تعويضات 4 آب (1): متضرّرون مستاؤون وآخرون ما زالوا ينتظرون


2021-03-16    |   

تعويضات 4 آب (1): متضرّرون مستاؤون وآخرون ما زالوا ينتظرون
تفجير المرفأ - تصوير ماهر الخشن

حال من الغضب واليأس تسيطر على الأهالي الذين تضرّرت منازلهم جرّاء تفجير مرفأ بيروت ولم يحصلوا بعد على الدفعة الأولى من التعويضات التي تقوم الدولة بتوزيعها تباعاً. لغاية 10 آذار 2021، بلغت نسبة الوحدات السكنية التي قام الجيش بتوزيع مبلغ 150 مليار ليرة لبنانية عليها ما يقارب ثلث المنازل المتضرّرة. 

نعرض في الجزء الأوّل من تحقيق يتناول ملفّ التعويضات لمتضرّري 4 آب، وجع هؤلاء ومعاناتهم جرّاء عدم حصولهم بعد على التعويض اللازم، إضافة إلى تساؤلاتهم حول “مبدأ الأولوية” الذي اعتُمد لتوزيع التعويضات من قبل الجيش اللبناني. ونقرأ قصصاً تُبرز إجحافاً بحقّ متضرّرين مصابين أو متضرّرين خسروا أفراداً من عائلاتهم أو آخرين لم ينلوا حتى الآن أيّ تعويض. وسوف نعرض في الجزء الثاني الآليّة التي اتّبعها الجيش في توزيع المساهمات المالية للسكّان الذين تضررّت منازلهم (من دون السيارات وأثاث المنازل أو الأضرار الجسدية)، ومعرفة من شملت التعويضات؟ وماذا شملت؟ وكيف تمّ تقييم الضرر وتحديد الأولوية لتوزيع الدفعة الأولى منها؟ 

شوارع المدينة فراغ وصمت

“حديد للبيع، نحاس للبيع، ألومينيوم للبيع” كان يمكن للبائع المتجوّل في شوارع المدينة المتضرّرة في يومٍ عادي من أيام ما قبل التفجير، أن يصدح بصوته عالياً نحو شبابيك المنازل وشرفاتها الآهلة بقاطنيها وكان سيأتيه ردّ النّسوة والأولاد حاملين إليه ما باتوا في غنى عنه من أدوات حديدية أو نحاسية، ولكن اليوم يمرّ بائع الخردة صامتاً بمحاذاة الأبنية الفارغة التي أضحت بين ليلة وضحاها ورش عملٍ يملؤها الغبار.

عند مدخل منطقة الكارنتينا التي تعتبر من أكثر المناطق تضرّراً جرّاء تفجير 4 آب، يستقبلك ضجيج البناء وأصوات العمّال والمتطوّعين الذين يرمّمون الأبنية المتضرّرة، فيما خلت الشوارع من زحمة السيارات والمارّة. فالكارنتينا التي تصنّف كمنطقةٍ صناعيةٍ لطالما قصدها الزائرون لإصلاح سياراتهم أو شراء موادهم الحرفية، أقفلت اليوم المحال فيها ومن تمكّن من فتح “مصلحته” من جديد تراه يضع كرسيّه أمام باب رزقه بانتظار الزبون، فيما ينحصر إيقاع الحياة في الشارع بتجمّع بعض رجال الحي عند بعض الأرصفة. فهؤلاء بعضهم بقي في منزله المتضرّر ومنهم من بات يسكن خارج المنطقة ولكنه يأتي كلّ يومٍ لتمضية نهاراته بجوار منزله الخاضع لورشة تصليح، ليعودوا بعدها إلى بيوت عائلاتهم التي استأجروها مؤقتاً لحين الانتهاء من أعمال الصيانة.

هدأت زحمة وصخب شارعيّ مار مخايل والجميزة بعد التفجير، موسيقى الحانات، أصوات المارّة وأبواق السيارات، كل شيء تلاشى ومعه الشباب العاملون في خدمة ركن السيارات الذين كانوا يملأون الشوارع يساعدون الزوّار على تدبّر أمر سياراتهم لحين الانتهاء من أشغالهم أو جلساتهم في الشارعين. وحدها خيم التبرّع تتقدم المشهد، خيمة للتبرّع بالملابس القديمة، خيمة للمواد الغذائية، أخرى لتسجيل الأسماء، وغالباً ما يتوقّف فيها كبار السن الذين يأملون الحصول على مساعدةٍ من هنا وحصةٍ غذائيةٍ من هناك. قلّة قليلة من المحال التجارية والمقاهي أعادت فتح أبوابها من جديد، أصحاب بعضها يأكل الملل وجوههم فجعلوا من ترتيب وتغيير الديكورات مادةً للتسلية، ومنهم من يقوم بتقديم خدمة التوصيل إلى المكاتب والبيوت. 

من شارع مار مخايل الرئيسي يتفرّع شارعا فرعون وربّاط هناك حيث الأبنية تخضع لإعادة تدعيم وترميم وطليت الجدران بألوان زاهية لا تعكس مرارة الواقع حيث يلفّ الحزن قلوب أهالي الحي الذين خسروا ثمانية من السكّان عدا عن الجرحى والأضرار المادية. اليوم يعيش معظم سكان الشارعين خارج منازلهم التي باتت غير قابلة للسكن، هم يدفعون الإيجارات من جيبهم الخاص فيما أولوية تعويضات الجيش لا تعود لهم. 

والجدير بالذكر أنّ قيادة الجيش تسعى جاهدةً إلى إيجاد آليّة عادلة لتوزيع المبالغ “الزهيدة” التي تصل إلى خزينتها وهي مبالغ لا تتجاوز نسبتها 10% من قيمة المبالغ التي خصّصها القانون رقم 194/2020 من أجل دفع التعويضات للمباني المتضرّرة والبالغة 1500 مليار ليرة لبنانية. وهنا وجب السؤال عن مصير المتضرّرين لحين تأمين المبالغ المتبقية؟ وقد بيّنت المقابلات والرصد الميداني الذي أجرته “المفكرة” استياء من عمليات توزيع التعويضات واعتراضاً من الأهالي على آلية العمل وتحديد الأولوية ضمن المستفيدين. 

 

لا دفعة أولى لمشرّدين من منازلهم “الأولوية عند الجيش  للّي تكسّر شباك بيته”

غابت الإحصاءات الدقيقة والرسميّة لعدد العائلات التي هجرت منازلها بعيد التفجير بحسب ما جاء في رد الجيش اللبناني، في حين صرّح مختار منطقة الرميل ميشال فياض ومختار المدور أحمد دعيبس والمختار الأسبق لمنطقة الكارنتينا جون صليبا لـ”المفكرة” بأنّ نسبة الأهالي الذين اضطروا إلى مغادرة المنطقة بعد التفجير بلغت حوالي 25% من السكّان، وقد تمكّن 15% منهم من العودة في حين لا يزال 10% منهم خارج منازلهم. هؤلاء لم يحصلوا على تعويضات في المرحلة الأولى.

خلّفت هذه الآلية استياءً كبيراً عند أصحاب الشقق ذات الأضرار الكبيرة، فهؤلاء بمعظمهم مضطرّون إلى تأمين إيجار المنازل التي يسكونها إلى حين انتهاء عملية ترميم منازلهم، ما يشكّل لهم عبئاً إقتصادياً كبيراً، ومنهم ريموند داروني الذي لحقت بمنزله الكائن في محلة الكارنتينا أضرار كثيرة فبات غير قابل للسكن، وأصيبت زوجته وابنته بجروحٍ متفرّقة، ما اضطره إلى استئجار منزلٍ على نفقته الخاصّة في منطقة كسروان. لجأ ريموند إلى الاستدانة من أقاربه وأصحابه لشراء بعض قطع الأثاث الضرورية، هذا عدا عن قيمة الإيجار البالغة مليوناً ومئتي ألف ليرة لبنانية شهرياً، “أنا بيتي بالكارنتينا كان ما ناقصه شي، هلق عمري 65 سنة كرسي بلاستيك ما عندي”. ريموند التي تكفّلت جمعية فرح العطاء بإصلاح أضرار منزله وباقي منازل الشارع المتضرّرة، لم يقبض من الجيش اللبناني أي تعويضٍ. وكان الجيش اللبناني قد صرّح خلال المؤتمر الصحافي الأخير عن إرجاء التعويض عن المنازل المتضرّرة التي تقوم الجمعيات بترميمها إلى مرحلةٍ لاحقةٍ، الأمر الذي اعتبره ريموند مجحفاً بحقّه وحق أمثاله، “ما بعرف مين الأولى ياخذ مساعدة أنا لي مجبور أمّن إيجار البيت كل آخر الشهر أو اللي قاعد ببيته دفيان تحت حرامه”. 

التعويض عن “مصدر الرزق” ليس أولوية

إذاً كما أسلفنا لم يتمكّن معظم أهالي شارعي فرعون ورّباط في منطقة مار مخايل من العودة إلى منازلهم المتضرّرة لغاية اليوم. يقول حنا نحلة طوق الذي تضرّر منزله وقام بإصلاحه على نفقته الخاصّة، أنّ جمعية فرح العطاء هي من تكفّلت بترميم المباني في الشارعين، وهي لا تزال حالياً في مرحلة ترميم وتدعيم المباني من الخارج لتنتقل بعدها للعمل في داخل المنازل. لذلك فإنّ جزءاً كبيراً من العائلات لا يزال خارج المنطقة، منهم من يسكن مع أقارب له، ومنهم من استأجر منزلاً على نفقته الخاصّة. يعترض طوق على آلية توزيع التعويضات، معتبراً أنه كان من الأجدى توزيع مبالغ أوّلية على جميع المتضرّرين بدون استثناء مستنداً إلى المثل القائل “بحصة بتسد خابية”. طوق الذي يعمل كسائق أجرة تضرّرت سيارته وهو لا يملك اليوم المال الكافي لإصلاحها، وبالتالي توقّف مورد رزقه معتبراً أنّه لو كان الجيش قد عوّض عليه بدفعةٍ قليلة لكان تمكّن من إصلاح سيارته ولتمكّن بالتالي من تحصيل قوت يومه من جديد. وأفادت قيادة الجيش أنّ التعويض عن أضرار السيارات سيأتي في مرحلةٍ لاحقةٍ وبحسب توفّر الأموال.

كذلك هو حال العم “أنتو” الذي يملك محال تصليح سيارات في شارع فرعون، وقد لحقت الأضرار بمحاله وعدّة عمله فبات غير قادر على تأمين قوته اليومي. “عم حرتق حرتقة”، يقول. وهذا ما اضطرهّ إلى القيام ببعض التصليحات من جيبه الخاص، هذا عدا عن الأضرار التي لحقت بمنزله ما اضطره إلى استئجار منزلٍ خارج المنطقة وتكبّد أعباء إضافيّة، “يعني لا بيرحموا ولا بيخلّوا رحمة الله تنزل، نحن ناس طلعنا من بيوتنا دفعنا لي فوقنا ولي تحتنا لنستأجر ونرجع نمشّي شغلنا، وما حدا عوّض لا عالبيوت ولا على مورد رزقنا. وين منروح منعيش”. 

المسح والتعويض بمن حضر ومن غاب فلينتظر رد الجيش على الهاتف

صرّح الجيش أنّ مسح الأضرار وتوزيع المساعدات في المرحلة الأولى يشترط تواجد أصحاب المنازل بداخلها. الآلية هذه حرمت بعض العائلات من تسجيل أضرارها وبالتالي الحصول على تعويض. ويتساءل المتضرّرون، كيف يمكن لهم التواجد في منازلهم وهي متضرّرة وغير قابلة للسكن؟ وكيف يمكن لهم التواجد جسدياً ومنهم من كانوا جرحى يتلقّون العلاج في المستشفيات. 

هذا هو حال محمد أورال الذي أصيب جرّاء التفجير بجروحٍ عدّة خطيرة وبات يعاني من إعاقةٍ جسديةٍ مؤقتةٍ ما اضطرّه للمكوث في المستشفى مدة شهرٍ ونصف. خلال هذه الفترة مرّت فرق مسح الأضرار بمنزله ولم يكن أحد فيه على حد قوله. لذا لم يتمّ الكشف على الأضرار وبالتالي الحصول على تعويض. خرج محمد من المستشفى، وجد نفسه مضطراً إلى إصلاح أضرار المنزل على نفقته الخاصّة. أكثر من ثلاثة أشهرٍ ومحمد يجري اتّصالات متكرّرة بأرقام الجيش للحضور والكشف وتقديم الفواتير اللازمة إلاّ أنّ أحداّ لم يستجب لنداءاته.

آية وجارها ديمتري: الأضرار ذاتها والجيش يرى بعينٍ واحدةٍ 

تعرّض منزل آية الواقع في محلّة الرّميل في الرابع من آب لأضرارٍ متفرقةٍ، “لحسن الحظ” لم تكن آية في منزلها لحظة وقوع التفجير لكنها عندما وصلت وجدته في حالٍ يرثى لها حيث الواجهات الزجاجية مكسّرة، والجدران والتمديدات الصحية متضرّرة بالكامل. “ما قدرت فوت عالبيت، كل شي عالأرض الزجاج الحيطان العفش”. لم تنتظر آية وصول الجهات المعنية للكشف على الأضرار، بدأت بأعمال الصيانة والتصليح مباشرةً منذ اليوم الثاني، “ما نطرت حدا، بدّي اسكن بالبيت ما عندي مطرح ثاني، كان لازم صلّح لأن بعدين رح ينقطعوا المواد كلّها”. حرصت آية على الاحتفاظ بفواتير التصليحات، وبعد مرور أسابيع عدّة حضرت لجنة من الجيش اللبناني وقامت بالكشف على ما تمّ إصلاحه، لتحصل آية بعدها على مبلغٍ وقدره 11 مليون ليرةٍ لبنانيةٍ. ولا تعلم إذا ما كان هناك دفعةً ثانيةً. كذلك قامت آية بتسجيل طلبٍ لدى اليونيسيف حيث تلقت مساعدةً ماليةً بسيطةً.

ما حصلت عليه آية من تعويضٍ ومساعداتٍ لم يحصل عليه جارها ديمتري غالية (35 عاماً) الذي يقطن في الطبقة الثامنة من البناية ذاتها، وقد تعرّض منزله للأضرار ذاتها على حد قوله. إلاّ أنّه لم يتلقّ أيّ تعويضٍ أو مساعدةٍ من أي جهةٍ كانت. “ما حدا أعطانا شي، لا جيش ولا جمعيات، كلّهم إجوا سجّلوا أسماء بس ما حدا دفع”. وقد قام ديمتري الذي يسكن مع عائلته المؤلّفة من والده وشقيقه بتغليف الشبابيك بالنايلون بدايةً ثم قام بتصليحها على نفقته وبمساعدةٍ لوجستيةٍ من قبل إحدى الجمعيات. لم تقتصر الأضرار على الزجاج والحيطان بل هناك أيضاً أثاث المنزل والأدوات الكهربائية، “أنا لليوم بعد ما جبت تلفزيون، على فرق الدولار صار غالي كثير وفي ألف شغلة ثانية أهم جيبها”. وقد قامت إحدى الجمعيات بإعادة إصلاح باب منزله الخارجي وتركيبه من جديد. أما سيارته التي تكسّر زجاجها وتضررت بشكلٍ كبيرٍ فلم تقم أي جهةٍ بالكشف عليها إلى اليوم على حد قوله. يعلم ديمتري أنّ عائلات عدّة في المبنى ذاته حصلت على تعويضات ومساعدات ما اضطره إلى الاتّصال بالأرقام المخصّصة التابعة للجيش اللبناني مرّاتٍ عدّة، كذلك فعل مع الجمعيات والمنظمات الأخرى لكن من دون الحصول على جوابٍ شافيٍ. ويعتبر ديمتري أن طريقة التوزيع يشوبها الكثير من الاستنسابية: “حتى منشوف ناس أبداً ما تضرّرت عم تقبض وكل شي، ونحن اللي ما بقى عنّا شي بالبيت ما طلعلنا ولا ليرة”. 

تيريز المسنّة فقدت شريك حياتها في الانتظار

“أنا بعيش هلق من أكياس المونة لي وزّعتها الجمعيات، بسلق رز بسلق عدس، معي شوية مصاري تاركتهم لإشتري الدوا، وأيمتى بيجي تعويض الجيش ما بعرف”. أرهق فصل الشتاء جسد تيريز (75 عاماً)  التي تضرّر منزلها بفعل تفجير مرفأ بيروت، إذ نخر البرد عظامها بسبب الهواء المتسرّب من تشققات الأبواب المتخلخلة، وسرّع سوء التغذية من تدهور وضعها الصحّي. بعد التفجير اضطرت تيريز إلى اصلاح الأضرار المستعجلة مثل الزجاج والشبابيك والباب الخارجي على نفقتها الخاصّة، “جوزي كان مريض اضطريت صلّح، بدنا نقعد بالبيت، البواب الباقيين ما ضل معي مصاري صلّحهم. حالت مبادرتها هذه دون مساعدة الجمعيات لها، برأيها، “كانوا يجوا لعندي يسجّلوا يشوفوني عم صلّح ما يرجعوا، أنا ما بقدر أنطر”. كذلك هو الحال مع الجيش الذي قام بمسح الأضرار واطّلع على فواتير التصليحات لكنها إلى اليوم لم تحصل على تعويض الدفعة الأولى أسوة بمتضرّرين آخرين. قبل حوالي الشهرين ودّعت تيريز رفيق دربها وهي اليوم تعاني وحيدة من الفقر المدقع بعد أن أنفقت مدّخراتها على صيانة منزلها ولم تأت التعويضات من الدولة بعد. 

 

الأولوية ليست لمن أصيب باعاقةٍ جسديةٍ وفقد قدرته على العمل 

لم يراع الجيش في صرفه التعويضات الظروف الإنسانية والمعيشيّة للمتضرّرين، فعلى سبيل المثال لا الحصر لم يعط الجرحى الذين أصيبوا بإعاقات جرّاء التفجير تمنعهم من مزاولة عملهم، والذين تضرّرت منازلهم وفقدوا قدرتهم على العمل، الأولوية بالتعويض على المتضررين الذين تحطّم زجاج منازلهم أو فقدوا قطع أثاث لكنهم ما زالوا قادرين على إعالة أنفسهم وأسرهم. 

بعيد التفجير وجد جورج أبو شروش نفسه وعائلته المؤلّفة من زوجةٍ وثلاثة أولادٍ بلا مأوى، بلا أثاثٍ منزليّ، وبلا حتى ملابس، هذا عدا عن الإصابة التي تسببّت له بإعاقةٍ سمعيةٍ كاملهٍ في أذنه اليمنى وجزئيةٍ في أذنه اليسرى. كلّ هذا ولم يتلقّ جورج إلى اليوم أيّ تعويضٍ ولا مساعدةٍ عن الأضرار الماديّة والجسدية والمعيشية من أيّ جهةٍ كانت على حدّ قوله. ولا يعلم جورج لماذا يتم استثناؤه من الحصول على المساعدات والتعويضات بينما ينال جيرانه وأبناء منطقته الكثير منها. “أنا ما بعرف على أيّ أساس عم بيوزعوا، أنا تدمّر بيتي، وانصبت بإعاقةٍ جسديةٍ وعندي أولاد، صرت عاطل عن العمل، شو في أكثر من هيك ظروف صعبة؟”. جورج هو عيّنة من شريحة واسعة من المتضرّرين الجرحى الذين أصيبوا بإعاقاتٍ جسديةٍ ولم ينَلوا إلى اليوم أيّ تعويضاتٍ، ويشهدون على وصولها إلى غيرهم.

خسر والده وتضرّر منزله وتحطّمت سيارته: المساعدات لا تنظر في تعدّد الأضرار 

كذلك لم تحظ عائلات شهداء التفجير الذين تضرّرت منازلهم بأولوية الحصول على المساعدات القيّمة، فالشهداء الذين كانوا بمعظمهم المعيلين الوحيدين لعائلاتهم، وفقد أبناؤهم وأهلهم من بعدهم مصدر قوتهم اليوميّ، لم تشملها التعويضات سوى المساعدة التي خصّصت لها من قبل الهيئة العليا للإغاثة عن شهدائها والتي بلغت قيمتها 30 مليون ليرة لبنانية لورثة كل ضحية فوق العشر سنوات و15 مليون ليرة لبنانية لورثة كل ضحية ما دون العشر سنوات وفقاً لقرار رئيس مجلس الوزراء ورئيس الهيئة العليا للإغاثة رقم 103/2020. وهذا ما اضطرّهم إلى استعمال هذه الأموال لإعادة ترميم وتصليح المنزل. 

استشهد محمد اللاذقاني وهو معيل عائلة تضمّ ستة أفراد جميعهم ما زالوا طلّاباً، في منزله في مار مخايل. يروي ابنه محي الدين أنّه على الرغم من خسارته الفادحة باستشهاد والده فقد تضرّر منزلهم بشكلٍ كبير وجرح خمسة من أفراد عائلته، وقد اضطرّوا إلى استئجار منزلٍ في محلّة الجديدة خارج منطقة التفجير. “ضهرنا من بيتنا بالشورتات ما معنا ثياب، ثيابنا كلها تخزقت، عفش البيت كله ما بقي منه قطعة، قساطل الماي طلعت من الأرض، الحيطان تكسّرت ما بقي شي”. وفي حين تكفّلت إحدى النسوة المقتدرات بمساعدة عائلة محي الدين في إعادة ترميم المنزل، تلقّوا مساعدةً وحيدةً من الهيئة العليا للإغاثة عن استشهاد والدهم بقيمة 30 مليون ليرة، وهو تعويض أقلّ ما يقال عنه إنّه لا يكفي لشراء ملابس جديدة لأفراد العائلة، كما أنهم لم يتلقّوا لغاية الآن أي تعويض عن إصابات أفراد العائلة أو الأضرار التي لحقت بمنزلهم وممتلكاتهم. لكن حتى هذه المساعدة وجد محي الدين نفسه وعائلتها مضطرين إلى دفعها على أعمال صيانة المنزل لأنّه سرعان ما تبيّن أنّ التصليحات الأولى كانت شكلية وسطحية. “الشغل ما كان منيح، التصليح عم بيصير من ورا إيدهم، رجعت فوق حزني ومصيبتي فتحت ورشة ثانية بالبيت وجبت معلمين من جديد”. أما بالنسبة إلى سيارة والده التي لحقتها أضرار جسيمة فلم يطلها المسح، “ما حدا سأل عن السيارات ولا إذا عنّا سيارة”، ما اضطره إلى بيعها مؤخراً كخردة بعدما تسرّبت إليها مياه الشتاء متسببة بعفونة مقاعدها فأصبحت وكراً للفئران والجرذان. “أنا حدا بيّه مات وكل إخواتي ما منشتغل لأن بعدنا بالجامعات، كيف بدنا نعيش، عطونا 30 مليون صلّحنا فيهم البيت عن بو قريبه، كيف مناكل كيف منشرب لحد ما نلاقي شغل؟”. 

في هذا السياق، يلفت كيان طليس شقيق الشهيد محمد طليس وهو من مؤسّسي لجنة أهالي ضحايا التفجير (التي تسجلت رسمياً كجمعية ولا تزال تنتظر إصدار العلم والخبر من وزير الداخلية)، إلى أنّ أهالي الضحايا خصّصت لهم مساعدة وحيدة من قبل الهيئة العليا للإغاثة بقيمة 30 مليون ليرة، وأنّهم على الرغم من صدور القانون 196/2020 الذي ساوى بين شهداء التفجير بشهداء الجيش اللبناني والرامي إلى إعطاء تعويضات ومعاشات لذوي ضحايا التفجير، إلاّ أنه ما زال حبراً على ورق. فلا العائلات قبضت معاشاتٍ شهرية ولا حازت على تعويضاتٍ. ويضيف طليس أنّه حتى شهداء المؤسّسة العسكرية الذين قضوا بالتفجير لم ينَلوا مستحقاتهم بعد، فالجهات المعنيّة تطلب معلوماتٍ يستحيل على الأهالي الحصول عليها منها تحديد ساعة الوفاة. ويتساءل طليس كيف يمكن للأهالي تحديد ساعة الوفاة ومنهم من وجدوا شهداءهم بعد أيامٍ في برّادات المستشفيات. ويضع طليس مثل هذه الطلبات في خانة تمييع المسائل والتهرّب من مسؤولية دفع التعويضات. كذلك يؤكد طليس أنّ أهالي الضحايا لم تشملهم تعويضات الجيش ولا الجمعيات والمنظمات عن الأضرار الماديّة باستثناء بعض العائلات التي حصلت على مساعدات من الصليب الأحمر اللبناني من دون أن يتّضح سبب الاستثناء.  

متى يبدأ إصلاح المباني القديمة والمهدّمة

يمتلك فيليب وأقاربه عقاراً في منطقة الأشرفية وهو عبارة عن منزلٍ مصنّف تراثياً، ومبنى قديم مؤلّف من طبقتين. لحقت الأضرار بالمبنيين حتى باتا مهدّدين بالسقوط. فمنع الجيش خلال إجرائه لعملية المسح أحداً من الدخول إليهما حتى المستأجرين ولو لاستخراج ملابسهم. يقول فيليب إنه إلى اليوم لم ينل أيّ تعويضٍ أو مساعدةٍ من أحد، وفيما أحيل ملف المنزل الأثري إلى وزارة الثقافة ومديرية الآثار اللتين، بحسب فيليب، لم تعاينا المكان بعد. لا يزال مصير المبنى القديم الآيل للسقوط مجهولاً، فالجمعيات الموكلة بالمساعدة في الترميم أو التصليحات لا يمكنها العمل فيه، وكانت قيادة الجيش قد أحالت أمر المباني القديمة المهدمة إلى محافظ بيروت كونها تحتاج إلى مبالغ كبيرة لا يمكن للجيش تغطيتها بالمبالغ الزهيدة التي تحول إليه. 

وفي اتصالٍ هاتفي يقول رئيس بلدية بيروت جمال عيتاني لـ”المفكرة” إنّ “البلدية قامت منذ اليوم الأول للتفجير بإجراء عمليات المسح الخارجي للأبنية وتمّ إحصاء حوالي 170 بناية مهددة بالوقوع فتمّ اتخاذ القرار بتدعيمها وإصلاح الواجهات فيها. من هنا تمّ تحديد مبلغ 50 مليار ليرة لبنانية، وفتح الباب أمام المتعهدين للتقدم للمناقصات إلاّ أنه لم يتقدّم سوى أربعة متعهدين فازوا بعملية تدعيم الأبنية، في حين لم يتقدّم أي متعهّد لإصلاح الواجهات، لذلك قام محافظ بيروت القاضي مروان عبود بإرسال رأي استشاري لديوان المحاسبة للسؤال عن إمكانية إجراء اتفاقية مع الجيش اللبناني لتوزيع المبلغ نقداً على العائلات المتضررة، وبعد طول انتظار جاء قرار الديوان أنّ بإمكان البلدية بالتعاون مع قيادة الجيش اللبناني ونظراً للظروف الاستثنائية المباشرة بتوزيع الأموال”. ويفيد عيتاني أنّ المرحلة الأولى ستبدأ بتوزيع مبلغ عشرة مليارات ليرة لبنانية على وحداتٍ سكنيةٍ يحددها الجيش، كذلك سيتم توزيع عشرة آلاف بطاقة غذائية أيضاً بالتنسيق مع الجيش اللبناني.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، أجهزة أمنية ، الحق في الصحة ، الحق في السكن ، عدالة انتقالية ، ملكية خاصة ، لبنان ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجزرة المرفأ



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني