تمّ الإعلان عن مسودة مشروع قانون موازنة 2022 كما أقرّتها وزارة المالية في 21 كانون الثاني 2022. وفور الإعلان عنها، جوبهتْ هذه المسودة برفض واسع على خلفية تضمينها ضرائب إضافية تنطبق على العامة وتفويض وزير المالية تحديد سعر الصرف لاستيفاء الضرائب فضلاً عن وضعها بمعزل عن أي خطة وطنية. ومنذ ذلك الحين، يخضع مقترح الموازنة لمراجعة من قبل الحكومة.
وعند التدقيق في بنودها، يظهر بوضوح أنّ هذه المسودة بٌنيت على مسودة موازنة 2021 التي كان وضعها وزير المالية السابق غازي وزني مع بعض التّحسينات لجهة كيفيّة احتساب الضرائب أو استيفائها أو بعض الأمور التفصيلية الأخرى. لكن على الرغم هذه التحسينات، بقيت مسودة المشروع مشوبة بالعيوب التي كنّا أبرزْناها عند التعليق على مسودة 2021 لجهة الانحياز لصالح الفئات الأكثر ثراء من دون إيلاء أيّ اعتبار للعدالة الضريبيّة والتقصير الفادح في حماية الأملاك والأموال والمرافق العامة. وهو انحياز رأينا أنه يوغل في تقويض أسس الدولة لصالح من يتهيأ لقضم مواردها وأملاكها.
وقبل المضي في تقييم هذه المسودة، تجدر الإشارة إلى أنّ الحكومة تجاوزت المهل الدستورية بفعل منحها الثقة في وقت متأخر من سنة 2021 (أيلول), وبدل أن تحاول اللحاق بالمهل الدستورية، دخلت في كوما بفعل الأزمة السياسية المفتعلة على خلفية تحقيقات المرفأ. هذا مع العلم أن حكومة تصريف الأعمال كانت امتنعت عن أي عمل يتصل بالموازنات العامة، فلم تدرس مسودة الموازنة التي وضعها وزير المال غازي وزني لسنة 2021.
وعليه، سندرس هذه المسودة في أربعة فصول نخصص الأول للمخالفات الدستورية على أن نخصّص الفصول اللاحقة للبحث في 2) العدالة الضريبية 3) وكيفية مقاربة المسودة للوظيفة العامة والأملاك العامة، انتهاء 4) بكيفيّة مقاربة المسودة للفئات الأكثر تضرراً من الانهيار وانفجار المرفأ.
تجاوز المهل الدستورية
كان يُفترض أنْ يُبتّ بمشروع قانون الموازنة العامة للعام 2022 من قبل المجلس النيابي بحدّ أقصى مع نهاية العقد العادي للسنة الفائتة، أي في 31/12/2021 بحسب المادة 32 من الدستور. إلّا أنّه ولإتمام ذلك، كان يُفترض بالحكومة أن تلتزم بالمهل الدستورية المفروضة عليها بموجب المادة 83 من الدستور التي حدّدت موعد إرسال الحكومة لمشروع الموازنة مع بدء العقد العادي لمجلس النواب أي في منتصف تشرين الأول. وقد أكّد المجلس الدستوري على اعتبار هذا التأخير خرقاً للدستور في قراره رقم 2/2018 حيث نصّ على أنّ “عدم تقيّد السّلطتين الإجرائية والإشتراعية بالمهل الدستورية أدّى إلى انتهاك الدستور وعدم انتظام المالية العامة، وإلى التمادي في الإنفاق على أساس القاعدة الاثني عشرية”. إلّا أنّ المجلس حينها لم يُبطل قانون الموازنة نظراً لارتباطها بانتظام المالية العامة “والمصلحة الوطنية العليا”.
وفي حين قد يُعزى ذلك إلى تأخر تشكيل الحكومة ونيلها الثقة في 21/9/2021، إلّا أنّ ذلك يضع بشكل لا لُبس فيه اللوم على حكومة حسان دياب المُستقيلة والتي امتنعت اعتباطياً عن تصريف الأعمال، ومن ضمنها مناقشة وإقرار مشروع قانون موازنة لكلا من سنتي 2021 و2022. ويلحظ أنّ حكومة دياب لم تجتمع لمناقشة وإقرار مشروع الموازنة لعام 2021 والذي أعدّه وزير المالية السابق غازي وزني، ممّا أخضع المالية العامة للصرف والجباية وفق القاعدة الإثني عشرية على أساس موازنة العام 2020 التي كانت مجافية للواقع ولم تراعِِ ظروف الانهيار التي استجدّت حينها. تجدر الإشارة أنّ لبنان قد شهد حالةً مماثلة أقرّت فيها حكومة رشيد كرامي المستقيلة مشروع موازنة في العام 1969.
وهذا التأكيد على أهمّية الالتزام بالمهل ليس تمسكاً بمهلةٍ دستورية جامدة أو تعلّقاً بها أو لمجرّد الإضاءة على مخالفة. بل إنّ هذا التأكيد ينبع من مبدأ سنوية الموازنة الذي يحكم فعالية تطبيقها. فمع ورود الموازنة متأخرةً بهذا الشكل إلى الحكومة، ومع الأصوات التي علتْ من ممثلين لكُتلٍ ممثلة داخلها معترضةً عليها، لا يُتوقع أن يكون مسار الموازنة سهلاً وسريعاً داخل مجلس الوزراء. وعند الانتهاء من مجلس الوزراء يُفترض أن يُحال المشروع مع تعديلاته إلى لجنة المال والموازنة التي ستعقد جلسات عدّة لمناقشتها وتعديل ما تراه مناسباً، قبل أن يُحال المشروع إلى الهيئة العامة للدراسة والمناقشة والإقرار. ويُخشى أن يستغرق إقرار قانون موازنة العام 2022 أسابيع عدّة قد يطول خلالها العمل بالقاعدة الإثني عشرية.
التطبيع مع فكرة موازنة من دون قطع حساب
مرّةً جديدة، يتبدّى ألّا قطع حساب سيُرفق مع الموازنة ليتمّ مناقشته وإقراره. وللتذكير، فإنّ الدستور أعطى في المادّة 87 منه الأولوية لإقرار قطع الحساب قبل إقرار الموازنة، حيث نصّ على أنّ ” الإدارة المالية النهائية لكل سنة يجب أن تعرض على المجلس ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة الثانية التي تلي تلك السنة”. ويتوجب بموجب المادة 137 من قانون المحاسبة العمومية أن يُحال قطع الحساب من قبل الحكومة عن السنة الفائتة قبل الأول من تشرين الثاني (انقضت المهلة)، إلّا أنّه من الجليّ من جدول أعمال الجلسات المتتالية للحكومة أنّه لم يردْ أي ذكر لمشروع قطع الحساب.
وكان المجلس الدستوري قد أعلن صراحة في قراريه رقم 5/2017 و2/2018 المتصلين بموازنتيْ 2017 و2018 أن عدم إقرار موازنة عامة سنوية للدولة وعدم وضع قطع حساب لكل سنة يشكلان “انتهاكا فاضحا للدستور” و”إخلالا بمبدأ فصل السلطات وتعدّيا على صلاحيات القضاء والمجلس النيابي وعلى دورهما في ممارسة الرقابة على كيفية تنفيذ الموازنة العامة” من دون أن يبطل أيا منهما. وقد برّر المجلس موقفه بأنّه “نظرًا للأهميّة الاستثنائية التي أولاها الدستور للموازنة العامة، لا يجوز للحالة الشاذّة المتمثلة في غياب قطع الحساب لسنوات عدة أن تحول دون إقرار الموازنة العامة”. وهو الأمر الذي شهد مخالفة لنائب رئيسه الراحل طارق زيادة الذي أورد في مخالفته في ذيل القرار 2/2018 أنه لا يعول على القول بالمصلحة العامة في معرض النص الدستوري، كما أن تعبير “الحالة الشاذة” تعبير غامض لم يرد في العلم والاجتهاد الدستوريين. أما في قراريه رقمي 4/2019 و2/2020 المتصلين بموازنتي 2019 و2020، فإن المجلس الدستوري لم يعدْ ليذكر هذه المخالفة أصلا، بما يعكس شبه تطبيع معها.
