حين باشر المجلس المؤقت للقضاء العدلي إعداد مشروعه للحركة القضائية لسنة 2022-2023، أدمج في وثيقته القضاة المعفيين الذين تقدموا له بقرارات إيقاف تنفيذ صدرت عن المحكمة الإدارية صلبها. وفي محاولة منه لحجب ما رافق عمل السلطة التنفيذيّة على ملف الإعفاءات من ارتجال وما نتج عنه من مظالم، اقترح نقل المعنيين من المحاكم التي كانوا يعملون بها لأخرى وسحب الخطط الوظيفية منهم. أمر رفضه رئيس الجمهورية الذي تمسك بإعفاءاته وردّ لهم مقترحهم. مشروع تلك الحركة لم يرَ النور، ولا يعلم سبب لذلك إلا ما يتم تداوله من تسريبات تؤكد أن المجلس المؤقت وبعد الرد الأول للحركة له من الرئيس، عدّل في مضمونها بسحب المعفيين منها قبل أن يصله رد ثان لها ورد ثالث لأسباب مختلفة أعقبها طلب صريح له بالتنسيق مع وزيرة العدل في التعيينات القضائية. وهو ما لم يقبل به أعضاؤه لغياب سنده القانوني وكان السبب في العطالة الطارئة وتاليا عدم صدور أي حركة لسنة 2022-2023.
تاليا وبتاريخ 30-09-2023، صدرت الحركة السنوية للقضاء العدلي للسنة القضائية 2023-2024، ولم يدرج بها أي من القضاة المعفيين بما كشف عن انتصار إرادة الرئيس وبما يفرض طرح السؤال عن مستقبل ملف القضاة المعفيين في مقتبل سنة قضائية جديدة لن تشهد عودتهم للقضاء ولكنها لن تبعدهم عنه.
المعفيون والقضاء: سؤال السنة القضائية الجديدة
جمعت الإعفاءات في تاريخ إعلانها، هياكل القضاة تحت يافطة تنسيقية هياكل القضاة والتي قادت تحركات كان هدفها التصدي لما قيل حينها أنه استهداف لاستقلالية القضاء. لكن بعدها بشهر، تصدّع ذاك الجمع في صمت وانحصرت صورة التحركات التي ترفع لواء ملف المعفيين في جمعية القضاة وهيئة الدفاع عنهم وبعض فعاليات المجتمع المدني. بعدئذ، انتهي الأمر مع إعلان الحركة القضائية لما يشبه المواجهة بين القضاة حول مكانة القضية التي كانت توحّدهم. ففيما كان عدم إدراج المعفيين أحد مآخذ الجمعية على الحركة التي أسمتها “حركة الجزاء والعقاب” في متن بيانها الصادر في تاريخ 07-09-2023، غاب بالمقابل أيّ ذكر لهذا الملف في بيان نقابة القضاة الذي نشر في 09-09-2023 وأشاد بالحركة التي اعتبرها تاريخية. وقد ذهب رئيسها حدّ التصريح جوابا عن السؤال الذي وجه له بشأن موقفه[1] من عدم إدراج المعفيين بالحركة أنّه ينأى بالقضاة ومصالحهم عن كل توظيف سياسي وأنه يتعاطى كقاضٍ وطني قبل أن يذكر أن أيا من المعفيين لم يتّصل به ولا علم له بوضعهم.
في هذا، بدا واضحا ان مجتمع القضاة بما هو هياكل مهنية اتّجه بعضه لطي صفحة الإعفاءات بحجة المصلحة العامة والحاجة لعلاقة جيدة بالسلطة السياسية، فيما حافظ أغلبه على مواقفه المبدئية في الموضوع. وذات التحولات يبدو أن مجلس القضاء المؤقّت يشهدها. إذ وطيلة السنة الأولى من الإعفاءات، انتصر المجلس المؤقت للقضاء العدلي لحقوق المعفيين بعد أن اعتبر في فقه قضائه في المادة التأديبية أن قرارات إيقاف تنفيذ إعفائهم نافذة من تاريخ الإعلام بها وهم لذلك يتمتعون بالحصانة القضائية التي تمنع محاكمتهم قبل رفعها عنهم فيما أثارته ضدهم وزيرة العدل من قضايا. وفي هذا، تعهد المجلس بطلبات رفع الحصانة التي وجهها له قضاة التحقيق ممن تعهدوا بتلك القضايا وقد كان ينتظر أن تكون جلسته يوم 19-09-2023 موعد بته في عدد منها. إلا أن ما صنعته الحركة من شغور في تركيبته وقرب تقاعد رئيسه منصف الكشو الذي تراجع عن التمديد الذي تمتع به في مدة عمله القانوني يرجحان عدم حصول ذلك قبل ما ينتظر من إعادة ترتيب للمجلس من السلطة التي صنعته والذي قد يحمل معه تغييرا في موقفه من المعفيين متى كان اختيار الأعضاء الجدد معياره الانسجام معها في مواقفها بشكل كامل.
وعليه، تكون الحركة القضائية قد عصفت بأمل انتصار قيم دولة القانون فيما تعلق بملف القضاة المعفيين، حيث لا تترك فعليا لهم إلا المحاماة ملاذا وهو خيار دونه صعوبات.
الترسيم بالمحاماة: أمل صعب
يجيز القانون المنظم للمحاماة[2] في الفصل الثالث منه لكل من باشر القضاء مدة عشرة أعوام ولم يُعزل منه لسبب مخلّ بالشرف أن يطلب من الهيئة الوطنية للمحامين ترسيمه في جداول المحامين المباشرين التي تمسكها. تاريخيا، كان ترسيم القضاة بالمحاماة مما استعملته هيئاتها في نصرة القضاء المستقل والدفاع عنه. ومن ذلك المبادرة لترسيم من تم تسليط عقوبة العزل عليهم من القضاة الشبان سنة 1985 وما كان من احتفاء خاص من المحامين برفع السهو عن القاضي مختار اليحياوي بعد عزل النظام له سنة 2002. وقد شكل الإسراع في ترسيم الهيئة الوطنية للمحامين المعنيين رسائل مقاومة ودعم توجه للسلطة كما القضاة. ويُذكر في هذا السياق أن عميد المحامين الأسبق منصور الشفي[3] والذي كان ممن أرسوا هذا التقليد كان يحرص أن يتم ذلك في ذات يوم صدور قرار العزل تعبيرا عن رفضه للمؤاخذة وتأكيدا على كون كلّ قاض يدافع عن استقلاليته يُشرّف المحاماة انتماؤه لها.
خلافا لهذا التاريخ، وفي مقابل تحمس المحاماة الحقوقية لملف المعفيين بالتطوع للدفاع عنهم في كل قضاياهم على كثرتها، نجد أن المحاماة الرسمية بدت متحفظة فيما تعلّق بالسؤال عن حقهم في الالتحاق بالمحاماة فترة بطالتهم. إذ يذكر أن 29 من بين القضاة المعفيين وبمجرد تحصيلهم ما تولت وزارة العدل دفعه لهم بعنوان غرامة إعفاء خصصوا الجزء الأكبر منها والذي يتجاوز في أغلب الحالات ثلثي قيمتها لدفع ما هو مفروض من هيئة المحامين كمعلوم على القضاة ليطلبوا ترسيمهم بالمحاماة. وقدموا علاوة على ذلك ملفات في طلب الترسيم تضمنت ما يفيد استيفاءهم الشروط القانونية وما يؤكد قطع الدولة لكل علاقة شغلية معهم.
عشرة أشهر بعد ذلك، لم يتلقّ المعنيون ردا على مطالبهم رغم أن أموالهم التي قدمت كمعلوم ترسيم على أهميتها قد صرفت، ولم تصلهم من كواليس الهيئة الوطنية للمحامين مقابلها إلا أحاديث عن انقسام في مجلسها بين شقّ يؤيد حقهم وآخر يرفض بذلك بدعوى أنهم قضاة مباشرون وثالث يتحدث من دون حرج عن ضرورة الابتعاد عن ترسيمهم بقطع النظر عن حقهم في ذلك من عدمه حماية لمصلحة المحاماة التي تكون حسبهم في القرب من السلطة السياسية طلبا لمكاسب قطاعية من أهمها تعديل قانون المهنة بشكل يمنع مستقبلا التحاق القضاة بالمحاماة لا في استعدائها بترسيم من وصمتهم بالفساد.
الخلاصة
تبدو بداية السنة القضائية 2023-2024، صعبة فيما تعلق بملف القضاة المعفيين لتراجع وحدة الصف القضائي فيما تعلق به ولتصدع المجلس المؤقت للقضاء العدلي الذي لعب في خصوصه دورا إيجابيا ولما هو ظاهر من تقصير من المحاماة الرسمية في الانتصار له. ورغم ذلك، فهي تبقى كما قال رئيس جمعية القضاة التونسيين أنس الحمادي قضية القضاء بما ينتظر معه من نضال يتواصل انتصارا لقيمها وكشفا لحقيقة الدافع عليها والمتمثل في عقاب قضاء مهني انتصر للاستقلالية فكان أن عاقبته السلطة وخذله بعض من ظنّ أنهم شركاء له في قيمه.
[1] دقيقة 9 و43 ثانية وما يليها .
[2] مرسوم عدد 79 لسنة 2011 مؤرخ في 20 أوت 2011 يتعلق بتنظيم مهنة المحاماة
[3] شغل منصب عميد المحامين خلال الفترة من 1983 الى 1992 و كان معروفا بدفاعه عن استقلالية القضاء و تجنده للمرافعة في كل القضايا السياسية وهو لهذا الاعتبار يحضا باحترام خاص في الوسط القضائي و الوطني عموما .