سلسلة إيقافات جديدة شملت شخصيات عامّة، خلال الأسبوع الأول لشهر سبتمبر 2023، وهم رئيس حركة النهضة بالنيابة منذر الونيسي، ورئيس مجلس شورى الحركة عبد الكريم الهاروني، ووزير الصناعة في حكومة “الترويكا” الأولى (2012-2013) محمد الأمين الشخاري الذي ظل في حالة احتفاظ قبل إبقائه تحقيقًا بحالة سراح، إضافة إلى قبض جهة أمنية على رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي لسماعه مع إبقائه بدوره بحالة سراح. هي إيقافات متزامنة تتعلّق بشخصيات قيادية أو محسوبة على النهضة، وإن بدتْ الملفات المثارة، في جلّها، منفصلة بعضها عن بعض.
تأتي هذه الحملة في خضمّ إعداد النهضة لمؤتمرها المزمع عقده في شهر أكتوبر المقبل، بما يعزّز فرضية الدافع السياسي للسلطة، أو إحدى واجهاتها، في التأثير على الإدارة الداخلية للحزب، بصفة أساسية أو عرضية. فيما يعكس الملف المُثار ضد الجبالي المتعلق بالتعيينات زمن تولّيه رئاسة حكومة “الترويكا” الأولى (2011-2013)، تحوّل هذا الملف من عنوان مزايدة في الخطاب السياسي لرئيس الدولة إلى ملف قضائي قد يجرف الطبقة السياسية التي تولّت خططا تنفيذية في حكومات العشرية المنقضية (2011-2021)، وذلك في انتظار إصدار أمر رئاسي لتنظيم “التدقيق الشامل” للمناظرات ومسارات الانتداب ابتداء من جانفي 2011، الذي وعد به الرئيس قيس سعيّد خلال استقباله رئيس الحكومة الجديد أحمد الحشاني في 4 سبتمبر الجاري.
التسريبات والسلطة والنهضة: صراعٌ متعدّد الأوجه
قبل يوم من انعقاد مجلس شورى حركة النهضة يوم الأحد 3 سبتمبر 2023، والذي كان يُنتظر أن يناقش تنظيم مؤتمر الحزب وإدارته الداخلية، أصدر وزير الداخلية كمال الفقي قرارًا بوضع رئيس مجلس الشورى عبد الكريم الهاروني قيد الإقامة الجبرية طبق الصلاحيات الواردة في أمر الطوارئ لعام 1978. في اليوم ذاته، نشرت صفحة على موقع “فيسبوك” داعمة لرئيس الدولة، وعُرفت بالخصوص بدفاعها عن وزير الداخلية السابق توفيق شرف الدين واحترافها تشويه المعارضين والقضاة المدافعين عن استقلاليتهم، تسريبًا لتسجيل صوتي يجمع الصحفية المقيمة في الخارج شهرزاد عكاشة مع رئيس حركة النهضة بالنيابة منذر الونيسي، الذي يظهر فيه وهو يعبّر عن سخطه من عدد من قيادات الحركة المقيمين في الخارج والداخل أيضًا. وقد أكّدت الصحفية صحّة التسجيل، فيما نفاه الونيسي مطلقًا.
هذا التسريب لم يستهدف كما يبدو منه إحراج وتوريط الونيسي فقط، بل أيضًا شخصيّات عامّة أخرى بالخصوص صاحب الأعمال ورئيس النجم الرياضي الساحلي عثمان جنيّح، الذي تداعى بدوره لنفي مقابلته بالونيسي على النحو الذي تناوله في التسجيل المسرّب. وكانت الصفحة التي نشرت التسريب قد نقلت سابقًا أن صاحب الأعمال المذكور يخطّط للترشّح للانتخابات الرئاسية 2024 والتحشيد مع أطراف محلية وأخرى أجنبية، على نحو يظهر وجود ـ”مخطّط تآمري”.
تكشف هذه المشهدية، بالنظر لأطرافها وتزامن عناصرها، والمُتبعة بإيقاف الرجلين المشرفين على أهم هيكلين داخل النهضة: الجهاز التنفيذي (منذر الونيسي) وجهاز الشورى (عبد الكريم الهاروني) عن مضي للسلطة في شلّ نشاط الحزب بعد إيقاف رئيسه ونائبيه، وبعد غلق مقراته منذ أفريل المنقضي. إلا أنها تكشف أيضًا عن محاولة للتأثير في الخلافات الداخلية، باعتبار أن تبعات التسريب تتجاوز إيقاف الونيسي إلى إضعاف حلقته داخل النهضة، وهي الحلقة المتمسّكة بعقد المؤتمر الذي لا يلقى توافقًا داخل جسم الحركة. وهو ما يعني تباعًا استفادة أطراف داخل النهضة بتحييد الونيسي. والخطير، فيما حصل، هو ثبوت دور مباشر للسلطة في التأثير على الإدارة الداخلية للحزب، وهو الأسلوب الذي طالما اعتمدته أجهزة نظام بن علي للتأثير على قرارات أو خيارات أحزاب نشطة قبل 2011.
ويتأكّد المؤشر الحيوي حول انخراط السلطة في هذا التوجّه، في مسارعة وزير الداخلية لإصدار قرار إداري بضع الهاروني قيد الإقامة الجبرية خلال نهاية الأسبوع وقبيل ساعات من اجتماع لشورى الحركة، وذلك استباقًا لإصدار قرار قضائيّ لاحق يبرّر إيقافه. فتباعًا، سرعان ما أُحيل الهاروني على القطب القضائي لمكافحة الفساد المالي من أجل ملف صفقة تعود إلى زمن تولّيه وزارة النقل (2012-2014)، لتصدر بحقه بطاقة إيداع بالسجن مع مسؤولين إداريين آخرين، مقابل إبقاء وزير الصناعة في حكومة “الترويكا” حينها محمد الأمين الشخاري في حالة سراح بعد الاحتفاظ به. يتبيّن إذا وضوحًا الطابع السياسي الصّرف في إثارة هذه القضية “المالية”، بما يعزّز الشكوك حول جديّة قضايا “الحق العام” التي استهدفت عددًا من الشخصيات السياسية منذ 25 جويلية 2021، والغايات الحقيقية وراءها.
التسريبات المنشورة، في جانب آخر، تعكس حقيقتيْن ثابتتيْن: أولًا التدحرج الأخلاقي المستمرّ في إدارة الاختلافات في الفضاء العام، وآخرها تسجيل المكالمات الخاصة من دون علم الطرف المتحدث ونشرها للعموم وتوظيفها في الصراعات السياسية. وثانيًا تصاعد ما ظهر كـ”صراع أجنحة” لشبكات نفوذ محيطة بالسلطة السياسية. فالتسريبات المنشورة وإن ظهرت مسوغًا لإثارة ملف قضائي ضد رئيس حركة النهضة بالنيابة، تظهر أن دائرة المستهدفين الرئيسيين أو على الأقل المتضرّرين تشمل عائلات اقتصادية نافذة في جهة الساحل عملت جهة التسريب على إظهار دورها “التآمري” ضد رئيس الدولة. والجانب المتعلق بصراع شبكات النفوذ تعكسه بالخصوص “حرب الصفحات” طيلة الفترة الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي عبر نشر معلومات ذات طبيعة استعلاماتية، وكشف تفاصيل لما يُروّج أنها كواليس داخل الأجهزة الأمنية أو داخل شبكات نفوذ سياسي. وهو الوجه الآخر الذي يعكس الأدوار المشبوهة للشبكات الفاعلة داخل أجهزة الدولة أو في محيطها، والتي تظهر غير متجانسة بل متصارعة فيما بينها لتأمين مصالحها ومسالك نفوذها، وتلك سمة طبيعية لما تنتجه دائمًا سلطة الأمر الواقع إثر الانقلابات.
“تطهير الإدارة”.. من خطاب سياسي إلى ملف قضائي
في خضمّ هذه التطورات، ألقت جهة أمنية القبض على رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي من منزله في مدينة سوسة. صفته كرئيس أول حكومة بعد انتخابات المجلس التأسيسي وأمين عامّ سابق في حركة النهضة من جهة، واعتباره محسوبًا على شبكة النفوذ السياسي في جهة الساحل من جهة ثانية، أثارت الشبهات حول خلفية الزجّ به مع بقية الإيقافات المسجّلة.
جُلب الجبالي إلى ثكنة الحرس الوطني بالعوينة، في العاصمة، لسماعه في ملفّ ما يُسمّى التعيينات والانتدابات بعد الثورة. أُثير هذا الملفّ القضائي الجديد تزامنًا مع إعلان رئيس الدولة قيس سعيّد “تطهير الإدارة”. ظهر هذا الموضوع كأولويّة في اللقاءات الأولى لسعيّد مع رئيس الحكومة الجديد أحمد الحشاني، الذي كان مديرًا للموارد البشرية بالبنك المركزي، ولا يُستغرب أن وظيفته قبل التقاعد كانت محدّدة في اختياره لمهمّة “التطهير”. يتحدّث سعيّد صراحة عن “مراجعة صارت اليوم أمرًا مستعجلًا خصوصا في ظل تعطيل عددٍ من الإدارات لسياسة الدولة” موجهًا سهامه للإدارة العمومية وتحديدًا “لكل من تسلّل إليها بغير وجه حق”. وأعلن، في هذا الجانب، عن إعداد مشروع أمر يتعلق بإجراء عملية تدقيق شاملة للمناظرات ومسارات الانتداب ابتداء من جانفي 2011 سيعرض على اجتماع مجلس الوزراء القادم للتداول فيه.
“تطهير الإدارة” يتعلّق إذًا بمستوييْن: بحث إداري شامل يستلزم أمرًا رئاسيًا لم يصدر بعد لتحديد آليات التدقيق ونتائجها، وبحث قضائي مُثار ابتدأ بسماع رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي وينتظر بداهة، أن يشمل رؤساء الحكومات والوزراء وكتاب الدولة السابقين، فضلا عن المديرين السامين في الوظيفة العمومية. ملف شبهات التعيينات والانتدابات بعد الثورة ليس مستجدّا في خطاب رئيس الدولة الذي كان قد تحدّث منذ نوفمبر 2021، على الأقل، عن تعيين آلاف الموظفين بشهادات مزوّرة على أساس الولاء. ويظهر أنه عاد ليتصدّر خطابه في الفترة الأخيرة بعد تصاعد الأزمة الاقتصاديّة والمعيشيّة وبالخصوص تعطّل تنفيذ مشاريع استثماريّة، لم يجد رئيس الدولة بشأنها إلاّ توجيه الاتهام للإدارة العمومية بوصفها المتسبّب الرئيسي في بطء تنزيل الإرادة السياسية على المستوى التنفيذي. بذلك، واستتباعًا للخطاب التآمري المُشاع، بات نداء “تطهير الإدارة” عنوان المرحلة، إلى درجة أنه العنوان الثابت المتكرّر في بلاغات لقاءات رئيس الدولة برئيس الحكومة الجديد.
في الأثناء، تتعالى فرضية توظيف رئيس الدولة لهذا الملف ليس فقط في سياق تصوير عشرية 2011-2021 بأنها “عشرية فساد” وليس “عشرية انتقال ديمقراطي”، بل أيضًا بغاية تحييد من شغلوا المناصب التنفيذية العليا إبان هذه الفترة عبر تحوّلهم جميعًا كـ “مشتبه بهم” في الملف القضائي المُثار. في الأثناء، يعكس القبض على رئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي عن طريق مداهمة منزله وجلبه إلى العاصمة من دون توجيه استدعاء رسمي له، والحال أن الأمر لا يتعلّق بجريمة تلبّسية فضلا عن أنه لم يصدر بالنهاية قرار بالاحتفاظ، عن محاولة إثبات المركّب القضائي- الأمني الذي يشرف على هذا الملف، جديّته في مباشرة الأبحاث أمام السلطة السياسية المشدّدة على لزوم “التطهير”. كما يعكس البدء بسماع الجبالي رأسًا في هذا الملف رغبة مقصودة في استهداف من شغلوا المناصب التنفيذية بعد انتخابات المجلس التأسيسي، أي في الفترة الانتقالية الثانية وليس الفترة الانتقالية الأولى الممتدّة على نحو عامل كامل (من جانفي إلى ديسمبر 2011)، والحال مثلًا أن الأمر الرئاسي المنتظر حول التدقيق الشامل في المناظرات والانتدابات سينطلق من جانفي 2011.
إيقافات جديدة متزامنة مع تمديد إيقافات فيفري
حملة الإيقافات المسجّلة بداية سبتمبر 2023 تزامنت، في الأثناء، مع تمديد قضاة تحقيق في فترة الإيقاف التحفظي لعدد من المعتقلين في حملة فيفري 2023 وذلك بعد انتهاء فترة الإيقاف الأولى المقدّرة بستة أشهر، بالتمديد لفترة ثانية مقدّرة بأربعة أشهر إضافية. وقد شملت قرارات التمديد المعتقلين في “قضية التآمر على أمن الدولة“ (محمد خيام التركي وعبد الحميد الجلاصي وجوهر بن مبارك وعصام الشابي وغازي الشواشي ورضا بالحاج)، ووكيل الجمهورية السابق البشير العكرمي والقيادي في حركة النهضة الحبيب اللوز. وكذلك تزامنت مع رفض دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف بتونس قبول مطلب الإفراج عن الرئيس السابق لبلدية الزهراء ريان الحمزاوي الموقوف على ذمة ما تُسمى “قضية التآمر 2”. عكست القرارات القضائية، المشوب صدورها بتأثير واقع قضاء الترهيب والموالاة على النحو الذي عكسته الحركة القضائية الأخيرة، مواصلة في مظلمة انطلقت بدور السلطة السياسية في إثارة القضايا وفرض مخرجاتها القضائية.
ففي قضية التآمر على سبيل المثال، برّر قاضي التحقيق قرار التمديد بضمان حسن سير الأبحاث، والحال أن هذه الأبحاث ظلّت بطيئة جدًا على مدى ستة أشهر باعتبار خواء الملف من أي قرينة جديّة لارتكاب جريمة بصفة عامة وذات طبيعة إرهابية بصفة خاصة. فحسب هيئة الدفاع، لم يتمّ تسجيل أيّ قرينة إدانة في حقّ المعتقلين السياسيين، بل على العكس من ذلك، كلما بحث قاضي التحقيق عن الحقيقة تتبيّن عدم جديّة الملف بذاته فما بالك بالحاجة إلى إصدار قرارات بإلإيقاف التحفظي. إذ منذ إصدار بطاقات الإيداع يوميْ 24 و25 فيفري المنقضي، لم يتمّ استنطاق المُعتقلين مجدّدًا عدا موقوف واحد فقط. ولم يُصدر قاضي التحقيق بطاقات إيداع بحق بقيّة السياسيين المشمولين ممن تمّ سماعهم في البحث (مثل أحمد نجيب الشابي ومحمد الحامدي ورياض الشعيبي ومصطفى بن أحمد)، بما يعزّز أن الملف لا يستوجب أي إيقافات. يضاف إلى ذلك أن الملفّ بذاته سياسي بحت وهو الذي طلبت وزيرة العدل ليلى جفال شخصيًا من النيابة العمومية إثارته، فضلا عن الدور العلني لرئيس الدولة في متابعة سير الأبحاث وفي ممارسة الضغوط العلنية على القضاء بُعيد الإيقافات. في انتظار أن تبتّ دائرة الاتهام في الأسبوع الثالث من شهر سبتمبر، بتركيبتها الجديدة بعد الحركة القضائيّة، في استئناف السياسيّين المعتقلين لقرار التمديد.