وقف العمل بحالة الطوارئ المستمرة في مصر: ماذا بعد؟


2021-11-02    |   

وقف العمل بحالة الطوارئ المستمرة في مصر: ماذا بعد؟

في خطوة تُعد هي الأولى من نوعها، أعلن الرئيس السيسي عبر تدوينة على موقع فيسبوك، قراراه بإلغاء مدّ حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد، لأول مرة منذ استمرار العمل بها منذ أبريل 2017، مُبرّرًا هذا القرار بما باتت عليه مصر من “واحة للأمن والاستقرار في المنطقة”، على حدّ وصفه. وعلى الرغم من أن هذا القرار جاء في أعقاب الإعلان عن الاستراتيجية الوطنية الأولى لحقوق الإنسان التي أطلقتها الحكومة المصرية في سبتمبر 2021، إلا أنه يظل مفاجأة بكل المقاييس، حيث أن أحكام الاستراتيجية لم تشِرْ من قريب أو بعيد إلى إمكانية إلغاء حالة الطوارئ كأحد الإجراءات التي تهدف الحكومة إلى تحقيقها؛ بل اهتمت  بالإشارة إلى عدد من الإشكاليات المتعلقة بتطبيق بعض أحكام قانون الطوارئ، وكيفية معالجتها.

إن إلغاء حالة الطوارئ التي عاشتْ فيها مصر لسنوات عديدة يستدعي قراءة لما سيترتّب على هذا الإعلان من آثار قانونيّة مباشرة. ومن أهم هذه الآثار، تبعاتُ الإلغاء على عمل محاكم أمن الدولة طوارئ ذات الطبيعة الاستثنائية، طالما أنّ انعقاد صلاحيّة هذه المحاكم يكاد يكون الأثر العملي الأبرز والملموس للتطبيق المستمرّ لحالة الطوارئ في مصر خلال السنوات القليلة الماضية. كما يجدر دراسة آثار التفعيل شبه الدائم لهذه الحالة خلال العقود الماضية على المنظومة التشريعية والممارسة القانونية في مصر.

 

ماذا يعني إلغاء حالة الطوارئ من الناحية العملية؟

من الناحية القانونية، حالة الطوارئ هي نظام استثنائي يتطلّب تفعيل عدد من الأحكام والقواعد القانونية الاستثنائية، التي من شأنها منح السلطة التنفيذية مزيدًا من الصلاحيات والسلطات التي لا يوفرها النظام القانوني العادي، وذلك من أجل مواجهة ظروف غير عادية من شأنها إلحاق الضرر بالأمن والنظام العام أو الصحة العامة بالبلاد. وعليه، يمثل قانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958 الإطار الحاكم والمُنظم لماهية تلك “الأحكام الاستثنائية” التي تقتضيها حالة الطوارئ في مصر ونطاق وكيفية تطبيقها. لذلك، يعتبر الأثر العملي الأول والمباشر لقرار رئيس الجمهورية بوقف مدّ العمل بحالة الطوارئ في مصر هو إحالة قانون الطوارئ إلى موضع “التجميد” بقوة القانون، ووقف سريان أحكامه، منذ لحظة إعلان قرار إلغاء حالة الطوارئ. وهو الأمر الذي يعني عدم جواز اتخاذ أي قرارات أو إجراءات من قبل السلطة التنفيذية بناء على السلطات الممنوحة لها بموجب قانون الطوارئ بعد الآن، والتي يأتي على رأسها سلطة إحالة المتهمين في عدد من الجرائم المختلفة إلى محاكم أمن الدولة طوارئ المُشكلة بموجب القانون المذكور.[1]

بداية، أن محاكم أمن الدولة طوارئ، أو ما يعرف اصطلاحا “بقضاء الطوارئ”، هو نظام قضائي استثنائي، يعمل إلى جانب منظومة القضاء العادية، ويختص بنظر عدد من جرائم القانون العام التي تحددها السلطة التنفيذية.[2] كما تجدر الإشارة إلى أن ذلك القضاء الاستثنائي يستند في مشروعيته إلى وجود حالة الطوارئ، ويدور وجوده في فلكها، حيث يتم اللجوء للعمل به بمجرد الإعلان عنها وتفعيل أحكامها، ويجدر بالمقابل وقف العمل به ليستعيد القضاء العادي مهامه واختصاصاته بمجرد إلغائها. وهو الوضع الذي يطرح التساؤل عن مصير القضايا المتداولة حاليًا أمام محاكم أمن الدولة طوارئ، بالإضافة إلى تلك التي ما زالت في طور التحقيق ولم يتم البدء في إجراءات المحاكمة الخاصة بها؟

وقد أجاب قانون الطوارئ في المادة (19) منه على هذا السؤال، حيث نصّت المادة على استمرار محاكم أمن الدولة طوارئ في نظر القضايا المعروضة أمامها والمُحالة إليها قبل انتهاء حالة الطوارئ، دون أي تغيير في الإجراءات المتبعة أمام تلك المحاكم. ويأتي على رأس تلك الإجراءات نهائية الأحكام الصادرة عن تلك المحاكم الاستثنائية، وعدم جواز الطعن عليها أمام أي درجات تقاضي أعلى. فضلاً عن سريان كافة الإجراءات الأخرى المتعلقة بسلطة رئيس الجمهورية في التصديق على هذه الأحكام، أو رفض التصديق وتقرير إعادة المحاكمة فيها.[3] على الجانب الآخر، يوضح نص المادة (19) مصير القضايا التي ما زالت قيد التحقيق ولم تتم إحالتها إلى محاكم أمن الدولة طوارئ، وذلك بضرورة إحالة تلك القضايا إلى المحاكم العادية المختصة وفقًا للإجراءات المعمول بها في قانون الإجراءات الجنائية[4].

فعلى الرغم من انتهاء حالة الطوارئ، يبدو أن المُشرّع قد أراد بنص المادة (19) استمرار تطبيق ما هو “استثنائي”، رغبة في الإبقاء على المراكز القانونية التي استقرت أثناء سريان حالة الطوارئ. وهو الوضع الذي نازع في دستوريته عدد من المحامين المشتغلين أمام محاكم أمن الدولة طوارئ. ففي 27 أكتوبر 2021، أي بعد يومين فقط من إلغاء مدّ حالة الطوارئ، دفع المحامي خالد علي بعدم دستورية نص المادة (19) من قانون الطوارئ، أثناء نظر إحدى القضايا التي تمّت إحالتها لمحكمة أمن الدولة طوارئ قبل إلغاء حالة الطوارئ بأسابيع قليلة. فوفقًا لتفاصيل الدفع المُقدم للمحكمة، تخالف المادة (19) نصوص الدستور كونها تتيح استمرار محاكمة المتهمين أمام القضاء الاستثنائي رغم انتهاء حالة الطوارئ بالبلاد، بما يخلّ بضمانات المحاكمة العادلة والمنصفة، ويحرم المتهمين من حق التقاضي على درجتين، ويعلق حكم القاضي على تصديق رئيس الجمهورية أو من يفوضه، ويتيح للحاكم العسكري أو من يفوضه إلغاء الحكم، أو تخفيف العقوبة أو تبديلها أو إعادة المحاكمة، وجميعها سلطات استثنائية لا يجوز استمرارها طالما انتهت حالة الطوارئ بالبلاد. وهو الاتجاه الذي نتفق معه. فبانتفاء الخطر الداهم الذي يبرر حالة الطوارئ وما يتبعها من إجراءات استثنائية، لا يوجد أيّ مبرر لحرمان المتهمين بعدد من الجرائم من أبسط حقوقهم الأساسية. فضلًا على ذلك، فإننا نرى أنه لا يمكن الاحتجاج بمبدأ “استقرار المراكز القانونية” التي من الممكن اللجوء إليها دفاعًا عن هذا النص، حيث إن جوهر هذا المبدأ ومبتغاه النهائي هو تحقيق المساواة بين الأفراد باعتباره وسيلة “لتقرير الحماية القانونية المتكافئة”، كما وصفته أحكام المحكمة الدستورية العليا.[5] وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه بانتقاص أو تعطيل أحد أهم وأكثر الحقوق الأساسية للأفراد كالحق في محاكمة عادلة ومنصفة. بل على النقيض، فإن أبسط مقتضيات تحقيق الحماية القانونية المتكافئة هي رفع “الاستثناء” لزوال سببه، وتعميم القواعد الإجرائية العادية التي توفر كافة ضمانات المحاكمة العادلة.

 

بعد عقود من الاستثناء: كيف أثرت حالة الطوارئ الدائمة على منظومة التشريعات المصرية؟

تعدّ دراسة الآثار الناتجة عن تفعيل حالة الطوارئ في مصر، بشكل دائم ولسنوات طويلة، على منظومة التشريعات المصرية والممارسة القانونية بشكل عام، إحدى المهام الأساسية التي تقع على عاتق كافة المشتغلين والمهتمين بالحياة القانونية في مصر حاليًا. فحالة الطوارئ التي استمرت لعقود متعاقبة[6]، وطالما كانت ترتكز على مخاوف أمنية وسياسية بالأساس[7]، تركتْ بما لا يدع مجالا للشك أثرها على رؤية المشرع المصري، وخاصة المشرع الجنائي، فيما يتعلق بتوفير الضمانات الإجرائية اللازمة للمتهمين في عدد من الجرائم التي قد تتسم بالطابع السياسي. تلك الرؤية التي سمحت بتسلّل بعض الأحكام التي قد يصفها البعض بالاستثنائية إلى القوانين العادية ذات الصبغة الدائمة. فبمجرد الإعلان عن وقف مدّ حالة الطوارئ، وبرغم ما يشكله هذا القرار من خطوة إيجابية، سارعتْ عدد من المنظمات الحقوقية بالمطالبة بوقف العمل بعدد من القوانين الأخرى التي يرونها امتدادًا لعدد من الأحكام الاستثنائية التي يفرضها قانون الطوارئ.[8] فعلى سبيل المثال، تسمح المادة (40) من قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015 لمأمور الضبط القضائي “بالتحفظ” على المتهمين في جرائم الإرهاب لمدة قد تصل إلى 28 يومًا بعد عرض “المتحفظ عليه” بصحبة محضر على النيابة العامة.[9] وهي المادة التي يشبهها الكثيرون بالنص السابق في قانون الطوارئ الذي كان يخول لرئيس الجمهورية سلطة القبض والاعتقال دون التقيد بأحكام قانون الإجراءات الجنائية، قبل أن تقضي المحكمة الدستورية العليا بعدم دستوريتها في 2013.[10] في الوقت نفسه، تتيح المادة (53) من قانون مكافحة الإرهاب لرئيس الجمهورية سلطة اتخاذ التدابير المناسبة للمحافظة على الأمن والنظام العام، بما في ذلك إخلاء بعض المناطق أو عزلها أو حظر التجول فيها، في حال قيام أي خطر من أخطار الجرائم الإرهابية.[11] وهو النص الذي يعطي صلاحيات تتشابه إلى حد كبير مع تلك الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية بموجب أحكام قانون الطوارئ.         

أيضًا، تضمن القرار بقانون رقم 136 لسنة 2014 بشأن تأمين وحماية المنشآت العامة والحيوية، نصًا يقضي بخضوع كافة الجرائم التي ترتكب مخالفة لأحكام هذا القانون لاختصاص القضاء العسكري[12]، وهي المحاكم ذات الصبغة الاستثنائية، والتي تفتقد إلى أبسط ضمانات المحاكمات العادلة، كما هي الحال في محاكم أمن الدولة طوارئ. ومن المثير للقلق، أن هذا القانون الذي صدر في 2014 كقانون استثنائي تسري أحكامه لمدة عامين فقط، تم تمديد العمل بموجبه لمدة خمس سنوات أخرى في 2016، وهي المدة التي من المفترض أن تكون انتهت في 28 أكتوبر 2021.[13] إلا أنه وفي خطوة مفاجأة، وبمجرد إلغاء حالة الطوارئ، وافق مجلس النواب بشكل مبدئي على مشروع قانون مقدم من الحكومة بشأن مد العمل بأحكام قانون تأمين وحماية المنشآت العامة والحيوية بشكل دائم. وهو الأمر الذي يثير عددًا من التساؤلات حول مبررات تمرير هذا التعديل في مثل هذا التوقيت، وعن مستقبل محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، بخاصّة في ظل غياب تعريف واضح لماهية المنشآت العامة والحيوية.

فمن جانبنا، فإننا نرى أنه وبعد إلغاء حالة الطوارئ المستمرة منذ عقود، يجب أن تولي كافة المحاكم المصرية بمختلف درجاتها اهتماًما مضاعفًا بالاشتباك مع تطبيقات تلك النصوص السابق والإشارة إليها وغيرها، وإحالتها إلى المحكمة الدستورية العليا لفحص مدى دستورية ما تقره من أحكام وإجراءات. وهو الأمر الذي يعد خطوة ضرورية نحو محو آثار عقلية الطوارئ الأمنية التي لازمت المشرع المصري لسنوات عديدة، وتركت عدداً من التشوّهات داخل منظومة التشريعات المصرية.

 

خاتمة

مما لا شكّ فيه، يشكل قرار رئيس الجمهورية بوقف مد حالة الطوارئ خطوة إيجابية في طريق إصلاح منظومة العدالة في مصر. وهي الخطوة التي يجب أن يعقبها قرارات أخرى بشأن مراجعة شاملة للقوانين الدائمة، والتي تتضمن بعض الأحكام ذات الصبغة الاستثنائية وسبق أن أشرنا إليها. في الوقت نفسه، ينعكس هذا القرار بشكل رئيسي على إثراء الممارسة القانونية  في مصر بشكل كبير، حيث شكلت نهائية الأحكام الصادرة من محاكم أمن الدولة الطوارئ، وعدم خضوعها للفحص من قبل محاكم أعلى في الدرجة، كمحاكم الاستئناف ومحكمة النقض، حالة من الجمود في المبادئ القانونية التي تصدر عن تلك المحاكم فيما يتعلق بالجرائم التي اختصت محاكم الطوارئ بنظرها، كالجرائم المنصوص عليها في قوانين التجمهر، والتظاهر، والإرهاب، وغيرها من جرائم القانون العام.[14] وهو الأمر الذي نأمل تجاوزه، بعدما أصبحت كافة درجات التقاضي متاحة أمام المتهمين في تلك الجرائم، مما يفتح الباب لمحكمة النقض لإثراء المحتوى القانوني على مستوى التطبيق، بشكل أكثر فاعلية.

 

لقراءة المقال باللغة الانجليزية اضغطوا على الرابط ادناه

Ending Egypt’s Perpetual State of Emergency: What Next?

[1]  راجع – الاستراتيجية الوطنية لحقوق الانسان: ماذا بعد إلغاء حالة الطوارئ في مصر؟ – المفكرة القانونية – 26 أكتوبر 2021.

[2]  راجع المرجع السابق لمزيد من التفاصيل عن ماهية تلك الجرائم.

[3]  راجع أحكام المواد (12، 13، 14، 15) من قانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958.

[4] تنص المادة 19 من قانون الطوارئ على: “”عند انتهاء حالة الطوارئ تظل محاكم أمن الدولة مختصة بنظر القضايا التي تكون محالة عليها وتتابع نظرها وفقاً للإجراءات المتبعة أمامها. أما الجرائم التي لا يكون المتهمون فيها قد قدموا إلى المحاكم فتحال إلى المحاكم العادية المختصة وتتبع في شأنها الإجراءات المعمول بها أمامها”

[5]  راجع – الدعوى رقم 21 لسنة 7 قضائية المحكمة الدستورية العليا “دستورية” – حكم 29 أبريل 1989.

[6] تم فرض حالة الطوارئ بعد اغتيال الرئيس أنور السادات في أكتوبر 1981، واستمر العمل بها طوال فترة حكم الرئيس مبارك. كما أستمر العمل بها بعد ثورة 25 يناير أيضًا، إلى أن أعلن المجلس العسكري تعطيل حالة الطوارئ في مايو 2012. وفي أغسطس 2013، قام الرئيس المؤقت عدلي منصور بفرض حالة الطوارئ مرة أخرى، كما تم تمديد العمل بها منذ تولي الرئيس السيسي أكثر من مرة قبل أن يتم إلغاؤها في 25 أكتوبر 2021.

[7] باستثناء حالة الطوارئ الصحية التي فرضتها إجراءات مواجهة تفشي فيروس كورونا.

[8] حالة الطوارئ الدائمة في مصر مستمرة بقوانين قمعية أخرى – مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان – 26 أكتوبر 2021.

[9] راجع نص المادة 40 من قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015.

[10] راجع حكم المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 17 لسنة 15 قضائية “دستورية” – بتاريخ 2 يونيو 2013، والذي تضمن الحكم بعدم دستورية ما تضمنه البند (1) من المادة رقم (3) من قرار رئيس الجمهورية بالقانون رقم 162 لسنة 1958.

[11] راجع نص المادة 53 من قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015.

[12] راجع نص المادة 2 من القرار بقانون رقم 136 لسنة 2014 بشأن تأمين وحماية المنشئات العامة والحيوية.

[13] راجع قانون رقم 65 لسنة 2016 شأن مد العمل بالقانون رقم 136 لسنة 2014 في شأن تأمين وحماية المنشآت العامة والحيوية.

[14] لمراجعة ماهية الجرائم على وجه التحديد، راجع المرجع رقم (1).

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، سياسات عامة ، محاكم عسكرية ، محاكم دستورية ، استقلال القضاء ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، مصر ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني