا يزال تثمين النفايات المنزلية العضوية ضعيفا جدّا. كما استقبل المصبّ طيلة سنوات نفايات طبيّة، من دون أن يتأكد مرورها المسبق عبر مسار الفرز اللازم.
ساهمت حركة التعمير في اقتراب المصبّ أكثر فأكثر من المناطق السكنيّة، فانعكست آثاره الصحّية والبيئيّة سلبا على حياة سكّان معتمديّة عقارب، وكذلك على منطقة “القنة” ذاتها، الثرية إيكولوجيا، والمصنّفة منذ سنة 2009 محميّة طبيعيّة. إذ تنبعث من المصبّ، حسب الأهالي، غازات سامّة، مثل كبريتيد الهيدروجين (H2S)، كما تتسرّب الرشاحة الناتجة عن معالجة النفايات إلى الطبقة المائيّة، لتساهم في تلوث الماء الصالح للشراب وفي إتلاف الزراعات. بالإضافة إلى ذلك، يرجع الأهالي ظهور أفاعي وحشرات سامّة في المعتمديّة إلى مصبّ النفايات، بعضها تسبّب في حالات إصابة وحتى في وفيات.
دفع هذا الوضع السكان إلى التنظّم منذ سنوات في حراك بيئي تحت شعار “مانيش مصبّ” (لست مكبّا). وقد ساهمت تحرّكاتهم في انتزاع قرار قضائي، في 11 جويلية 2019، من محكمة الناحية بعقارب، في شكل إذن على عريضة بإغلاق مصبّ القنة، استنادًا إلى الفصل 45 من الدستور الضامن للحقّ في بيئة سليمة. رفضت كلّ من وكالة التصرف في النفايات والشركة المستغلّة للمصبّ الالتزام بهذا القرار، الذي تصرّ الوكالة على أنّ مساره القضائي لم يستكمل بعدُ. لكن استمرار الحراك فرض على هياكل الدولة، في أوت 2020، الالتزام بغلق المصبّ نهائيّا في موفى سنة 2021، على أن يتمّ إنشاء مركز جديد لتثمين النفايات ومعالجتها في منطقة المحرس، جنوب ولاية صفاقس. كما كان متوقّعا، شارف الأجل على الانقضاء دون أن تبدأ تهيئة الموقع الجديد مرحلة الدراسة، في ظلّ رفض أهالي المحرس للمشروع من جهة، وتعطّل إجراءات الصفقات العمومية من جهة أخرى. من جهتهما، لا شيء يدلّ على أن وزارة البيئة أو وكالة التصرف في النفايات قد سعتا إلى اختصار الآجال والتعجيل بإقامة المشروع. على العكس، كان واضحا أن الالتزام بغلق المصبّ نهائيّا قبل موفى 2021 لم يكن الهدف منه سوى ربح بعض الوقت وتأجيل الأزمة، تماما كما اعتادتْ الحكومات المتعاقبة على معالجة مختلف الملفات الاجتماعية والجهوية عبر ترحيلها، فتقدّم الالتزامات دون أيّ نيّة ولا قدرة على احترامها.
في الأثناء، أغلقت وكالة التصرف في النفايات المصبّ بصفة فجئية، يوم 27 سبتمبر 2021، بعد بلوغ طاقته القصوى، تمهيدا لتهيئة أحواض جديدة. السيناريو ذاته يتكرّر منذ 2013، حين استوفت الأحواض الأصليّة مدّة استغلالها. رفض المجلس البلدي لعقارب، أسوة بأهاليها، فتح المصبّ من جديد، واعتبروا الغلق نهائيّا. توقّف من يومها تجميع الفضلات في معظم بلديات ولاية صفاقس، مما أدّى إلى تكدّس عشرات الآلاف من أطنان النفايات في الشوارع، وهو ما أضحى يهدّد بكارثة بيئيّة وصحيّة أخرى.
المجتمع المدني يقترح حلولا، والسلطة تصمّ آذانها
تشكّلت حكومة نجلاء بودن يوم 11 أكتوبر، بعد شهرين ونصف من إعلان رئيس الجمهورية الحالة الاستثنائية، ووضعت لنفسها عنوان “استعادة ثقة المواطن في الدولة”. كان ملفّ نفايات صفاقس أوّل اختبار لمدى التزامها بهذا الهدف، ولقدرتها على مجابهة الأزمات وإيجاد الحلول. تنقّلت وزيرة البيئة ليلى الشيخاوي يوم 27 أكتوبر لصفاقس، لتستمع إلى الأطراف المتدخلة والمجتمع المدني، دون أن تقدّم أيّة إجابات. غياب الحلول من الجهة الحكومية، عمّقه تصلّبها أمام الأفكار المقترحة من منظمات المجتمع المدني والخبراء. إذ قدّم هؤلاء خطّة متكاملة على ثلاثة مراحل، العاجل والمتوسّط وطويل الأمد، كان بإمكانها أن تراعي مختلف الإكراهات، شرط توفّر الإرادة السياسية لتطبيقها. تقوم هذه الخطّة على تهيئة مقاطع حجارة لم تعد قيد الاستغلال، تبعد عشرات الكيلومترات عن مناطق العمران، لنقل أطنان النفايات إليها كحلّ عاجل. في الأثناء، يتمّ العمل على توريد آلات لحرق الفضلات بتكنولوجيا حديثة محدودة الضرر البيئي، كحلّ على المدى المتوسّط، مع التسريع في مسار إنشاء مركز جديد لمعالجة وتثمين النفايات، كحلّ دائم. ظلّت الوزارة تتخبّط أكثر من شهر، لتتشبّث في النهاية بإعادة فتح مصبّ القنة كحلّ وحيد للأزمة. فقد اعتبرت أن هذا المصبّ، الذي يبعد بضعة كيلومترات عن سكّان عقارب والجاثم على صدورهم، أقلّ ضررا على البيئة والإنسان من تجميع النفايات وقتيا في مقاطع الحجارة البعيدة عن مراكز العمران. استندتْ الوزارة في ذلك إلى تقرير الوكالة الوطنية لحماية المحيط، معتبرة أنّ إفرازات الغازات في مصبّ القنّة لا تتجاوز المعدّلات المسموح بها. هكذا، اعتبرت الوزارة أنّ معاناة أهالي عقارب اليوميّة ليست أبلغ من أرقام خبراء الوكالة، معطية مثالا بائسا عمّا يسمّيه أستاذ القانون الفرنسي ألان سيبيو (Alain Supiot)، “حوكمة الأرقام”[4].
رئيس الجمهورية حبيس النظرة المؤامراتيّة
تصلّب وزارة البيئة وتفضيلها الحلول التقليديّة، ولو كانت على حساب إرادة الناس، ليس غريبا على العقل الإداري. لكنّ غياب الرؤية السياسية، سواء في حكومة بودن، أو لدى المركز الفعلي للقرارفي قصر قرطاج، هو الذي يؤدّي إلى تغليب الحلول التقليديّة والفوقيّة.
رغم أنّ رئيس الجمهورية حرص في أكثر من مناسبة على إظهار اهتمامه بأزمة النفايات بصفاقس، إلاّ أنّ النظرة المؤامرتيّة كانت الطاغية في خطابه. فقد أكّد سعيّد، منذ استقباله رئيسة الحكومة نجلاء بودن يوم 22 أكتوبر، أنّ ما يحصل في صفاقس “جريمة” و”تنكيل بالشعب”، محمّلا المسؤولية لمن “يتعمّدون” الامتناع عن رفع القمامة بحسب تعبيره. كعادته، لم يسمِّ سعيّد من يقصدهم بخطابه. لكن الإشارة إلى البلديات، وبالأخصّ إلى حركة النهضة، الممثلة بشكل قوي في بلديات ولاية صفاقس، كانت واضحة. إذ اتّهم سعيّد “من كانوا يقولون أنهم يمثلون الشعب” بأنّهم “يعمدون إلى كلّ الوسائل حتى يحوّلوا حياة المواطنين إلى جحيم”. لم يأبه سعيّد لعدم ارتباط توقّف تجميع النفايات بإرادة البلديات، وإنّما هو نتيجة مباشرة لغلق المصبّ، ولا لمساهمته هو نفسه في تعقيد الوضع عبر إعفاء والي صفاقس منذ 3 أوت دون تعيين خلف له، إلى حدّ الساعة. كرّر رئيس الجمهورية الخطاب ذاته في اجتماع مجلس الوزراء يوم 29 أكتوبر، لكن مع الإقرار بأنّ الأزمة هي أيضا “نتيجة تراكمات سابقة”. مع مضيّ الأسابيع وتعمّق الأزمة دون ظهور أي أفق للحلّ، اتخذ قرار اعتماد الحلّ الأمني عبر فتح مصبّ القنة بالقوة العامّة، عند استقبال رئيسة الحكومة ووزير الداخلية في قصر قرطاج. مرّة أخرى، كرّر سعيّد قراءته للأزمة، بأنّ فيها جانبا موضوعيا، وفيها أيضا “جانب مصطنع”، “فمن لفظهم التاريخ، يبحثون عن المزابل، لأنّهم في مزبلة التاريخ”. مرّة أخرى، لم يتردّد سعيّد في الإشارة إلى البلديات، وإلى مبدأ التدبير الحرّ، معلنا أنّ تونس ليست “مقاطعات يحكمها كل واحد كما يشاء”.
ليست المرّة الأولى التي يلجأ فيها سعيّد إلى الحديث عن المؤامرات، بل هي تكاد تكون عنصرا قارّا في خطابه. لكنّ توجيه إصبع الاتهام إلى البلديات، مع الإيحاء بأنّها أداة تستعملها حركة النهضة في إطار صراعها معه، قد يخفي نيّة لحلّ المجالس البلديّة. فهذه الأخيرة تشكّل، في المشهد المؤسساتي لما بعد 25 جويلية، السلطة الوحيدة المنتخبة بالإضافة إلى رئيس الجمهورية، في ظلّ تجميد عمل البرلمان. ومن جهة أخرى، فإنّ مشروع البناء الديمقراطي القاعدي الذي يحلم به، القائم على “لامركزية مفرطة للسلطة التشريعية”، مقابل “مركزة مفرطة للسلطة التنفيذية”، على حدّ تعبير الصحفي زياد كريشان[5]، لا يعترف بالبلديات أصلا، وإنما يعتمد التقسيم الإداري للمعتمديات والعمادات. ولعلّ إلغاء وزارة الشؤون المحلّية في حكومة بودن، ثم إلحاق مصالحها بوزارة الداخليّة، مؤشّر إضافي على ذلك.
إنّ الشجاعة السياسية تقتضي أوّلا وقبل كلّ شيء تحمّل مسؤولية خيارات الحكم وإكراهات الواقع، ومصارحة النّاس بالحقيقة. ربّما لو تنقّل سعيّد إلى عقارب قبل أخذ قرار فتح المصبّ لكانت الصورة أوضح أمامه، وربّما كان بالإمكان إيجاد تفاهم مع الأهالي لو خاطبهم مباشرة ولمسوا منه التزامات فعليّة وواضحة. لكنّ سعيّد فضّل اتهام خصومه السياسيين بافتعال الأزمة، وتحميل الحكومة مسؤوليّة حلّها، فلم يأخذ على عاتقه تفسير قرار فتح مصبّ القنة، وإنّما ذهب مباشرة إلى الحلّ الأمني دون أن يتحمّل هو نفسه مسؤوليته. وحتّى عند استقباله، يوم 11 نوفمبر، وفدا من نشطاء الحراك البيئي في عقارب بعد القمع الشديد لتحرّكاتهم وما خلفه من ضحايا، ضيّع رئيس الجمهورية فرصة تحمّل مسؤولية خياراته ونتائجها، واكتفت صفحة رئاسة الجمهورية ببثّ كلمة لأحد ممثلي الحراك نقل فيها عن الرئيس بعض الوعود.
قضيّة معتمديّة عقارب لم تظهر فقط قصور السلطة عن إيجاد الحلول، ولجوئها إلى الحلّ القمعي في مواجهة الحراك البيئي والاجتماعي. وإنما أثبتت كذلك أنّ مركزة القرار لا تعني بالضرورة نجاعته، بل تكريس نزعة أكبر للحلول الفوقيّة والقمعيّة. كما أبرزت قضيّة عقارب في الوقت ذاته حدود مشروع البناء الديمقراطي القاعدي، القائم على أن تنبع المشاريع من القاعدة، ممثلة في العمادات ثم المعتمديات، ليتمّ “تأليفها” جهويا ووطنيا. فَما يعقّد معضلة النفايات، وهذا ليس حكرا على ولاية صفاقس، هو رفض أهالي كلّ منطقة أن تقام مراكز التجميع أو المعالجة على أرضها. تجاوز النعرات المناطقية ليس ممكنا من دون مشاريع وطنية. كما أنّ السياسة، بمعنى الشأن العامّ، لا يمكن أن تقتصر على المشاكل والأولويات المحلّية والجهوية، على أهميّتها. أزمة النفايات، كغيرها من التحدّيات، بحاجة إلى استراتيجيات وطنية، واستثمار من الدولة، لأنّ ما وقع في صفاقس سيتكرّر في غيرها من المناطق، ابتداء من العاصمة نفسها، إذا لم يقع استباق الأزمة. لكنّ إيجاد الحلول يقتضي تشخيصا دقيقا للواقع، ورؤية سياسيّة للخروج منه، وشجاعة أخلاقيّة لمواجهة إكراهاته، لا الاختباء وراء نظريّة المؤامرة، ومواصلة السياسات المحافظة بل والقمعيّة، المغلّفة بشعارات ثوريّة.
نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه
زلزال ديمقراطيّة فتيّة
[1] شركة سيغور تأسست سنة 2001، بشراكة بين شركة SCET التونسية (50%) وشركة SITA وهي فرع من مجموعة SUEZ الأوروبية (40%)، وبنك تونس العربي الدولي BIAT.
[2] Luisa Moretto et Mustapha Azaitraoui, “La valorisation des déchets urbains à Sfax
(Tunisie) : entre réformes politiques et récupération informelle”, in Claudia Cirelli et Bénédicte Florin, Sociétés urbaines et déchets : Eclairages internationaux, pp. 367-395.
[3] Ibid.
[4] Alain Supiot, La gouvernance par les nombres. Cours au Collège de France (2012-2014), Fayard, 2015.
[5] زياد كريشان، “في عمق مشروع قيس سعيّد. “البناء الديمقراطي القاعدي” ووهم إرجاع السلطة إلى الشعب: عندما نلغي السياسة نؤسّس للفاشيّة”، المغرب، 29 سبتمبر 2021، ص. 3.