وفي حين كانت الحجة المعتمدة لعدم إقرار قطوعات الحساب على مدى السنوات الماضية هي عدم انتظام الحسابات المالية والنقص في موارد ديوان المحاسبة للتدقيق في قطوعات الحساب منذ العام 1993، إلّا أنّه من المُستغرب ألّا يُنجز قطع الحساب للعام 2020 والذي لا يتطلّب الجهد الذي يتطلّبه إعداد قطع حساب لما يزيد عن 25 سنة خلت. فيُفترض أن يكون قطع الحساب للسنوات الفائتة مرآةً لوضعية الخزينة ليوضع على أساسه الموازنة للسنة القادمة، إلّا أنّ التلكؤ في إعداده رغم إمكانية ذلك يُظهر سوء النية المتعمّد لمنع أي شكل من أشكال الرقابة اللاحقة على تنفيذ الموازنة.
تضمين الموازنة موادّ أبطلها المجلس الدستوري
عند التدقيق في مواد المقترح، يتبيّن أنّ بعض المخالفات الدستورية الواردة فيه تتعلّق بمواضيع قد سبق وأنّ بتّ بها المجلس الدستوري وكرّس بموجبه مبادئ دستورية تؤكّد على هذه المخالفات. وإذ يُظهر هذا التوجّه استسهالاً في تجاوز قرارات هذا المجلس (ومعها مبادئ هامة استندت إليها هذه القرارات)، تكون هذه المواد بحكم الباطلة حتى ولو تمّ إقرارها عملا بمبدأ إلزاميّة قرارات المجلس الدستوري لجميع السلطات العامة (ومنها المجلس النيابي) بموجب المادة 13 من قانون إنشاء هذا المجلس.
ومن أبرز المخالفات في هذا الخصوص:
- فتح باب التسوية على الضرائب:
كما في مُقترح موازنة 2021 الذي أعدّه وزير المالية السابق غازي وزني، سمح المقترح الحالي للمكلّفين ضريبياً إجراء تسوية على التكاليف المتعلقة بضريبة الدخل والضريبة على القيمة المضافة المُعترض عليها أمام الإدارة الضريبية أو لجان الاعتراضات. وتقوم التسوية على تسديد 50% فقط من قيمة الضريبة المعترض عليها. ونعيد فيما يلي تعليق “المفكرة القانونية” على هذه المادة في مقترح العام السابق نظراً لخطورة مثل هكذا مواد ولكونها تضمّنت نفس النص ونفس الأسباب الموجبة.
وإجازة هذه التسوية تتعارض تماما مع قرار المجلس الدستوري رقم 2/2018 بشأن قانون موازنة 2018، والذي أبطل بنداً مشابهاً سمح بإجراء تسويات ضريبية عملاً بمبدأ المساواة ومبادئ العدالة الاجتماعية ومبدأ العدالة الضريبية وأيضا على خلفية أنه يؤدي إلى التشجيع على التهرب الضريبي ويبدّد المال العام. وقد جاء في متن القرار المذكور: “بما أن التسوية الضريبية المنصوص عنها في المادة 26 المذكورة أعلاه، أعفت مكلّفين تخلّفوا عن القيام بواجبهم بتسديد الضرائب المفروضة عليهم بموجب القانون، من جزءٍ من هذه الضرائب، بينما سدد المكلفون الذين هم في موقع قانوني مماثل لهم الضرائب المتوجبة عليهم بكاملها، التزاماً منهم بتنفيذ القانون، وبما أنه ينبغي التقيّد بمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمييز أو تفضيل وفق ما جاء في الفقرة (ج) من مقدمة الدستور، ووفق ما نصت عليه المادة السابعة من الدستور… وبما أن ما نصت عليه المادة 26 من القانون المطعون فيه، لم يميز بين اللبنانيين وحسب، إنما ميز بينهم لصالح المتخلّفين عن القيام بواجبهم بتسديد الضرائب المتوجبة عليهم بموجب القانون، وأعفاهم من جزءٍ منها، بينما التزم مواطنون، في موقع قانوني مماثل لهم، بتسديد ما عليهم ضمن المهل المحددة، … وبما أن التسوية الضريبية … من شأنها تشجيع المواطنين على التخلف عن تسديد الضرائب المتوجبة عليهم، وحمل الذين دأبوا على الالتزام بتأدية واجبهم الضريبي على التهرّب من تسديد الضرائب المتوجبة عليهم أملاً بصدور قوانين إعفاء ضريبي لاحقاً… وبما أن قانون التسوية الضريبية، …. يؤدي إلى التفريط بالمال العام، وبالتالي إلى زيادة العجز في الموازنة العامة، في وقت تزاد فيه الضرائب والرسوم على سائر المواطنين بحجة تغذية الموازنة وتخفيض العجز المتنامي فيها”.
وعليه، يتبين بوضوح أن إعادة تضمين مادة تسوية عن الضرائب نفسها في موازنة 2021 إنما يشكّل مخالفة لما جاء في هذا القرار، وإصرارا من المالية على انتهاكه. ولعل أسوأ ما في هذا الانتهاك أنه يأتي في زمن تحتاج فيه الخزينة إلى زيادة إيراداتها لسدّ عجزها المتنامي. وما يزيد من قابلية هذه المادة للانتقاد هي سببها الموجب والذي تمثّل في “التأخر في تشكيل لجان الاعتراض وبالتالي التأخر بالبت بالملفات الموجودة أمامها”، وهو سبب تتحمل السلطة التنفيذية المسؤولية عنه. فبدل أن تجهد هذه الأخيرة في اتجاه استكمال إنشاء لجان الاعتراض القائمة لتسريع البتّ بالملفات وتحصيل أكبر قدر ممكن من الإيرادات للدولة، قرّر الوزير تحميل مسؤولية ذلك للمواطنين كافة من خلال التضحية بحقوق الخزينة العامة. كمن يعالج مخالفة ارتكبها بمخالفة أكبر، وكل ذلك في مخالفة فاقعة للدستور.
- منح صلاحيات تشريعية فضفاضة للحكومة ووزير المال:
في المُقترح مادّتان غير معهودتيْن تولِيان وزير المالية والحكومة صلاحيات تشريعية في بعض المواضيع المالية. وفي حين سنخصص في الأقسام اللاحقة تعليقات على هذا الموضوع، فسنخصّص هذه الفقرة للتعليق حول مدى دستورية هذا الطلب.
فالمادة 109 تمنح وزير المالية لمدّة سنتيْن حق تعديل التنزيلات والنسب والشطور المتعلّقة بالضرائب والرسوم التي تحققها وتحصّلها وزير المالية، أي عملياً منحه صلاحية تعديل كافة الضرائب بقرار منفرد من قبله زيادة أو نقصانا. أمّا المادة 133 فقد أتت لتعطي الحكومة أو وزير المال إذا فوّضته الحكومة بذلك، صلاحية تحديد سعر الصرف الذي تُجبى على أساسه الضرائب والرسوم. ولا يخفى على أحد أن إعطاء هذه الصلاحية من دون أي معايير إنما يعني أيضا إعطاءهما صلاحية زيادة أو تخفيض الضرائب بصورة غير مباشرة.
