من الجامعة إلى القَصر: معارك أساتذة القانون الدستوري حول السلطة والنص


2022-06-15    |   

من الجامعة إلى القَصر: معارك أساتذة القانون الدستوري حول السلطة والنص

عندما عُطِّلت الإبداعية الفلسفية والكلامية والفكرية، قبل حوالي سبعة قرون من الآن، دخلت الثقافة العربية والإسلامية عصر “الشروحات” و”شرح الشروحات”. جاءت النزعة النصّانية لتبسط نفوذها على آخر بقايا العقل، وتُهدر كل ممكنات الانفتاح على المعاني، باسم قُدسيّة جرى احتكارها تحت حماية السيوف في معظم الأحيان. طُرِد الفلاسفة والفلكيون وعلماء الطب والمؤرخون من البلاط، وتربّع الفقهاء و”علماء الدين” على عرش الحقيقة والمعرفة.

بعد كل تلك القرون، يبدو أن كلّ عصر عربي يُنتج فقهاءه وشرّاحه. وفي سياقنا التونسي الراهن، خاصة بعد 25 جويلية 2021، أصبح النقاش السياسي العام مُحتكِما في جزئه الكبير إلى منطق الشروحات القانونية والدستورية. بات حضور فقهاء القانون العامّ والدستوري ملفتا للانتباه في البرامج التلفزية، وأصبح التأويل القانوني جزءا من معركة افتكاك السلطة. و”الأستاذ-الرئيس” كما يصفه أنصاره لم يحتكر فقط كل السلطات وإنما صَادرَ أيضا فعل التأويل، مُعوّلا في ذلك على الانطباع الذي تركه لدى الرأي العام طيلة السنوات الفارطة بوصفه خبيرا في القانون الدستوري. ودستور تونس الموعود ستكتبه لجنة الخبراء الدستوريين، التي تعود في كل أعمالها إلى الأستاذ-الرئيس.

معظم فقهاء القانون الدستوري المُقربين من الرئيس سعيّد لم تكن تجمعهم به وشائج فكرية وسياسية متينة في السابق. وبعضهم ما زال يحتفظ لنفسه بصفة “المساندة النقدية” للرئيس. ولكن على الأرجح هناك مشترك غير معلن دَفعَ بكل هؤلاء إلى الواجهة. ويبدو أن استبطان دور السلطة المعرفية في إعادة انتاج السلطة السياسية وما يرافقها من مكانة رمزية وحظوة مادية، هو الذي حَرَّكَ شخصية الخبير الدستوري الباحث عن الاعتراف والمجد، وألقى به في حسابات السلطة رغم الاختفاء وراء أسطورة “الحياد العلمي”. إذ لا يُخف معظمهم سخطه على العشرية الفارطة لأنها ألقت بمقترحاتهم الدستورية في سلة المهملات. وبعضهم الآخر يسحب وراءه شعورا بالتهميش الأكاديمي داخل الفضاء الجامعي في فترات سابقة. ولعلّ الرئيس سعيّد أفضل من لَمّحَ إلى هذا الاحساس بالمظلومية.   

معظم فقهاء القانون المُقربين من الرئيس سعيّد لم تكن تجمعهم به علاقة متينة في السابق

الخبير الدستوري واحتكار المعرفة النصيّة

يبدو أن هيمنة خريجي اختصاصات الحقوق على تركيبة السلطة يُشكّل جزءً من التكوين التاريخي للدولة الاستقلالية. إذ يشير جرد تقريبي للاختصاصات الجامعية لوزراء الرئيس الحبيب بورقيبة إلى أن “حاملي الشهادات العليا في الحقوق هم الذين حصلوا على أكبر نصيب من المناصب الوزارية، بنسبة 30.66 بالمائة أي ما يقارب الثلث”.[1] ولا تحتاج العشرية الفارطة إلى جرد دقيق من أجل إثبات احتلال خبراء القانون والحقوق جزءا لا بأس به من النقاش السياسي العامّ والتأثير في مجراه. وتُوّج هذا الحضور بصعود أحد خبراء الدستور إلى سدّة الحكم سنة 2019. لم يغادر الرئيس الجديد موقع أستاذ القانون الدستوري، إذ كان يستعرض في محطات عديدة دروسه القانونية لإثبات صوابيّته السياسية. وفي الآونة الأخيرة، جاءت تركيبة “الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة” لتُعزّز هيمنة خبراء القانون وخريجي كليات الحقوق على الإدارة التشريعية والسياسية للمرحلة. أسنِدت رئاسة اللجنة الاستشارية إلى كبير عمداء القانون الصادق بلعيد، وآلت رئاسة اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية إلى عميد المحامين إبراهيم بودربالة. هذا واقتصرت عضوية اللجنة القانونية المكلفة بإعداد مشروع الدستور الجديد على عمداء كليات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية.

هذا التوجه يشير إلى أن الدستور الجديد سيكون في المحصلة مشروع جزء من خبراء القانون الدستوري تحت إشراف الأستاذ- الرئيس. وسيكون صدى لمساراتهم الأكاديمية ودروسهم الجامعية في كليات الحقوق والعلوم القانونية والسياسية. ومن المفارقات أن خبراء الرئيس يرفعون اعتراضا شهيرا على دستور 2014. فهو في تقديرهم لم يكن مُعبّرا عن روح الثوّار الذين انتفضوا من أجل العدالة ضد التهميش. لكنّ تصوّرهم الحقيقي للدستور الجديد لم يغادر عموما الحقل القانوني التقني، الذي يتعاطى مع النصّ بوصفه كتلة من المؤسسات والمعايير المفرغة من أي حمولة سوسيو-سياسية، وهو نصّ محايد في علمويته ونقائه القانوني. وتظهر هذه النزعة بوضوح في خطاب العميد الصادق بلعيد، الذي دائما ما يكرر أسفه على عدم تضمين مصطلح “الاقتصاد” في دستور 2014. ولكن عندما سُئل عن دوره في صياغة الدستور الجديد أجاب قائلا: “وقع انتدابي بصفتي خبير في القانون الدستوري وليس لدي سلطة قرار. أنا مطالب أن أقدّم حسب مهنتي وحسب خبرتي وتجربتي ما يكون أصلح للبلاد…أنا لست رجل سياسة”.

في هذا السياق، لاحظ أستاذ علم الاجتماع التونسي المولدي قسومي، هيمنة النظام المعرفي القائم على “القوننة” le juridisme، على التجربة الديمقراطية التونسية. وقد أشار إلى العلاقة المعرفية التي ينتجها هذا النظام مع القانون قائلا: “مشكلة النظام المعرفي المهيمن على مرحلة بناء التجربة الديمقراطية في تونس أنّه يُغفل العناصر الثقافية والمجتمعية للقانون. وينحصر في زاوية التفكير في المنظومة السياسية بتركيبتها الثنائية المكوّنة من المؤسسات السياسية ونظام الحكم الذي يتحدّد بطبيعة العلاقة القائمة بين هذه المؤسسات. ويغفل أغلب خبراء هذا النظام المعرفي أن دراسة المنظومة السياسية ليس فقط تحليل مؤسساتها وتنظيمها المنسّق في نظام سياسي، بل هي أيضا دراسة علاقات هذا النظام مع العناصر الأخرى للمنظومة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والديمغرافية والثقافية والأيديولوجية والتاريخية والمجالية.”[2].

هيمنة خرّيجي الحقوق على تركيبة السلطة تُشكّل جزءًا من التكوين التاريخي للدولة الاستقلاليّة

صراعات “زملاء الأمس” حول المكانة والحظوة

قبل اندلاع الثورة سنة 2011، كانت الجامعات وقاعات الأساتذة ومشارب الكليات فضاءات تقع داخلها النزاعات الخفيّة والمعلنة بين أساتذة القانون الدستوري. ينحدر معظمهم من الطبقات المتوسطة والدنيا، هم أيضا سليلو “المصعد الاجتماعي” حسب السردية التونسية. داخل الوسط الأكاديمي لم تكن المسارات العلمية متشابهة من حيث غزارة الإنتاج العلمي والانفتاح على لغات واختصاصات علمية أخرى. حتّى الانحدار الاجتماعي والثقافي لعب دوره كمُنتج لـ”رأسمال رمزي” قَبلي ساهم في إعطاء قيمة إضافية للبعض وأضعف “رساميل” البعض الآخر. لكن جُلّهم كان يبحث عن “المُحترمية”[3] التي تمنحها سلطة المعرفة، لذلك يلوح الافتخار بالمكانة العلمية أحد الخصال التي تفرزها نظرة الأكاديميين لأنفسهم. ولكن هذا الوسط الجامعي لم يكن يخلو من التراتبيّة وما تخلقه من إحباطات، خاصة لدى أولئك الذين يشعرون أنهم أقل شأنا من “زملائهم”، سواء الذين يفوقونهم كفاءة أو أقدمية. هذا الشعور بـ”الاستضعاف”[4] عَبّر عنه الرئيس قيس سعيد عندما سئل قبل صعوده إلى الانتخابات عن تواضع مساره العلمي. حيث أشار إلى أنه تم السطو على جهوده العلمية من قبل زملائه المختصين في القانون الدستوري قائلا: “مؤلمة جدّا القصة…مجهوداتي تمّ السطو عليها”. وفي الوقت ذاته تحدث الرئيس بافتخار عن دوره في المساهمة في تطوير مادة القانون الدستوري واكتشافه التاريخي لبعض النصوص غير المعروفة.

يلوح أن الأستاذ- الرئيس لم يتخلّص من حزازات الأمس. إذ كان يستشيط غضبا كلما تعلق الأمر بتحدّ لسلطته المعرفية. فقد نصح باستعلاء مفرط زملاءه من أساتذة القانون بـ”مراجعة دروسهم القانونية” بعد أن وصفوا تأويله للفصل 80 من الدستور بـ”الانقلاب على الدستور” على غرار ما ذهب إليه أستاذ القانون الدستوري عياض بن عاشور. كما أنه استقبل بغضب شديد تقرير لجنة البندقية الأخير، التي تضم خبراء مستقلين في القانون الدستوري، لأنها شكّلت في نظره تحدّيًا لخبرته الدستورية. وقد أراد الرئيس بشكل أو بآخر أن يقول لأعضاء اللجنة: “إني أملك معرفة لا تملكونها”.

هذه الوُثوقية المعرفية التي ينتجها الإحساس برفعة المكانة العلمية، شكّلت طيلة السنوات الفارطة منشأ توترات بين أساتذة القانون الدستوري. في هذا السياق، يشير المولدي قسومي إلى مضمون المعارضة التي أبداها بعض أساتذة القانون الدستوري للهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة. حيث لاحظ -بوصفه كان عضوا في تلك الهيئة- أن هناك محور صراع غير معلن، هو “محور الصراع بين الأساتذة الخبراء القانونيين على رئاسة الهيئة وتسييرها واستعمالها من كل طرف منصّة لتطبيق مبادئ مدرسته القانونية ومضامينها”.[5] وقد اعترض بعض أساتذة القانون العام والدستوري على تلك الهيئة التي ترأسّها زميلهم عياض بن عاشور، لأنها في تقديرهم هيئة مُنصبة وذات تمثيلية ضعيفة. ولكن في الوقت ذاته، لم يجدوا حرجا في الدفاع عن هيئة استشارية لكتابة دستور جديد اقتصرت عضويتها على بعض الخبراء في القانون والاقتصاد والأحزاب الموالية للرئيس سعيد، وقاطعها معظم الطيف السياسي والمدني والفكري. في هذا السياق يُشكّل أستاذ القانون الدستوري المتقاعد الصادق بلعيد مظهرا لهذه الازدواجية. ويأتي قبوله لرئاسة الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة بوصفه استعادة لـ”مشيخيته الدستورية” التي جُرّد منها طيلة العشرية الفارطة، سواء في الهية العليا لتحقيق أهداف الثورة التي حُرم من شرف رئاستها، أو في المجلس التأسيس الذي حرمه صندوق الانتخابات من الوصول إليه. لذلك ينظر الصادق بلعيد إلى دوره كـ”حارس الباب الجديد” لدستور تونس المنتظر. فقد قال باعتزاز شديد أن مرسوم “الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة” قد منحه صلاحية استدعاء من يراه صالحا إلى لجنته. وهكذا لا يملك العميد السابق فقط سلطة الرئاسة وتنسيق العمل بين اللجان، وإنما يحوز سلطة التصنيف العلمي والسياسي وفقا لرأيه ومكانته وعلاقاته التاريخية بالآخرين.

يبدو أن هذه المكانة حُرم منها مجددا زميله الصغيّر الزكراوي، الذي كان من أبرز المؤيدين للرئيس قيس سعيد بعد 25 جويلية 2021، ولكن هذا التأييد لم يلق حظّه لدى الرئيس-الأستاذ، لأن الصغير الزكراوي عُرف بمواقف سابقة معادية وساخرة من الرئيس سعيد. لذلك وجد نفسه خارج دستة المهندسين الجدد للدستور القادم. وقد عَبَّر الصغير الزكراوي عن استيائه من هذا التهميش في حواراته الأخيرة، قائلا: “قلنا له (الرئيس) نحن شركاء في المسار. قال لنا من أنتم؟”. مضيفا في نفس الاتجاه “يجب (على الرئيس) أن يتخلى عن الأساليب الفردية والأحادية في عدم استشارة أي طرف. هناك نخب غيورة في البلاد ولا حاجة لنا بالمناصب. لدينا ما يكفي من المناصب في كلياتنا”.

تراتبيّة الوسط الجامعيّ تخلق إحباطات لدى من يشعرون أنهم أقل شأنا من “زملائهم”

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة


[1] منير الشرفي. وزراء بورقيبة: دراسة ترسم ملامح الوزير التونسي في عهد الحكم الفردي، تونس: مطبعة تونس قرطاج (د.ت) ص: 39.

[2] المولدي قسومي. في مواجهة التاريخ: صدى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة في مسار الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في تونس (تنسيق ومتابعة ريم بن عيسى) ط1، تونس: دار محمد علي للنشر، 2021، ص: 221.

[3] امحمد صبور. المعرفة والسلطة في المجتمع العربي: الأكاديميون العرب والسلطة، ط2، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2001، ص: 187.

[4]  المرجع نفسه.

[5] المولدي قسومي، مرجع مذكور سابقا، ص: 191.

انشر المقال

متوفر من خلال:

محاكم دستورية ، تشريعات وقوانين ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني