اقتراح اللجنة الفرعية لإصلاح القضاء العسكري (2): تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة من دون الاستقلالية


2024-02-23    |   

اقتراح اللجنة الفرعية لإصلاح القضاء العسكري (2): تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة من دون الاستقلالية
رسم رائد شرف

في نهاية العام 2023، أنهت اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة الإدارة والعدل اقتراح قانون لإصلاح القضاء العسكري، وهي المرّة الأولى التي يقوم مجلس النوّاب بمراجعة شاملة لقانون القضاء العسكري منذ صدوره في العام 1968. وقرّرت لجنة الإدارة والعدل في 13 شباط الطلب من الجهات المعنية إبداء ملاحظاتها حوله، علماً أنّها لم تتلقّ لغايته أيّ ملاحظات من الحكومة. ويؤدّي اقتراح اللجنة الفرعية، في حال إقراره بصيغته الحالية، إلى تجريد القضاء العسكري من صلاحية محاكمة المدنيين، ما يّشكّل إصلاحاً هامّاً ينهي مظلمة كبيرة امتدت على مدى عقود من توّغل القضاء العسكري في حياة المدنيين الذين لا يرون فيه المكان “الطبيعي” لمحاكمتهم.

وكانت اللجنة الفرعية التي تم تشكيلها في نيسان 2023 برئاسة النائب جورج عقيص قد عقدت ثماني جلسات خلال خمسة أشهر لمناقشة تعديل قانون القضاء العسكري. على أثرها، أصدرت إقتراحها من دون أن توضح بشكل كافٍ منهجية عملها والتعديلات التي أقرّتها ومن دون أن تستمع إلى آراء جهات أخرى، من القطاع العامّ أو الخاصّ. ويظهر أنّ الاقتراح الذي أقرّته يستند بشكل أساسي على الاقتراح المقدّم من عقيص نفسه وجورج عدوان (رئيس لجنة الإدارة والعدل) في آذار 2023 والذي قدّمت “المفكّرة” ملاحظاتها حوله سابقاً، بخاصّة لجهة تعديل كامل الكتابين الأوّل والثاني من قانون القضاء العسكري المتعلّقين بتنظيم القضاء العسكري وأصول المحاكمات الجزائية العسكرية.

وكنا قد تناولنا في الجزء الأوّل من هذه المقالة ملاحظاتنا حول تعديل اقتراح اللجنة الفرعية لاختصاص القضاء العسكري حيث يتبيّن أنّه، بالرغم من إلغائه لصلاحيّة القضاء العسكري في محاكمة المدنيين، إلا أنّه يوّسعها لتشمل جرائم موظفي “الضابطة الجمركية” التي لها علاقة بالوظيفة، كما أنّه يبقي على صلاحية النظر في الجرائم التي ترتكب بحقّ المدنيين والتي تشكّل انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان كالقتل والتعذيب والإخفاء القسري. ونتناول في هذا الجزء الثاني ملاحظاتنا حول تعديله لتنظيم القضاء العسكري (1) وأصول المحاكمات أمامه (2) وفقاً للمنهجية نفسها التي اتّبعناها لتقييم اقتراح عقيص-عدوان.

  1. تعديل بنيان القضاء العسكري من دون ضمانات الاستقلالية

اعتمد اقتراح اللجنة الفرعية التعديلات الجوهريّة التي وردت في اقتراح عقيص-عدوان على بنيان القضاء العسكري وتكوينه بحيث يُصبح شبيهاً لتنظيم القضاء الجزائي العادي. وبالرغم من إيجابيات اعتماد هذا البنيان القضائي، إلا أنّه لم يُدخل ضمانات كافية لضمان استقلالية المحاكم والقضاة (وهو مبدأ دستوري) وكفاءتها. إذ أبقى على دور السلطة التنفيذية في تعيين القضاة، وعلى غلبة الضبّاط على تشكيل المحاكم (باستثناء محكمة التمييز العسكرية) وخضوعهم لأسلاكهم، ولم يضع شروطا كافية لضمان كفاءة الضبّاط الذين يتمّ تعيينهم للقيام بالمهام القضائية. 

ومن أبرز التعديلات التي يُدخلها الاقتراح، في حال إقراره، على هيكلة القضاء العسكري، نذكّر الآتي:

  • إلغاء هيئتيْ “المحكمة العسكرية” الجنحية والجنائيّة، واستبدالهما ب “محكمة جنايات عسكرية” التي تنظر في قضايا الجنايات والجنح المتلازمة معها، و”محكمة استئناف عسكرية” التي تنظر في استئناف الأحكام الصادرة عن القضاة المنفردين العسكريين في قضايا الجنح وبعض المخالفات. 
  • إلغاء محكمة التمييز العسكرية ومنح صلاحياتها إلى “غرفة عسكرية لدى محكمة التمييز” في القضاء العدلي يكون من اختصاصها النظر في نقض الأحكام الصادرة عن محكمة استئناف الجنح ومحكمة الجنايات العسكرية. وخلافاً لاقتراح عقيص-عدوان الذي كان قد اقترح إضافة ضابطين إلى هيئة المحكمة، تتألف هذه الغرفة من ثلاث قضاة مدنيين فقط.
  • إنشاء “هيئة اتهامية عسكرية” تقوم بالمهام المناطة بالهيئة الاتهامية العادية، وهي: (1) ممارسة سلطة الاتهام في الجنايات (بدلاً من قاضي التحقيق العسكري) و(2) النظر في الطعون في قرارات قضاة التحقيق (بدلاً من تعدد المراجع في الممارسة الحالية بين محكمة التمييز الجزائية ومحكمة التمييز العسكرية والهيئة الاتهامية في بيروت وفقاً لطبيعة القرار المطعون فيه) و(3) البتّ في طلبات إعادة الاعتبار (بدلاً من محكمة التمييز العسكرية). ويستبدل اقتراح اللجنة الفرعية أسوة باقتراح عقيص-عدوان، تسمية “مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية” بتسمية “النائب العام” لدى محكمة الاستئناف العسكرية أو لدى المحكمة العسكرية ويضعه تحت رقابة “النائب العام لدى الغرفة العسكرية لدى محكمة التمييز” أي النائب العام التمييزي أو من ينتدبه من دون تعديلات هامّة لمهامهم. كما يستبدل تسمية “السلطة العسكرية العليا” ب “المجلس العسكري”.

وكما أشرنا في ملاحظاتنا حول اقتراح عقيص-عدوان، يسمح هذا البنيان المقترح بإدخال بعض ضمانات المحاكمة العادلة المتوّفرة أمام القضاء العادي لا سيما لناحية الحق في التقاضي على درجتين. إلا أنّه يُخشى أن يواجه وضعه موضع التطبيق عقبات، طالما أنه يفترض إنشاء هيئات قضائية جديدة، مع ما يستتبع ذلك من موارد بشرية وإدارية ومالية في غياب أي إرادة سياسية  لمعالجة أزمة القطاع العام الحادّة حالياً. 

استمرار غلبة الضبّاط على تشكيل المحاكم ما عدا محكمة التمييز

 

يُبقي الاقتراح على تشكيل المحاكم العسكرية بأغلبية من الضبّاط، لكنّه يُلغي مشاركتهم في محكمة التمييز، مما يؤدّي إلى إلغاء هيمنة الضبّاط على أعلى مرجع في القضاء العسكري. 

وفيما تتألف محكمة الجنايات العسكرية المقترحة من خمسة أعضاء، اثنين من القضاة في الملاك العدلي (قضاة عدليين)، أحدهما رئيساً، وثلاثة من الضباط، تتألف محكمة الاستئناف العسكرية والهيئة الاتهامية من ثلاثة قضاة، قاضٍ عدلي رئيساً وضابطين عضوين. ويسجّل لاقتراح اللجنة الفرعية، كما اقتراح عقيص-عدوان، أنه يُلغي إمكانية توّلي الضبّاط رئاسة هذه الهيئات القضائية، كما هي الحال حالياً في المحكمة العسكرية الدائمة حيث يكون الأعضاء الضبّاط دون رتبة رئيسها، مما قد يُساهم في تعزيز قدرة هؤلاء على مخالفة آراء رئيس المحكمة طالما أنّه لم يعودوا خاضعين له تراتبياً.

أمّا فيما يتعلّق بالقضاء العسكري المنفرد، فقد انتهى الاقتراح إلى حصره بالضبّاط فقط، وألغى مبدأ تعيين القضاة المنفردين من القضاة العدليين أو من الضباط المجازين في الحقوق، وهو ما يشكّل تراجعاً في ضمانات المحاكمة العادلة مقارنة مع القانون الحالي. فهذه الضمانات تمنح المتقاضين الحقّ في أن تنظر في قضيتهم محكمة مستقلّة، فيما أنّ هيمنة الضبّاط على المحاكم العسكرية تشكّل سبباً موضوعياً للشكّ في حياديتها واستقلالها الظاهرين وفقاً للمعايير الدولية. 

في المقابل، اتّجه الاقتراح نحو إلغاء أي دور للضبّاط في مراكز النيابة العامّة العسكرية وقضاة التحقيق، إذ ينصّ على أن يقوم بهذه المهام قضاة عدليون ويلغي إمكانية تعيين الضبّاط في هذه المراكز. 

وعليه، يظهر أن الاقتراح يذهب في اتجاه تعديل القانون لتكريس الممارسات الحالية في القضاء العسكري حيث يتم تعيين قضاة عدليين في هذه المراكز، فيما يتم تعيين ضبّاط في مراكز القضاة المنفردين.

إهمال معايير الكفاءة

لا يشترط الاقتراح لتعيين جميع الضبّاط في المحاكم حيازتهم لإجازة في الحقوق أو اشتراكهم في أي تدريب على العمل القضائي أسوة بالقضاة العدليين ووفقاً لما تفرضه المعايير الدولية التي تعتبر الكفاءة القانونية للقضاة مكوّناً أساسياً في استقلاليتهم. بالفعل، يكتفي الاقتراح باعتماد مبدأ “الأفضلية للمجازين في الحقوق” للضبّاط المعينين في محكمة الاستئناف والهيئة الاتهامية وفي مراكز قضاة المنفردين. حتّى أنّه يذهب، كما اقتراح عقيص-عدوان، إلى حدّ إلغاء شرط الإجازة في الحقوق الذي ينصّ عليه القانون الحالي فيما يتعلّق بتعيين القضاة المنفردين واستبدالها بمبدأ الأفضلية للمجازين بالحقوق. 

لكن في موازاة ذلك، فرضت اللجنة الفرعية إلزامية الإجازة في الحقوق كشرط لتعيين الضبّاط في حالتين: 

  • الأولى، هي لتعيينهم في هيئة محكمة الجنايات العسكرية، أي في المحكمة التي تنظر في أخطر الجرائم العسكرية.
  • الثانية، وهي لتعيين ضبّاط من الأجهزة الأمنية (الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والضابطة الجمركية) الذين يشاركون في هيئة المحاكم العسكرية بدلاً من الضبّاط من الجيش في حال كان المدّعى عليه ينتمي إلى هذه الأسلاك الأمنية (المادة 6 من الاقتراح). يُخالف هذا النصّ مبدأ المساواة أمام القضاء إذ يؤدّي عملياً إلى منح المدّعى عليهم المنتمين إلى هذه الأجهزة الأمنية ضماناتٍ أعلى من المدّعى عليهم المنتمين إلى الجيش بخاصّة أمام محكمة الاستئناف، إذ لا يشترط الاقتراح  تعيين ضبّاط من المجازين في الحقوق في هذه المحكمة (المادة 4 من الاقتراح). 

أمام هذا التناقض، وتبعاً للخلاف حول التعيينات الذي حصل مؤخراً بين وزير الدفاع وقائد الجيش وأدّى إلى تعطيل المحاكم العسكرية لعدّة أسابيع، كان من الأنسب على الاقتراح اعتماد مبدأ شرط الإجازة في الحقوق في تعيين جميع الضبّاط في مختلف المحاكم العسكرية.

الحدّ من سلطة وزير الدفاع مع استثناء التعيينات

اعتمدت اللجنة الفرعية التوّجه العام لاقتراح عقيص-عدوان بالحدّ من سلطة وزير الدفاع على القضاة في القضاء العسكري تماشياً مع المعايير الدولية التي توصي بأن تكون المحاكم العسكرية منفصِلة مؤسّساتيًّا عن السلطة التنفيذيّة، فتبنّت معظم البنود الواردة فيه، ومنها:

  • إلغاء البند الذي يعطي وزير الدفاع تجاه المحاكم العسكرية جميع الصلاحيات المعطاة لوزير العدل تجاه المحاكم العدلية (المادة الأولى من القانون الحالي). 
  • تعيين القضاة العدليين في القضاء العسكري بموجب “مرسوم” التشكيلات القضائية (المادة 10 من الاقتراح) بدلاً من مرسوم يصدر بناء على اقتراح وزيري العدل والدفاع بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى. وكانت “المفكّرة” قد انتقدتْ هذه الصيغة لتناقضها مع ما أقرّته لجنة الإدارة والعدل في اقتراح قانون استقلالية القضاء العدلي الذي أجاز إمكانية صدور مشروع التشكيلات القضائية المعدّ من مجلس القضاء الأعلى من دون حاجة إلى مرسوم في حال انقضاء فترة زمنية معينة من تاريخ إيداعه لدى وزارة العدل من دون صدوره فعلياً (وهي من الإصلاحات الأساسية لتعزيز الاستقلالية ومنع التعطيل الحالي في التشكيلات). لذا، كان من الأنسب أن يكتفي الاقتراح بالإحالة إلى أحكام قانون القضاء العدلي فيما يتعلّق بتعيين القضاة العدليين لدى القضاء العسكري من دون زيادة، وذلك منعاً لأيّ تضارب في النصوص. 
  • إلغاء إمكانية إعادة هؤلاء القضاة إلى القضاء العدلي “في أي وقت كان” ومنع إعادتهم إلا بعد مرور سنتين على تعيينهم في القضاء العسكري، مما يُساهم في تعزيز استقلاليتهم بالرغم من عدم اشتراط موافقتهم على نقلهم، علماً أنّ مبدأ عدم نقل القاضي إلا برضاه هو إحدى أهم ضمانات استقلالية القضاء.
  • إلغاء صلاحية وزير الدفاع بالطلب من النيابة العامّة تمييز الأحكام القضائية (المادة 79 من القانون الحالي). وفيما كان اقتراح عقيص-عدوان قد أبقى على صلاحية وزير الدفاع لطلب تمييز الأحكام لمنفعة القانون، ينقل اقتراح اللجنة هذه الصلاحية إلى وزير العدل (المادة 83 من اقتراح اللجنة).
  • نقل صلاحية تعيين المساعدين القضائيين في القضاء العسكري من وزير الدفاع إلى وزير العدل بناء على توصية مجلس القضاء الأعلى، ونقل صلاحية إجراء مناقلاتِهم بين المحاكم العسكرية من وزير الدفاع إلى القاضي العدلي الذي يترأس الغرفة العسكرية لدى محكمة التمييز (المادة 14 من الاقتراح).

أما بالنسبة لتعيين القضاة الضبّاط (المادة 12)، فلم تعتمد اللجنة الآلية الواردة في اقتراح عقيص-عدوان باستبدال قرار وزير الدفاع بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء، بل ينصّ اقتراحها على تعيين الضبّاط في بداية كل سنة بقرار يصدر عن “الوزير المختصّ بكل سلك”. وعليه، يُبقي الاقتراح على صلاحية وزير الدفاع لتعيين ضبّاط الجيش بناء على رأي المجلس العسكري، فيما يمنح صلاحية تعيين ضبّاط الأجهزة الأمنية الأخرى إلى وزير الداخلية (فيما يتعلّق بالأمن الداخلي والأمن العام) ووزير المال (فيما يتعلّق بالضابطة الجمركية) ، وذلك بناء على اقتراح من المدراء العامّين لهذه الأجهزة. 

أما فيما يتعلّق بتعيينات ضبّاط مديرية أمن الدولة، فقد تطرح إناطة الصلاحية ب “الوزير المختصّ” إشكاليات حول تحديد المرجع المعني لإجرائها، كون المديرية لا تدخل إداريّاً تحت وصاية وزارة معيّنة بل تخضع، بحسب قانون الدفاع الوطني، لسلطة المجلس الأعلى للدفاع وتتبع لرئيس المجلس ونائبه، أي رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء. ورغم أنّ موازنتها تدخل ضمن موازنة رئاسة مجلس الوزراء، ذهب التوّجه في قضية التحقيق في تفجير مرفأ بيروت إلى اعتبار أنّ المرجع المعني بإعطاء الإذن بملاحقة مديرها العام هو المجلس الأعلى للدفاع. لذا، كان من الأنسب على الاقتراح أن يوضح المرجع المعني بتعيين ضبّاطها في المحاكم العسكرية بوضوح درءًا لأي لبس في تفسيره.

وأسوة باقتراح عقيص-عدوان، لم تفرض اللجنة أية ضوابط لآلية تعيين الضبّاط القضاة أو معايير موضوعية لتعيينهم باستثناء الرتب وإجازة الحقوق في الحالتين المذكورتين أعلاه. لكنّها تبنّت مبدأ تعيينهم لمدّة ثلاث سنوات وألغت إمكانية تعديل قرار التعيين “في أي وقت من السنة”، وحصرت إمكانية عزلهم بالأسباب المسلكية أو التأديبية أو لسبب العجز أو عدم القدرة على أداء المهام المناطة بهم. كما أبقت على خضوعهم لأنظمة الأسلاك العسكرية والأمنية التي ينتمون إليها، ما يشكّل مسّاً باستقلاليّتهم وفقاً للمعايير الدولية. وتبعاً لإلغاء الاقتراح لتبعية هؤلاء الضباّط القضاة لوزير الدفاع، أخضعهم بالمقابل إلى رقابة المجلس العسكري (بدلاً من مجلس القضاء الأعلى) ومنع ملاحقتهم جزائياً أو تاديبيباً فيما يتعلّق بوظيفتهم القضائية إلا بعد أخذ إذن من المجلس العسكري. 

  1. تعزيز ضمانات المحاكمة العادلة في أصول المحاكمات العسكرية 

تبنّى اقتراح اللجنة الفرعية عدداً من الإصلاحات الهادفة إلى تعزيز مبادئ المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع التي كانت قد وردت في اقتراح عقيص-عدوان والتي كنا قد أبدينا ملاحظاتنا بشأنها سابقاً. وأبرز هذه الإصلاحات:

  • توسيع حقوق الطّعن وحقّ التّقاضي على درجتيْن: تبعاً لتعديله لبنيان القضاء العسكري عبر إنشاء هيئات قضائية جديدة كما أسلفنا، يمنح الاقتراح للملاحقين أمام القضاء العسكري إمكانية الطعن استئنافاً وتمييزاً بالقرارات الصادرة عن هيئاته القضائية وفقاً لشروط مشابهة للأصول المتبعة أمام القضاء العادي. وإن كان هذا التعديل يٌوّسع من حقوق الطعن، إلا أنّه يبقي إمكانية الطعن استئنافاً داخل هيكلية القضاء العسكري في حين أنّ المعايير الدولية توصي بأن يقتصر اختصاص المحاكم العسكرية على الدرجة الأولى وأنّ تُقدَّم الطعون ضدّ قرارتها، بما فيها الاستئناف، أمام المحاكم العادية انطلاقًا من ضرورة دمج المحاكم العسكرية في النظام القضائي العام (المبدأ 17 من مبادئ ديكو). 
  • فرض تعليل الأحكام: إلزام كافّة المحاكم العسكرية بتعليل أحكامها “تعليلاً كافياً لا لبس فيه ولا غموض ولا تناقض” (المادة 64 من الاقتراح) خلافاً لما هي الحال حالياً، إذ يشكّل موجب التعليل أحد مبادئ حسن سير العدالة وإحدى ضمانات المحاكمة العادلة الأساسية.
  • إلغاء ممارسة المحامين العسكريين: إلغاء إمكانية تعيين ضبّاط للدفاع عن المدّعى عليهم الذين لم يختاروا محامياً، وتالياً إنهاء ممارسة المحامين العسكريين التي لا تتلاءم مع المعايير الدولية نظرًا إلى عدم استقلال هؤلاء الضبّاط عن السلطة العسكرية، وعدم تمرّسهم بالشؤون القانونية والقضائية (إلغاء المادة 21 من قانون القضاء العسكري وتعديل المادة 57 منه التي أصبحت المادة 56 في اقتراح اللجنة الفرعية).
  • إلغاء إمكانية معاقبة المحامين: اقترحت اللجنة إلغاء المادة 59 من القانون الحالي التي تمنح رئيس المحكمة العسكرية صلاحية منع المحامي من دخول المحكمة في بعض الحالات، والتي تشكّل خطرًا جسيمًا على حقوق الدفاع واستقلالية المحامين والحصانات المنوطة بمهنة المحاماة. ويُشار في هذا الصّدد إلى أنّ النائبة بولا يعقوبيان كانت قد تقدّمت في 10/01/2024 (أي بعد إنجاز اقتراح اللجنة الفرعية) باقتراح قانون لتعديل المادة 59 من قانون القضاء العسكري في اتجاه تعزيز ضمانات الدفاع، لا سيّما من خلال حصر صلاحية رئيس المحكمة بإبلاغ نقابتي المحامين في حال ارتكاب المحامي خطأً مسلكياً. وفي حال إقرار اقتراح اللجنة الفرعية بصيغته الحالية، يُصبح اقتراح يعقوبيان من دون موضوع.

من جهة أخرى، أضافت اللجنة بعض التعديلات التي لم يتناولها اقتراح عقيص-عدوان، وأبرزها:

  • الانتقاص من ضمانات مبدأ الوقت الكافي لإعداد الدفاع: يُلغي الاقتراح مهلة الثلاثة أيّام لتبليغ المدّعى عليه بقرار الاتهام أو مواد الإدعاء (المادة 49 من القانون الحالي والتي أصبحت المادة 50 في اقتراح اللجنة)، وهو تعديل ينتقص من ضمانات حقوق الدفاع إذ أنّ هدف المهلة هو ضمان منح المدّعى عليه الوقت الكافي لتحضير الدفاع المناسب سنداً للفقرة 3-ب من المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. كما يُبقي الاقتراح على مهلة 24 ساعة للاطّلاع على ملف الدعوى قبل موعد الجلسة والتي تعتبر أيضاً مهلة غير كافية لإعداد الدفاع المناسب (المادة 58 من القانون الحالي التي أصبحت المادة 57 من الاقتراح). لذا، كان من الأنسب على الاقتراح أن يطوّل المهلتيْن بدلاً من إلغاء المهلة الأولى والإبقاء على الثانية. 
  • تعزيز ضمانات مبدأ علنية الجلسات: يفرض الاقتراح على المحاكم العسكرية الالتزام بشروط المادة 178 من أصول المحاكمات الجزائية لدى إصدارها قراراً بحظر نشر وقائع الجلسات أو ملخّصٍ عنها، بحيث تُصبح محصورة بداعي المحافظة على النظام العام أو الأخلاق العامة أو بمنع الأحداث من حضورها (المادة 55 من القانون الحالي التي أصبحت المادة 54 من الاقتراح).  
  • إلغاء مبدأ سريّة الأوراق: يُلغي الاقتراح منع المدّعى عليه من الحصول على صورة عن أوراق الملف القضائي التي لها طابع سرّي، بحيث تُصبح جميع الأوراق قابلة للتصوير وغير خاضعة للسرّية، علماً أنّ القانون الحالي لا  يوضح الجهة التي تصنّف أوراق بالسرِّيةً أو المعايير والإجراءات المتّبعة لذلك (المادة 58 من القانون الحالي التي أصبحت المادة 57 من الاقتراح).

تعزيز مشاركة الضحايا في الإجراءات القضائية العسكرية

أقرّ الاقتراح في أسبابه الموجبة أنّ “حقوق الشاكي” تبقى “منقوصة أمام القضاء العسكري، حيث لا يستمع إليه إلا على سبيل المعلومات”.   لكنّه رغم ذلك أبقى على حصر صلاحية القضاء العسكري بدعوى الحقّ العام من دون السماح للمتضرِّر من الجريمةٍ اتّخاذ صفة الادّعاء الشخصي أمامه (خلافاً لما هي الحال أمام القضاء العادي)، وهو ما يحرم ضحايا الجرائم العسكرية من أن تتمثّل أمام القضاء العسكري كطرف أو كجهة مدَّعية. في المقابل،  اعتمد توّجه اقتراح عقيص-عدوان بمحاولة التعويض عن هذا الإقصاء لدور المتضرِّر من خلال إقرار حقّه بأن يقدّم “جميع وسائل الإثبات… بما فيها أسماء الشهود… ومذكرات خطية توضيحية” وذلك أمام كافّة المراجع القضائية العسكرية وخلال كافة مراحل الدعوى (المادة 22 من اقتراح اللجنة الفرعية).  

وعليه، يؤدّي الاقتراح إلى تعزيز دور الضحية مخولاً إياها المشاركة، ولو بطريقة غير اعتيادية، في الإجراءات القضائية وقدرتها في التأثير على سير المحاكمة، وإن كانت لا تزال غير قادرة على المشاركة الفاعلة في إجراءات المحاكمة (من خلال تقديم طلبات أو الترافع أو الطعن بالأحكام الصادرة عن القضاء العسكري)، إذ تبقى ملزمة بنتيجتها لدى مطالبتها بالتعويض أمام المحاكم المدنية.

وقد وثّقت “المفكّرة” نتائج حرمان الضحيّة من المشاركة في الإجراءات القضائية في قضايا التعذيب بشكل خاص، أبرزها قضية زياد عيتاني حيث حصر القضاء العسكري المسؤولية بشخصَين (الرائد سوزان الحاج وإيلي غبش) باختلاق الأدلّة بحقّه من دون ملاحقة عناصر أمن الدولة المشتبه بارتكابهم التعذيب بحقّه. كما ظهرت مؤخراً في قضية مقتل بشار السعود حيث حُرم وكيل ورثته، المحامي محمد صبلوح، عدّة مرّات من تقديم أدلة مباشرة إلى المحكمة العسكرية أو عبر مفوّض الحكومة.

يبقى أن نشير إلى أنّ اقتراح اللجنة الفرعية، كما اقتراح عقيص-عدوان، أغفل النصّ صراحة على حقّ الضحية بالحصول على نسخة عن ملفّ دعوى الحقّ العام، حيث تقتصر الممارسة الحالية على السماح للضحيّة بالحصول على نسخة طبق الأصل عن الأحكام المُبرمة الصادرة عن القضاء العسكري لكي يتسنّى لها المطالبة بالتعويض أمام القضاء المدني، مما يحرم الضحية من الوصول إلى معلومات هامّة وضرورية تتعلّق بقضيّتها وتمكّنها من ممارسة حقوقها بالانتصاف القانوني. كما أنّه أبقى على صلاحية قيادات الجيش والأجهزة الأمنية بتحريك الدعوى العامّة في حال كان كان المتضرّر من موّظفيها ويتوّقف الحقّ العام على اتخاذه صفة الادعاء الشخصي، إلا انّها حصرتها في الجرم الذي “يمسّ بالمؤسسة التي ينتمي إليها (المتضرر) معنوياً أو مادياً”.

خلاصة:

في نهاية التدقيق في مضمون اقتراح اللجنة الفرعية، أمكن تسجيل الخلاصات الآتية: 

  • من أهمّ ايجابيات هذا الاقتراح أنّه يلغي إختصاص القضاء العسكري في محاكمة المدنيين، إلا أنّه بالمقابل يوّسعه ليشمل جرائم موظفي “الضابطة الجمركية” التي لها علاقة بالوظيفة، كما أنّه يبقي على صلاحية النظر في الجرائم التي ترتكب بحقّ المدنيين والتي تشكّل انتهاكاً جسيماً لحقوق الإنسان كالقتل والتعذيب والإخفاء القسري.
  • يُدخل الاقتراح تعديلات جوهرية على بنيان القضاء العسكري وتكوينه بحيث يُصبح شبيهاً لتنظيم القضاء الجزائي العادي ويوّسع من حقوق الطعن استئنافاً وتمييزياً. ومن أهمّ التعديلات التي يُدخلها هي إلغاء محكمة التمييز العسكرية الحالية ومنح صلاحياتها إلى محكمة التمييز في القضاء العدلي. إلا أنّه في المقابل يُنشئ محكمة استئناف داخل القضاء العسكري، وهو ما يتعارض مع المعايير الدولية التي توصي بأن بأن يقتصر اختصاص المحاكم العسكرية على الدرجة الأولى وأنّ تُقدَّم الطعون ضدّ قرارتها، بما فيها الاستئناف، أمام المحاكم العادية انطلاقًا من ضرورة دمج المحاكم العسكرية في النظام القضائي العام.
  • لا يُدخل الاقتراح ضمانات كافية لتعزيز استقلالية المحاكم والقضاة، لا سيّما من خلال إبقائه على دور السلطة التنفيذية في تعيين القضاة، وغلبة الضبّاط في تشكيل المحاكم (باستثناء محكمة التمييز) وخضوعهم لأسلاكهم، وعدم فرضه معايير موضوعية لتعيينهم أو اشتراط مبدأ الكفاءة والإجازة في القانون في جميع التعيينات. 
  • يُعزز الاقتراح ضمانات المحاكمة العادلة وحقوق الدفاع في أصول المحاكمات العسكرية لا سيّما من خلال توسيعه حقوق الطعن بالقرارات القضائية الصادرة عن القضاء العسكري وفرض تعليلها وتعزيز استقلالية المحامين وقدرة الضحايا على المشاركة في الإجراءات القضائية العسكرية. 

للاطلاع على اقتراح القانون لتعديل المادة 59 من قانون القضاء العسكري

انشر المقال



متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، محاكم عسكرية ، البرلمان ، تشريعات وقوانين ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، مقالات ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني