دعا رئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى عقد جلسة عامة أيّام الأربعاء والخميس والجمعة في 14 و15 و16 أيلول لدرس وإقرار مشروع الموازنة للعام 2022. وللتذكير، فإنّ وزير المال يوسف الخليل أعدّ مسودة مشروع الموازنة وأرسلها في 21/1/2022 للحكومة التي أدخلت عليه بعض التعديلات وأحالته بدورها بصيغة مشروع قانون إلى المجلس النيابي في 10/2/2022. بعدئذ استغرقت لجنة المال والموازنة مدّة قياسية في درسه دامت 6 أشهر وتخلّلها عقد 22 جلسة كان آخرها في 25/8/2022.
وكانت المفكرة القانونية علّقت على مقترح وزير المالية ضمن 4 أجزاء خصصناها لمناقشة الأمور الآتية:
وقد سجّلنا آنذاك أنّ المقترح مشوبٌ بالعيوب لجهة الانحياز لصالح الفئات الأكثر ثراء من دون إيلاء أيّ اعتبار للعدالة الضريبيّة والتقصير الفادح في حماية الأملاك والأموال والمرافق العامة، وهو انحياز رأيْنا أنه يوغل في تقويض أسس الدولة لصالح من يتهيأ لقضم مواردها وأملاكها.
إذ ذاك، سننطلق في دراستنا لهذا المشروع ممّا سبق وبدأنا به في الأقسام الأربعة، بخاصة أن هيكلية المشروع وتوجهاته وموادّه ما تزال في أغلبها من دون تغيير.
وقبل الغوص في تفاصيل المشروع وتعديلاته في لجنة المال والموازنة، يُلحظ أنّ اللجنة وعلى الرغم من المدّة الطويلة التي قضتها في دراسة المشروع، أبقت في سابقة لم تحصل من قبل 14 مادّة معلّقة من دون أن تبتّ فيها، تاركة الأمر للهيئة العامة. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للانتقاد هو أن المواد المعلّقة هي مواد محورية تؤثر بشكل كبير في بنية الموازنة بنفقاتها وإيراداتها والتوازن بينهما. ومن هذه المواد المعلقة، تحديد عملة تقاضي بعض الضرائب والرسوم ونسب وشطور الضرائب على الرواتب والأجور والأملاك المبنية والتنزيلات الضريبية، كما والمادة المتعلّقة بالمساعدة الاجتماعية للقطاع العام وغيرها من المواد. ومن شأن تعليق مواد محورية على هذا الوجه أن يبين بحد ذاته خلوّ المشروع من أي رؤية عامة.
فهرس الملاحظات (بإمكانك التوجه إلى أي ملاحظة منها من خلال الضغط عليها):
كعادة مشاريع قوانين وقوانين الموازنة، رشح مقترح وزارة المالية عن مخالفات دستورية جسيمة وفق ما فصّلناه سابقا. وقد أكّدت لجنة المال والموازنة على هذه المخالفات في تقريرها حول المشروع، إلّا أنّها عادت وسارت ورغم ذلك بالعديد منها.
تجاوز المهل الدستورية والقانونية
في حين يفرض الدستور على المجلس النيابي أن يقرّ مشروع قانون الموازنة العامة للعام 2022 في نهاية السنة 2021 كحد أقصى بحسب المادة 32 من الدستور، فإن المشروع لم يصل إلى المجلس النيابي إلّا في شباط 2022 بعد تجاوز وزير المال والحكومة للمهل الممنوحة لكليهما. إلا أنه وبدل أن تجهد لجنة المال والموازنة للإسراع في درسه وإحالته إلى الهيئة العامة، أطالت هي الأخرى أمد التأخير، بنتيجة ما اعتبرته عدم تعاون وزارة المالية معها بشكل كافٍ وبخاصة بما يتصل بسعر الصرف الواجب اعتماده لاحتساب الضرائب والرسوم. ويرجح أن مرد التأخير ناتج جزئيا عن وجود تفاهم غير معلن بإرجاء إقرار الموازنة إلى ما بعد الانتخابات، نظرا لما تتضمنه من توجهات غير شعبية. وما يزيد من قابلية هذا التأخر للانتقاد هو أنّه فعليا كان من دون أي جدوى، حيث علّقت لجنة المال والموازنة 14 مادّة من المشروع التي كانت سبب التأخير وتركت أمر البتّ به إلى الهيئة العامة. لا بل أكثر من ذلك، كان هذا التأخير سببا لخسارة لإيرادات كبيرة، وهو ما دفع بعض النواب لتقديم اقتراحات معجّلة مكرّرة كانت موجودة في مشروع الموازنة وتسعى لزيادة إيرادات المطار والمرافئ، وقد أُقرّت هذه الاقتراحات فيجلسة 26/7/2022 التشريعية.
وعليه، في حال نجاح مجلس النواب في إقرار مشروع الموازنة، فإننا سنكون أمام موازنة تنطبق على الفصل الأخير من السنة، وإن كان من المرجح أن يمتدّ نفاذها ليشمل كل أو جزء من السنة القادمة أو السنوات القادمة بفعل الممارسة غير الدستورية والمتمثلة بتطبيق القاعدة الإثني عشرية لفترات طويلة، إلى حين إقرار موازنة جديدة. وخير دليل على ذلك أن الموازنة العامة لسنة 2020 ما تزال سارية حتى تاريخه.
التطبيع مع خرق الدستور: لا قطع حساب
فضلا عن ذلك، يتبدّى مرّةً جديدةً أن مشروع الموازنة يرد إلى مجلس النواب من دون أن يكون مرفقا بقانون قطع حساب عن السنوات السابقة وذلك بخلاف المادّة 87 من الدستور. وفي حين كانت الحجّة المعتمدة لعدم إقرار قطوعات الحساب على مدى السنوات الماضية هي عدم انتظام الحسابات المالية والنقص في موارد ديوان المحاسبة للتدقيق في قطوعات الحساب منذ العام 1993، إلّا أنّه من المُستغرب ألّا يُنجز قطع الحساب للعام 2020 والذي لا يتطلّب الجهد الذي يتطلّبه إعداد قطع حساب لما يزيد عن 25 سنة خلت. هذا فضلا عن أن الحكومات المتعاقبة تبقى مسؤولة مباشرة عن تقاعسها القيام بما ألزمها به المجلس النيابي بموجب لقانون 143/2019 لجهة معالجة النقص في ملاك وإمكانيات ديوان المحاسبة.
وبخلاف ما حصل عند إقرار قوانين الموازنة لسنوات 2017-2018-2019 و2020 حيث تم التأكيد على ضرورة إنجاز قوانين قطع حساب واستثنائية تجاوز هذه القاعدة أو على الأقل ضرورة تعزيز موارد ديوان المحاسبة لضمان احترامها، بدا مشروع القانون هذه المرة وكأنه يطبع تماما مع هذه المخالفة إلى درجة تجاهلها وتجاهل ضرورة معالحتها بالكامل.
استعادة مخالفات أثبت المجلس الدستوري عدم دستوريتها
وعند التدقيق أكثر في موادّ المشروع، يتبيّن أنّها تشمل موادّ كان سبق للمجلس الدستوري أن اعتبرها مخالفة للدستور. وإذ يُظهر هذا التوجّه استسهالاً في تجاوز قرارات هذا المجلس ومعها مبادئ هامة استندت إليها هذه القرارات، تكون هذه المواد بحكم الباطلة حتى ولو تمّ إقرارها عملا بمبدأ إلزاميّة قرارات المجلس الدستوري لجميع السلطات العامة ومنها المجلس النيابي بموجب المادة 13 من قانون إنشاء المجلس الدستوري. ومن هذه الموادّ، السماح للمكلّفين ضريبياً إجراء تسوية على التكاليف المتعلقة بضريبة الدخل والضريبة على القيمة المضافة المُعترض عليها أمام الإدارة الضريبية أو لجان الاعتراضات، على أن تقوم التسوية على تسديد 50% فقط من قيمة الضريبة المعترض عليها (م. 18 من المشروع). وقد اعتبر المجلس الدستوري في القرار 2/2018 هذه التسوية مخالفة للدستور على اعتبار أنها تميّز بين المكلّفين لصالح المتخلّفين عن القيام بواجباتهم الضريبية، حيث أنّ من شأن ذلك تشجيع المواطنين على التخلّف عن تسديد الضرائب المتوجبة عليهم، كما واعتبر بأنّها تؤدّي إلى التفريط بالمال العام.
“فرسان الموازنة” يحضرون بقوة
أشار تقرير لجنة المال والموازنة إلى أنّ العديد من مواد المشروع هي دخيلة على الموازنة (فرسان الموازنة) بحكم أنها لا تتصل بالإيرادات والنفقات المتوقعة والنصوص المؤثرة بها. ورغم أنّ اللجنة ذهبت في تقريرها حدّ القول بضرورة حذف هذه المواد من مشروع الموازنة، فإنّها أقرّت مشروع القانون مع الإبقاء على العديد منها. يُشار إلى أنّ المجلس الدستوريّ أكّد في عددٍ من قراراته على عدم دستورية “فرسان الموازنة” استنادا إلى المادة 83 من الدستور التي تحصر بنود الموازنة بما يتعلّق بالنفقات والإيرادات المتوقعة والنصوص التي تؤثّر فيها من دون أن يتعدّاها إلى مواد تتضمن إجراءات تنظيمية وإدارية لا تتصل بهذه المشتملات (مثال على ذلك: القرار 2/2018). ومن أبرز المواد في هذا الخصوص، المواد المتعلّقة بالتقاعد المبكر (م. 112 وغيرها) والطلب من الإدارات والمؤسسات العام تزويد وزارة المالية بالموجودات العقارية وغير العقارية (م. 113) وآلية تأجير أملاك الدولة الخصوصية (م. 110) وإضافة مهل للاعتراض على الضرائب والرسوم (م. 108) وغيرها…
مخالفة مبدأ سنوية الموازنة
تضمّن مشروع الموازنة موادّ يمتدّ مفعولها لأكثر من سنة (إعفاءات ضريبية بين 3 و5 و7 سنوات مثلا)، وهو ما يخالف مبدأ سنوية الموازنة. ومن أبرز هذه المواد، منح إعفاءات ضريبية لخمس أو ست سنوات على الشركات التي تنشأ حديثا وفق شروط وفي مناطق معينة أو على الودائع الجديدة (يراجع المواد 20 و22 و23 و73 و83 و84 و85 و86 و87 وغيرها من مشروع قانون الموازنة إضافة إلى جميع المواد المتعلّقة بضرائب ورسوم لها طابع دائم لا سنوي). وتشكل هذه المواد مخالفة لمبدأ سنوية الموازنة وتحديدا للمادة 83 من الدستور.
يأتي مشروع الموازنة بمعزل عن أي خطّة نهوض أو تعافٍ اقتصادي ومالي يرسم سياسة عامة لتوزيع الخسائر يُفترض أن تظهر تجلّياتها في الموازنة. إذ ذاك، بدت الرسوم والضرائب التي يقترحها مشروع موازنة العام 2022 أشبه بوسيلة لهدف وحيد وهو تحصيل الإيرادات للخزينة بمعزل عن صوابية استهداف هذا المطرح الضريبي أو ذاك وتحميله أعباء أم لا. لا بل أكثر من ذلك، فإنّ التقسيم العشوائي للعبء الضريبي بين الفئات الاجتماعية أتى على نحو لا يتناسب مع قدرات كلّ منها وعلى نحو يناقض تماما مقتضيات العدالة الضريبية، خصوصا لجهة التمييز بين المكلّفين. ولم تُحسّن التعديلات الحكومية وتعديلات لجنة المال والموازنة كثيرامنالهفوات التي وردتْ في مقترح وزير المال والتي عمدنا إلى تفنيدها في مقال سابق.
الضريبة التراجعية:
بينّا في مقالنا السابق ومن خلال حالة تطبيقية اللاعدالة الضريبية، حيث أنّ الشطور المحدّدة قانونا لاحْتساب الضرائب وبخاصة الضرائب التي تخضع لنسب تصاعدية كلها محدّدة بالليرة اللبنانية. وهذا الأمر يحتّم تاليا لتحديد نِسب الضّريبة المطبقة على الشطور المختلفة احتساب المداخيل المحرزة بالدولار وفق سعر الصرف المعتمد. ومن شأن هذا الأمر أن يؤدي إلى تخفيض النسبة المطبقة بقدر ما يتم تخفيض سعر الصرف المعتمد بالنسبة إلى سعر السوق. ورغم نواقص مشروع القانون الحكومي، إلّا أنّه كان فرض استيفاء الضريبة على بعض المداخيل المحققة بالعملة الأجنبية بهذه العملة (المادة 88 من المشروع المعدّل بشأن تحديد ما يتم استيفائه بالليرة أو بالدولار). وهو بذلك فتح الباب أمام تقاضي هذه الرسوم والضرائب بالعملة نفسها للمطرح الضريبي المُستهدف وتحديد الشطور بالعملة الأجنبية من دون أن يكون هناك حاجة لمعادلتها بسعر صرف معيّن، إلى حين استقرار سعر الصرف وثباته على معطيات اقتصادية واضحة ليُصبح من الممكن حينها معادلة هذه المبالغ بالليرة اللبنانية.
إلّا أنّ لجنة المال والموازنة “علّقت” هذه المادة إلى جانب 13 مادّة أُخرى، مبرّرة موقفها بارتباط هذه المواد بسعر الصرف الخارج عن صلاحيتها، مخيرة الهيئة العامة بين سعريْ صرف للدولار وهما 12 أو 14 ألف ليرة لبنانية. وهما سعران يقاربان ثلث القيمة الفعلية للدولار حاليا.
إذ ذاك، وفي حال لم يتم تقرير تقاضي الضريبة على أساس سعر الصرف الحقيقي أو بالعملة نفسها، سيكلّف من يتقاضى راتبا بالليرة اللبنانية ضريبة أكثر بأضعاف ممّن يتقاضى راتبا يبلغ 3 أضعاف راتبه وما دون لا لسبب إلا لكونه يتقاضاه بالعملة الأجنبية وأن سعر الصرف الضريبي يقل 3 مرات عن القيمة الحقيقية للدولار.
وفي السياق نفسه، أُبقي على ما اقترحه وزير المالية لجهة تجزئة ضريبة الأملاك المبنية على أقسام العقار عن الإيرادات المحققة قبل إفرازه (م. 59). هذا الأمر إنما يؤدي عمليا إلى تحديد النسبة التي تخضع لها هذه المداخيل ليس على أساس مجمل المداخيل التي قد يحققها أصحاب الأملاك العقارية من مجموع عقاراتهم أو من كل من عقاراتهم على حدة، إنما على أساس كل قسم يملكونه. ومن شأن هذا الأمر أن يُضيّق من إمكانية تطبيق الضريبة التصاعدية على الأملاك المبنية.
تمكين الشركات والمؤسسات من تخفيض قيمة الضرائب المتوجبة على أرباحها أو التنصل منها
أبقت لجنة المال والموازنة على مداخل عدة لتمكين الشركات والمؤسسات من تخفيض قيمة الضرائب المتوجبة على أرباحها أو التنصّل منها. ولعلّ أخطر الأحكام في هذا المجال، المادة 27 من المشروع والتي سمحت بإجراء إعادة تقييم استثنائية للأصول الثابتة للمكلّفين، ما يفتح المجال أمام الشركات الكبرى والمصارف لإعادة تقييم أصولها لقاء تسديد ضريبة متدنية قريبة للإعفاء الكامل وهي 5% على الأرباح الناتجة عن فروقات الأصول الثابتة و3% على الأرباح الناتجة عن فروقات العقارات. وما تزال هذه النسبة ضئيلة جداً مقارنة بالضرائب المفروضة على أرباح شركات الأموال مثلاً (17%)، وبخاصةً أنّ هذه الأرباح متأتّية عن فروقات في أسعار الأصول نتيجة التضخم من دون أي جهد ومن دون أن تكون داخلة في صلب أعمال هذه الشركات. ولا تتوقف خطورة هذه المادة عند حدود حرمان الخزينة من إيرادات كبيرة، بل هي محاولة لتعويم هذه المؤسسات وعلى رأسها المصارف عبر تضخيم أصولها وموجوداتها بالليرة اللبنانية نتيجة الفوارق في سعر الصرف أو التخفيف من خسائرها حسابياً وبصورة مخالفة للواقع.
في الاتجاه نفسه، تمّ إعفاء الشركات الدامجة من ضريبة الدخل على الأرباح لثلاث سنوات من تاريخ الدمج، شرط استخدام الشركة الدامجة لمستخدمي الشركة المندمجة للإعفاء من الضرائب طيلة السنوات الثلاث. أمّا الشركة المندمجة، فتُعفى من أي ضريبة تتوجب عليها خلال سنة الاندماج (م.84). يبقى أن نُِشير إلى أنّه تمّ استثناء المصارف والمؤسسات المالية من هذا الإعفاء، وهو أمر إيجابي حيث تستعدّ بدورها لعمليات دمج.
أخيرا، سمح المشروع للمكلّفين بإجراء تسوية على التكاليف المتعلّقة بضريبة الدخل والضريبة على القيمة المضافة عن أعمال العام 2020 وما قبل المعترض عليها أمام الإدارة الضريبية أو لجان الاعتراضات (م. 18). وإذ تقوم التسوية على دفع 50% من قيمة الضريبة المُعترض عليها، فهي تشكّل مخالفة دستورية تُساهم في اللاعدالة الضريبية وفق توجه المجلس الدستوري. وبدل أن يكون الحلّ استكمال إنشاء لجان الاعتراض القائمة لتسريع البتّ بالملفات وتحصيل أكبر قدر ممكن من الإيرادات للدولة، يتمّ تحميل مسؤولية ذلك للمواطنين كافة من خلال التضحية بحقوق الخزينة العامة مقابل تحقيق مصلحة المُعترضين وهم فئة قليلة حُكماً. كمن يعالج مخالفة ارتكبها بمخالفة أكبر، وكل ذلك في مخالفة فاقعة للدستور.
الأموال والشركات الكبرى الجديدة معفية من الضرائب
معاملة تفضيلية جديدة رشحت عن هذا المشروع، كانت من نصيب أصحاب الأموال الجديدة fresh والشركات الجديدة. أول إرهاصات هذا التفضيل نجدها في المادة 85 التي أعفت فوائد الودائع الجديدة بالعملات الأجنبية لدى المصارف من الضريبة حتى نهاية العام 2028.
وقد اختلف تعريف الأموال الجديدة بين المُقترح الأولي للوزير والمشروع بعد تعديلات الحكومة ولجنة المال، حيث اعتبر الأول أنّ الإعفاء يشمل فقط الأموال التي تودع بعد نشر قانون الموازنة، إلّا أنّ التعديل اعتبر الأموال الجديدة هي التي أودعت بعد 17 تشرين الأول 2019 ولغاية نهاية العام 2024. ويُخشى إذ ذاك أن تودّي هذه المادة إلى إعفاء من حوّلوا أموالهم إلى الخارج ثمّ أعادوها تبعا لتعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 154 (إعادة 15% من الأموال المحوّلة)، فيكون هؤلاء استفادوا مرّتيْن: الأولى عندما سمح لهم نفوذهم بتحويل الأموال إلى الخارج، والثانية بإعفائهم من الضريبة بعد إعادتها.
في المُقابل، تفرض المادة 109 من المشروع ضريبة بقيمة 10% على مجمل فوائد وإيرادات الحسابات القديمة سواء أكانت بالليرة أو أي عملة أخرى، أي بزيادة بنسبة 3% عمّا هو معمول به حالياً. وبذلك يكون هؤلاء على عكس من استطاع تهريب أمواله قد تضرروا مرّتيْن: الأولى عند احتجاز أموالهم وانخفاض قيمتها تبعا لذلك، والثانية عند فرض ضرائب جديدة على هذه الأموال. وتمنحنا المقارنة في هذا المجال صورة كاريكاتورية عن مقاربة وزارة المالية لكيفيّة توزيع الأعباء العامة على المكلفين.
أمّا لجهة تفضيل الشركات الجديدة، فالمشروع ينصّ في المادة 23 منه على إعفاء المؤسسات أو الشركات المنشأة حديثاً والعاملة في المجال التجاري أو الصناعي والتي يزيد رأسمالها عن مليون دولار وتستخدم 50 لبنانيا على الأقل وأن يُشكلوا 60% من نسبة العاملين على الأقل من كامل الضريبة، شرط أن تنشأ في المناطق التي يحدّد مجلس الوزراء أنّه يرغب بتنميتها بموجب مرسوم. وفي حين أنّ الحوافز الضريبية للمشاريع الجديدة قد تكون ضرورية لإعادة إنعاش الدورة الاقتصادية، فإنّ الحوافز بهذا الشكل تقبل انتقادات من زوايا عدّة أبرزها: 1) اقتصار القطاع المعفى على التجاري والصناعي واستبعاد قطاعات أخرى كالزراعة والسياحة، 2) يشير تحديد حجم المشروع (مليون دولار) للاستفادة من الإعفاء أن وحدها المؤسسات الكبرى ستستفيد منه، مقابل إقصاء المؤسسات المتوسطة والصغيرة. ويشار هنا إلى أن حجم الرأسمال كان حدد ب 5 ملايين دولار في مقترح موازنة 2021 ليخفّض إلى 3 ملايين في مشروع الحكومة ليتم تخفيضه إلى مليون دولار في لجنة المال والموازنة. إلا أنّ تخفيض هذا المبلغ يبقى بعيدا عن تشجيع المبادرات برساميل متواضعة أو متوسطة وبخاصة أنه لم يترافق مع تخفيض الحد الأدنى للأجراء الواجب توظيفهم. ومن شأن ذلك أن يعزز قدرة الشركات الكبرى الجديدة مع ما يستتبع ذلك من خطر احتكار وضرب للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي ما تزال قائمة، 3) تفويض مجلس الوزراء تحديد هذه المناطق وفقا لرغبته وليس وفق معايير اقتصادية أو قطاعية معينة. ويُمكن الاطّلاع على تعليق مفصّل حول هذه المادة كما والمادة المتعلّقة بإعفاء الشركات الناشئة هنا.
لجنة المال والموازنة تتراجع عن إصلاحات في مشروع الحكومة لمصلحة اللوبي العقاري
لعلّ أخطر ما فعلته لجنة المال والموازنة، هو التراجع عن فرض ضريبة على الشقق الشاغرة (ضريبة على 50% من الإيرادات الصافية المقدرة) والتي وردت في مُقترح وزير المالية إلى الحكومة، رغم الضرورة الماسة في ثني مالكي الشقق على إبقائها شاغرة، بهدف تخفيض بدلات الإيجار استجابة للأزمة الراهنة. في الاتجاه نفسه، أي بهدف تشجيع السوق والتفرغات العقارية، خفّض المشروع رسوم تسجيل العقار من 5% إلى 3% بالنسبة للّبنانيين وإن أبقاه 5% لغير اللبنانيين (م. 93). يلحظ أنّ نسبة 3% كانت مطبّقة على الوحدات السكنية المملوكة من قبل لبنانيين على الجزء الذي لا يزيد عن 375 مليون ليرة لكن أتى المشروع ليفيد منها جميع عقود بيع العقارات للبنانيين، بمعزل عن وجهة استعمالها أو قيمتها.
وإذ سجّلنا إيجابًا في معرض تعليقنا على مسودة وزارة المالية فرض ضريبة على أرباح الأشخاص الطبيعيين عند انتقال أسهمهم في الشركات لأشخاص آخرين، بعدما كان يُستثتى التفرّغ عن أسهم الشركات المساهمة وانتقالها من أي ضريبة، (وهي تشمل الشركات التي يكون موضوعها الوحيد متعلّقا بالعقارات والشركات التي تتعاطى نشاط تجارة العقار أو التطوير العقاري والشركات التي تتجاوز قيمة أصولها الثابتة من العقارات 50%)، وذلك بمحاولة لمكافحة التهرّب من دفع الرسوم العقارية. إلّا أنّ لجنة المال والموازنة تراجعت هنا أيضا عن ذلك (م. 37). فقد منحت الصيغة النهائية كما عدلتها حسمًا ضريبيا بنسبة 50% من قيمة الضريبة عندما يكون التفرّغ بين الأصول والفروع أو بين المساهمين أنفسهم. وبذلك، تكون المادة قد فقدت إلى حدّ كبير الهدف الرئيسي منها وهو مكافحة التهرّب الضريبي حيث يلجأ أصحاب العقارات إلى إنشاء الشركات المساهمة ليتم عبرها نقل ملكية العقارات لأبنائهم أو شركائهم من دون أن يتكبّدوا أيّ رسوم.
وبالطبع، يستفيد اللوبي العقاري بشكل خاص من تمكين الشركات إعادة تقييم أصولها على نحو يؤدي إلى امتصاص الجزء الأكبر من أرباحها وتوفير القسم الأكبر من الضريبة المتوجبة عليها حسبما بينا أعلاه. وما يزيد من قابلية التعديل الذي قامت به لجنة المال والموازنة للانتقاد، إضافة تعديل يتيح لأي مساهم في أيّ شركة (يفهم أنها عقارية وإن بقي النص مبهما وأمكن تطبيقه على حالات أخرى) أن يجري إعادة تقييم استثنائية لأسهمه على أن تخضع الفروقات الإيجابية لضريبة بقيمة 1% فقط، وهي قيمة بخسة طالما أنّ هذا الربح ناتج عن التضخّم لا عن مجهود قام به المساهم. واللافت هنا أيضا أن لجنة المال والموازنة ذهبت أبعد من مشروع الحكومة بحيث حذفت استثناء الشركات المدرجة أسهمها في البورصة من هذه الضريبة، وفي مقدمتها شركة سوليدير والمصارف.
الحكومة تتراجع عن إصلاحات تكافح التهرّب الضريبي
تمّ التراجع في الحكومة عن مقترح الوزير بإلزام الإدارة الجمركية بإنشاء قاعدة بيانات إلكترونية تحفظ فيها التصاريح والمحاضر والمستندات المتعلّقة بنقل الأموال باليد عبر المطارات والمرافئ. وكان بمقدور هذا المقترح أن يخوّل الإدارة تتبّع حركة الأموال باليد الداخلة والخارجة في لبنان لتعزيز قاعدتها الضريبية وتعزيز سُبل التحقق من استيفائها للضرائب بشكل عادل وبخاصة فيما يتعلّق بشركات نقل الأموال التي برزت شبهة انخراطها في تهريب الأموال إلى خارج لبنان خلال فترة الانهيار ومن بعده.
كما تراجعت الحكومة عن إلزام على جميع الأشخاص المتمتّعين بالإعفاءات الضريبية الخاصة أو العامة والاستثنائية أو الدائمة بتقديم التصاريح والبيانات الضريبية المتوجبة تحت طائلة فقدان المكلّف حقّه بالاستفادة من الإعفاء مهما كان نوعه في حالة التخلّف عن التصريح. كما تراجعت عن مُقترح الوزير بفرض توطين جميع الرواتب في المصارف سواء لمُستخدمي وأجراء القطاع الخاص أو المدراء وأعضاء مجلس الإدارة فيه، أو رواتب القطاع العام، وإن وجد هذا التراجع ما يبرره في وضعية المصارف الحالية.
زيادة عشوائية لضرائب غير مباشرة
مقابل الإعفاءات والتسهيلات المذكورة أعلاه لمن يُفترض أنّهم قادرون على تحمّل الأعباء الضريبية، برز عدد من الضرائب غير المباشرة والرسوم التي ستشمل كافة الفئات الاجتماعية في المشروع من دون أن يكون بينها أي رابط أو توجّه مالي أو اقتصادي، بل مجرّد محاولة لإنعاش الخزينة. تترافق هذه الزيادات مع التخلّي في هذا المشروع عن فكرة ضريبة التضامن التي سبق وأن وردت في مُقترح موازنة 2021 الذي أعدّه وزير المال حينها غازي وزني، والتي شكّلت أوّل ضريبة على الثروة في لبنان رغم محدوديّة مفعولِها.
وعليه، أضحتْ الضرائب غير المباشرة في هذا المشروع تطال جميع الفئات بمعزل عن إمكانياتهم كاسرة مبدأ العدالة الضريبية، ومنها فرض رسم جمركي بقيمة 3% على المستوردات الخاضعة للضريبة على القيمة المضافة (م. 69)[1]، ورسم جمركي لم يكن مفروضاً من قبل وهو 10% على السلع والبضائع التي يتمّ استيرادها إذا كان يُصنّع في لبنان مثيلاً لها بكميات تكفي الاستهلاك المحلي، وعلى السلع والبضائع المصنّفة كسلع وبضائع فاخرة (م. 72). وفي حين أن من شأن هذه الضريبة أن تحمي الصناعة الوطنية، وتُخفف من الاستيراد غير المُجدي للسلع التي يوجد مثيل لها في لبنان ما يزيد من نزيف العملات الصعبة، إلّا أنّ كيفية تطبيق هذه المادة سيحدّد مدى عدالتها.
في الاتجاه نفسه، تمّ زيادة عموم الرسوم المستوفاة من قبل الخزينة وذلك تبعا لانهيار قيمة العملة الوطنية. ويلحظ هنا أن هذه الرسوم خضعت لمضاعفة تراوحت من ضعف إلى أكثر من 10 أضعاف. كما تمّ زيادة الرسوم التي تتقاضاها وزارة العمل عن إجازات العمل بقيم متفاوتة[2].
وفي حين أوجد مشروع القانون رسما جديدا يُغذّي صندوق تعاضد القضاة وقيمته 50 ألف ليرة لبنانية عن كلّ شكوى جزائية أو ادّعاء مباشر، يُدفع عند تقديم الشكوى أو الادّعاء وفي كل مرحلة من مراحل التحقيق والمحاكمة، كما وعند تقديم الدفوع، كما وعلى كلّ تقرير صادر عن طبيب شرعي أو وكيل تفليسة، من دون أن تمسّ الرسوم الموجودة أصلا (م. 102). ويُستغرب فرض الرسوم على الشكاوى الجزائية، أي على ممارسة حق، مقابل عدم المس بالغرامات التي تُفرض على المرتكبين والتي أصبحت قيمتها متدنّية جدا مع تراجع قيمة الليرة، حيث كان من الممكن تعديل هذه الغرامات في مشروع الموازنة ورفد الخزينة وصندوق التعاضد بإيرادات سيدفعها مرتكبون تأكّدت ارتكاباتهم بموجب أحكام وقرارات قضائية.
إلى ذلك، وإذ فُرضت بعض الرسوم حصراً بالدولار كرسوم السفارات والقنصليات (م.75)، علّقت العديد من المواد التي تستوجب معادلة الدولار الأميركي بالليرة اللبنانية، حيث تُرك البتّ بها للهيئة العامة لمجلس النواب (المادة 88 من المشروع). كما يجدر التذكير بأنّ مشروع الموازنة تضمّن 4 مواد تتعلّق بزيادة إيرادات الخزينة من رسوم المطار والمرافئ وصالون الشرف وغيرها، إلّا أنّه تمّ حذفها من المشروع بعد إقرارها بشكل منفرد في جلسة 26/7/2022 التشريعية.
3- دولة مفلسة تبدّد عائداتها وتهشّل أفضل موظفيها
لم يكتفِ مشروع القانون كما ورد وكما عدلته لجنة المال والموازنة بتحميل الخزينة وبالتالي المجتمع برمّته عبء امتيازات وإعفاءات وتسهيلات ضريبية ضخمة للشركات وبخاصة الكبرى منها والعديد من الفئات المحظيّة الأخرى كأصحاب الودائع الجديدة. ولم يكتفِ بفرض الضرائب غير المباشرة والرسوم التي ستنعكس مباشرةً ارتفاعاً في الأسعار، بل قام بما هو أشدّ خطورةً من خلال منح إعفاءات وتسهيلات لمن يشغلون الأملاك العامّة بل حتى لمن يواصلون اعتداءَهم عليها منذ عقود. لا بل تضمّن مشروع القانون موادّ تفتح الباب أمام انتفاع البعض من مزيد من الأملاك العامة ببدلات غير عادلة. فبدل أن يدفع إفلاس الدولة القيمين عليها إلى وقف مختلف أشكال الهدر، نجد أن هذا الإفلاس يدفع هؤلاء إلى مزيد من التخلّي وإساءة الأمانة، بما يؤشّر إلى انْحيازهم لصالح الفئات التي تهيمن على موارد الدولة ولو عن طريق الاعتداء بحكم نفوذها. وكانت المفكرة فصّلت هذا التوجّه في مقترح وزير المالية في هذا المقال، وهو توجّه لا يزال سائدًا ونعيد شرح أبرز جوانبه في هذا التعليق.
التسامح حيال المُعتدين على الأملاك العامّة وبخاصّة الأملاك البحريّة منها
تضمّن مشروع القانون تمديد مهلة تقديم طلبات التقسيط والاستفادة من الحسم الكليّ لبدلات إشغال الأملاك العامة البحرية والغرامات لستة أشهر من تاريخ صدور قانون الموازنة (م. 86). وهذا يؤشّر إلى مزيد من التسامح إزاء المُعتدين على الأملاك العامة البحرية منذ عقود، من دون تسديدِهم حتى الآن أي بدل إشغال. فلم يكفِ أن الدولة لم تتخذ أي قرار في اتجاه استعادة هذه الأملاك أو تحصيل بدلات عنها حتى صدور القانون 64 في 2017 والذي سمح لهم بتقديم ملف لمعالجة التعديات الحاصلة قبل 1994 مقابل تسديد غرامات معتدلة عن الفترة اللاحقة لسنة 1994 وبانتظار صدور مرسوم يحدد رسوما للفترة اللاحقة، فها هو مشروع القانون يضيف إلى حفلة التسامح والتخلّي تمديد مهل تقديم تقسيط للغرامات لستة أشهر إضافية، وهو أمر يفترض أن يتسبب بضياع قيمة هذه الغرامات الموعودة بصورة تامة بفعل انهيار العملة الوطنية. للإشارة نحن هنا لا نتحدث عن مجموعات تعيش في العوز وتسعى الدولة إلى مساعدتها، إنما نتحدث بالدرجة الأولى عن مؤسسات وشخصيات احتلّت الشاطئ واستباحته لعقود على حساب المواطنين كافة بما شكل أحد أسباب إفلاس الدولة وها هي الدولة تأتي اليوم لتمنحهم مزيدا من التسامح والتفهّم والأهم إمكانية إطالة أمد الاعتداء. تجدر الإشارة إلى أنّ المشروع انتهى إلى ختم الموقع بالشمع الأحمر لمتخلّف عن السداد لمدّة ثلاثة أشهر وبعد إنذاره لمدّة شهر. فضلا عن ذلك، تم إعفاء شاغلي الأملاك العمومية من أي رسم عن الفترة التي حصل فيها إقفال عامّ بسبب جائحة كورونا، من دون حصر الإعفاء بالمؤسسات التي شملها الإغلاق فعلياً، وبخاصة أن الإنشاءات على هذه الأملاك متنوعة.
العدول عن ضوابط حسن إدارة أملاك الدولة
تضمن مشروع القانون تنازلاً عن الضوابط القانونية لضمان حسن إدارة أملاك الدولة الخاصة، فيما كان يفترض أن يكون أكثر حرصا في هذه الفترة وبخاصة في ظلّ ترجيحات بانهيار متزايد للعملة الوطنيّة التي تحدد بها بدلات الإيجار. ومن أبرز الضوابط التي تمّ التخلي عنها كانت المادة 110 بحيث:
فتح الباب لتأجير أملاك الدولة الخصوصية لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمهلة مماثلة، بعدما كان من الممكن تأجيرها لمدة أربع سنوات كحد أقصى. لا بل أن المشروع ذهب أبعد من ذلك بحيث سمح بتأجير العقارات غير المبنية مع السماح بإقامة إنشاءات عليها لمدة 9 سنوات قابلة للتجديد لتصل إلى 18 سنة. ويخشى هنا أن تفسر عبارة “قابلة للتجديد” على أنها تفتح الباب أمام التجديد التلقائي ومن دون إعادة النظر في البدل في ظلّ انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية.
نصّ أن قيمة الإيجار لا يجب أن تقل عن 2% من القيمة التخمينية للعقار، في حين حدد قانون الإيجارات القديمة بدل الإيجار ب 4% من قيمة المأجور. ولم يلحظ مشروع القانون أي ضوابط لجهة رفع بدل الإيجار السنوي خلال مدة الإجارة على نحو يحفظ قيمته وبخاصة في ظل مخاطر انهيار العملة الوطنية.
هاجس التخفيف من عدد الموظفين العموميين يغلب هاجس ضمان الكفاءة في المرفق العامّ
في هذا الصدد، بدا مسعى تخفيف أعداد الموظفين العموميين واضحا، وهو مسعى لا يُمكن فصله عن عودة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الذي تتميز توصياته بالتشديد على أهمّية التخفيف من الإنفاق الحكومي على الرواتب والأجور والتقاعد. والإشكالية الكبرى في هذا التوجّه أنّه جاء منعزلا عن أيّ خطة أو سياسة لضمان حسن استمرار المرفق العام وتحديدا للمحافظة على كفاءات في القطاعات الأكثر حيويّة. ويُخشى تاليا أن يستهدف تسهيل شروط التقاعد المبكر أو الاستقالة بشكل خاص الفئات الأكثر كفاءة (الذين تتوفر لديهم مجالات عمل أخرى داخل لبنان أو خارجه) ونزاهة (الذين يراهنون على رواتبهم للعيش بكرامة وذلك بخلاف الموظفين الذين ينجحون في زيادة مداخيلهم من خلال الرشى أو الهبات على اختلافها)، مما يضعف أكثر فأكثر إمكانية الإصلاح الإداري.
تشجيع التقاعد المبكر:
وقد تجلّى هذا التوجه بالتراجع عن رفع الحدّ الأدنى لسنوات الخدمة الفعلية التي يُتاح من بعدها للموظف أو العسكري بالتقاعد الوارد في موازنة العام 2019 (وكان حدد ب 25 سنة). وعليه، بات بإمكان العاملين في السلك العسكري الذين دخلوا إلى الخدمة الفعلية قبل 31/7/2019 التقاعد بصورة مبكرة في حال تأديتهم 18 عاماً للأفراد والرتباء و20 عاماً للضباط. أمّا في السلك الإداري فيُتاح التقاعد للموظفين بعد 20 عاماً من الخدمة الفعلية (م. 112). أمّا كُل من دخل بعد 31/7/2019 فيُلزم بزيادة خمس سنوات على الخدمة الفعلية عن المهل المذكورة، وعدد هؤلاء قليل جداً لكونه تمّ التوقف عن التوظيف منذ ذلك الحين. وعملياً، ستُتيح هذه المادة المجال أمام آلاف الموظفين العموميين بالاستفادة من قواعد التقاعد المبكر بخاصة مع تراجع قيمة رواتبهم، وسيتيح للدولة تسديد تعويضات هؤلاء التقاعدية بقيمٍ منخفضة جداً.
وفي الإطار نفسه، يعطي المشروع (م. 116) الموظف إمكانية الاستفادة من تعويض صرف إذا ما استقال وكانت سنوات خدماتِه لا تقلّ عن 11 سنة، وذلك خلال 6 أشهر من تاريخ نشر القانون.
ويتبدّى من هاتيْن المادّتيْن أنّ تسهيل التقاعد يجري بصورة شاملة وبالتالي عشوائية من دون مراعاة أي حاجات للمرفق العام الذي يتقاعد منه الموظف، وإذا ما كان يُمكن تعويض تقاعده أم لا. فكان من الأجدى السماح أو التشجيع على التقاعد في الإدارات أو المؤسسات التي فيها فائض من الموظفين ويُمكن الاستغناء عن خدمات بعضهم. وما يزيد من قابلية ذلك للانتقاد هو أنّه بات لدى المجلس النيابي ولجنة المال والموازنة تقرير شامل عن كافة الموظفين العموميين، حيث تمّ إجراء المسح وإرسال المعلومات مؤخرا من قبل رئاسة الحكومة.
تعليق المساعدة الاجتماعية:
مع تراجع القيمة الشرائية للرواتب والأجور، بات من الضروري إجراء تصحيح فعليّ لها لضمان قدرة موظّفي القطاع العام على إدارة المرافق العامّة. إلّا أنّ هذا التصحيح الضروريّ لم يتم، بل استعيض عنه خلال الفترة الماضية بمساعدات اجتماعية بمنطق الصدقة والإحسان لا بمنطق الحقوق بتعديل الرواتب. وقد سار مشروع القانون على نفس النهج حيث تمّ النصّ في المادة 115 على مساعدة اجتماعية لكل من يتقاضى راتبا أو أجراً أو مخصصات من الأموال العمومية بقيمة 100% من أساس الراتب على ألّا تقل عن مليوني ليرة لمن هم في الخدمة الفعلية و1.7 مليون للمتقاعدين، وألّا تزيد عن 6 ملايين لمن هم في الخدمة و5.1 للمتقاعدين. وقد علّقت لجنة المال والموازنة هذه المادة تاركة أمر التقرير بها للهيئة العامة، وهو ما قد يثير مخاوف لجهة عدم دفعها أصلا.
وفي نصّ المادّة دلالات عددية على المنطق الذي يتم التعاطي به مع موظفي القطاع العام، حيث وصفت هذه المساعدة ب “الهبة” مع التأكيد على طابعها الاستثنائي والتشديد على عدم احتسابها ضمن تعويض نهاية الخدمة. وتأتي هذه الطريقة بالتعامل مع موظفي القطاع العام وإظهار عدم وجود أي أفق حقوقي أو معيشي لهم مع فتح باب خلفي للتقاعد، لتظهر بوضوح النية للاستغناء عن قسم كبير منهم بخاصة ذلك الذي يعتمد حصرا على راتبه.
ويأتي هذا التوجه في القطاع العام ليلاقي التوجه نفسه في القطاع الخاص عبر تعزيز فكرة المنح والمساعدات الاجتماعية بدلاً من إجراء تصحيحٍ فعلي للرواتب والأجور. فالمادتان 34 و35 من مشروع الموازنة تلاقتا على تعميم فكرة المنح الاجتماعية على الأجراء وتسهيل عمليات الصرف والاستقالة من العمل.
4- أيّ تضامن مع الفئات المتضررة؟
سنتطرق هنا إلى كيفية مقاربة الموازنة لمبدأ التضامن الاجتماعي وبخاصة مع الفئات الأكثر تضررا من الانهيار وتداعياته، وأيضا من تفجير مرفأ بيروت والذي أدّى إلى تفجير مناطق واسعة من العاصمة.
التراجع عن رفع قيمة ضمان الودائع
ضمّن وزير المالية مُقترحه لمشروع الموازنة رفع قيمة ضمان الودائع إلى 600 مليون ليرة، حيث تصل حاليا إلى 75 مليون ليرة فقط. إلّا أنّ المشروع الحكومي أطاح بهذه الزيادة. وإذ يُفهم ذلك من منطلق أن تعديل قيمة ضمان الودائع تخرج عن نفقات وإيرادات الموازنة العامة، فإن الإشكال أنه لم تقم الحكومة بأي مبادرة لرفع هذا الضمان على ضوء تدهور قيمة الليرة اللبنانية.
تخفيف التلوّث البيئي
إذ تضمّن المشروع بنودا ترمي إلى التخفيف من التلوث الذي يتضرر منه عموم السكان بخاصة بنتيجة تفاقم الاعتماد على مولدات الكهرباء في الأحياء، إلّا أنّ لجنة المال والموازنة علّقت بعضها. وعليه، علّقت اللجنة المادة التي تفرض رسما تصاعديا على انبعاثات المصادر بحسب درجة تلويثها عملا بمبدأ الملوث يدفع، من دون أي تبرير. وكما علّقت أطر تمويل الإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة (م. 95 و96). كما تمّ التراجع عن فرض غرامة على المسبّبين باشتعال الأراضي.
أمّا على صعيد الإجراءات الإيجابية، فقد تمّ إعفاء الأجهزة والمعدات التي تعمل على الطاقة الشمسية أو أي مصدر آخر للطاقة النظيفة لتوليد الطاقة الكهربائية من الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة. ولهذه المادة (م. 70) هدف مزدوج، فهي من جهة تُشجّع على استخدام الطاقة الشمسية ما يُخفض من الضغط على شبكة الكهرباء، ومن جهة أُخرى يُؤدّي تخفيف الضغط هذا إلى تخفيف الانبعاثات الخارجة من معامل الكهرباء.
وفي مجال تشجيع الاعتماد على الطاقة النظيفة أيضاً تمّ إعفاء السيارات غير الملوثة للبيئة الهجينة أو التي تعمل على الكهرباء من 100% من رسوم الجمارك والاستهلاك الداخلي و50% من رسوم التسجيل والميكانيك(م. 98).
مساعدات وإعفاءات وهمية عن ضحايا المرفأ
لم تكتمل عملية التعويضات على المتضرّرين من انفجار المرفأ وفق ما رصدته المفكرة، إذ ينصّ المشروع على بعض المساعدات والإعفاءات والتي في غالبها تبقى وهمية. من أهم الأحكام الواردة في مشروع القانون، الآتية:
في المادة 13 من هذا المشروع، يُجاز نقل مبلغ 100 مليار ليرة (أي حوالي 2.8 مليون دولار) بمرسوم بناء على اقتراح رئيس مجلس الوزراء من باب احتياطي الموازنة لتخصص لتوزيع مساعدات لترميم الأبنية المتضررة من انفجار المرفأ، وهو يبقى مبلغا زهيدا تبعاً للتعويضات التي كانت مرصدة.
إعفاء رواتب الموظفين والمستخدمين الذين أصيبوا بإعاقة دائمة نتيجة إنفجار مرفأ بيروت من الضريبة على الرواتب والأجور (م 36)، من دون إقرار أي تعويض بطالة لهم. يشكل تعويضا وهميا يضاف إلى تعويض وهمي آخر مُنح لهذه الفئة. ومن البيّن أنّ هذا التعويض لا يتناسب قط مع الضرر الحاصل طالما أن نسبة محدودة جداً من معوّقي التفجير تستفيد عمليا منه، وطالما أنّ المنفعة الناتجة لهؤلاء تبقى جدّ محدودة. فهو يشمل المصابين بإعاقة دائمة وحدهم من دون المصابين بإعاقة مؤقتة، وفقط في حال كان المعوق أجيرا وحافظ على وظيفته وبقدر ما يستمر فيها رغم إصابته بإعاقة دائمة بما يستثني الذين ليسوا أجراء في الأساس أو الذين تم صرفهم أو يصرفون تبعا لإصابتهم بإعاقة وبحجتها.
إعفاء ورثة اللبنانيين الذين قضوا من جرّاء الانفجار من رسوم الانتقال، وقد تمّ اعتماد عبارة “من جرّاء” لتشمل من قضوا بسبب الانفجار في فترة لاحقة بعدما كانت الصياغة تشمل من قضى مباشرة في الانفجار (م. 53). ويُمكن انتقاد هذه المادة أولا لشمولها قط اللبنانيين، وثانيا لانعدام المساواة فيها بحيث أنّ الإعفاء في هذه الحالة يكبر كلّما كبرت تركة الضحيّة، وقد ينعدم الإعفاء وبالتالي الاستفادة في حالة عدم وجود أي تركة للضحية وهي حالة العديد من الضحايا الفقراء.
إعفاء المؤسسات التي توقفت عن العمل وكذلك الأفراد الذين توقفوا عن العمل بشكل نهائي نتيجة انفجار بيروت إذا عاودت العمل مجددًا عن السنوات 2021 و2022 و2023 (م. 83). هو نصّ مبهم، يفتح باب الاستنساب والتهرب الضريبي بما يضع المتضررين كثيرا مع المتضررين قليلا وغير المتضررين في السلة نفسها. إذ يُخشى أن تفتح هذه المادة باباً واسعا أمام التهرب الضريبي كأن يشتري أشخاص هذه المؤسسات بهدف الاستفادة من الإعفاء الضريبي عن الأرباح التي قد يحققونها من النشاطات التي يقومون بها.
الإعفاء من رسوم قيد الانشاءات عن الإنشاءات التي كانت في طور الإنشاء عند وقوع الانفجار (م. 94).
للاطّلاع عللى مواد مشروع قانون موازنة العام 2022 كما عدلتها لجنة المال والموازنة، إضغط/ي هنا
للاطّلاع على تقرير لجنة المال والموازنة، إضغط/ي هنا
[1] وهو رسم كان مفروضاً سابقاً إلّا أنّ مدّة فرضه انتهت بنهاية شهر تمّوز، فأتت هذه المادة لتُمدّد هذا الرسم حتى نهاية 2023 بعدما كانت 10 سنوات في مقترح وزير المالية. ومفعول هذا الرسم لن يكون بقيمة الرسم النسبي والذي كان يُدفع أصلًا في السنوات الماضية، إنّما بسعر صرف أعلى سيُعتمد لجباية هذا الرسم (الدولار الجمركي).
[2] تراوحت الزيادة بين 5.5 أضعاف و3 أضعاف. فأصبح رسم إجازة العمل للفئة الأولى 16 مليون ليرة مقابل11 مليون للفئة الثانية و5 ملايين للفئة الثالثة ومليون ليرة للفئة الرابعة (م. 99). كما تمّ استحداث رسم 500 ألف ليرة تستوفيه الوزارة لصالح الخزينة بدل إعلانات على موقعها من الشركات التي تطلب عمّالا أجانب (م. 100). كما تمّ استحداث رسوم للمعاملات التي تُجرى لدى وزارة الشباب والرياضة (م. 101).
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.