الجامعيّ الرئيس وظاهرة المعارضة الأكاديمية


2022-09-28    |   

الجامعيّ الرئيس وظاهرة المعارضة الأكاديمية

في بداية مسيرته كمرشّح لرئاسة الجمهورية، لم يكنْ بإمكان المتابعين تعريف قيس سعيد بغير كونه الأكاديمي المستقلّ. فسيرته الذاتيّة لم تتضمّن سوى مسيرته الدراسية ومساره المهنيّ كمساعدٍ في القانون العامّ في الجامعة التونسية وبعض المحاضرات والمداخلات بعد ثورة 2011 كان مدخله إليها صفته  كخبير في القانون الدستوري، المادّة التي درّسها للطلبة لأكثر من ثلاثين سنة.  

كان سعيّد في صورته تلك الأستاذ الذي سيُخلّص الممارسة السياسية من انحرافات السياسيين فيردّها لنقاء أصولها النظريّة وكان يُظنّ أنّ دروسه وأفكاره ستكون برنامج عمله[1]. وربّما كان حصده أصوات الشباب وخرّيجي الجامعات[2] في الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 بعدما  نجح في تحويل أعدادٍ منهم قبل ذلك إلى مبشّرين به رئيسًا للجمهورية طيلة مدّة الحملة الانتخابيّة الرئاسيّة خير دليلٍ على ذلك. فقد نال حينها أصوات 90٪ من الناخبين الذين تتراوح أعمارهم بين 18-35 سنة، و83.3٪ من الناخبين المتراوحة أعمارهم ما بين 26- 44 عامًا و86٪ من الحائزين على مؤهل جامعي.

ثلاث سنوات بعد ذلك، وبعدما انفرد بالسّلطة وعند تنزيله لدستوره الجديد، تغيّر المشهد كثيرًا. فالرجل الذي يرفض أن ينزع عنه جبّة الفقيه في القانون بات يُنظر إليه كسياسيّ والجامعة التي كانت حاضنتَه أضحتْ موطن معارضيه والشباب الذي سانده ابتعد عنه بدليل ضعف مشاركته في استفتاء الدستور الجديد[3].

90% من أصوات الشباب نالها سعيّد في 2019 مقابل مشاركة ضعيفة جدّا لهم في الاستفتاء

الرئيس أستاذ القانون: أنا من يؤوّل القوانين

قبل 25-07-2022، لما كانت السلطة السّياسية تمارس وفق صلاحيّات مضبوطة بنص الدستور وفي سياق شبه برلماني، حرص سعيّد على أن يظهر بمظهر أستاذ القانون الذي يُعيد قراءة النصوص ليشرح مراد واضعيها وينتهي بفعل ذلك إلى توسيع صلاحيّاته وفرض وصايته على غيره من السلط. ومن الأمثلة على هذا التوجّه، الإجراءات التي اتّبعها لتكليف كلّ من الياس الفخفاخ وهشام المشيشي بتشكيل الحكومة حيث سخّر المسؤولية المُلقاة عليه بالتحرّي عن الشخصيّة الأقدر لتولّي رئاسة الحكومة[4] ليصل إلى حدّ فرض ذاته صاحب صلاحيّة اختياره والوصيّ عليه في تكوين حكومته. ومن الأمثلة الأخرى، رفضه القبول بأداء اليمين الدستورية لوزراء جدُد جاؤوا خلفًا لآخرين يُحسبون عليه، بحجّة أنّ مسؤوليّته الدستوريّة تفرض عليه منع من يرى أنّه فاسد من أداء تلك اليمين المقدّسة في محضره.

خلال تلك الحقبة، استفاد الرئيس من عدم تركيز المحكمة الدستورية ومن خطابٍ ساد وسط النخبة كان يروّج لكونه وبحكم مرجعيّته العلميّة المؤهّل لتأويل الدستور وتحديد الموقف الذي يجب اعتماده في صورة حصول خلاف على ذلك. ولعلّ الحفاظ على جلد ثور السلطة[5] ذاك الذي دفعه لرفض ختم القانون المنقّح لقانون المحكمة الدستورية بحجّة أن أجل تركيزها الدستوري قد فات ولم يعد ممكنًا بالتالي الحديث عنها. وهنا نلاحظ أن ما حصل من استعمال للمرجعيّة الأكاديمية يُفسّر إلى حدّ بعيد ما حصل لاحقًا من تغييرٍ لقواعد الحكم بذات الآليّة.

ما بعد 25 جويلية 2021: السياسيّ يستعمل الجامعيّ

استند سعيّد للفصل 80 من الدستور ليعلن ليلة 25-07-2021 انفراده بالسلطة السياسيّة. وقد شهر مرّة أخرى صلاحيّة تأويل النص في الاتّجاه الذي يريد ومنه اعتباره أنّ تحجير حلّ البرلمان خلال فترة الاستثناء لا يمنع تجميده وأنّ منع حجب الثقة عن الحكومة لا يمنع إجبار رئيسها على الاستقالة. كما لم يلقَ سعيّد أيّ صعوبة في تبرير تعديل الدستور بحذف أجزاءٍ منه بإرادته المنفردة وصياغة أمر رئاسي يعوّضها قبل أن يعلن خريطة طريق تُرسي ما سمّاها الجمهورية الجديدة.

في كل هذا، كان حديث الرئيس يستحضر دومًا الخبرة القانونية التي يحرص على نفيها عن معارضيه وإبراز تمكُّنه منها من خلال استعراض أسماء فقهاء القانون وتأكيد أنّ أفكاره وفيّة لنظريّاتهم. ومن الأمثلة على ذلك، أنه استهزأ برأي أحد أساتذة القانون في خطابٍ له متسائلًا في أيّ جامعة درّس هذا. ومنها أيضًا أنّه خصّص جانبًا كبيرًا من خطاب ختم دستور 2022 للحديث عن نظريّة الأعمال السياديّة في القانون الإداريّ بهدف تحصين ما صدر  عنه وما سيصدر مستقبلًا من قراراتٍ إزاء أيّ رقابةٍ قضائيّة. فكانت بذلك صفته الأكاديمية سلاحه لفرض سلطته وهو أمر عارضته الجامعة والجامعيّون وأبعده عن النخب الشبابية.

تجليّات المعارضة الأكاديميّة

عوّل الرئيس سعيّد على ثلاثة من أساتذة القانون كمستشارين.[6] إذ كان يجتمع بهم كلما اعتزم سنّ مرسومٍ يجسّد أفكاره أو شرع في التحضير لموقفٍ سيتّخذه خارج المألوف في تأويل القوانين النافذة. وكانتْ بذلك صورته وهو يشرح ويفسّر آراءه في حضورهم البديل الذي يطرحه عما كان يُطلب من حوارٍ وطنيّ يجمع القوى السياسيّة للخروج من الأزمة السياسيّة. ولكن هنا أيضًا، أدّى ارتفاع صوت الجامعيّين المعارض له وما أعقبه من انسحابٍ لمستشارين إلى إفشال ديكوره الحواريّ ذاك.  

إذ وبعيدًا عن المواقف التي تمّت صياغتها في أطر الحراك السياسيّ والنقابيّ والتي كان فيها حضورٌ مهمٌّ لعددٍ من أساتذة القانون المنخرطين في العمل السياسي، برزت ظاهرة أمكن تسميتها ظاهرة المعارضة الأكاديمية والمؤسساتية الجامعية للرئيس سعيّد. وكان من أهمّ تجليّات هذه الظاهرة بيانات الجامعيين. فقد استعمل أساتذة القانون البيانات التي تصدر عنهم منصّة لإطلاق مواقف تعارض لاعتباراتٍ مبدئيّة جمع مختلف السّلط بيد شخص واحد والاعتداء على الحقوق والحريات وصولًا إلى وأد الدستور[7]. كما ضمّن مجلس عمداء كلّيات الحقوق بيانهم الصادر في 24-05-2022 برفض عضوية اللجنة الاستشارية لصياغة المشروع الاستشاري للدستور رفضهم الزجّ بالجامعة في المواقف السياسية.

انتصر الجامعيّون بمواقفهم تلك لقيم مهنتهم ونزعوا عن الرئيس فرصة تسخير الجامعة في وأد الحياة السياسية. وهنا يُحسب لهم مبدئيتهم بخلاف قلة قبلوا بداية أن يلعبوا الدور الذي رُسم لهم قبل أن يضطرّوا للانسحاب منه بعد الاعتراف بأنّه تمّت مغالطتهم واستعمالهم من دون أن يُستمع إليهم أو يُؤخذ برأيهم.

تبعًا لكلّ ما ذكر، يبدو سعيّد في تطوّر علاقته بأساتذة الجامعة وطلابها وقيمها على حدّ سواء في وضع أزمةٍ مستفحلة لا يجب أن يخفيها نجاحه في فرض ذاته حاكمًا مطلقًا لتونس.

نزع حراك الجامعيين من سعيّد فرصة تسخير الجامعة في وأد الديمقراطي

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة


[1]  في حوار معه أجرته المفكرة القانونية بتاريخ 11-03-2020، قال  الجامعي والباحث في العلوم السياسية محمد الصحبي الخلفاوي في جوابٍ عن سؤالٍ حول الانتخابات الرئاسية 2019 ونتائجها “الدور الثاني للانتخابات الرئاسية عرف اكتساحًا غير مسبوق لقيس سعيد، بأكثر من 72% من الأصوات مع مشاركة كبيرة. أعتقد أن التصويت لقيس سعيّد في الدور الثاني كان في جزء كبير تصويتًا ضد نبيل القروي. كان بمثابة “استفتاء على الفساد”. لكن أيضا لا يجب أن نستهين بصورة أستاذ القانون النزيه، نظيف السيرة مقابل طبقة سياسية فاقدة لجزءٍ كبيرٍ من مصداقيتها. “

[2]  الانتخابات الرئاسية: لماذا صوت الشباب التونسي بكثافة لقيس سعيّد؟  تقرير اخباري فرانس 24  منشور بموقعها بتاريخ 19-10-2019.

[3] في تصريح إعلامي كشف عضو هيئة الانتخابات  محمد التليلي المنصري عن كون نسبة مشاركة الشباب في الاستفتاء كانت في حدود  2% بنهاية الحصة الصباحية. وتغيب المعطيات الإحصائية عن تلك النسبة بنهاية التصويت ولكن كل التقارير الإعلامية  تؤكّد أنها كانت متدنية  في مقابل ما يمكن ان يسمًى اقبالًا ممن يفوق سنهم الستين سنة.

[4]  يراجع مقال ” فوضى تأويل الفصل 89 من الدستور “مهدي العش نشر بموقع المفكرة القانونية بتاريخ 27-02-2020

[5]  تقول الأسطورة أن الأميرة الفينيقية عليسة لما حلت بقرطاج طلبت من حاكم المنطقة شراء قطعة أرض ولما رفض قالت له أنّها تكتفي بمساحة جلد ثور بما دفعه لقبول عرضها الذي ظهر له غير مؤثر ومغر ماليا لكنها لاحقا قطعت ذلك الجلد شرائط لتغطي مساحة كبرى فجرى بذلك مثل جلد الثور.

[6]  يراجع مقال “من الجامعة إلى القَصر: معارك أساتذة القانون الدستوري حول السلطة والنص “، ياسين النابلي، نشر بموقع المفكرة القانونية بتاريخ 15-06-2022.

[7]  منها البيان المؤرّخ في 10-02-2022 تحت عنوان “لا لحلّ المجلس الأعلى للقضاء” وأمضاه 40 جامعيا وقد جاء اعتراضًا على صدور مرسوم حلّ هذا المجلس وتأكيدًا على أهمية التمسّك باستقلالية القضاء. ومنها البيان المؤرّخ في 31-03-2022 وأمضاه 30 أستاذ قانون وقد جاء اعتراضًا على سلسلة ممارسات لفرض حكم الفرد وصولًا إلى السعي لتعديل الدستور وفق مسارٍ غير ديمقراطيّ. ومنها البيان المؤرّخ 23-05-2022 تحت عنوان “لا للزجّ بالجامعة في المشاريع السياسية” وأمضاه 72 أستاذًا جامعيًا دعوا عمداء كليّات الحقوق إلى  رفض عضوية اللجنة الاستشارية لصياغة الدستور. وعدم التورط فيما سمّوه  “التحايل على المؤسسات العلمية والزجّ بالجامعة في المشاريع السياسية”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني