تعود تهمة التآمر على أمن الدولة لتطفو على سطح النقاش العام ولتحتلّ كلّ خطابات قيس سعيّد بالتزامن مع حملة الإيقافات التي شنّها ضدّ شخصيات عدة من الصحافة والمحاماة والقضاء والعمل النقابيّ والسياسيّ. شخصيات أصبحت محلّ تتبعات جزائية في قضايا منفصلة، يؤكّد محامو الدفاع على طبيعتها المفتعلة لغياب القرائن والأدلة وعدم احترامها لأبسط الإجراءات القانونية وضمانات المحاكمة العادلة، بينما يصرّ رأس السلطة على أنّها تمثّل إجابة الدولة القوية بأجهزتها على من يكيد المكائد ويتآمر ضدّها. بعد أيّام من التعتيم حول قائمة الاعتقالات وأسبابها، بدأت فحوى الملفات القضائية تتضح. ولعلّ أهمّها تلك التي تضمّ 17 شخصا بتهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، من بينهم شيماء عيسى وجوهر بن مبارك (قياديّيْن في جبهة الخلاص المعارضة للرئيس)، وخيام التركي (ناشط سياسي معارض وقيادي سابق في حزب التكتّل) وعبد الحميد الجلاصي (قيادي مستقيل من حركة النهضة) والأزهر العكرمي (محامي وقيادي سابق في حزب نداء تونس) وعصام الشابي (أمين عام الحزب الجمهوري) وغازي الشواشي (أمين عام سابق لحزب التيار الديمقراطي) وكمال اللطيف (رجل الظل المعروف بعلاقاته وتأثيره في العمل السياسيّ) ونور الدين بوطار (مدير عام إذاعة موزاييك)، الذين تمّ إيقافهم واتهامهم بالتآمر والتخطيط بهدف الانقلاب على نظام الحكم والقيام بأعمال إرهابية واغتيال الرئيس، وهي تهم تصل عقوبتها للإعدام. بغضّ النظر عن ضعف المؤيّدات والملفّات وعدم احترام الإجراءات والتعدّي على كلّ الضمانات، وعن إصرار سعيّد على نسف قرينة البراءة والحقّ في الدفاع واستغلاله لمؤسسات الدولة ولمنصبه لإدانة الموقوفين قبيل محاكمتهم، فإنّ الاصرار على اتهام المعتقلين (على الأقلّ على مستوى الخطاب) بالتآمر على أمن الدولة يقدّم دلالات هامة عن الحقيقة التي تقف وراء الاعتقالات ودوافعها. فالتركيز على تخوين الموقوفين واتهامهم بالتآمر على الدولة، لما تحمله هذه التهمة بالذات من تمثّلات رمزية لدى عموم المواطنين، مؤشّر هامّ على مدى التوظيف السياسي لحملة الاعتقالات وأهدافها من جهة وعن إفلاس النظام القائم وفشله في حلّ الأزمات الراهنة من جهة أخرى.
تهمة شكّلها المستعمر
ترتبط تهمة التآمر على أمن الدولة بتاريخ الأزمات التي شهدتها البلاد. فعُمر هذه التهمة يتجاوز عمر الدولة الوطنية. إذ يعود التنصيص التشريعي على جريمة التآمر على أمن الدولة إلى سنة 1926 من قبل المستعمر. وقد نُقلت الأحكام والفصول المتعلّقة بهذه الجريمة من القانون الفرنسي إلى القانون التونسي[1] من خلال الأمر العليّ المؤرخ في 29 جانفي 1926 وأُسندت صلاحية النظر فيها للمحاكم الفرنسية. فبات في يد المحتلّ أداة قانونية لقمع المناضلين من أجل التحرّر. وظّفت سلطات الاستعمار تهمة التآمر على أمن البلاد الداخلي والخارجي بهدف إضعاف صفوف المطالبين بالاستقلال خاصة مع ظهور حركات سياسية قادرة على الاستقطاب والتعبئة الشعبية. فعلى سبيل المثال، وإثر تأزّم الأوضاع الداخلية بتونس سنة 1938، وخروج مظاهرات حاشدة يوم 08 و09 أفريل التي دعا إليها الحزب الدستوري الجديد بقيادة الحبيب بورقيبة وراح ضحيتها 23 شهيدًا تحت رصاص قوات المستعمر، تمّ اعتقال 659 شخصا بكامل أنحاء البلاد وعلى رأسهم 13 شخصا من قيادة الحزب الدستوري الجديد. فألقي القبض على الحبيب بورقيبة وبعض المناضلين الآخرين وتمّ سجنهم بتهمة التآمر على أمن الدولة وتحريض السكان، كما تمّ القضاء بحلّ الحزب الدستوري الجديد لما مثّله من خطر على نظام المستعمر. استمرّ استعمال هذه التهمة إلى فجر الاستقلال، فوقعت ملاحقة العديد من روّاد الحركة الوطنية من أجل هذه التهمة، قصد إضعافها والتنكيل بقياداتها.
استعمل الاستعمار تهمة “التآمر” للتنكيل بقيادات الحركة الوطنيّة
بعد الاستقلال: آلية الحفاظ على سلطة نظام الاستبداد
بعد تحقيق الاستقلال وقبيْل إصدار دستور البلاد سنة 1959 أو حتى إعلان الجمهورية، أصدر الوزير الأكبر الحبيب بورقيبة، في 10 جانفي 1957 أمرا جديدا متعلّقا بالجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي. استمرّ تنقيح الفصول والأحكام المتعلّقة بجرائم التآمر والاعتداءات على أمن الدولة على امتداد حكم الاستبداد بحقبتيْه البورقيبية والنوفمبرية. كما ارتبطت التنقيحات، على الأقلّ زمنيّا، بمنعرجات أو أزمات سياسيّة، كسنوات 1956، 1957، 1989، 2005 و2010 خلُصت هذه التنقيحات لسنّ أكثر من 20 فصلا مجرّما للاعتداءات على أمن الدولة الخارجي والداخلي بالمجلّة الجزائية، من بينها اغتيال رئيس الجمهورية أو الاعتداء عليه، وارتكاب “أمر موحش ضدّه”، أو تبديل هيئة الدولة وحمل السكان على مهاجمة بعضهم البعض. تأتي الفصول المتعلّقة بالتآمر (فصل 68، 69 و70 من المجلة الجزائية) لتجريم التخطيط المسبق لتلك الجرائم في حال عدم وقوعها وتنفيذها. فالمؤامرة تقتضي وجود وفاق بين شخصين أو أكثر عزموا وخطّطوا وقرّروا تنفيذ الاعتداءات المذكورة دون اشتراط وقوعها. وخلال ما يقارب ستّين سنة من الاستبداد، تمّ توظيف تهمة التآمر على أمن الدولة لضرب المعارضين وتجريمهم والتنكيل بهم لتأخذ بذلك التهمة طابعا سياسيا يرمز أساسا لأسلوب ترهيبي تنتهجه السلطة للانفراد بالحكم وقمع المعارضة.
تحت النظام البورقيبي، اتّسعت رقعة استعمال هذه التهمة وتخصيص النظر فيها لمحكمة استثنائية منذ السنوات الأولى لتقلّد بورقيبة مقاليد الحكم. فبعد التوقيع على الاستقلال، أنشأ بورقيبة محكمة عليا، عُرفت آنذاك بالمحكمة الشعبية، بحجة معاقبة المتعاونين مع المستعمر ولكن تمّ استغلالها لملاحقة المنافسين السياسيين لبورقيبة، وكان من بينهم الطاهر بن عمّار الذي أمضى بنفسه على وثيقة الاستقلال. كما وظّفت السلطة هذه المحكمة الاستثنائيّة لحسم الصراع اليوسفي البورقيبي، فاستهدفت المحاكمات 315 شخص من بينهم القادة اليوسفيين بتهم عدة مثل التآمر على أمن الدولة[2]، إلى حدود سنة 1959 حين وقع اغتيال زعيمهم صالح بن يوسف. في سنة 1962، وفي ظلّ الانغلاق التامّ للفضاء العام والتضييق على الحريات، تمّ الاعتماد أيضا على التهمة ذاتها لمحاكمة المشاركين في “محاولة الانقلاب” على بورقيبة قبيل الشروع في تنفيذها، وهي القضية المعروفة بـ”مؤامرة 1962″، والتي شملت 23 متّهما، حُكم على 11 منهم بالإعدام[3].
واصل النظام البورقيبي اعتماده على تهمة التآمر لتصفية المعارضين والحفاظ على استمراريّة السلطة وأذرُعها. جاء الدور على اليساريّين، فوقعت ملاحقة مناضلين شيوعيّين وآخرين منتمين إلى حركة برسبكتيف في سنة 1968، إذ أحيل 108 مناضلا ومناضلة على محكمة أمن الدولة بتهمة التآمر على أمن الدولة، ووقع الحكم عليهم بعقوبات سجنية وصلت إلى 20 سنة من الأشغال الشاقة (وهي حالة المناضل محمّد بن جنات)، وزُجّ بهم في سجن برج الرّومي لقضاء العقوبة حيث تعرّضوا لانتهاكات عدة. استمرّت الملاحقات في الفترة الموالية ضدّ المعارضين اليساريّين لتطال في سنة 1974، 202 شخصا من المنضوين تحت لواء “العامل التونسي”، حوكِموا من أجل نفس التهمة.
بعد نهاية تجربة التعاضد، وقع جرّ الوزير الذي قادها أحمد بن صالح إلى المحكمة العليا، تنفيذا لتوصيات لجنة التحقيق البرلمانية التي أعدّت تقريرا على المقاس خلُص لاتّهام الرجل الأوّل في الحكومة بالخيانة العظمى (التي تدخل ضمن جرائم الاعتداءات على أمن الدولة)، بعد قيام موجة غضب شعبية رافضة لسياسة التعاضد. حوكم أحمد بن صالح بعشر سنوات سجنًا مع الأشغال الشاقة وقُدّم بذلك كقربان للجماهير قصد إخماد نار غضبها التي كانت موجّهة صوب النظام القائم.
بعد إسقاط النظام البورقيبي عبر انقلاب 1987، ارتأت قيادة الحقبة النوفمبرية التّمايز عمّا سبقها عبر التسويق زورا لصورة نظام يحترم حقوق الإنسان، فتخلّت عن المحاكم الاستثنائية، وفضّلت محاكمة المعارضين باستعمال أحكام جزائية أخرى. المثال الأبرز كان توظيف تهمة “الانتماء لجمعية غير مرخّص فيها“ للتنكيل بالإسلاميين. كما استغلّ نظام بن علي النصوص القانونية المجرّمة للإرهاب التي تمّ إصدارها في خضمّ التوجّه العالمي (بعد أحداث 11 سبتمبر 2001) للتضييق على الحريّات السياسية.
رغم هذا الاختلاف الواضح عن النظام الذي سبقه، لجأ نظام بن علي هو أيضا إلى تهم التآمر ومحاولة قلب النظام والاعتداء على أمن البلاد لتجذير سلطته ولتثبيت سطوته على الأجهزة ومراكز النفوذ. فتمّ على سبيل المثال توجيه تهمة التآمر في حقّ مجموعة من العسكريين فيما عُرف بقضية “برّاكة الساحل“. ففي سنة 1991، أعلن وزير الداخلية الأسبق، عبد الله القلال، الكشف عن محاولة انقلاب على نظام الحكم تمّ التخطيط لها من قبل مجموعة من العسكريين خلال اجتماعهم بقرية “براكة الساحل”. تمّ على إثر ذلك تنفيذ حملة اعتقالات واسعة طالتْ قيادات عسكرية وقع التنكيل بهم وتعذيبهم على أيدي أعوان أمن الدولة وحوكموا فيما بعد من أجل هذه التهمة وغيرها من التهم كالاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة، بالإضافة لمحاولة اغتيال رئيس الجمهورية.
مع اندلاع الثورة، سمح انفتاح الفضاء العام في التداول في طبيعة كلّ هذه المحاكمات التي فرضتها أنظمة الاستبداد وتمكّنت الضحايا من تقديم رواياتها الخاصة للحقيقة وللكشف عن مدى شدة الانتهاكات التي طالتهم. هامش الحريّة الذي تمّ افتكاكه، وتداول شهادات الضحايا أوهم البعض بأن لا مكان لمثل هذه المحاكمات بعد ثورة 17 ديسمبر-14 جانفي، بينما تمسّك البعض بضرورة تفكيك منظومة الاستبداد وفهم وسائلها ومنطقها الداخلي الذي تخضع له للقيام بالإصلاحات قصد ضمان عدم تكرار الانتهاكات[4]. مسار يقوم أساسا على إنجاح العدالة الانتقالية واستكمال لبنات الاصلاح، تمّ التفريط به والتلاعب به بينما كان يجب التمسّك بإنجاحه لقطع حلقة الانتكاسة والعودة لنفس الممارسات.
إخضاع القضاء وترهيبه، شرط أساسي للإعداد المسرحي للمحاكمات السياسية
بعد الثورة: ملامح التوظيف وآثاره قبيْل الانقلاب وبعده
بعد انتخابات 2014، استلمت منظومة التوافق مقاليد الحكم. ولكن سرعان ما بدأت بالانهيار بسبب الصراعات الداخلية لحزب نداء تونس. خلال تلك الأزمة بالذات، أعاد يوسف الشاهد رئيس الحكومة حينها تهمة التآمر على أمن الدولة إلى صدارة النقاش العام. كان الشاهد حينها أحد الأجنحة المتصارعة على خلافة الباجي قائد السبسي في قيادة حزب نداء تونس ضدّ منافسيه وعلى رأسهم حافظ قائد السبسي، نجل الرئيس. أدار يوسف الشاهد حربه على الداعمين لهذا الأخير بالحزب مستغلاّ في ذلك منصبه ونفوذه في الدولة من خلال القيام بعدة إيقافات مباغتة في إطار “الحرب على الفساد” كما كان يحلو له أن يسمّيها.
وجّه الشاهد ضرباته للعديد من المهرّبين ورجال الأعمال الذين تلطّخت صورتهم بشبهات فساد عدة وعلى رأسهم شفيق الجراية (أحد ممولي حزب نداء تونس وداعمي نجل الرئيس) الذي سبق له أن استهزأ به علنا في برنامج تلفزي. أدت حرب الشاهد على الفساد إلى إيقاف 7 أشخاص وُضعوا تحت الإقامة الجبرية في مكان مجهول، ووجّهت لهم عدة تهم متعلقة بالفساد، بينما أعلنت النيابة العسكرية توجيه تهمة التآمر على أمن البلاد والتخابر مع جيش أجنبيّ لشفيق الجراية. بعد أشهر قليلة من البروباغندا الاتصالية، تبيّن أنّ ما سمّي بالحرب على الفساد لم يكن سوى أداة لتصفية حسابات سياسية لصالح يوسف الشاهد وداعميه. فبعد توجيه الاتهام لكلّ من شفيق جراية ووزير الداخلية السابق ناجم الغرسلي والمدير العام السابق للمصالح المختصة أي جهاز الاستعلامات عماد عاشور والمدير السابق للوحدة الوطنية للبحث في جرائم الإرهاب صابر العجيلي بتهم خطيرة كالخيانة والتآمر، تصل عقوبتها للإعدام، على خلفية وشاية تمّ تقديمها من قبل عون أمن بالوحدة المذكورة، كان للقضاء رأي آخر. فخلافا لكلّ المحاكمات السابقة (التي لازالت تنتظر إعادة النظر ضمن مسار العدالة الانتقالية)، قرّرت النيابة العمومية حفظ الملفّ بتاريخ 01 أكتوبر 2019 بعد أن قررت محكمة التعقيب في مرحلة أولى (في أفريل 2019) نقض قرار دائرة الاتهام التابعة للمحكمة العسكرية (بعد أن اعتبرت فيما قبل أن الملفّ من اختصاص قطب مكافحة الإرهاب وليس القضاء العسكري) وإبطال بطاقات الإيداع بالسجن في حقّ كل من شفيق الجراية وصابر العجيلي وعماد عاشور.
قرار القضاة المناقض لإرادة رئيس الحكومة آنذاك، والمترشّح الجدّي لرئاسة الجمهورية، ما كان ليكون لولا هامش الاستقلالية التي كان يحظى بها القضاة، ومبدأ التداول على السلطة والتعددية السياسية التي كانت تكرّس في البلاد. فعلى عكس كلّ المحاكمات السياسية السابقة، لم يكن الجسم القضائي تحت سطوة نظام مستبدّ متحكّم بمفاصل الدولة وأجهزتها ولم يتمّ تناول القضية في فضاء عام مغلق يخدم مشروع رأس السلطة المنفرد بالحكم، رغم كلّ محاولات التدخّل والمسّ من استقلالية قرار القضاة وسير القضية. لقد توفّرت في تلك الفترة بالذات رغم تأزّمها والتجاوزات التي شهدتها، الشروط الموضوعية الأساسية التي جعلت من النظر في القضية والحكم بما يُخالف مصلحة رأس السلطة التنفيذية أمرا ممكنا.
إنّ الجسم القضائي وأعماله وقراراته لا يرتبط فقط بالشروط والقواعد القانونية المجرّدة ليتمّ عزله في فضاء منفصل عن الشأن العام. بل هو أحد عناصره الأساسية، يتأثّر مباشرة بظروفه ومناخه ويخضع في أغلب الأحيان لشروطه. فكلّما توفّرت شروط استقلالية السلطة القضائية المتعلقة ليس فقط بالوظيفة والهيكل، بل أيضا بالمناخ السياسي العام المنفتح، يأخذ القضاة مسافة أكثر من هيمنة السلطة وإملاءاتها ويُحصّنون أنفسهم من عقابها. بالتالي، يصعب انتظار قرارات قضائية منصفة ومستقلة في ظلّ نظام مستبدّ يُخضع السلطات الثلاث ويستبيحها، وهي وضعية قضية الحال. فكيف يمكن التداول في قضية التآمر الحالية والتيقّن من عدالة القرارات المتعلّقة بها، بينما يواصل سعيّد تهديده للقضاة علنا قائلا أنّ “من يتجرأ على تبرئتهم (الموقوفين) فهو شريك لهم“، كما لا يجد في هرسلة لسان الدفاع عبر ملاحقة المحامين المكلفين في هذه القضايا قضائيا ويواصل حُكمه على المشتبه بهم مصرّحا أن “من أدانهم التاريخ لن ينتظر المجتمع حكم القضاء لإدانتهم” في تدمير وعدم اعتراف كليّ لا فقط بمبادئ المحاكمة العادلة بل بالقضاء كمؤسسة.
إنّ قضية التآمر المطروحة على أنظار القضاة في هذه الفترة بالذات، تُعيد للذاكرة كلّ المحاكمات السياسية التي أمرت بها أنظمة الاستبداد السابقة. فبعد الانقلاب وخصوصا بعد حلّ المجلس الأعلى للقضاء وإعفاء القضاة، وقع المسّ جوهريّا من استقلالية القضاة والزجّ بهم في مناخ من الترهيب والتخويف بآلية العزل والتشهير والملاحقات القضائية وتعطيل الحركة القضائية وعدم الامتثال لقرارات المحكمة الادارية، في ظلّ إمساك سعيّد بمختلف السّلط بالاستناد على القبضة الحديدية للأجهزة الصلبة وفي ظلّ تشتت واضح للمعارضة وضُعفها.
إخضاع القضاء وترهيبه، شرط أساسي للمضيّ قُدما في إعداد مسرحيّ لمحاكمات سياسية بامتياز قصد التنكيل بالمعارضة والنيل منها. وهو أسلوب يمكن اختصاره في اتّهام الأشخاص بتهمة التآمر على أمن الدولة والخيانة والعمالة أو الإرهاب والتشهير بهم من دون تقديم أيّة أدلة أو توضيحات، ثمّ يُطلب من القضاة تنفيذ المحاكمات حسب الطلب، مع الإصرار علنا على الادانة القبليّة لمزيد توريط القضاة وتوجيه أصابع الاتهام لهم في حال عدم إصدار أحكام تتماهى مع اتهامات الرئيس. توظيف تهمة التآمر على أمن الدولة بأمر من سعيّد، الذي يُطلق الاتهامات، ويقرر الاعتقالات، ويُصدر الأحكام وفي إضعاف ممنهج للقضاة واستقلاليتهم لا يمكن أن يدخل في إطار المحاسبة بل يُفضي بداهة لتجذير نظام حكم يقوم على الترهيب والتخويف، فيما تقدّم المحاكمات كهدية مسمومة للجمهور ليتفطن بمرور الزمن لمدى خداعها.
نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية-تونس العدد 26
للاطلاع على العدد كاملا اضغط هنا
[1] Chekir, Hafidha, “La justice politique en Tunisie”, l’année du Maghreb, 2007.
[2] الحبّاشي، محمّد علي، حركات المعارضة والمحاكمات السياسية تونس 1956- 1970، الجزء الأوّل، دار “نحن” للابداع والنشر والتوزيع.
[3] المرجع ذاته.
[4] فيما يتعلّق بالجرائم المتعلقة بأمن الدولة، تمّ القيام بتنقيح وحيد سنة 2011 يقضي فقط بالغاء فصل يجرّم ربط اتصالات مع أعوان دولة أو مؤسسة أو منظمة أجنبية بهدف الإضرار بالمصالح الحيوية للبلاد وذلك من خلال المرسوم عدد 106 لسنة 2011 المتتعلّق بتنقيح وإتمام المجلة الجزائية ومجلة الإجراء ات الجزائية.