بالعودة إلى الدستور، نصّت المادة 81 على أنّ الضرائب تُفرض بموجب قانون، والمادة 82 منعت إمكانية تعديل ضريبة أو إلغائها إلّا بقانون. ويتبيّن بذلك أنّ المادتيْن حصرتا القرارات بفرض وتعديل الضرائب بقانون، من دون منح إمكانية للنصوص المتمتّعة بقوّة القانون (المراسيم التشريعية مثلاً) للتشريع في الحقل الضريبي. ومصدر هذه الصلاحية المعطاة حصراً إلى المجلس النيابي هي مقدّمة الدستور التي نصّت أنّ الشعب مصدر السلطات، فيقتضي ألّا يُفرض عليه ضرائب إلّا بموجب سلطة انتخبها مباشرةً أي المجلس النيابي. واللافت أنّ هذه المواد تمنح سلطة التشريع بموجب قرارات عن الوزير أو الحكومة لا بموجب مراسيم تُسمّى مراسيم تشريعية تتّخذها الحكومة مجتمعةً، كما هو الحال حالياً في الصلاحية الممنوحة للحكومة مجتمعةً بموجب القانون 93/2018 بإصدار التشريعات في الحقل الجمركي. إلى ذلك، تُخالف المادة 109 مبدأ سنوية الموازنة لكونها تُعطي الصلاحيات للوزير لمدة سنتيْن.
وقد سبق للمجلس الدستوري أن أبطل بقراره رقم 1/2002 بعض مواد القانون 379/2001 المتعلّق بالضريبة على القيمة المضافة نظراً لإعطائها وزير المالية صلاحيات بإجراء تعديلات ضريبية. فقد اعتبر حينها المجلس الدستوري أنّ “تخلي السلطة المشترعة عن صلاحية فرض الضريبة العمومية أو إحداثها أو السماح بتحصيلها أو تنظيم قواعد هذا التحصيل أو تعديل الضريبة أو إلغائها إنّما يمس بمبدأ الفصل بين السلطات ويخالف المادتين 81 و82 من الدستور”.
فرسان الموازنة
تنصّ المادة 83 من الدستور على أن تقدّم الحكومة لمجلس النواب موازنة شاملة نفقات الدولة ودخلها عن السنة القادمة، أي أنّه يتوجب حصر بنود الموازنة بما يتعلّق بالنفقات والإيرادات المتوقعة والنصوص التي تؤثّر فيها من دون أن يتعدّاها إلى مواد تتضمن إجراءات تنظيمية وإدارية لا تتصل بهذه المشتملات. وقد أكدت على هذا الأمر المادة 5 من قانون المحاسبة العمومية والتي جاء فيها: “قانون الموازنة… يحتوي على أحكام أساسية تقضي بتقدير النفقات والواردات، وإجازة الجباية، وفتح الاعتمادات اللازمة للإنفاق، وعلى أحكام خاصّة تقتصر على ما له علاقة مباشرة بتنفيذ الموازنة”. وقد أبطل المجلس الدستوري سابقاً في العديد من قراراته بنوداً أسماها ب “فرسان الموازنة” معتبرًا أنه لا يمكن تضمين قوانين الموازنة أحكاما ليس لها صبغة مالية وأن الأحكام الغريبة التي لا علاقة لها بقوانين الموازنة تشكل فرسان موازنة ويكون مصيرها الإبطال.
وقد شمل مُقترح الموازنة العديد من فرسان الموازنة التي سيكون مصيرها الإبطال إذا تم إقرارها وطُعن به أمام المجلس الدستوري. فقد أكّد المجلس الدستوري في قراره 2/2018 حيال التسوية الضريبية المذكورة أعلاه “أنّ لا علاقة للتسوية بالموازنة لا لجهة تقدير النفقات والواردات ولا لجهة تنفيذ الموازنة ولا لجهة مبدأ سنوية الموازنة، بما يجعله أيضا أحد فرسان الموازنة ويوجب إبطاله لهذا السبب أيضا”، ما يجعلها من فرسان الموازنة ويُمكن إبطالها. وعلى سبيل المثال أيضاً، يُلحظ أنّ المادة 114 تنص على دمج مديرية الضريبة على القيمة المضافة بمديرية الواردات وإعادة هيكلة المديرية، وأنّ المادة 120 تنصّ على إلزام اتحادات البلديات بتوفير آلات طحن متنقلة للحد من الرمي العشوائي للردم، والمادة 123 التي تُعدّل شروط تعيين أعضاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والتي سبق وأن علّقت عليها “المفكرة”، وهي كلّها مواد لا يجب أن تُدرج في قانون الموازنة.
إلى ذلك، من اللافت أن يتضمّن المُقترح مادّتيْن تتعلّقان بالمصارف، وهو أمر لا علاقة له بالموازنة العامة للدولة إذ لا يتضمّن أية ضرائب أو نفقات. فقد ألزمت المادة 115 اعتماد توطين رواتب جميع المُستخدمين ومدراء ومجالس الإدارة في القطاع الخاص، كما ونصّت المادة 132 على تسديد الودائع الجديدة بالعملة التي تودع لديها، من دون أن يكون لذلك علاقة مباشرة بالموازنة.
مخالفات مبدأ سنوية الموازنة
تحدّد حياة الدولة المالية بسنة مالية واحدة فقط، أي أنّ الموازنة يجب أن تقر سنويًا وأن تمتد مفاعيلها حتى نهاية السنة المالية (نهاية العام 2022) لا أكثر ولا أقل، كونه يُفترض أن يقرّ موازنة أخرى عن الأعوام التالية.
وكما ذكرنا أعلاه، فإنّه فضلاً عن المخالفات العديدة للصلاحيات التشريعية الممنوحة لوزير المال، فقد مُنحت لسنتيْن في مخالفة للمبدأ. وقد خالف المُقترح هذا المبدأ في العديد من المواد كالمادة 23 التي حسمت الضرائب بنسبة 75% لخمس سنوات بالنسبة للمؤسسات الصناعية التي تُحوّل أرباحها إلى مصارف في لبنان، والأمر نفسه ينسحب على المادة 25 التي منحت حسماً كاملاً على ضريبة الدخل للشركات الناشئة لمدّة خمس سنوات أيضاً، والمادة 26 التي منحت حسماً لسبع سنوات بكامل قيمة الضريبة أيضاً للشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية التي تنشأ في المناطق التي تُحدّد الحكومة بأنّها ترغب في تنميتها. وفي الإطار نفسه، تفرض المادة 78 من المُقترح رسماً مقطوعاً على المستوردات قيمته 3% وذلك لمدّة 10 سنوات، كما وإعفاء المعدّات التي تعمل على الطاقة الشمسية من الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة حتى نهاية العام 2024 بموجب المادة 79، وفرض رسم لمدة 7 سنوات بقيمة 10% على السلع والبضائع المستوردة التي يُصنع مثلها في لبنان بموجب المادة 81، كما والمادة 82 التي تعفي المجموعات السياحية من سمة الإقامة والمرور لمدّة 3 سنوات، كما والمادة 94 التي سمحت بإعفاء المؤسسات التي توقفت عن العمل بشكل نهائي بسبب إنفجار المرفأ من ضريبة الدخل على الأرباح التجارية والصناعية وغير التجارية عن السنوات 2021، 2022، 2023 في حال عادت للعمل، كما وقضت المادة 95 إعفاء لمدة ثلاث سنوات من ضريبة الدخل على الأرباح للشركات الدامجة، والمادة 96 لإعفاء فوائد الودائع الجديدة بالعملات الأجنبية من الضريبة لمدة ثلاث سنوات، وغيرها من المخالفات لهذا المبدأ…
وقد علّقت “المفكرة” على الإعفاءات للشركات الدامجة والتي عاودت عملها بعد الانفجار بأنّها باب يسمح بالتهرّب الضريبي.
مواد مُبهمة تفتح الباب للتهرب الضريبي
تضمّن المقترح موادَّ مبهمة حمّالة لأوجه عدة، بما يسمح بتطبيقها بطرق ملتوية وإجمالاً وفق التفسير الذي يكون الأكثر توافقا مع الجهة النافذة، وعلى نحو يؤدي غالبا إلى مزيد من التهرّب الضريبي والتمييز بين المواطنين، وذلك في زمن نحن أحوج ما نكون فيه لمكافحة هذا التهرّب، أو وقف التحايل على حقوق الموظفين. من أبرز الأمثلة على ذلك:
- إعفاء المؤسسات التي توقفت عن العمل بشكل نهائي نتيجة انفجار بيروت إذا عاودت العمل مجددًا عن السنوات 2021 و2022 و2023 (م. 94).
تفتقر هذه المادة للوضوح في معاييرها. فما هو معيار التوقف النهائي عن العمل؟ هل يتمثل هذا المعيار في التوقف لمدة معينة؟ وماذا يعني “نتيجة انفجار بيروت”؟ هل هو يعني أنها تضررت في بنيانها أم فقط لأسباب اقتصادية؟ هل يتمثل بتصفية العمل أو حل الشركة؟ ثم، ماذا يعني “عاودت العمل مجددا”؟ وهل يوجد مهلة معينة بعد صدور القانون لاتخاذ قرار معاودة العمل؟ وهل يعني أن يعاود نفس صاحب المؤسسة العمل أم يحتمل أن يقوم بذلك شارٍ لهذه المؤسسة؟ إذا صح الأمر الثاني، ألا يفتح هذا البند باباً واسعاً أمام التهرب الضريبي بحيث يشتري أشخاص هذه المؤسسات بهدف الاستفادة من الإعفاء الضريبي عن الأرباح التي قد يحققونها من النشاطات التي يقومون بها اليوم نفسها؟ وفي هذه الحالة، يبدو هذا البند بفعل إبهامه مناقضا تماما للاتجاه الذي ذهب إليه القانون 194/2020 والذي منع التنازل عن العقارات لسنتين. فكيف نفهم أن يمنع المشرع التفرغ عن العقارات في المنطقة مقابل تشجيع التنازل عن المؤسسات فيها؟
- المادة 95: إعفاء الشركات الدامجة من ضريبة الدخل على الأرباح لثلاث سنوات من تاريخ الدمج:
تضمن المقترح إعفاء لأي شركة تندمج مع شركة أخرى من ضريبة الدخل لثلاث سنوات شرط استخدام الشركة الدامجة لمستخدمي الشركة المندمجة. وهنا أيضا يتميّز النص بإبهامه. فماذا يعني “مستخدمي” الشركة المندمجة؟ هل هو يشمل جميع مستخدمي هذه الشركة وفي أي وقت؟ وما الذي يضمن بقاء هؤلاء في الشركة التي تستفيد من إعفاء لثلاث سنوات من ضريبة الدخل بعد حصول الدمج؟ وهل تعدّ الشركة مستوفية للشرط في حال عاد العمال وتركوا طوعا العمل؟
- المادة 135: إعطاء مساعدة اجتماعية لموظفي القطاع العام مُساوية لأساس الراتب لمدّة سنة:
تثير صياغة المادّة إشكالية لجهة طريقة فهمها، فهي حمّالة لأوجه تفسير عدّة. فمن غير الواضح إذا ما كانت المادة تقضي بأن تكون المساعدة شهرية لمدّة سنة، أم أنّها ستكون مساعدة واحدة طيلة السنة تتضمّن أساس راتبٍ واحد (أي يتقاضى الموظف راتباً إضافياً فقط)، أم أنّها ستُدفع دفعة واحدة مساوية لراتب 12 شهراً؟