فوضى تأويل الفصل 89 من الدستور التونسي


2020-02-27    |   

فوضى تأويل الفصل 89 من الدستور التونسي

انتهت أزمة تشكيل الحكومة رسميا بنيل الياس الفخفاخ ثقة البرلمان ب129 صوتا، فجر يوم الخميس 27 فيفري الجاري. لكن الأيام التي سبقت هذا الانفراج شهدت جدلا دستوريا حادّا، بعد إعلان النهضة في مرحلة أولى قرارها عدم المشاركة في الحكومة وعدم التصويت لها، مما كان يعني سقوطها لا محالة في امتحان نيل ثقة نواب الشعب، والذهاب إلى سيناريو حل البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها. جدل احتدّ بعد كشف رئيس كتلة النهضة عن نية حزبه التصويت على لائحة لوم ضد حكومة يوسف الشاهد، واختيار شخصية جديدة لتترأس حكومة وحدة وطنية، والمقصود طبعا، هو حكومة يكون عمادها تحالف النهضة وقلب تونس.

تدخّل رئيس الجمهورية مباشرة ليحسم الأمر، معتبرا أن الدستور واضح، وأن الفصل 89 (مراحل تكوين الحكومة) هو الوحيد الذي ينطبق، وأن حكومة الشاهد هي في وضعية تصريف أعمال وليست مسؤولة أمام البرلمان الجديد. تأويل رسمي أتى من منبر رئاسة الجمهورية وبطريقة أستاذ القانون الدستوري ليحسم الجدل، إذ التزمت حركة النهضة به وإن على مضض. لكنه يبقى قابلا للنقد، شأنه شأن مختلف قراءات الفصل 89 من الدستور التي كثيرا ما اختلط فيها السياسي بالقانوني. أسئلة كثيرة أثيرت حول مختلف مراحل تطبيق هذا الفصل، معرّية مواطن خلل عديدة في صياغته، حتى أن أحد الأساتذة اعتبره «أسوأ فصل في الدستور». 

 

اختيار «المرشح الأقدر»: سلطة تقديرية لرئيس الجمهورية؟

بعد سقوط حكومة الحبيب الجملي، الذي رشحته حركة النهضة بصفتها الحزب الذي حلّ أولا في الانتخابات، انتقلنا إلى تطبيق الفقرة الثالثة من الفصل 89 من الدستور. طلب رئيس الجمهورية من القوى السياسية الممثلة في البرلمان أن ترسل إليه أسماء الشخصيات التي تقترحها لرئاسة الحكومة كتابة. ثم استقرّ خياره على الياس الفخفاخ، رغم أنه لم يُرشح سوى من حزبين إثنين لا يتجاوز مجموع نوابهما 36 نائبا، ورغم وجود مرشحين آخرين مدعومين من حزام برلماني أوسع.

أثارت طريقة رئيس الجمهورية في اجراء المشاورات انتقادات عديدة. فقد اقتصر خلالها دور الأحزاب على تقديم مقترحات كتابية في أجل مضبوط. لكن الجدل تركز خاصة حول مفهوم «المرشح الأقدر»، بين من يدافع عن سلطة تقديرية مطلقة لرئيس الجمهورية لاختيار المرشح، وبين من يربط صفة «الأقدر» بقدرة الشخصية على تشكيل أغلبية نيابية حولها، وبالتالي بترشيحات الأحزاب الأكبر.

يجدر أولا توضيح معنى «المرشح الأقدر». فخلافا لما اقترحته بعض القراآت، عبارة «المرشح الأقدر» لا تعني الأكفأ أو الأصلح، بشكل يجعل حرية رئيس الجمهورية في الاختيار مطلقة، وإنما هي مرتبطة بتكوين الحكومة. وهو ما يظهر في منطوق الفصل 89: «… يقوم رئيس الجمهورية… بإجراء مشاورات مع الأحزاب والائتلافات والكتل النيابية لتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة في أجل أقصاه شهر». فصفة الأقدر مرتبطة بالهدف، وهو تكوين الحكومة، وبشرط إجرائي، وهو المشاورات مع القوى الممثلة في البرلمان.

لكن هذا لا يعني بالضرورة أن رئيس الجمهورية مقيد بترتيب المرشحين حسب الدعم البرلماني الظاهر من نتائج المشاورات. المعيار المحدد لمدى حرية رئيس الجمهورية في الاختيار يكمن، حسب رأينا، في توفر الأغلبية المطلقة من النواب، أي 109، لمساندة مرشح معين. فإن وجدت أغلبية جاهزة لمنح الثقة لمرشح معين، أصبح تجاهلها من قبل رئيس الجمهورية صعبا سياسيا، وكذلك دستوريا، لأن هذا المرشح يكون بوضوح الأقدر على تكوين الحكومة. أما إذا لم يتوفر لدى أي مرشح دعم برلماني يساوي 109 نائبا على الأقل، فإن ترتيب المرشحين يفقد قيمته، إذ أن حصول أحدهم على دعم أكبر لا يعني بالضرورة حظوظا أكثر في الوصول إلى الأغلبية المطلقة.

وبذلك، تكون كلا القراءتين لحرية رئيس الجمهورية في اختيار المرشح الأقدر صحيحة في فرضية وخاطئة في أخرى. فالهامش التقديري لرئيس الجمهورية يكون ضيقا إذا توفرت أغلبية جاهزة لدعم مرشح معين، ويصبح واسعا إذا لم تتوفر مثل هذه الأغلبية. ولعل الطريقة الكتابية للمشاورات، التي أنتجت قائمة بالمرشحين المقترحين والأطراف التي اقترحتهم، والتي أنهت دور الأحزاب السياسية في المشاورات بمجرد اقتراحها لأسماء مرشحين، ترجح أكثر هذه القراءة.

بتكليفه الياس الفخفاخ لتشكيل الحكومة، لم يختَر رئيس الجمهورية فقط شخصية من بين مرشحي الأحزاب والكتل النيابية، وإنما اختار في نفس الوقت الحزام السياسي المفترض لدعمها. لا يعني هذا اعتبار حكومة الفخفاخ «حكومة الرئيس»، لأنها تبقى خاضعة لتوازنات البرلمان الذي ليس لقيس سعيّد أي تمثيل داخله. لكن رئيس الجمهورية لعب، بلا شكّ، دورا كبيرا في تكوين الحكومة، خاصة عند إغلاقه الباب أمام أي مخرج آخر في حال عدم نيلها الثقة، عدا حلّ البرلمان.

 

حل البرلمان: حقّ لرئيس الجمهورية أم حتمية إذا لم تتكون حكومة في الآجال؟

مع الصعوبات التي عرفها مسار تشكيل حكومة الفخفاخ، خصوصا بعد إعلان حركة النهضة عدم مشاركتها فيها، أصبحت فرضية حلّ البرلمان وإجراء انتخابات نيابية سابقة لأوانها ماثلة بجدية. وهنا، طُرح السؤال إذا ما كانت هذه الفرضية حتمية في صورة فشل حكومة الفخفاخ، أم أن الأمر مرتبط بإرادة رئيس الجمهورية.

فالفصل 89 يجعل من حل البرلمان حقا لدى رئيس الجمهورية، إذا مرت أربعة أشهر على التكليف الأول دون أن تتشكل حكومة تحظى بثقة البرلمان. لكن غياب أي مخرج آخر ضمن نفس الفصل دفع عددا من الأساتذة إلى تأويل هذا الحق بأنه واجب على رئيس الجمهورية. أي أن رئيس الجمهورية لا خيار له، بانقضاء الأشهر الأربعة، سوى حل البرلمان. إلا أن وضوح منطوق الفصل يجعل من الصعب جدا تأويل الحق كواجب. فالواضح من قراءة الفصل 89 أن رئيس الجمهورية في هذه الحالة سيّد قراره، وأنه بمجرد انتهاء الأشهر الأربعة، يصبح بإمكانه حلّ البرلمان أو عدم حلّه، كما بإمكانه اختيار توقيت الحلّ، لأن ذلك قرار سياسي يرجع له وحده.

ولئن كان واضحا من كلام رئيس الجمهورية اعتزامه حلّ البرلمان إذا لم تحظ حكومة الفخفاخ بالثقة، فلا شيء يدلّ أنه يعتبر نفسه مجبرا على ذلك، أو أنه سيقوم بذلك مباشرة بعد انقضاء الأشهر الأربعة.

 

هل يمكن لرئيس الجمهورية تكليف شخصية ثالثة بتكوين حكومة؟

غياب مخرج آخر في نص الدستور عدا حلّ البرلمان، وصيغته التي أتت بوضوح كحق وليس كحتمية، دفعا عددا من المختصين إلى استنباط امكانية تكليف شخصية ثالثة من قبل رئيس الجمهورية بتكوين الحكومة. فقد اعتبر أستاذ القانون الدستوري أمين محفوظ مثلا أن رئيس الجمهورية، بصفته الساهر على احترام الدستور حسب الفصل 72 منه، يرجع له استنباط حلّ للأزمة وذلك مثلا بتكليف شخصية ثالثة.

ورغم أن الفصل 89 لم يذكر سوى محاولتين اثنتين لتكوين حكومة، الأولى لشخصية يرشحها الحزب الأول، والثانية لشخصية يكلفها رئيس الجمهورية، إلا أن فكرة تكليف شخصية ثالثة تستند خاصة إلى لغز الآجال التي اقتضاها نفس الفصل، وبالتحديد إلى المدة الفاصلة بين أجل تكوين الحكومة الثانية (وعدم نيلها الثقة) وسريان الحق في حلّ البرلمان. إذ يفصل بين الأجلين ثلاثة أسابيع، لا يحدد الفصل 89 بشأنها شيئا، وهو ما دفع بعض المختصين إلى استنباط حلول أخرى.

 

كيف نقرأ آجال «تكوين الحكومة»؟

آجال الفصل 89 من الدستور شكلت، هي الأخرى، مادة لاختلاف القراءات. إذ يمنح هذا الفصل أجلا بشهر يجدد مرة واحدة للشخصية المرشحة من قبل الحزب الأول، وبشهر واحد غير قابل للتجديد للشخصية المكلفة طبق الفقرة الثالثة منه، وذلك «لتكوين الحكومة». ولكن ما المقصود بتكوين الحكومة؟ هل يكفي إعلان تركيبتها وتقديمها لرئيس الجمهورية ليطلب بدوره من مجلس نواب الشعب تنظيم جلسة لمنح الثقة؟ أم أن تكوين الحكومة يشمل كذلك جلسة منح الثقة، بل حتى المراحل التي تليها وهي التسمية وأداء اليمين، مثلما يرى الأستاذ أمين محفوظ؟

على مستوى التطبيق، استنفذ الياس الفخفاخ كامل الأجل لتقديم الحكومة إلى رئيس الجمهورية، فهل أن جلسة منح الثقة وما سيليها من شكليات، ستتم «خارج الآجال الدستورية»؟

رغم أن عبارة «تكوين الحكومة» قابلة للتأويل بأكثر من طريقة، يبدو من قراءة الفصل 89 أن المقصود هو فقط تقديم تشكيلة حكومة رسميا إلى رئيس الجمهورية. فمن جهة، تنظيم جلسة منح الثقة يعود إلى البرلمان، وقد يستغرق أياما عديدة، وهو ما حصل مثلا في جلسة منح الثقة لحكومة الحبيب الجملي حتى أنه كان مطروحا آنذاك تغيير بعض الوزراء المقترحين ممن أثاروا جدلا قبل جلسة منح الثقة. ليس منطقيا إذن احتساب هذه الفترة ضمن أجل تكوين الحكومة الذي يقيد الشخصية المكلفة. كما أن نصّ الفقرة الثالثة من ذات الفصل يميز بين حالة «تجاوز الأجل المحدد دون تكوين الحكومة»، وحالة «عدم الحصول على الثقة»، مما يعني أن مسألة منح الثقة ليست مضمنة في تكوين الحكومة، وإلا لاكتفى المؤسس بشرط واحد وهو عدم تكوين الحكومة.

وعلاوة على ما تقدم، قد تسمح هذه القراءة بفكّ لغز الأسابيع الثلاثة التي تفصل فشل محاولة تكوين الحكومة الثانية بسريان الحق في حلّ البرلمان. فقد كان الأجل الذي يمكن بعده حلّ البرلمان محددا في المسودات الأولى للدستور بثلاثة أشهر من الانتخابات التشريعية، وهو ما يساوي مجموع آجال تكوين الحكومتين، قبل أن تعدله لجنة التنسيق والصياغة ليصبح أربعة أشهر سارية من تاريخ التكليف الأول. من المرجح إذن أن يكون الشهر الإضافي مقصودا ليغطي أجل اختيار الشخصية الثانية من قبل رئيس الجمهورية، وكذلك المدّتين اللتين قد تفصلان تكوين كلتا الحكومتين بجلستي منح الثقة لهما.

 

هل يجوز تقديم لائحة لوم ضد حكومة يوسف الشاهد؟

استأثر هذا السؤال بالنصيب الأكبر من الجدل السياسي والقانوني، خاصة وأنه لم يطرح أبدا قبل أن تقرر حركة النهضة (في مرحلة أولى) عدم التصويت لصالح حكومة الفخفاخ. أي أن الأمر ظهر كمحاولة انقلاب على المسار الدستوري، عبر تأويل خبيث لم يسبق أن تم مناقشته، وكتحدّ مباشر لرئيس الجمهورية الذي اختار الياس الفخفاخ وحدّد له الحزام السياسي لحكومته. خاصة وأن لائحة اللوم في الدستور التونسي لا تعني فقط إسقاط الحكومة، وإنما كذلك تشكيل أغلبية جديدة وراء مرشح آخر لرئاسة الحكومة، يصوت عليه البرلمان مع لائحة اللوم.

تدخّل قيس سعيد بنفسه ليحسم الجدل، مؤكدا على عدم دستورية هذه الفكرة عند استقباله زعيمي منظمتي الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة، ثم في لقاء ثان مع كل من رئيس الحكومة الحالية يوسف الشاهد ورئيس مجلس نواب الشعب وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي. بنى رئيس الجمهورية حججه على أن حكومة الشاهد تحولت منذ بداية تطبيق الفصل 89 من الدستور إلى حكومة تصريف أعمال، وبالتالي هي غير مسؤولة أمام البرلمان. أي أن الفصل 97 المنظم للائحة اللوم لا ينطبق عليها. كما اعتبر أن الحكومة لا تكون مسؤولة سوى أمام نفس البرلمان الذي أعطاها الثقة.

غير أن مفهوم تصريف الأعمال لم يرد سوى في الفصل 100 من الدستور، الذي يخصّ وضعية الشغور الدائم على رأس الحكومة، مما يفتح بابا للنقاش بشأن حكومة يوسف الشاهد، وخاصة أن هذا الأخير لم يقدم استقالته رسميا خلافا لما فعله المهدي جمعة بعد الانتخابات التشريعية لسنة 2014، إنما كلفه الرئيس السعيد بتصريف الأعمال، بالتزامن مع تكليفه للحبيب الجملي بتكوين الحكومة. ففيما أن انتخاب مجلس نيابي جديد والشروع في مسار تكوين حكومة جديدة يجعل الحكومة الموجودة، سياسيا ومنطقيا، في وضعية تصريف أعمال، إلا أن هذا التوصيف كان محلّ جدل سواء بين المختصين، أو بين السياسيين.

كما أن الدستور حدّد استثناءات معينة لاستعمال لائحة اللوم، وهي الأشهر الستة التي تلي تصويتا سلبيا على لائحة لوم سابقة (الفصل 97 من الدستور)، وحالة الشغور الدائم في رئاسة الجمهورية (الفصل 86)، بالإضافة إلى حالة الاستثناء التي يعلنها رئيس الجمهورية في صورة خطر داهم يهدد كيان الوطن وأمن البلاد أو استقلالها ويتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة (الفصل 80). بجدر التذكير هنا أن الرأي الراجح هو عدم جواز الخلط بين حالة الاستثناء التي ينظمها الفصل 80 و"حالة الطوارئ"، إذ ليس لها تأثير على تنظيم السلط، وإنما تتمثل آثارها في منح صلاحيات أكبر للسلطة التنفيذية في اتجاه الحدّ من الحقوق والحريات، مما يجعلها مبدئيا ضمن مجال انطباق الفصل 49 من الدستور. وبالتالي، لا ينطبق أي من الاستثناءات الثلاثة المذكورة للائحة اللوم على وضعية الحال.

لكن، ألا يقصي مسار تكوين الحكومة المنظم بالفصل 89 من الدستور امكانية تقديم لائحة لوم ضد حكومة الشاهد؟ هنا، يجدر التمييز بين فترة تكوين الحكومة، أي المهلة التي لدى الشخصية المكلفة بذلك (شهرين للشخصية الأولى وشهر للشخصية الثانية)، وبين الفترة التي تلي انقضاء هذه الآجال أو سقوط التشكيلة الحكومية الثانية في امتحان الثقة. إذ لا معنى للائحة لوم ضد حكومة الشاهد عندما يكون مسار تكوين الحكومة الجديدة جاريا. لكن المسألة تصبح أعقد بمجرد انقضاء الآجال دون تكوين حكومة، أو رفض البرلمان منح الثقة للحكومة المقترحة الثانية، أي في الفترة التي تفصل بين هذا ومهلة الأشهر الأربعة التي تتيح لرئيس الجمهورية حلّ البرلمان، وحتى بعدها.

فالدستور لم يتح صراحة لنواب الشعب امكانية استرداد المبادرة وقطع الطريق أمام فرضية حلّ البرلمان من طرف رئيس الجمهورية. لكنه ترك مهلة بين فشل محاولات تكوين الحكومة، وامكانية حلّ البرلمان، قد يستغلها البرلمان لذلك.

بقي أن رئيس الجمهورية حسم الأمر، وصدح بتأويله الذي لا يمكن إلا أن يُطبّق، بغض النظر عن صلابته. إذ أن دور الرئيس يبقى محوريا في مختلف مسارات تكوين الحكومة. إذ حتى في صورة تصويت البرلمان على لائحة لوم، تحتاج الشخصية الجديدة التي اتفقت حولها الأغلبية النيابية لترؤس الحكومة إلى تكليف من رئيس الجمهورية. ولئن كان هذا التكليف، في منطق الدستور، شكليا، إلا أنه سلاح حاسم لدى رئيس الجمهورية لفرض تأويله الدستوري.

 

عدم إرساء المحكمة الدستورية هو السبب في فوضى التأويلات؟

شكّل الجدل الدستوري حول الفصل 89 فرصة ليعود موضوع ارساء المحكمة الدستورية بقوة إلى النقاش العام. فانتشر الخطاب الذي يعتبر عدم ارسائها هو السبب في فوضى التأويلات هذه. بل أن رئيس مجلس نواب الشعب راشد الغنوشي استقبل رئيس الهيئة الوقتية للرقابة على دستورية مشاريع القوانين للتداول في «الجدل القائم حول بعض القضايا الدستورية»، وذلك بعدما أرسل لها كتابة لاستشارتها حول نفس المسائل، حسب تصريح رئيسها.

صحيح أن إرساء المحكمة الدستورية يبقى أولوية، نظرا لأهمية أدوارها في حماية الحقوق والحريات وعلوية الدستور. وأن عدم ارسائها بعد أكثر من أربع سنوات من الأجل الدستوري لذلك يعد أحد أكبر عناوين الفشل للفترة المنقضية. لكن، في وضعنا الحالي، وخلافا لكل ما قيل، لم يكن وجودها ليغير شيئا. فلا الدستور ولا القانون منحا المحكمة الدستورية اختصاصا استشاريا، مثلما هو الشأن بالنسبة للقضاء الإداري. كما أن تعريفها في الفصل الأول من القانون عدد 50 لسنة 2015 الذي ينظمها، رغم اشتماله على أنها ضامنة لعلوية الدستور، لا يعطيها اختصاصا عاما يسمح لها بالتوسيع من صلاحياتها التي حصرها بوضوح «في نطاق اختصاصاتها وصلاحياتها المقررة بالدستور والمبينة بالقانون». وقد كانت آنذاك كتلة النهضة من أبرز المدافعين على هذا التضييق! إذن، ليست هنالك أي امكانية لمحكمة دستورية لإعطاء تأويل رسمي للفصل 89 من الدستور، إذ لا يتعلق الأمر بالنظر في دستورية مشروع قانون أو معاهدة، ولا بتعديل دستوري، ولا بتنازع اختصاص بين رئيسي الجمهورية والحكومة. أما بالنسبة للهيئة الوقتية للرقابة على دستورية مشاريع القوانين، فصلاحياتها أضيق بكثير، مثلما يظهر من اسمها!

الآن، شارف مسلسل تكوين الحكومة على الانتهاء، بعدما عاشت تونس أشهرا عديدة على وقع جدالات وتأويلات دستورية، اختلط فيها السياسي بالقانوني. اختلافات كشفت عن هنات عديدة في صياغة الفصل 89 من الدستور، نبه لبعضها عدد من المختصين منذ فترة الأشغال التأسيسية. لكن الأولوية آنذاك كانت لبابي التوطئة والمبادئ العامة، والحقوق والحريات، نظرا للخطر الكبير الذي كان يهددها. أما مسألة النظام السياسي، فقد ظلت إلى النهاية محل تجاذب بين أنصار النظام البرلماني والمدافعين عن النظام الرئاسي، مما طغا على حسن صياغة النصوص واستباق الأزمات التي قد تنتج عن تطبيقها. لكن هذه الإشكالات والأزمات ليس فقط ناتجة عن النص (على علاته)، وإنما هي وليدة عقل سياسي يميل دائما لاستعمال النصّ الدستوري حسب الأهواء، وللعب باستقرار المؤسسات لتحقيق غايات ضيقة، وكثيرا ما ينزع لتصور حلول غريبة ومسارات ملتوية في تجربة ديمقراطية ودستورية لازالت، رغم ما راكمته من امتحانات ونجاحات، تخطو وتتعثر.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني