الاستراتيجية الوطنية لحقوق الانسان: ماذا بعد إلغاء حالة الطوارئ في مصر؟


2021-10-26    |   

الاستراتيجية الوطنية لحقوق الانسان: ماذا بعد إلغاء حالة الطوارئ في مصر؟

أمس، أنهى رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي إعلان حالة الطوارئ في مصر. وكانت الحكومة المصرية نشرتْ استراتيجيّتها الوطنية الأولى لحقوق الإنسان من دون أيّ إشارة إلى حالة الطوارئ أو أثرها السلبيّ على هذه الحقوق. وإذ تمّ التراجع عن إعلان حالة الطوارئ أمس، يبقى من المهم التذكير بثغرات هذه الاستراتيجية التي أغفلت الحديث عن أحد أهم مصادر انتهاك حقوق الإنسان في مصر تحسّبا لتكرارها وتمهيداً لإصلاح الإطار التشريعي المتصل بها (المحرر).  

 

في 11 سبتمبر 2021، أطلقت الحكومة المصرية استراتيجيتها الوطنية الأولى لحقوق الإنسان. وهي الوثيقة الأولى من نوعها التي تتضمن رؤية محددة لمسار الدولة المصرية فيما يتعلق بتعزيز وإنفاذ حقوق الإنسان بشكل شامل، وكيفية التعامل مع أبرز الإشكاليات والتحديات المصاحبة لهذا المسار، خلال الخمس سنوات القادمة أي حتى عام 2026.  استندت الاستراتيجية على عدد من المرتكزات التي شكلت الهيكل الأساسي لمحاورها المختلفة؛ وهي الضمانات الدستورية في مجال حماية وتعزيز حقوق الإنسان الواردة في دستور 2014، والالتزامات الدولية والإقليمية لمصر في مجال حقوق الإنسان، بالإضافة إلى استراتيجية التنمية المستدامة: رؤية مصر 2030، فيما تتضمّنه من مبادئ احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون كعامل رئيسي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.[1] وهو الأمر الذي يجعل من إطلاق تلك الاستراتيجية بمثابة إعلان سياسي غير مسبوق على المستوى الوطني، بشأن أهميّة احترام أحكام الدستور المنظمة للحقوق والحريات، بالإضافة إلى ما تمثله من تجديد ضمنيّ لالتزامات مصر الدولية في مجال حقوق الإنسان بتبنيها ضمن إطار وطني شامل.

في الوقت نفسه، خلتْ نصوص الاستراتيجية من أي إشارة إلى ضرورة إلغاء حالة الطوارئ سارية المفعول منذ عام 2017 (والتي تمّ التراجع عنها أمس) كأحد الإجراءات الواجب اتخاذها لتعزيز أوضاع حقوق الإنسان في مصر. وهو الأمر الذي يبدو متناقضًا إلى حدّ كبير مع المُرتكزات الرئيسية للاستراتيجية، نظرًا لما يشكله التفعيل المستمرّ والمتجدّد لحالة الطوارئ من انتقاص وتعطيل لعدد من الحقوق الأساسية للمواطنين التي يقرها الدستور المصري، وتؤكد عليها المواثيق والعهود الدولية ذات الصلة. وعلى الرغم من ذلك، لم تخلُ نصوص الاستراتيجية من الإشارة إلى عدد من الإشكاليات المتعلقة بتطبيق بعض أحكام قانون الطوارئ، وكيفية معالجتها، رغبة في تحسين الأوضاع القائمة. وعليه، يأتي هذا المقال كمحاولة لتفكيك وتحليل رؤية الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان فيما يخص حالة الطوارئ في مصر، ومدى عمق الإشكاليات المتعلقة بتطبيق بعض أحكام قانون الطوارئ التي أوردتها الاستراتيجية. وهو الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى تحديد مدى مركزية قانون الطوارئ ضمن منظومة التشريعات المصرية خلال السنوات الخمس القادمة، وما يترتب على ذلك من نتائج وأثار.

 

إعادة النظر في بعض أحكام قانون الطوارئ تعزيزًا لضمانات المحاكمة المنصفة

على الرغم من أن أحكام قانون الطوارئ تتضمن عددا كبيرا من الصلاحيات الرئاسية التي من شأنها تقييد أغلب الحقوق الأساسية للمواطنين، إلا أن التطبيق الفعلي لتلك الأحكام دائمًا ما كان مرتبطًا بظروف استثنائية تبرر اتخاذ تدابير من شأنها المساس بحقوق الأفراد، كفرض حظر التجوال ووضع قيود على السفر للتصدي لانتشار فيروس كورونا على سبيل المثال. ولكن، ومما لا شك فيه، يبقى استمرار محاكمة آلاف المتهمين سنويًا أمام محاكم أمن الدولة طوارئ – والتي تعد محاكم استثنائية – هو الأثر العملي الأبرز والملموس للتطبيق المستمر لحالة الطوارئ في مصر خلال السنوات القليلة الماضية.[2] وهو الأثر الذي يبدو واضحًا تفهم الدولة لأبعاده، نظرًا لما تشكله محاكمة الألاف سنويًا أمام محاكم استثنائية من إخلال جسيم بضمانات المحاكمة العادلة، للدرجة التي دفعت واضعي الاستراتيجية إلى إدراج ثلاث إشكاليات محددة تتعلق بتطبيق أحكام قانون الطوارئ ضمن المبحث الخاص “بكفالة الحق في التقاضي وتعزيز ضمانات المحاكمة المنصفة”.[3]

 

  • اختصاص محاكم أمن الدولة طوارئ

أولى تلك الإشكاليات وفقًا لرؤية الاستراتيجية الجديدة، هو ضرورة تنقية الجرائم التي تختص بها محاكم الطوارئ في ضوء التعديلات التشريعية وتطور القوانين المتلاحقة، وذلك من أجل الوصول إلى “حصر للجرائم التي تختص بها محاكم الطوارئ في أدق صورة” كأحد النتائج المرجو تحقيقها من تنفيذ الاستراتيجية.[4] وهو الأمر الذي يعد تحقيقه خطوة إيجابية بكل تأكيد، حيث إن من شأن تنقية تلك الجرائم وحصرها على وجه الدقة تقليص عدد القضايا المنظورة أمام تلك المحاكم الاستثنائية. والسؤال هنا: ما هي الجرائم التي تختص محاكم أمن الدولة طوارئ بالفصل فيها؟ وفقًا لأحكام قانون الطوارئ، تتمتع السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه، بحرية شبه مطلقة في تعيين ماهية الجرائم التي تنظرها محاكم الطوارئ، وتحديدها بموجب قرارات تنفيذية.[5] مما يعني أن الهدف المعني بحصر الجرائم التي تختص بها محاكم الطوارئ، والذي تسعى الاستراتيجية لتحقيقه خلال السنوات الخمس القادمة، يمكن الوصول إليه من خلال قرار إداري واحد صادر عن السلطة التنفيذية.

فمنذ إعلان حالة الطوارئ لأول مرة في عام 2017، دأب رئيس مجلس الوزراء بموجب السلطة الموكلة إليه من قبل رئيس الجمهورية، على إصدار قرارات تنفيذية تتضمن الجرائم التي تختص محاكم أمن الدولة طوارئ بالفصل فيها. وهي القرارات التي أصبحت تصدر بشكل روتيني واعتيادي بمجرد إعلان حالة الطوارئ، أو مدها، بموجب قرارات رئاسية كل ثلاثة أشهر. فعلى سبيل المثال، في يناير 2019، أصدر رئيس مجلس الوزراء قرارًا بإحالة عدد من الجرائم إلى محاكم أمن الدولة الطوارئ، والتي جاء من ضمنها، على سبيل المثال، الجرائم المنصوص عليها في قوانين التجمهر، تعطيل المواصلات، البلطجة، التظاهر، والإرهاب.[6] وفي يناير 2020، أصدر رئيس مجلس الوزراء قرارًا مماثلًا يتضمن نفس الجرائم التي سبق وأن تضمنها القرار السابق، دون أي تغيير بالحذف أو الإضافة.[7] ولكن، في يوليو 2020، تم توسيع اختصاص محاكم أمن الدولة طوارئ  ليشمل الجرائم المتعلقة بمخالفات البناء بكافة أنواعها، وجرائم المساس بالرقعة الزراعية والحفاظ على خصوبتها.[8] وهي الجرائم التي حرصت الحكومة على التصدي لها مؤخراً  في إطار خطة الدولة لمواجهة ظاهرتي البناء غير المنظم، والاعتداء على الأراضي الزراعية.

بناء على ما سبق، فإنه من الواضح أن السلطة التنفيذية قادرة على إضافة أو حذف أي من الجرائم التي تختص محاكم الطوارئ بالفصل فيها، وذلك بمجرد إصدار قرارات تنفيذية تحمل هذا المعنى. وهو الأمر الذي يقتضي تدخل تشريعي عاجل يحد من تلك السلطة شبه المطلقة، بما يتوافق مع هدف الاستراتيجية بتنقية وحصر تلك الجرائم بشكل قاطع.

 

  • التظلمات والتسبيب

أيضًا، التفتت نصوص الاستراتيجية الجديدة إلى إشكالية اقتصار تسبيب الرأي في فحص تظلمات ذوي الشأن في القضايا التي تختص بها محاكم الطوارئ على الجنايات فقط دون الجنح، بالإضافة إلى جواز عدم التسبيب نهائيًا في حالات الاستعجال.[9] وهو الأمر الذي تنظمه المادة (16) من قانون الطوارئ، وتسعى الاستراتيجية إلى مراجعته والنظر في تعميم شرط تسبيب الرأي في فحص كافة التظلمات، مع الإبقاء على استثناء حالات الاستعجال من هذا التعميم. كما اهتمت الاستراتيجية بضرورة “وضع آلية لإخطار ذوي الشأن بنتيجة فحص التظلمات المسببة الصادرة في أحكام محاكم الطوارئ”، نظرًا لعدم وجود نص في قانون الطوارئ يتطلب مثل هذا الإخطار.[10] فوفقًا لأحكام قانون الطوارئ “لا يجوز الطعن بأي وجه من الوجوه في الأحكام الصادرة من محاكم أمن الدولة”.[11] وهو الأمر الذي لا يترك لذوي الشأن المتضررين من تلك الأحكام أي وسيلة أخرى لمراجعتها سوى تقديم تظلمات لرئيس الجمهورية، أملاً في إلغاء الأحكام الصادرة في حق ذويهم بما يملكه من صلاحيات. وهو الأمر الذي يمكن تفهمه كون أن محاكم أمن الدولة طوارئ هي محاكم ذات طبيعة استثنائية في الأساس، والتي من المفترض أن يكون الغرض من تشكيلها في الأساس هو التعامل مع حالات غير مسبوقة وجسيمة كالحروب، أو الكوارث الطبيعية أو الطوارئ الصحية على سبيل المثال. ولكن مع تحول تلك الصفة الاستثنائية المفترضة إلى واقع يومي يمس حرية مئات وآلاف المتهمين المخاطبين بأحكامها، فإن عدم جواز الطعن على الأحكام الصادرة من تلك المحاكم يمثل انتهاك صارخ لأبسط مبادئ العدالة الجنائية، وحق المتهم في الاستئناف وإعادة نظر دعواه أمام قاضي أعلى.

لذلك، فإننا نرى من جانبنا أن أي تدخل تشريعي تهدف الاستراتيجية إلى إدخاله على القواعد المنظمة لتلك التظلمات، وتسبيبها، وأليات الإخطار بنتائجها ما هي إلا محاولة لإعطاء بعض الضمانات الطفيفة على وضع استثنائي بطبيعته، لا يمكن أن يرتقي إلى أن يشكل محاكمة عادلة بأي شكل من الأشكال، مهما تم تعديله. إن الحل الوحيد للتغلب على الأثار السلبية الناتجة عن تلك المحاكمات هو إنهاؤها، وإعلاء مبدأ حق المواطنين في اللجوء إلى قاضيهم الطبيعي. لذا، وبقدر ما تبدو أهداف الاستراتيجية إيجابية في هذا الشأن، إلا أنها ستظل قاصرة عن تحقيق أهدافها التي جاءت تحت عنوان “تعزيز ضمانات المحاكمة المنصفة”، لتعارض تلك الضمانات مع طبيعة وتكوين المحاكم الاستثنائية بالأساس.

 

عندما يصبح الخطر دائمًا: مشروعية الإبقاء على حالة الطوارئ كأداة لمكافحة الإرهاب

في استعراضها لأبرز التحديات التي تواجه تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في مصر، اعتبرت الاستراتيجية خطر “الإرهاب والاضطراب الإقليمي” أحد تلك التحديات التي تفرض اتخاذ عدد من التدابير التشريعية والسياسات الأمنية الضرورية لمواجهته. وفي ذات السياق المعني بمواجهة خطر الإرهاب، أقرت الاستراتيجية صراحة بأنه في ظل تجديد حالة الطوارئ، فإن الدولة حريصة على أن تتسق كافة التدابير والإجراءات المتخذة في هذا الشأن مع أحكام الدستور والتزامات مصر الدولية.[12] وهو الأمر الذي قد يبرر فرض حالة طوارئ مجددا ولآماد طويلة، بما يتعارض مع قواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان والتي تفترض أن تكون حالة الطوارئ نظاما قانونيا استثنائيا ومؤقتا. فلا أحد يجادل بخطورة الإرهاب والإضرابات الإقليمية على سلامة وأمن مصر وشعبها، ومن أجل ذلك تم إصدار تشريعات، للتعامل مع ذلك الخطر “الدائم” مثل قوانين مكافحة الإرهاب وتنظيم قوائم الكيانات الإرهابية والإرهابيين،[13] ومن الأجدر الاكتفاء بها لمحاربة هذا الخطر دون اللجوء إلى حالة الطوارئ بشكل متكرر لأغراض إحالة قضايا بعينها إلى محاكم الطوارئ المذكورة.

 

 

 

 

[1]  راجع الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان الصادرة عن اللجنة العليا لحقوق الإنسان في مصر – ص5.

[2]  تعتبر حالة الطوارئ سارية المفعول منذ 9 أبريل 2017 بعد أن تم إعلانها للمرة الأولى عقب مجموعة من العمليات الإرهابية التي استهدفت عدد من الكنائس في طنطا والإسكندرية، ومنذ ذلك الحين يتم تجديد حالة الطوارئ كل ثلاثة أشهر بعد موافقة مجلس النواب.

[3]  راجع المرجع رقم (1) – ص20.

[4] راجع المرجع السابق – ص22.

[5] مادة (7) من قانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958 تنص على أن: تفصل محاكم أمن الدولة الجزئية (البدائية) والعليا في الجرائم التي تقع بالمخالفة لأحكام الأوامر التي يصدرها رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه. وتشكل كل دائرة من دوائر أمن الدولة الجزئية بالمحكمة الابتدائية من أحد قضاة المحكمة وتختص بالفصل في الجرائم التي يعاقب عليها بالحبس والغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين. وتشكل دائرة أمن الدولة العليا بمحكمة الاستئناف من ثلاثة مستشارين وتختص بالفصل في الجرائم التي يعاقب عليها بعقوبة الجناية وبالجرائم التي يعينها رئيس الجمهورية أو من يقوم مقامه أيا كانت العقوبة المقررة لها. أيضًا، تنص المادة (9) من ذات القانون على أن “يجوز لرئيس الجمهورية أو لمن يقوم مقامه أن يحيل إلى محاكم أمن الدولة الجرائم التي يعاقب عليها القانون العام”.

 

[6]  قرار رئيس مجلس الوزراء رقم (60) لسنة 2019 بشأن إحالة بعض الجرائم إلى محاكم أمن الدولة طوارئ – 14 يناير 2019.

[7]  قرار رئيس مجلس الوزراء رقم (134) لسنة 2020– 19 يناير 2020.

[8]  قرار رئيس مجلس الوزراء رقم (1467) لسنة 2020– 21 يوليو 2020.

[9] راجع المرجع رقم (1) – ص 21.

[10] راجع المرجع السابق – ص22.

[11] راجع نص المادة (12) من قانون الطوارئ رقم 162 لسنة 1958.

[12]  راجع المرجع رقم (1) – ص8.

[13]  تم إقرار كلا القانونين عام 2015 بعد عدد من العمليات الإرهابية، أبرزها اغتيال النائب العام الأسبق المستشار/هشام بركات.

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، محاكم عسكرية ، محاكمة عادلة وتعذيب ، مقالات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، مصر



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني