اقتراح اللجنة الفرعية لإصلاح القضاء العسكري (1): منع الاختصاص بحقّ المدنيين مع الإبقاء على ثغرات هامّة


2024-01-25    |   

اقتراح اللجنة الفرعية لإصلاح القضاء العسكري (1): منع الاختصاص بحقّ المدنيين مع الإبقاء على ثغرات هامّة
رسم رائد شرف

في 19/12/2023، أنهت اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة الإدارة والعدل اقتراح قانون لإصلاح القضاء العسكري، وهي المرّة الأولى التي يقوم مجلس النوّاب بمراجعة شاملة لقانون القضاء العسكري منذ صدوره في العام 1968. ويؤدّي هذا الاقتراح، في حال إقراره بصيغته الحالية، إلى تجريد القضاء العسكري من صلاحية محاكمة المدنيين وحصرها بشكل واسع مقارنة مع الحالة الراهنة ومع مختلف اقتراحات القوانين المقدّمة سابقاً للحدّ من اختصاصه.

وكانت اللجنة الفرعية التي تم تشكيلها في نيسان 2023 برئاسة النائب جورج عقيص قد ناقشت عدّة اقتراحات بهذا الهدف، أبرزها الاقتراح المقدّم من عقيص نفسه وجورج عدوان (رئيس لجنة الإدارة والعدل) في آذار 2023 الذي يهدف إلى تعديل اختصاص القضاء العسكري وهيكليته وأصول المحاكمات أمامه والذي قدّمت “المفكّرة” ملاحظاتها حوله سابقاً، كما الاقتراح المقدّم من النائب بلال عبد الله في العام 2021 للحدّ من اختصاص القضاء العسكري. ويظهر أنّ الاقتراح الذي أقرّته اللجنة يستند بشكل أساسي على الاقتراح المقدّم من عقيص-عدوان، بخاصّة لجهة تعديل كامل الكتابين الأوّل والثاني من قانون القضاء العسكري المتعلّقين بتنظيم القضاء العسكري وأصول المحاكمات الجزائية العسكرية.

نقدّم في هذه المقالة أبرز ملاحظاتنا حول التعديلات التي يقدّمها اقتراح اللجنة الفرعية فيما يتعلّق باختصاص القضاء العسكري، وذلك على ضوء المعايير الدوّلية التي يطمح الاقتراح إلى احترامها، على أن نتبعها بملاحظاتنا حول تعديل الاقتراح لتنظيم القضاء العسكري وأصول المحاكمات أمامه..

اقتراح للحدّ من اختصاص القضاء العسكري

وففاً لأسبابه الموجبة، جاء اقتراح اللجنة الفرعية لمواجهة استمرار توسيع صلاحية المحاكم العسكرية التي “أنشئت بالأساس للنظر في القضايا العسكرية ومحاكمة العسكريين”، حيث أنّه “تمّ توسيع صلاحياتها استثنائياً ومؤقتاً بعد ثورة عام 1958، واستمر ذلك التوسيع المؤقت إلى يومنا من ناحية، ومن ناحية أخرى كثرت الاجتهادات في هذا المجال حتى توسعت صلاحياتها وطغت على صلاحيات القضاء العدلي.” كما جاء لمواجهة ” شرذمة القضاء” و”خضوع المواطن المدني للقضاء العسكري”.

بالفعل، من المعلوم أنّ القضاء العسكري في لبنان يحتلّ حيّزًا هامًّا من النظام القضائي اللبناني. إذ بالرغم من صفته الاستثنائية، فهو يتمتّع حاليًا بصلاحية واسعة جدًا لملاحقة عدد كبير من الجرائم، بحيث تكاد تشمل أي نزاع جزائي بين مدني وأحد أفراد الأجهزة العسكرية والأمنية.  ويؤدّي ذلك إلى إخضاع المدنيين لمحاكمات لا تتوّفر فيها ضمانات المحاكمة العادلة وإلى منح القوى العسكرية والأمنية امتيازات قضائية واسعة، غالبًا ما قد تسهم في إفلات عناصرها من العقاب وإنكار حقوق ضحاياهم في الإنصاف القانوني.

كما أشارت الأسباب الموجبة للاقتراح إلى أنّ “المعايير الدولية للعدالة تقتضي وحدة القضاء وتدرجه، كما تقضي بعدم اعتماد القضاء الاستثنائي، تحقيقاً للعدالة التي تعتبر الهدف الأسمى لعمل القضاء”. في هذا السياق، يًشكّل “مشروع المبادئ بشأن إقامة العدالة عن طريق المحاكم العسكرية” (المعروف بـ “مبادئ ديكو“) المرجع الدولي الأساسي لتقييم التشريعات المتعلّقة بالمحاكم العسكرية. ويمكن تلخيص المعايير الدولية المتعلّقة باختصاص القضاء العسكري بثلاثة مبادئ رئيسية:

●                  عدم جواز محاكمة المدنيين، بمن فيهم القاصرون، أمام المحاكم العسكرية (المبدآن 5 و7 من “مبادئ ديكو”)، وذلك لاعتبارها مخالفة لمبدأ القاضي الطبيعي والحقّ في محكمة مستقلّة وحيادية.

●                  حصر اختصاص القضاء العسكري في الجرائم ذات الطابع العسكري البحت التي يرتكبها موظفون عسكريون (مبدأ رقم 8)، أي من دون عناصر الأجهزة الأمنية الأخرى التي تبقى خاضعة للمحاكمات العادية حتى في حال ارتكابها لجرائم تتعلق بالوظيفة.

●                  عدم جواز محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضدّ المدنيين وفقًا للقانون الدولي أمام القضاء العسكري، وهو ما يشمل مثلًا حالات الإعدام خارج نطاق القضاء والاختفاء القسري والتعذيب (المبدأ 9). يستند هذا المبدأ إلى غياب معايير الاستقلالية في المحاكم العسكرية وإلى اعتبار أنّ هذا النوع من الجرائم تخرج بطبيعتها عن نطاق الوظائف التي يمارسها العسكريّون، فلا يجوز اعتبارها من الأفعال التي تُرتكب لدى أداء الوظائف العسكرية. وهو يجد تبريره بأنّ السلطات العسكرية قد تميل إلى التستّر على هذه الانتهاكات من خلال التشكيك في ملاءمة الملاحقات أو حفظ القضية من دون تحقيق على حساب الضحايا، مما يجعل من اختصاص القضاء العادي ضمانة ضدّ الإفلات من العقاب.

ويظهر من التدقيق في تفاصيل اقتراح اللجنة الفرعية (بخاصّة المواد 20 و21 و24 و25 منه) أنّه، وإن كان يحدّ بشكل واسع من اختصاص القضاء العسكري بخاصّة لجهة محاكمة المدنيين، إلّا أنّه لا يتلاءم بشكل كافٍ مع المبادئ الثلاثة المذكورة أعلاه كما نبيّن أدناه. 

لا يحاكم المدنيون أمام المحكمة العسكرية

جاء اقتراح اللجنة الفرعية ليتجاوز ما تضمّنه اقتراحا عقيص-عدوان وعبدالله اللذين سمحا بمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري في بعض الحالات الاستثنائية، إذ ينصّ بشكل واضح على عدم صلاحية القضاء العسكريّ للنظر في “الجرائم التي يرتكبها المدنيون أيًّا كان نوعها وأينما وردت في هذا القانون أو في قانون العقوبات أو غيره من القوانين الخاصة”. وعليه، يكون الاقتراح قد ألغى جميع الاستثناءات التي كانت قد وردت في اقتراحيْ عقيص-عدوان (كجرائم الإرهاب والأسلحة) وعبد الله. كما نصّ صراحة على عدم اختصاص القضاء العسكري للنظر في الجرائم غير العسكرية التي يكون فيها أحد المدنيين فاعلاً أو متدخّلاً أو شريكاً أو محرّضاً. وعليه، يؤدّي هذا الاقتراح، في حال إقراره بهذه الصيغة، إلى إنهاء مظلمة كبيرة امتدت على مدى عقود من توّغل القضاء العسكري في حياة المدنيين الذين لا يرون فيه المكان “الطبيعي” لمحاكمتهم.

ونشير إلى أنّ الاقتراح لا يعدّل في صلاحية القضاء العسكري التي تتوّسع في حال إعلان حالة الطوارئ أو المنطقة العسكرية، لتبقى تاليًا قائمة سندًا لقانون الدفاع الوطني.

قضاء متخصّص بالوظيفة العسكرية… والأمنية أيضًا

فيما توصي المعايير الدولية بحصر اختصاص القضاء العسكريّ بالجرائم ذات الطابع العسكريّ البحت التي يرتكبها موظفون عسكريون، إلّا أنّ اقتراح اللجنة الفرعية يُبقي على اختصاص أوسع لا ينحصر بالوظيفة العسكرية بل يشمل الوظيفة الأمنية أيضًا.

فيحدّد الاقتراح اختصاص القضاء العسكريّ بالجرائم المرتكبة من قبل العسكريين التي لها علاقة بالوظيفة وهي الجرائم التي حدّدها في متنه بشكل حصريّ، ممّا يؤدّي إلى نزع اختصاص القضاء العسكري عن الجرائم التي يرتكبها هؤلاء والتي لا تتعلق بالوظيفة العسكرية (كالعنف الأسري ومخالفات السير والنزاعات بينهم وبين المدنيين ذات الطابع الفردي). إلّا أنّ صلاحية القضاء العسكري تبقى محفوظة ليس لمحاكمة العسكريين بالنسبة إلى هذه الجرائم فحسب، بل أيضًا لمحاكمة المماثلين لهم ورجال الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والضابطة الجمركية “ما لم تكن الملاحقة تتعلق بجرائم لا علاقة لها بالوظيفة”. واللافت أنّ اقتراح اللجنة الفرعية أبقى على توسيع صلاحية القضاء العسكري الذي نصّ عليها اقتراح عقيص-عدوان لتشمل جرائم موظفي “الضابطة الجمركية” التي لها علاقة بالوظيفة، علمًا أنّهم يخضعون حاليًا لصلاحية القضاء العادي.

ويلحظ أن الاقتراح لا يزال يستخدم عبارة “رجال” القوى الأمنية التي وردتْ في القانون الصادر في العام 1968 بدلاً من “الموّظفون” أو “العناصر”، علماً أن العديد من هذه الأجهزة أصبحت اليوم تضمّ نساءً ضمن عناصرها، ما يستوجب ترجمة هذا التطوّر في النصّ التشريعي.

وعليه، وإن كان الاقتراح يؤدّي في حال إقراره إلى نزع اختصاص القضاء العسكري عن الجرائم التي يرتكبها موظفو الجيش والأجهزة الأمنية التي لا تتعلق بالوظيفة العسكرية والأمنية، إلا أنّه، خلافاً للمعايير الدولية، يُبقي على اختصاصه للنظر في الجرائم المرتكبة من قبل عناصر الأجهزة الأمنية في إطار الوظيفة الأمنية ويوّسعها لتشمل عناصر الضابطة الجمركية.

هل تبقى جرائم التعذيب في عهدة القضاء العسكري؟

فيما توصي المعايير الدولية بنزع اختصاص القضاء العسكري عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي يرتكبها الموّظّفون العسكريون والأمنيّون ضدّ مدنيين، إلّا أنّ اقتراح اللجنة الفرعية (كما اقتراحي عقيص-عدوان وعبد الله) لم يتطرّق إلى هذه الإشكالية، إذ لم ينصّ صراحة على عدم صلاحية القضاء العسكري للنظر في هذه الجرائم التي تشمل بشكل خاصّ جرائم التعذيب والإخفاء القسري والقتل المنصوص عنها في المواد 401 و547 إلى 553 من قانون العقوبات وقانون معاقبة التعذيب وقانون المفقودين والمخفيين قسرًا. ففي حين ينصّ الاقتراح صراحة على إخراج الجرائم المرتكبة من قبل عناصر الأجهزة الأمنية “أثناء التحقيقات العدلية” والتي “لها علاقة بهذه التحقيقات المرتكبة بسببها أو بمعرضها” من اختصاص القضاء العسكري (وهو غالبًا ما يشمل جرائم التعذيب)، لم ينصّ على إخراج هذه الجرائم من اختصاصه في حال ارتكابها من قبل عناصر الجيش، طالما أنهّا قد تُفسّر على أنّها مرتبطة بالوظيفة العسكرية.

بالإضافة إلى ذلك، يُبقي الاقتراح الغموض قائمًا بشأن مدى اختصاص القضاء العسكري للنظر في الجرائم المرتكبة من قبل عناصر الأجهزة الأمنية في إطار التحقيقات العدلية “العسكرية” (وليس العادية) أي التي تحصل تحت إشراف القضاء العسكري. ويُخشى أن يؤدّي هذا الغموض إلى اعتماد التفسير القانوني الذي اعتمدته قاضية التحقيق العسكري نجاة أبو شقرا في قرارها الاتهامي الصادر في قضية مقتل بشار السعود، حيث اعتبرت أنّ جرائم التعذيب التي يرتكبها عناصر أمنيّون في إطار التحقيقات العدلية “العسكرية” تخضع لصلاحيّة القضاء العسكري، مع ما يستتبع ذلك من مخاوف حول إفلات مرتكبي التعذيب من العقاب.

للاطّلاع على اقتراح القانون، إضغطوا هنا

نٌشرت نسخة أولى من هذه المقالة في العدد 71 من مجلة المفكرة القانونية – لبنان.

لقراءة العدد بصيغة PDF

انشر المقال



متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، المرصد البرلماني ، محاكم عسكرية ، مجلة لبنان ، لبنان ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني