مُقترح موازنة 2022 (3): دولة مفلسة تبدّد عائدات أملاكها وتهشّل أفضل موظفيها

،
2022-02-04    |   

مُقترح موازنة 2022 (3): دولة مفلسة تبدّد عائدات أملاكها وتهشّل أفضل موظفيها

إحدى خصائص مقترح موازنة 2022 والذي قدمته وزارة المالية أيضا، هو اتجاهها إلى مزيد من التخلّي عن حماية أملاكها العامة أو تحصيل بدلات عادلة عن إشغالها، فضلا عن اتجاهها لتعميق التردّي في الإدارة العامّة من خلال تهشيل أفضل موظفيها. وهذا ما سنفصّله هنا.

1. التخلّي عن أملاك الدولة

لم يكتفِ المُقترح بتحميل الخزينة وبالتالي المجتمع برمّته عبء امتيازات وإعفاءات وتسهيلات ضريبية ضخمة للشركات وبخاصة الكبرى منها والعديد من الفئات المحظية الأخرى كأصحاب الودائع الجديدة، ولم يكتفِ بفرض الضرائب غير المباشرة والرسوم التي ستنعكس مباشرةً ارتفاعاً في الأسعار، بل قام بما هو أشد خطورة من خلال منح إعفاءات وتسهيلات لمن يشغلون الأملاك العامة بل حتى لمن يواصلون اعتداءَهم عليها منذ عقود. لا بل تضمن المقترح موادّ تفتح الباب أمام انتفاع البعض من مزيد من الأملاك العامة ببدلات غير عادلة. فبدل أن يدفع إفلاس الدولة القيمين عليها إلى وقف مختلف أشكال الهدر بدل تحميل عبئها للمواطن، نجد أن هذا الإفلاس يدفع هؤلاء إلى مزيد من التخلّي وإساءة الأمانة، بما يؤشّر إلى انْحيازهم لصالح الفئات التي تهيمن على موارد الدولة ولو عن طريق الاعتداء بحكم نفوذها. ومن أبرز التدابير الدالّة على ذلك، الآتية:

التسامح حيال المُعتدين على الأملاك العامّة وبخاصة الأملاك البحرية منها

كما المادة 69 من مُقترح غازي وزني لموازنة العام 2021، أتت المادة 92 من مُقترح يوسف الخليل لتُعلن عن حفلة تسامح جديدة حيال المُعتدين على الأملاك البحرية، في ظلّ فرض ضرائب ورسوم جديدة على باقي المواطنين. فقد تضمن المقترح تمديد مهلة تقديم طلبات التقسيط والاستفادة من الحسم الكلي لبدلات إشغال الأملاك العامة البحرية والغرامات لستة أشهر من تاريخ صدور قانون الموازنة. وهذا يؤشّر إلى مزيد من التسامح إزاء المعتدين على الأملاك العامة البحرية منذ عقود، من دون تسديدهم حتى الآن أي بدل إشغال. فلم يكفِ أن الدولة لم تتخذ أي قرار في اتجاه استعادة هذه الأملاك أو تحصيل بدلات عنها حتى صدور القانون 64 في 2017 والذي سمح لهم بتقديم ملف لمعالجة التعديات الحاصلة قبل 1994 مقابل تسديد غرامات معتدلة عن الفترة اللاحقة لسنة 1994 وبانتظار صدور مرسوم يحدد رسوما للفترة اللاحقة. ولم يكفِ أن الدولة مدّدت مهلة تقديم ملفّات المعالجة من ثلاثة أشهر حتى ثلاث سنوات وثلاثة أشهر بفعل قراءة ملتوية لقوانين تعليق المهل. فها المقترح يضيف إلى حفلة التسامح والتخلّي تمديد مهل تقديم تقسيط للغرامات لستة أشهر إضافية، وهو أمر يفترض أن يتسبب بضياع قيمة هذه الغرامات الموعودة بصورة تامة بفعل انهيار العملة الوطنية. للإشارة نحن هنا لا نتحدث عن مجموعات تعيش في العوز وتسعى الدولة إلى مساعدتها، إنما نتحدث بالدرجة الأولى عن مؤسسات وشخصيات احتلّت الشاطئ واستباحته لعقود على حساب المواطنين كافة بما شكل أحد أسباب إفلاس الدولة وها هي الدولة تأتي اليوم لتمنحهم مزيدا من التسامح والتفهّم والأهم امكانية إطالة أمد الاعتداء.

التسامح المفرط حيال شاغلي الأملاك العمومية بصورة قانونية

التسامح المذكور لم يقتصر على المعتدين على الأملاك العمومية، إنّما شمل أيضاً شاغليها بصورة قانونية على نحو سيؤدي عملياً إلى تحصيل بدلات لا تتناسب أبداً مع قيمة الانتفاع منها بما يعكس مزيداً من التخلي عن إدارة الأملاك العامة بصورة محايدة وسليمة. فإلى جانب عدم تضمين الموازنة أي إجراء لزيادة قيمة رسوم إشغال الأملاك العامة كسائر الرسوم والضرائب على الرغم من انهيار قيمتها، أعفى المقترح غرامات التأخير في تسديد رسوم إشغال الأملاك العامة بنسبة 90% عن العام 2019 وما قبل. كما سمح بتقسيط رسوم الإشغال لعامي 2020 و2021 لثلاث سنوات من دون غرامات أو فوائد ومن دون الأخذ بعين الإعتبار إنهيار قيمة هذه الرسوم جرّاء انهيار سعر الصرف.

فضلا عن ذلك، تم إعفاء شاغلي الأملاك العمومية من أي رسم عن الفترة التي حصل فيها إقفال عامّ بسبب جائحة كورونا، من دون حصر الإعفاء بالمؤسسات التي شملها الإغلاق فعلياً، وبخاصة أن الإنشاءات على هذه الأملاك متنوعة. وما يزيد من قابلية هذا التدبير للانتقاد هو أنّ المشرع لم يتخذ أي إجراء لإعفاء المؤسسات التي تشغل أماكن خاصة وتمّ إقفالها بموجب مراسيم التعبئة العامة من بدلات الإيجار عن فترة الإغلاق.

العدول عن ضوابط حسن إدارة أملاك الدولة

على غرار ما ورد في مقترح وزني، تضمن المُقترح تنازلاً عن الضوابط القانونية لضمان حسن إدارة أملاك الدولة الخاصة، فيما كان يفترض أن يكون أكثر حرصا في هذه الفترة وبخاصة في ظلّ ترجيحات بانهيار متزايد للعملة الوطنيّة التي تحدد بها بدلات الإيجار. ومن أبرز الضوابط التي تمّ التخلي عنها الآتية:

  • أن المقترح فتح الباب لتأجير أملاك الدولة الخصوصية لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمهلة مماثلة، بعدما كان من الممكن تأجيرها لمدة أربع سنوات كحد أقصى. لا بل أن المقترح ذهب أبعد من ذلك بحيث سمح بتأجير العقارات غير المبنية مع السماح بإقامة إنشاءات عليها لمدة 9 سنوات قابلة للتجديد لتصل إلى 18 سنة. ويخشى هنا أن تفسر عبارة “قابلة للتجديد” على أنها تفتح الباب أمام التجديد التلقائي ومن دون إعادة النظر في البدل.
  • أن المقترح نصّ أن قيمة الإيجار لا يجب أن تقل عن 2% من القيمة التخمينية للعقار، في حين حدد قانون الإيجارات القديمة بدل الإيجار ب 4% من قيمة المأجور. ولم يلحظ المقترح أي ضوابط لجهة رفع بدل الإيجار السنوي خلال مدة الإجارة على نحو يحفظ قيمته وبخاصة في ظل مخاطر انهيار العملة الوطنية.

كما تجدر الإشارة إلى أن المقترح قد تضمّن علاوة على ذلك إلزام جميع الإدارات والمؤسسات العامة والمشاريع المشتركة والشركات المختلطة بتزويد وزارة المالية بالمعلومات التي تملكها عن موجودات الدولة العقارية وغير العقارية وذلك ضمن مهلة ستة أشهر من نفاذ الموازنة، بالإضافة إلى وجهة استعمال هذه الممتلكات وشاغليها في حال وجدوا (م 126). وفيما إنّ جردة الموجودات أمر طبيعي بل أساسي ضمن أي خطة للنهوض الإقتصادي، فإن تضمين هذه المادة في مقترح الموازنة يبقى مستغربا لعدم صلتها بها وأيضا لأن إلزاما كهذا لا يحتاج أصلا إلى إصدار قانون. وما يزيد من قابلية هذه الإضافة غير الضرورية للانتقاد هو أنها تأتي في سياق تخلي الدولة عن حسن إدارتها لأملاكها كما سبق بيانه وفي موازاة خطة جمعية المصارف ومن خلفها من سياسيين لوضع اليد على أملاك الدولة كافة بدل تحمّلهم للخسائر.

2. هاجس التخفيف من عدد الموظفين العموميين يغلب هاجس ضمان الكفاءة في المرفق العامّ 

في هذا الصدد، بدى مسعى تخفيف أعداد الموظفين العموميين واضحا، وهو مسعى لا يُمكن فصله عن عودة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الذي تتميز توصياته بالتشديد على أهمّية التخفيف من الإنفاق الحكومي على الرواتب والأجور والتقاعد. والإشكالية الكبرى في هذا التوجّه أنه جاء منعزلا عن أيّ خطة أو سياسة لضمان حسن استمرار المرفق العام وتحديدا للمحافظة على كفاءات في القطاعات الأكثر حيوية. ويخشى تاليا أن يستهدف تسهيل شروط التقاعد المبكر أو الاستقالة بشكل خاص الفئات الأكثر كفاءة (الذين تتوفر لديهم مجالات عمل أخرى داخل لبنان أو خارجه) ونزاهة (الذين يراهنون على رواتبهم للعيش بكرامة وذلك بخلاف الموظفين الذين ينجحون في زيادة مداخيلهم من خلال الرشى أو الهبات على اختلافها)، مما يضعف أكثر فأكثر إمكانية الإصلاح الإداري.  

تشجيع التقاعد المبكر

وقد تجلّى هذا التوجه بالتراجع عن رفع الحد الأدنى لسنوات الخدمة الفعلية التي يُتاح من بعدها للموظف أو العسكري بالتقاعد الوارد في موازنة العام 2019 (وكان حدد ب 25 سنة). وعليه، بات بإمكان العاملين في السلك العسكري الذين دخلوا إلى الخدمة الفعلية قبل 31/7/2019 التقاعد بصورة مبكرة في حال تأديتهم 18 عاماً للأفراد والرتباء و20 عاماً للضباط. أمّا في السلك الإداري فيُتاح التقاعد للموظفين بعد 20 عاماً من الخدمة الفعلية. أمّا كُل من دخل بعد 31/7/2019 فيُلزم بزيادة خمس سنوات على الخدمة الفعلية عن المهل المذكورة، وعدد هؤلاء قليل جداً لكونه تمّ التوقف عن التوظيف منذ ذلك الحين. وعملياً، ستُتيح هذه المادة المجال أمام آلاف الموظفين العموميين لتطبيق قواعد التقاعد المبكر بخاصة مع تراجع قيمة رواتبهم، وسيتيح للدولة تسديد تعويضات هؤلاء التقاعدية بقيمٍ منخفضة جداً. في الاتجاه نفسه، تقترح المادة 136 إلغاء المادة 78 من قانون موازنة 2019 والتي جمدت طلبات التقاعد لمدة ثلاث سنوات. كما يعطي المقترح (م. 137) الموظف إمكانية الاستفادة من تعويض صرف إذا ما استقال وكانت سنوات خدماتِه لا تقلّ عن 15 سنة.

كما تجدر الإشارة إلى أنه تمّ تخفيض عدد العمداء إلى 120 في القوى الأمنية بعدما كان 400، على أن يتم التخفيض تدريجياً للوصول لهذا العدد خلال ثلاث سنوات مع وضع شروط للترقية إلى هذه الرتبة، وذلك نظراً للكلفة الكبيرة التي كان قد ولّدها هذا العدد في السابق وخاصة لجهة التعويضات التقاعدية.

مساعدات ومنح مبهمة ولا تصحيح لرواتب للموظفين

لم يلحظ المُقترح أي تصحيح لسلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام. إلّا أنّ المادة 135 منه تقترح إعطاء مساعدة اجتماعية لمدة سنة لجميع موظفي الإدارات العامة مهما كانت مسمّياتهم الوظيفية بالإضافة إلى المتقاعدين في الخدمة الفعلية، بحيث يستفيد العاملون فعلياً في القطاع العام من أساس راتب شهري، على أن يستفيد المتقاعدون من نصفه. وفي حين تحمل هذه المادّة التباساً في الصياغة حول ما إذا كانت المساعدة شهرية أو ستُدفع مرة واحدة خلال السنة، فإنّها تُظهر توجهاً واضحاً لعدم زيادة الرواتب بانتظار اتّفاق ترتيب خطّة مالية واضحة تُحبك من خارج الموازنة. وقد يكون سبباً آخر لإعطاء مساعدات اجتماعية من دون زيادة الرواتب هو أنّ هذه المساعدات لا تدخل ضمن أساس الراتب وتالياً لا تُحتسب عند تعويض نهاية الخدمة ما يُخفف من التكاليف التقاعدية على الخزينة.

ويأتي هذا التوجه في القطاع العام ليلاقي التوجه نفسه في القطاع الخاص عبر تعزيز فكرة المنح والمساعدات الاجتماعية بدلاً من إجراء تصحيحٍ فعلي للرواتب والأجور. فالمادتان 37 و38 من مُقترح الموازنة تلاقتا على تعميم فكرة المنح الاجتماعية على الأجراء وتسهيل عمليات الصرف والاستقالة من العمل وفق ما عرضناه في الفصل الثاني من هذا المقال. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مؤسسات عامة ، تشريعات وقوانين ، لبنان ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني