أصبحت زيارة الرئيس التونسي قيس سعيّد الدوريّة لمقرّ لجنة الصلح الجزائي مألوفة من حيث شكلها ومضمونها، فهي فرصة متكرّرة ليعبّر عن امتعاضه من تعطّل مسار الصلح الجزائي وتباطؤ عمل اللجنة وليؤكّد كذلك على وجوب الإسراع في “إرجاع أموال الشعب” في أقرب الآجال ليتمّ توظيفها في مشاريع محليّة. إلاّ أنّ زيارة يوم 8 سبتمبر الجاري أخذت منعرجا آخر، حيث كان سعيّد غاضبا جدّا من تعطّل مسار الصلح الجزائي وانتقد بشدّة مماطلة المتورطين في قضايا الفساد المالي في الإيفاء بتعهّداتهم وفي تقديم طلبات الصلح، موجّها “صواريخه” أوّلا للإجراءات الخاصّة التي سنّها بنفسه صلب مرسومه عدد 13 لسنة 2022، والتي اعتبر أنّها أصبحت مطيّة لتأبيد مسار الصلح، وثانيا إلى أصحاب الأعمال مهددا إياهم بالسجن في حال عدم الانخراط الفوري في الصلح. تهديد له وقع مختلف هذه المرّة، بعد استكمال مسار إخضاع القضاء وسيطرة السلطة التنفيذيّة على مفاتيح السجون. وما يثبتُ جدّيته، هو تزامنه مع إيقافات أو إجراءات تحفظّية في حقّ بعض أصحاب الأعمال، في رسالة مضمونة الوصول لهم ولسواهم.
نضع الإجراءات لنخرقها: الابتزاز بديلا عن العدالة
انبنى مسار الصلح الجزائي على أنقاض العدالة الانتقالية، حيث أسّس سعيّد سرديّته على فشل الحكومات المتعاقبة والمؤسسات المتداخلة في استرجاع الأموال المنهوبة. وعد الرئيس بخلق وسيلة استثنائية وسريعة لمصالحة الفاسدين واستعادة ما نهبوه من أموال من دون المرور بمسار قضائي معقّد، وذلك بتعويض العقوبة السجنيّة بمصالحة شبه إدارية[1]، يلتزم وفقها الفاسدون بدفع المبالغ المستولى عليها أو المنفعة المحققة التي تحدد قيمتها اللجنة مع فائض 10% عن كل سنة.
سنة ونصف بعد إصدار مرسوم الصلح الجزائي يجدُ سعيّد نفسه خالي الوفاض أمام لجنة لم تحقق شيئا يذكر من وعوده التي بلغت 13500 مليون دينار. نفاد صبر الرئيس تبدّى على مراحل، أولّها إلقاء اللوم على رئيس اللجنة مكرم بن منا وإنهاء مهامه في مارس الفارط، تبعتها إقالة عضوة اللجنة التي أوهمته بوجود وعود من صاحب أعمال مقدّرة بـ 30 مليار دينار تونسي، أخذها الرئيس في البداية على محمل الجدّ ورأى فيها بديلا ممكنا عن اللجوء إلى صندوق النقد الدولي. وها هو اليوم يتوجّه باللوم إلى الإجراءات التي أصبحت حسب قوله مطيّة لتهرّب أصحاب الأعمال من الامتثال السريع والناجز لمسار الصلح ومآله، معتبرا أنّ الفاسدين يتخفّون وراء الإجراءات والاختبارات والتأخير المتتالي للجلسات بطلب من المحامين لتعطيل مسار الصلح. ما يعيبه سعيّد تحديدا هو تطبيق ما ورد في الفصليْن 23 و24 من مرسومه اللذيْن يتيحان للّجنة بعد التأكّد من توفّر الشروط الشكلية للمطلب والقيمة المرجعية للمبالغ المالية الواجب دفعها، إجراء الأعمال الاستقصائية اللازمة وما يقتضيه ذلك من طلب وثائق ومعطيات لدى المصالح الإدارية والمؤسسات المالية، إضافة إلى إجراء اختبارات. كما يتيح لطالب الصلح، تكريسا لحق الدفاع، التظلم لدى لجنة الصلح الجزائي من نتيجة الاختبار في أجل سبعة أيام من تاريخ إعلامه به ويكون لها عندئذ الإذن بإعادة الاختبار بواسطة لجنة خبراء أخرى، من دون أن يكون قرار اللجنة الجديدة ملزما لها.
بغضّ النظر عن أنّ الإجراءات التي يطلب الرئيس مخالفتها خطّت حرفيّا بيده، فإنّ مضمون تصريحاته يكتسي خطورة كبيرة لعدّة أسباب. في الواقع، تفتح تصريحات سعيّد الباب واسعا أمام قانون الغاب، حيث لا يكفي أنّ تسحب ملفات الفساد من بين يديْ القضاء لتسلّم للجنة استثنائية خاضعة للسلطة التنفيذيّة، وإنما تنتفي حتّى الاجراءات والضمانات الضعيفة والنادرة التي نصّ عليها المرسوم، ليحلّ محلّها منطق الابتزاز الصرف. إذ يضيف الرئيس بخطابه السلطاني، للجنة الصلح الجزائي صلاحية لم ترد بالمرسوم ألا وهي تقدير الأموال التي تمّ نهبها أو المنفعة التي تمّ تحقيقها وإن لم ترد في تقارير أو اختبارات سابقة. بل أكثر من ذلك، يجرّد خطاب سعيّد طالبي الصلح من الضمانة الوحيدة التي كانت متاحة لهم للدفاع عن مصالحهم ألا وهو حقّ التظلّم للجنة وطلب الاختبارات لتحديد مبلغ للتفاوض، معتبرا أنّ هاته الآلية تعطّل تقدّم المسار. هذه الطريقة الجديدة في إجراء الصّلح تحت تهديد السجن، قد تفتح الباب مستقبلا لمظلوميّة من قبل أصحاب الأعمال، بغضّ النظر عن مدى تورّطهم في شبهات فساد، حيث يمكنهم الاحتجاج، حين تتغيّر السلطة السياسيّة، بخرق الإجراءات وهضم حقوقهم الأساسيّة وخضوعهم لابتزاز علني، مما قد يتيح لهم مستقبلا المطالبة بتعويض.
علاقة السلطة بأصحاب الأعمال: سعيّد على درب سابقيه
لفهم الدناميّات التي حكمت علاقة الحكومات المتعاقبة مع أصحاب الأعمال، يجب الرجوع بالزمن لسنة 2011، حيث اختارت حكومة الباجي قائد السبسي امتصاص الغضب الشعبي واخماده من خلال إصدار مرسوم[2] متعلّق بالأملاك المصادرة يخصّ 112 شخصا من المقربين من عائلة بن علي. إلاّ أن القائمة الواردة بالمرسوم المذكور أسقطت العديد من أسماء العائلة الحاكمة والمنتفعين من ارتباطهم بها و لم تتطابق مع القائمة التي أعدّتها لجنة المصادرة والمتضمنة لـ 131 شخصا، وردت أسماؤهم في تقارير وزارة الداخلية والبنك المركزي التونسي ولجنة مقاومة الفساد والمكلف العام بنزاعات الدولة. اعتبرت حينها أوساط حقوقيّة وإعلاميّة أنّ المعايير المعتمدة لفرز الملفات والأسماء اتسمت بالضبابية وربّما حصلت فيها مفاوضات ولم تُدرْ وفق مبادئ الشفافية ولا تستند لقرائن إدانة أو براءة قضائية. من جهة أخرى، لم يُشر المرسوم حينها إلى مسألة تحجير السفر والتي مثلت طيلة سنوات ورقة ضغط اعتمدتها السلطة لابتزاز أصحاب الأعمال. حيث تمّ تحجير السفر على 70 صاحب أعمال في عهد الترويكا لينزل العدد في سنة 2014 لـ 43 صاحب أعمال[3] وصولا لحكومة الحبيب الصيد التي تكتمت تماما على ملف تحجير السفر سنة 2016. في الواقع، مثل تحجير السفر ورقة ضغط اعتمدتها السلطة حينها لابتزاز أصحاب الأعمال حيث أشارت وداد بوشماوي في إحدى تصريحاتها في شهر أوت سنة 2013 إلى أن هذا الملف أصبح “ورقة انتخابية”، مؤكدة أنّ الحكومة رفضت مدّها بقائمة أصحاب الأعمال الممنوعين من السفر. تكرّر المنطق ذاته بعد ذلك مع يوسف الشاهد الذي أدار “حربه على الفساد” بطريقة حضرت فيها الحسابات السياسيّة والتهديد والابتزاز، مما سمح بجذب تمويلات ضخمة لحزبه الجديد حينها “تحيا تونس”.
يوم 28 جويلية 2021، سارع قيس سعيّد لاستقبال رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة سمير ماجول، مستعرضًا أمامه حصيلة تقرير اللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق حول الفساد والرّشوة قائلا إنّ ”عدد الّذين نهبوا أموال البلاد بناء على هذا التقرير هو 460. والمبلغ الذي كان مطلوبًا منهم، وهو لأحد رؤساء الحكومات السابقين وبناء على التقرير، يبلغ 13500 مليار (من المليمات، أي 13،5 مليار دينار)، ولديّ قائمة في الأسماء“. وكان هذا اللقاء فرصةً للرئيس سعيّد كي يعلن عن مشروع الصلح الجزائي مع المتورّطين لإعادة استثمار الأموال المنهوبة في مشاريع تنمويّة وتجنّب المرور عبر المسار القضائي، باعتباره “ليس من دعاة سجن أحد” و”لا يريد التنكيل بأيّ كان”.
بعد سنتين ونيف من هذا اللقاء وفي ظلّ تعثّر مسار الصلح الجزائي، يبدو أنّ سعيّد بصدد تغيير استراتيجيته في علاقة بالمحاسبة الجزائيّة. حيث بعد تصفية خصومه السياسيين، يوجّه صواريخه اليوم إلى الإدارة وأصحاب الأعمال، مهدّدا من لا ينصاع منهم لتقديرات لجنة الصلح ويدفع ما تخلّد بذمّته حالا ودون إطالة إجراءات، باستئناف التتبعات ضدّه. ولئن كان مرسوم الصلح الجزائي يتيح استئناف التتبعات الجزائية ضدّ من تخلّف عن الصلح، فإنّ التدخّل السياسي الصارخ لسعيّد في هذا الملف يخرجه من سياق المآلات القضائية أو حتّى الإدارية لملفات الفساد، ومن شبهات الابتزاز في السرّ، إلى ممارسة علنيّة على مرأى ومسمع من الجميع. إذ لم نعد أمام مسار ابتدعه الرئيس ليعوّض مبدئيا العدالة الانتقالية بالعدالة التعويضيّة، وإنّما بتهديد علني وأمر سياسي بالانصياع، صادر إثر نسف الرئيس ما تبقّى من استقلاليّة للقضاء. ليس صدفة، في هذا السياق، تزامن التهديدات الرئاسيّة مع إيقافات وملاحقات جديدة في صفوف بعض أصحاب الأعمال. فقد تمّ إيقاف صاحب الأعمال حسين الدغري، الذي يدير بنك UBCI (فرع من البنك الفرنسي BNP Paribas) وصدرت في شأنه بطاقة إيداع بالسجن في 15 سبتمبر. كما تمّ إيقاف النائب السابق وصاحب الأعمال محمد الفريخة، صاحب شركتي تلنت وسيفاكس ايرلاينز، في 12 سبتمبر. أمّا مروان المبروك، صهر الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وهو صاحب مجموعة اقتصاديّة من بين الأكبر في البلاد والمساهم الأبرز في بنك BIAT، فقد تقدّم في بداية سبتمبر بمطلب صُلح إلى لجنة الصلح الجزائي، غداة إصدار قرار بتحجير السفر عليه و4 من أفراد عائلته لمدّة 15 يوما، وذلك على خلفية أبحاث تتعلق بشبهات سوء تصرف في الأملاك المصادرة.
فها أنّ الرئيس الذي لا ينفكّ مهاجمة سابقيه واتهامهم بمقايضة الفساد بمصالحهم الحزبية، يمضي في ممارسات شبيهة، مهدّدا بالسجن في زمن لم تعد فيه للملفات القضائيّة قيمة أمام أوامر القصر. خصوصا وأنّ مردود الصلح الجزائي لن يذهب إلى موارد ميزانيّة الدولة، وإنّما لتحقيق شهوات الرئيس وخلق شبكة زبائنيّة خاضعة تماما لسلطته، سواء عبر الشركات الأهلية الممولة من الدولة وفق سلطتها التقديرية، أو عبر الاستثمارات المحليّة التي تخضع هي الأخرى لقرار ممثلي السلطة التنفيذية.
عندما تضيع بوصلة مكافحة الفساد: نصالح الفاسدين أم نحاربهم؟
تعدّ محاربة الفساد شعارا مركزيّا لدى سعيّد، ينادي به ويؤسّسه على طرفين أساسيين أوّلهما الخصم وهو الفاسد الذي تمعّش من أموال الشعب التونسي وقوته ويجب محاربته باعتباره طرفًا مكشوف الهويّة لدى الدولة، وثانيهما الرئيس النظيف المشهود له بالنزاهة الذي لا يتوقّف أمام حواجز النصوص والإجراءات ويمضي في جهاده ضدّ الفساد، وإن اقتضى الأمر الاستيلاء على صلاحيات مؤسسات والقفز على إجراءات وضعها بنفسه. هذه الثنائية لا مجال فيها لمؤسسات ودولة وقانون، بل هي حرب مقدّسة ضدّ الظلم والحيف يكون سلاحها الأوّل دعوة الفاسدين للانصياع. فإن لم يمتثلوا، تصبح كل السبل مشروعة من تهديد ووعيد وتحجير سفر وتجميد أرصدة وسجن. هذا المنطق الثنائي الواضح في خطوطه العريضة، يضرّ جوهريا بالحرب العادلة على الفساد.
فعلاوة على المظلومية التي يمكن أن يتمتّع بها فاسدو اليوم-ضحايا الغد جرّاء الخروقات والابتزاز، تؤسس منظومة سعيّد اليوم لزبونيّة مستحدثة تعيد إنتاج آليات الفساد في ظلّ العهد الجديد، حيث ليس من مصلحة أصحاب الأعمال اليوم تعطيل مصالحهم والمخاطرة بسنوات في السجن، مهما كانت الفاتورة مشطّة وغير واقعيّة. مما يجعل السيناريو الأكثر ورودا هو خلق طبقة أصحاب أعمال موالية للسلطة، تقايض البراءة بالمال. وتظهر بوادر ذلك أيضا من خلال خيار اللاموقف الذي اتخذه اتحاد الأعراف تجاه ابتزاز أصحاب الأعمال.
من جهة أخرى، يستعمل شعار مكافحة الفساد وتسخّر له إمكانيات الدولة ليس لتمويل المالية العمومية ولترسيخ مبدأ المحاسبة وثقافة عدم الإفلات من العقاب بل لتمويل مشروع الرئيس الذي لم يكلّف نفسه عناء طرحه على النقاش العامّ سواء في ضلعه المالي المتعلّق بالصلح الجزائي أو في ضلعه الاقتصادي المتمثل في الشركات الأهليّة. فنحن اليوم إزاء رئيس يبحث جاهدا عن أموال جاهزة للاستثمار في مشروعه الذي بدأت تناقضاته وزيف وعوده تظهر للعلن.
إنّ الحديث عن محاربة الفساد اليوم يبدو مفرغا من معناه، حيث لم نتمكّن طوال سنوات من خلق حالة من الرقابة الهيكليّة والثقافيّة التي من شأنها التأسيس لدولة تحارب الفساد بمؤسساتها وقوانينها وضمن استراتيجية واضحة بعيدا عن الارتجال والابتزاز. وجاء 25 جويلية 2021 ليقوّض جميع المكتسبات البسيطة في هذا المجال من هيئات مستقلّة أصبحت من الماضي وقضاء تمّ ترهيبه وإخضاعه ومجتمع مدني مشيطن ومشكّك في نزاهته. مجددا، يستعمل الرئيس سعيّد أحد الشعارات المركزيّة للثورة، لتبرير سياسة تقوم على نقيضه.
لقراءة المقال باللغة الانكليزية
[1] نظرا للتركيبة المختلطة للجنة الصلح الجزائي والاعتماد الجزئي على الاختبارات والتقارير القضائية من جهة والسلطة التقديرية الواسعة للجنة من جهة أخرى.
[2] المرسوم عدد 13 المؤرخ في 14 مارس 2011 المتعلّق بمصادرة أموال وممتلكات عقارية ومنقولة.
[3] تصريحات وداد بوشماوي في عهد حكومة مهدي جمعة.